الصلاح شرط الاستخلاف
الصلاح شرط الاستخلاف

أسامة قفيشة في الجمعة ١٣ - يناير - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

الصلاح شرط الاستخلاف

قال تعالى ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) 105 الأنبياء هذا الاستخلاف في الأرض هو وعد الله و تأكيده , و يأتي هذا الاستخلاف للصالحين بعد زوال الفاسدين الظالمين المعتدين , و يستمر هذا الاستخلاف للصالحين ما داموا على صلاحهم ,

فإن تركوا هذا الصلاح و العدل فتلك إشارة و بداية لزوالهم ,

و العمل الصالح هو عملٌ مبنيٌّ على العدل و الإحسان الذي أمر به الله جل وعلا بين الناس (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) 62 البقرة ,

و يرتبط هذا العمل الصالح مع مفهوم الإيمان (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) 124 النساء ,

و كذلك في قوله جل وعلا (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) 57 آل عمران ,

إذاً هذا الصلاح هو شرط الاستخلاف في الأرض , و عكسه هو الفساد الذي يتحتم عليه الزوال , و هذا الفساد يتمثل بالظلم و القهر و الاعتداء (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) 56 الأعراف ,

و يتمثل الفساد أيضاً بالإسراف (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ) 32 المائدة ,

و قلنا أنه إن غاب الصلاح و حل الفساد فهو بداية الهلاك لأن الاستخلاف للصلاح و ليس للفساد فقال سبحانه (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) 41 الروم , أي أن الهلاك و العذاب هو مصير المفسدين بسبب فسادهم و ذلك من أجل عودتهم لرشدهم و رجوعهم لسبيل الصلاح ,

المُصلح يسعى لإصلاح المجتمع الذي هو فيه من أجل الصلاح و ليس من اجل الفساد , عكس المفسد الذي يسعى بفساده من اجل العلو و الهيمنة و القهر , فهذا المُصلح الصالح له الأجر و الثواب يوم القيامة (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) 83 القصص , فنلاحظ هنا بأن هؤلاء المصلحون حتى في اليوم الآخر هم من ستكون لهم العاقبة بمعنى الوارثون ( الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) 11 المؤمنون , فميراث الشيء هو الاستخلاف فيه ,

و أما عن ميراث الأرض و الاستخلاف فيها قال تعالى عن استخلاف و ميراث قوم موسى لقوم فرعون ( كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ) 28 الدخان , و هذا الاستخلاف جاء بعد الظلم و الفساد و الاستبداد ,

و الاستخلاف بميراث الأرض هو من أجل الصلاح و من أجل العمل لميراث الجنة في اليوم الآخر فقال جل وعلا (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) 74 الزمر ,

و يبقى التهديد و الوعد الإلهي للوارثين المستخلفين بالعذاب و الزوال (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ) 100 الأعراف , و هذا الوعيد لهم إن أخلفوا عهدهم وطغوا و افسدوا (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) 59 مريم ,

و هذا أيضاً في قوله جل وعلا (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) 133 الأنعام ,

و يأتي الاستخلاف و ميراث الأرض أيضاً بصيغة التّبوء , كما في قوله جل وعلا ( وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) 56 يوسف ,  تماماً كقوله (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) 9 الحشر ,

فبما أن المؤمنون يرثون الجنة أي يتبوءونها بأفعالهم , فكذلك الظالمين المفسدين يرثون و يتبوءون جهنم نتيجة أعمالهم (إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ) 29 المائدة , أي أن أحد أبناء آدم عليه السلام سيرث إثمه و إثم أخيه فيكون وارثاً لجهنم , و هذا حال الظالمين المفسدين جميعاً ,

و عن مقاصد هذا الاستخلاف يتبين لنا بأنه مبنيٌ على العدل و الإحسان و حفظ الحقوق و الأمن و الأمان ,

فمنذ خلق الإنسان كان هدف الاستخلاف هو مغايراً للفساد , فخُلقَ هذا الكائن العاقل كي يرث الأرض و يستخلف من كانوا لا يفقهون قولا و كانوا مفسدون في الأرض ( يأجوج و مأجوج ) فقال جل وعلا ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) 30 البقرة ,

و عن استخلاف قوم عاد من بعد نوح قال (أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) 69 الأعراف ,

و عن استخلاف ثمود من بعد عاد (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) 74 الأعراف ,

و عن اضطهاد بني إسرائيل زمن موسى عليه السلام من قوم فرعون و فساده و ظلمه قال (قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) 129 الأعراف , و هنا نلاحظ حتمية هلاك المفسدين و استخلاف غيرهم ليقوموا بالعدل فقال جل وعلا عن تلك الحتمية و هذا الوعد ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) 55 النور ,

و عن الاستخلاف في الأرض بالعدل بين الناس قال جل و علا ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) 26 ص , فالعدل و حفظ الحق أساس الاستخلاف ,

فالمقصد هو الإصلاح و ترك الفساد و هذا في استخلاف موسى لهارون عليهما السلام (وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) 142 الأعراف ,

و لكن قوم موسى من بني إسرائيل ظلموا أنفسهم و أرادوا الفساد حين هموا باستضعاف هارون و كادوا يقتلونه (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) 150 الأعراف ,

إذاً سنةُ الله جل وعلا بالاستخلاف في الأرض هي الإصلاح و العدل بين الناس , فإن لم يعمل البشر بذلك يحلُ الهلاك بالمفسدين ليخلفهم غيرهم من البشر و هكذا هي سنته في الأرض فقال سبحانه (فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) 57 هود ,

و يأتي الاستخلاف بالمال أيضاً , ليقوم صاحب المال على ماله بالإحسان و ينفقه في الإصلاح و العمل الصالح لا في الإفساد و الفساد ( آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) 7 الحديد ,

و يأتي الاستخلاف مغايراً للكفر و الشرك بالإيمان بأن لا إله إلا الله فهو وحده القادر على رفع الهلاك و الفساد و نصرة المستضعفين المؤمنين و إجابته لدعوتهم (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ) 62 النمل ,

فسبحانه و تعالى أن جعل الإيمان و العمل الصالح مقروناً بتقواه , و بأن جعل الصلاح مرجعه بالتدبر لكتابه الكريم بأن جعل البركة و الفلاح فيه (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ *كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) 28-29 ص .

 

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا

سبحانك إني كنت من الظالمين 

اجمالي القراءات 9412