{إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا.}
النفس ومسئوليتها

الشيخ احمد درامى في الخميس ٢٩ - ديسمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

النفس ومسئوليتها

 

إن الفؤاد والعقل والضمير والسمع والبصر واللسان وسائر القوى الجسدية كلها بمثابة فريق مبعوث إلى جولة مهمة فوق هذا الكوكب، تحت قيادة النفس. والنفس هي الضابط المكلف بقيادة هذه الكتيبة طوال الرحلةـ حتى تتم كل شيء حسب تعليمات الباعث سبحانه وتعالى.ومسئولية النفس هو السهر على أفراد هذه الكتيبة {وهم بمثابة أطفال صغار}:

1- ليقوموا بواجباتهم اليومية، في أوقاتها المعينة، بأحسن وجه،

2-لألا يقربُنّ أو ينظرُنّ أم يميلُنّ إلى محظورات تم تحديدها لهم.

وللنفس "كتاب دليل" يهدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم. فبه يهدون، وبه يعدلون؛ (يوازنون).

وإزاء هاتين المسئوليتين الهامتين، على النفس مسئولية ثالثة؛ وهي الاتصال بالمركز الأعلى خمس مرات في اليوم والليلة. لتجديد العزم والولاء، ولطلب دعم الباعث، جل وعلا، وعونه وتوفيقه في المهمة.

النفس هي المسئولة المحاسبة بكل ما يقع أثناء هذه الرحلة: خيرا كان أو شرا. أما أفراد الفرقة الذين تحت رعايته، فهم أبرياء. لا لوم عليهم فيما يفعلون! وعلاوة على ذلك، هم شهداء الصادقون على النفس يوم الحساب، يحكون بالصدق كلما فعلوا أثناء الرحلة. وشهادتهم يومئذ تكون للنفس أو عليها. قال جل وعلا: (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون.) [يس: 65]وقوله: (حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون.) [فصلت: 20]. لذلك، يتعين على النفس ألا تترك القلب والعقل والسمع والبصر واللسان تتطاولون إلى المحظورات، أو تهملون، أو تسيئون القيام بالمأمورات. قال جل وعلا، للنفس عند إرسالها:{إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا.} أي أنت عنهم مسئولة.

 كما تحمل النفس في أحشائها الشهوات، والشهـية، والهواء، والطمع، والغيرة، والحسد، والعدوان، ورذائل آخري كثيرة. وكل هذه القوى ترسل طلباتها بإلحاح إلى القلب. والقلب كيان اندفاعي حماسي يتأهب بالفور لاستجابة بكل طلب مرسل إليه. لكن، لحسن الحظ، هناك العقل، "المستشار العام"، الذي يتناول الطلبات ويدرسها ويبدي فيها رأيه، من حيث إمكانية إنجازها، وتقييم عواقبها سليمة أو وغيمة. ويجب الإشارة إلى أن آراء العقل لا تقيّد القلب في أخذ قراراته. وإنما هو يستنير بها فقط. وعلى كل حال، فالكلمة الأخيرة للقلب. وقيل "لم يعد للنصائح جدوى لما ثارت الإرادة ضد العقل".

ويتدخل كذلك الضمير، "المستشار القانوني" المنتدب لدى النفس من طرف السلطة العليا، لإجلاء ما هو قانوني وما ليس قانونيا من المشاريع والنوايا والرغبات. وذلك بغض النظر عن كونها ممكنة ومأمونة العاقبة أم لا. ومرجع الضمير في الحكم هو "الدستور العرفي" الذي يحتوي على (المعروف والمنكر). في حين أن مرجع العقل علمي واقعي. وهو التنبؤ عن ضمان إمكانية المشروع وسلامة عاقبته، أو عدمه.

في ميزان العقل، كل ممكن، سليم العاقبة معقول؛ وبالتالي يجوز فعله. وما دون ذلك فإنه غير معقول، فلا يجوز الشروع فيه.

ومعلوم أن المعروف والمنكر نسبيان؛ حيث يتغبر حكمهما من بيئة للآخر. فقول الولد لوالده، مثلا: "لما كذبت عليّ؟" أمر معروف ومألوف ولا باس به في أوروبا. لكنه، بالعكس، منكر وإثم كبير في إفريقيا وفي العالم العربي، ولا يمكن التلفظ به إطلاقا ولو كان حقا. وذلك بموجب القوى العرفية والقيم المحلية.

إن الله يحرم "بمنكر" ما لا يحرم بالكتاب! فتزوج المرء، مثلا، بمطلقة أخيه الشقيق أمر جائز بالكتاب، وحرام بالمنكر! وكذلك تزوج المرء بمطلقة أو بأرملة عمه (شقيق أبيه) جائز بالكتاب، لكنه محرم عند كثير من الأقوام، لكونه منكرا. فإذا حصل يكون مصيبة وكارثة تفكك العشيرة، وتقطع روابط الأخوة والألفة بين الأقارب! (... وينهى عن الفحشاء والمنكر...) [النحل: 90]

ويترك تحديد المنكر والنهي عنه لأولي العلم (أولي الأمر) في كل مجتمع. وهم المتقون المصلحون عند القوم. لأن الإصلاح من مقاصد التشريع. (فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه.) يعني إذا قام العالم العادل المصلح بتعديل وصية الميت، لتخفيف ما يراه القوم منكرا فيها، بغية إصلاح ذات البين، فله ذلك؛ ولا إثم عليه.لإن "المعروف والمنكر"من مراجع التشريع في الإسلام.

إن الإسلام ليس دينا جامد يقنن ويدون كل شيء بالمرة. لا. إنما جاء الشرع ليكمل مكارم الأخلاق. قال جل وعلا: (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن...). فالشريعة بمثابة "مساعدات الذاكرة". أي الفطرة. "فطرة الله التي فطر الناس عليها". لذا ترك الإسلام كثيرا من العلاقات الأفقيةبيننا لأولي الأمر المتقين المصلحين، أصاب الرشد والفطرة السليمة والبيان.(... خلق الإنسان علمه البيان.). (... فألهمها فجورها وتقواها...). فلإنسان قادر، بفطرته التي فُطر عليها، على التمييز بين الخير والشر. ولذلك قال جل وعلا: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.).

فأولوا الأمر لهم حق التشريع في الفرعيات. لكننهم ليسوا معصومين من الأخطاء. وعليه، فتشريعاتهم نسبية صواب. ويجب تقوّمها إذا عوجت، وتغيّرها إذا فقدت صلاحيتها.

 

والله، جل وعلا، أعلم.

اجمالي القراءات 5195