لقاء الله جل وعلا بين الاشفاق و الرجاء
لقاء الله جل وعلا بين الاشفاق و الرجاء

أسامة قفيشة في السبت ١٠ - ديسمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

 

لقاء الله جل وعلا بين الاشفاق و الرجاء

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) 69 المائدة ,

قلنا سابقاً بأن اللقاء أمرٌ حتمي , فكل نفس ٍ ستلاقي ما عملت و قدمت في يوم التلاق , و هذا هو مفهوم اللقاء بالله جل وعلا بشكل عام و لا يعني رؤية الخالق جل و علا رؤيا العين ,

و البشر في هذه الدنيا هم في اختبار عملي ارادي , يعمل فيه الجميع دون اجبار و بحرية تامه , و لقد ارسل المولى جل وعلا لنا بصائر حتى نعمل بموجبها كي ننجح في هذا الاختبار , فمن عمل بتلك البصائر مؤمناً و مصدقاً لما جاء فيها كان ممن يرجو الفوز في يوم التلاق , و اما من نافق أو اشرك بتلك البصائر أو كفر بها ولم يعمل بموجبها كان من الخاسرين يوم التلاق ,

و سميت تلك الآيات بالبصائر نسبة للبصر الذي يبصر النور فيهتدي به , و نسبةُ لليقين الفعلي الذي يحدثه البصر , فان اخترتَ البصائر فقد اهتديت , و ان اخترتَ سواها فقد عميت ,

اذا تلك البصائر هي التي تحكم و هي الحكم على افعال البشر كافه , فاما النجاح ايجاباٌ أو الخسران سلباً ,

و بما انها هي المؤثر على سلوك البشر , ينتج عنها مؤمنٌ بها أو كافرٌ بها , فتفرز المؤمن بالله جل وعلا و ما يترتب على ذلك بالايمان بكل ما يدعونا اليه , و تفرز الكافر و ما يترتب عليه الكفر ,

و العقل البشري بتركيبته قادرٌ على التمييز بفطرته و لهذا كان التكليف لا الاجبار ,

كل نفس ٍ تجاه تلك البصائر مكلفةٌ بذاتها فان آمنت بالله جل وعلا اله واحداً لا شريك له و ترجمت سلوكها في هذا الاختبار عملاً صالحاً كانت رؤيتها صوب ما هو آت و هي حياة الآخرة , فعملت لذاك اليوم استعدادا له كي تنجح في هذا الاختبار و كانت ممن يرجو لقاء ربه ,

و أما ان ابتعدت عن تلك البصائر و اشركت بالله جل و علا أو كفرت به و ببصائره و ترجمت سلوكها في هذا الاختبار بعمل غير صالح , كانت رؤيتها مقتصرة على ما بين ايديها و هي الحياة الدنيا , فلا تعمل الا لتلك الحياة القصيرة فتكون قد خسرت الاختبار و كانت ممن لا يرجو لقاء ربه ,

فقال سبحانه ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) 110 الكهف .

و بما أن تلك البصائر أفرزت المؤمن و الكافر فهما متناقضان , فالمؤمن يعمل لأخراه و للقاء الله جل و علا , و الكافر يعمل لدنياه غير آبه بلقاء الله جل في علاه , و لهذا قد ناصب الكافر المؤمن العداء و البغضاء و عمل على اضطهاده و محاربته , فنتج عن ذلك الكثير من الظلم ,

بعد البعث و النشور تأتي ايام الله عز وجل فهناك يوم التلاق و يوم الحساب و يوم الجمع ( التغابن ) و يوم الفصل و يوم التناد و يوم الدين و يوم الحسرة و يوم الوعيد ...الخ ,

فيأخر الله جل وعلا الجميع لتلك الايام حيث يحكم و يقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) 78 النمل , و حكمه العدل و لا يقضي الا بالحق , فمن ظلم في الدنيا و هو مؤمنٌ فلا يخشى على نفسه لأنه على يقين بلقاء الله جل وعلا عكس الظالم الذي لا يأبه بذلك .

الذين يخافون و الذين لا يخافون :

أولاً الذين يخافون

المؤمن بالله جل و علا اله واحداً لا شريك له يبقى في حالة خوف من الحساب و في حالة رجاء و توسل كي يغفر الله له و يدخله الجنة و يبعده عن النار و العذاب , هذه هي طبيعة المؤمن فهو غير متيقن ان كان ما قدمه في حياته كفيلٌ بادخاله الجنة فهو مدركٌ أن دخوله لتلك الجنة هو بيد الله جل وعلا و برحمته و عطائه , حتى الانبياء من البشر يعيشون تلك الحالة بين الخوف و الرجاء , و سأذكر بعض الآيات التي تدل على خوف المؤمن دون الاسهاب بها :

قال تعالى (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) 37 النور ,

( وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ) 37 الذاريات ,

( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) 51 الانعام ,

( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ) 21 الرعد ,

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ) 7 الإنسان ,

ثانياٌ الذين لا يخافون

أما من كفر فلا يرجو لقاء الله جل وعلا , و لا يخاف الآخرة , ولا الحساب و لا العقاب , و سأذكر بعض الآيات التي تدل على عدم خوفهم و ايضاٌ بدون اسهاب :

قال تعالى ( كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ) 53 المدثر ,

( إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ) 27 النبأ ,

( قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) 14 الجاثية

( وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا ) 40 الفرقان ,

بعد أن علمنا و تبين لنا من الذي يرجو لقاء ربه و كان المؤمن , و من لا يرجو لقاء ربه وكان الكافر و المنافق و المشرك ,

و بعد أن علمنا و تبين لنا من يخاف و يخشى فكان هو المؤمن , و من لا يخاف و لا يخشى و كان هو الكافر ,

نأتي لتدبر الاشفاق , لنعلم من هو المشفق و من هم المشفقون و ماذا يراد بهذا المصطلح القرآني :

قال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ) 57 المؤمنون , نلاحظ هنا ان المؤمنون مشفقون , و الاشفاق لا يعني الخوف أو الخشية  أو الشفقة , بل هم من خشية ربهم كانوا مشفقين ,

كذلك في قوله جل و علا ( الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) 49 الأنبياء , و هم المؤمنون ايضاً , نلاحظ بأنهم ( المؤمنون ) مشفقون لأنهم يخشون ربهم , و كذلك الحال في قوله سبحانه و تعالى ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) 28 الأنبياء ,

و كذلك في قوله ( وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ) 26-28 المعارج , و هم ايضاً المؤمنون و هنا نلاحظ أن تلك الحالة تلازمهم على الرغم من ايمانهم فكانوا مشفقين ,

و كذلك في قوله جل و علا ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ *فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ) 25-27 الطور ,

اذا تبين لنا أن المؤمنين الذين يخشون ربهم و يرجون لقائه هم مشفقين في الدنيا و ويوم الحساب على حدٍ سواء , فماذا عن الكافرين الذين لا يخشون ربهم و لا يرجون لقائه ؟ لنرى و نتدبر ,

يقول عز وجل عن الكافرين ( تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) 22 الشورى , نلاحظ بأن الكافرين مشفقين ايضا ,

و كذلك في قوله سبحانه ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) 49 الكهف ,

اذاً , الكافرون مشفقون , و لكن مع تدبرنا لتلك الحالة من الاشفاق التي سيعايشها المؤمن و الكافر على حدٍ سواء يتبين لنا الآتي :

المؤمن : يعايش تلك الحالة في الدنيا و يوم الحساب , لماذا ؟ لأنه يخشى الله جل و علا , و على يقينٍ تام بيوم الحساب ,

أما الكافر : سيعايش تلك الحالة فقط يوم الحساب وقبيل دخوله لجهنم , لماذا ؟ لأنه لم يخشى الله جل وعلا في الدنيا , و لم يؤمن بيوم الحساب , الى ان رأى ذلك بعينه يوم القيامة فتيقن من الأمر , فيصبح في تلك اللحظة فقط من المشفقين ,

فمن هنا نقول بأن الاشفاق لا يعني الخوف و لا الخشية , بل هو حالة ٌ من الترقب و الانتظار لما سيحدث , تعايشها النفس مع غياب اليقين بما سيؤول له الأمر ,

لذا قال جل و علا عن المؤمنين حين مناجاتهم لرسول الله بعد أمرهم باخراج صدقة تطهرهم حين المناجاة , قال لهم ( أَأَشْفَقْتُمْ ) أي أنهم امتنعوا عن ذلك و كانوا في حالة ترقب و انتظار هل يتصدقون أم لا يتصدقون , حالة من التساؤل بدون يقين من جدوى الصدقة ( أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) 13 المجادلة ,

و من هنا نفهم كلام الله جل وعلا يوم أن عرض الأمانة على الأنفس البشرية جمعاء , و تلك الأمانة هي العهد و تحمل المسؤولية بشكل ارادي , أي التكليف في الاختيار ما بين الكفر أو الايمان في قوله ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) 72 الأحزاب ,

أي أنه سبحانه و تعالى قد عرض ذلك الامر على السماوات و الارض و الجبال من قبل خلق الانفس البشرية فلم يقبلوا ان تكون لهم حرية الاختيار , ثم تم عرض الأمر على جميع الأنفس البشرية منذ آدم عليه السلام الى يوم القيامة , فقال جل و علا ( وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ) و الاشفاق هنا كان لابد من أن يعود للأمانة , لأن الله جل و علا فوق كل شيء و هو الخالق العظيم , عالم الغيب و الشهادة , أي انه جل و علا جعل تلك الأمانة في حالة اشفاق الى أن جاء الانسان و حملها ,

فسبحانه و تعالى عما يصفون , و تعالى علواً كبيرا في قوله عن الساعة ( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ) 18 الشورى .

 

سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا

سبحانك اني كنت من الظالمين

  

اجمالي القراءات 6733