خواطر
أشياء للحياة .. وللموت أيضا

عامر سعد في الأحد ٢٧ - نوفمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

 

 

(1)

فى الصيف تكون للشمس فى السابعة صباحا لسعة غريبة مع أن قطرات الندى ما زالت تكلل أوراق الذرة، يمضى إلى الجدول ... للحظات يتأمل مياهه الصافية .. تنساب فى رقة، الأعشاب الخضراء فى قاعه تزداد نضارة بالماء الذى يغمرها ... الماء الذى تتخلله اشعة الشمس، عشبة خضراء صغيره تتسلل الى السطح فينساب الماء بعدها متعرجا تعرجات صغيرة لا تفسد روعة  المنظر بل تزيده جمالا ورونقا وتلهب رغبة العاطش فى أن يمس ذلك المنظر بشفتيه دون أن يفسده، يرتكز بيديه على حافة الجدول، يدنو بشفتيه من الماء ... يشرب منه ... يرفع رأسه ويأخذ نفسا عميقا ثم يدنو من الماء مرة أخرى، يشرب أكثر مما يشرب ثم يعود إلى أعواد الذرة التى جمعها..يرفعها على كتفه ويتجه ناحية المنزل.

(2)

حقول من الذرة الطويلة وترعة وبضع بيوت، بعيدا فى وسط الحقول ماكينة مياه قديمة ... فى الليل هناك يخرج شبح، رجل يزداد طوله حتى يصل إلى السماء ... هكذا ظهر لأحدهم كما ظهر لكثيرين، الرجل هو الذى يذهب إلى بيته وحده ... أعمدة النور الممتدة إلى هناك جعلت من الحكاية أسطورة وجعلت من الكل رجال.

الولد لا يعرف الخوفتنقطع الكهرباء فجأه .."هذه فرصتى"..يمضى فى الطريق الترابى بين حقول الذره ... يكاد يتحسس طريقه ... قلبه يدق يدق ... يتوغل فى وسط الحقول ... يدنو من بغيته ... للصراصير تحت الجدران القديمة صوت مهيب وشجرة السنط متجهمة كشبح يضع جناحيه على السقف المتهاوى، النسيم المتثاقل يهيج رائحة الزيت العطن وغبار من الأخشاب الناخرة ...الولد لا يعرف الخوف .. قلبه يدق يدق .. جلده يقشعر .. يمضى بخطواته الهادئة..يرفع صوته .. "لو كنت رجلا أخرج  لى، أنا هنا أنتظرك"..هو لا ينتظره ... هو يمر مرورا سريعا ما يكاد بلامس شجرة السنط حتى يولى مدبرا...خطواته الهادئة ... قلبه المختلج ... أفكاره المجنونة ... كان يؤمن بأن الشبح موجود وبأنه خائف جدا ... كان إصراره على قهر خوفه أشد.

(3)

أقدام طفل صغير تمشى فى ذلك الطريق الترابى ... تحمل جبلا عاطشا ... تلتهب الشمس وأقدام الطفل عارية يلسعها التراب الساخن فيتعثر الطفل.

•  للقلب جبل من العطش ... سيحمل الطفل ذهابا فى الطريق وإيابا بين الحقول الخضراء وسيصير الجبل ربوة يكسوها الشجر فيكبر الطفل ويشتد عوده .. يجرى على الطريق الترابى .. يخلع ملابسه.. بقفزة واحدة يكون فى قلب النهر.

•  للنهر قلب يحس به الطفل يناديه فى الطريق فى كل خطوة تلهب أقدامه.

•  يشتد لهيب الشمس فيجف النهر وتجف الشجرة ويموت القلب.

•  أقدام طفل صغير وفروع شجرة جافة ملقاة على جانب طريق ترابى.

(4)

هنا القاهرةهنا المدينة والنجومهنا الحوارى والأديمهنا تتشرد خطاك بين المعابد والملاهى والقصور...خطوة وتكون فى غزة ... عد خطاك واستيقظ من النوم ... تنام من التاسعة مساء أمس .. ترتدى ملابسك وتخرج إلى الشارع ..الشمس ملتهبة والزحام خانق ... هم لا يريدون أن يفهموا أنه من العبث أن تجد عملا بتلك الطريقة .. وما الحل؟! هل  إلا أن تضع رقبتك تحت عجلات   تلك الشاحنة الضخمة ... لتفع اﻵن ... تمهل ... هذا  إعلان مسابقة للتوظيف..بعض الصور وشهادة وطابور طويل ثم تجلس على المقهى، تشرب الشاى ودخان النرجيلة يتصاعد منك إلى الأفق، تتبعه بنظرك ..أين القلعة ..القلعة مهدومة...هذه فرصتك...ترتقى ما بقى من المأذنة وتأذن للصلاة من جديد ... اخفض بصرك وانفض ذلك الصرصار الذى يتسلق قدمك ...المقهى ملىء بالصراصير ... المقهى كله صراصير والفأر خلف الجدار ... قفزة وتكون عند الفأر ... ادخر قوتك سيأتيك الفأر بنفسه ... ستهرب من المقهى وتجرى وتجرى معك جموع الصراصير.

(5)

قل لى يافتى ... إلى متى ستعيش؟! .. إلى أن ترى الجبال تتفجر ... إلى أن يطغى البحر ويكسو الماء وجوه الخليقة..ستغرق حينها يا فتى .. ستغوص بين وجوه الخليقة .. ستتعلق بكل قشة..ستغوص معك أكوام من القش .. ستتوه بين الوجوه .. ستتعلق على جدران العمائر..ستقف أمام السيارات وهى تسير بسرعة جنونية...ستجلس وحيدا على كرسى فى خمارة..ستجرك فتاة بحبل تربطه فى خصرها ... سيتراكم قشك فى الطرقات ... تدوسه العجلات الضخمة والأحذية الثقيلة .. ستذروه الرياح  يا فتى .. حتى الطيور.. .ستدوسها السيارات عندما تنزل لتلتقط قشك لتصنع منه أعشاشها ...إلى متى ستعيش؟! .. إلى أن تتساقط من فوق العمائر... إلى أن تنهال عليك الحجارة والشتائم وبصاق السائقين، ستموت غدا يا فتى...تلملم أعواد القش وتصعد فوقها وتشعل فيها النار ... النار لا تشتعل فى الماء يافتى ... ألا ترضى بالغرق ... إلى متى كنت ستعيش؟! .. إلى أن يغيض الماء ... إلى أن تشرق الشمس ... هذه الوجوه لا تتحمل الشمس، ستتوارى منها فى المظلات والزجاج المعتموأنت ستعرى يا فتى ... ستنبذ وحيدا على الشواطئ  ... لن تنبت عليك شجرة من يقطين ... ستأكل الطيور من رأسك ... سيتفجر الدم من جسدك كله ... سيسدون أنوفهم ويضعون أصابعهم فى آذانهم عند سماع اسمك يا فتى، سأقول لك وقتها ... إلى متى كنت ستعيش؟!..  ستنظر إلى وقطرات المطر تتساقط فى عينيك وأعواد القش تتهشم بين يديك، هل تحفر وقتهاحفرة وتدفن فيها نفسك ... هل تموت يوم يعز الموت ... مت الآن يا فتى.

 

كتبت 2005

 

 

 

 

اجمالي القراءات 7224