الإثم والفواحش
اللمم

عبدالوهاب سنان النواري في الثلاثاء ٢٢ - نوفمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة:

1- تواصل بي علی الخاص، عبر (واتساب) الأخ/ أبو عمرو، وطلب مني توضيح لمعنی (اللمم) الوارد في قوله تعالی: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم (النجم 32) . مبديا دهشته وانزعاجه مما قرأه في بعض التفسيرات والفتاوی العجيبة، التي صدمته صدمة كبيرة.

2- وكان في الوقت ذاته قد طرح هذا الموضوع للنقاش في مجموعة (نزار الأكبر) التي أنشأها ويديرها صديقي وأخي العزيز/ جمال البحري. ولكن الأخ/ أبو عمرو، لم يقتنع بما حصل عليه من إجابات، ووجه سؤاله نحوي، طالبا مني الإجابة في بحث تفصيلي، كوني باحثا متخصصا في الفكر القرآني، حسب وصفه.

3- بحثت عن الموضوع في موقعنا (أهل القرآن) علي أجد بحثا لأحد الإخوة القرآنيين، استفيد منه وأوفر الجهد والوقت، غير أني لم أجد غير فتوی لوالدي الدكتور/ أحمد صبحي منصور (حفظه الله) ، يقول فيها بإختصار: أن اللمم، هو صغار الذنوب.

4- وحتی أفهم الموضوع فهما أكثر دقة وموضوعية، قمت بواجب التدبر، فجمعت كل الآيات ذات الصلة بالآية الكريمة، وذلك حتی يتسنی لي معرفة السياق العام للآيات، والذي سيسهل علي معرفة الظرف والسياق الخاص للآية، ثم قمت برد المتشابه علی المحكم، والمكي علی المدني، والمجمل علی المفصل، مركزا علی أداة الاستثناء (إلا) التي يكمن فيها جزء كبير من شفرة ومفتاح الحل لهذا السؤال.

 

أولاً- المحكم والمتشابه:

1- المعروف أن في القرآن الكريم آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، وأن الذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منها ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها حسب أهوائهم، وأن هذه الآيات المتشابهة لا يعلم حقيقتها إلا الله جل وعلا، أما الراسخون في العلم فيؤمنون بها مع أنهم لا يعلمون حقيقتها بدقة، وذلك كجزء من إيمانهم بالغيب، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالی: هو الذي نزل عليك الكتاب فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب (آل عمران 7) .

2- الآيات المحكمة تأتي موجزة اللفظ قاطعة الدلالة، لا مجال فيها للغط واللبس، ومعاني كلماتها حقيقية، ليس فيها مجاز أو اجمال أو نحوه. أما الآيات المتشتبهات ففيها الكثير من التفصيلات والتأويلات والكلام. وهنا يجب علينا أن نرد المتشابه علی المحكم، لتكن الآيات المحكمة هي المهيمنة والميزان والفيصل.

3- والآية (32) من سورة النجم التي وردت فيها كلمة (اللمم) ، تدخل ضمن الآيات المتشابهات، فقد فتحت للناس ألف سؤال وسؤال، وفتحت للذين في قلوبهم زيغ ألف تأويل وتأويل، فتفننوا في تأويل كلمة (اللمم) ، كل حسب أهوائه وشهواته. وقد وردت الآية المحكمة بهذا الخصوص في سورة الشوری، حيث يقول الحق تبارك وتعالی: والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون (الشوری 37) . هنا آية محكمة لا لبس فيها ولا استثناء، وهي المهيمنة علی غيرها من الآيات.

 

ثانياً- المكي والمدني:

1- المعروف أيضا، أن القرآن الكريم نزل فرقانا مرتلا، أي نزل دفعة دفعة، ونسق خلفه نسق، ورتل خلفه رتل، وذلك حسب الأولويات وما تقتضيه الأحداث، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالی: وقرآنا فرقناه لتقرأه علی الناس علی مكث ونزلناه تنزيلا (الإسراء 106) .

2- وبشكل عام، ينقسم القرآن الكريم من حيث طبيعته وخصائصه إلی قسمين: مكي ومدني. تركز آيات القرآن المكي علی أساسيات الإسلام: من توحيد للخالق جل وعلا، والإيمان باليوم الآخر، والتأكيد علی صدق خاتم النبيين، والحث علی عمل الصالحات .. الخ. أما آيات القرآن المدني: فقد صاغت تشريعات ودستور الدولة المدنية، وسنت القوانين الاجتماعية التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع .. الخ.

3- وسورة النجم التي وردت فيها كلمة (اللمم) هي سورة مكية، وقد كان تركيز آياتها علی إثبات صدق خاتم النبيين، وبطلان ما يقدسه المشركون من أولياء، والحديث عن عظمة الله تعالی، واليوم الآخر. والتشريع في هذه السورة يكاد يكون معدوما، وبالتالي لا نستطيع أن نبني حكما شرعيا من خلال هذه السورة بخصوص موضوع بحثنا، وعلينا أن نتجه إلی آيات القرآن المدني الذي تطرق وفصل كل هذه الأمور.

 

ثالثاً- السياق:

1- من أهم أدوات فهم آيات القرآن الكريم، هي قراءة الآية موضع التدبر في سياقها العام والخاص، حيث لا يصح فهم أي آية بمعزل عن سياقها، وهذا لا يكون إلا بجمع كل الآيات ذات الصلة بالآية المراد فهمها، فالقرآن الكريم مثاني، وفيه التكرار والتشابه، وما اجملته آية فصلته غيرها. وهذا هو التدبر الذي أمرنا به، في قوله تعالی: أفلا يتدبرون القرآن أم علی قلوب أقفالها (محمد 24) .

2- والسياق العام الذي وردت فيه الآية موضع البحث، وما يتصل بها من آيات، يؤكد أن الله جل وعلا، حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وحرم ظاهر الإثم وباطنه، وأن الإنسان مسائل بين يدي الله جل وعلا، عن كل صغيرة وكبيرة، والآيات في هذا الخصوص كثيرة جدا، نكتفي بقوله تعالی: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا علی الله ما لا تعلمون (الأعراف 33) .. وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون (الأنعام 120) .. ووضع الكتاب فتری المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاظرا ولا يظلم ربك أحدا (الكهف 49) .

3- أما السياق الخاص للآية موضع البحث فيفهم من خلال قراءة الموضع الذي وردت فيه كاملا، أي قراءة ما قبلها وما بعدها من الآيات، وبقراءة السياق الخاص بالآية (32) من سورة النجم، يتضح أنها وردت في موضع الترغيب والترهيب وليس في موضع التشريع، وعليه فلا يمكن لنا أن نبني حكما تشريعيا من خلال هذه الآية. وتعالوا بنا نقرأ الآية في سياقها الخاص، قال تعالی: ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنی ، الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقی (النجم 31-32) .

 

رابعاً- أداة الاستثناء (إلا) :

بتدبر (608) آية قرآنية وردت فيها أداة الاستثناء (إلا) تتضح لنا العديد من الحقائق القرآنية التي تسهل علينا فهم معنی قوله تعالی: إلا اللمم. وتعالوا بنا نستعرض أبرز النتائج التي توصلنا إليها هذه الآيات:

1- أن الله جل وعلا، يتجاوز عن المذنب إذا اضطر إلی ارتكاب الذنب في ظروف قاهرة، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالی: إلا ما اضطررتم إليه (الأنعام 119) .. إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان (النحل 106) .

2- أن الحق تبارك وتعالی، يتجاوز عن المذنب إذا ارتكب ذنبه كاجراء وقائي ليمنع به حدوث ما هو أعظم منه، وفي ذلك يقول سبحانه: إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله (البقرة 229) .. إلا أن تتقوا منهم تقاة (آل عمران 28) .

3- أن الله جل وعلا، يتجاوز عن المذنب بدخوله الإسلام والتوبة الصادقة، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالی: إلا ما قد سلف (النساء 22) .

4- أن هذه الأداة تستخدم للتصغير والاحتقار، ومن ذلك قول المشركين: هل هذا إلا بشر مثلكم (الأنبياء 3) .

5- أن الله جل وعلا، يتجاوز عن المذنب إذا كان قد ارتكب ذنبه بالخطأ، وفي ذلك يقول سبحانه: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ (النساء 92) .

 

الخلاصة:

أنه لا يعلم حقيقة (اللمم) إلا الحق تبارك وتعالی، غير أن معنی اللمم لا يخرج عن كونه: ما اضطر الإنسان إلی ارتكابه في ظروف قاهرة، أو ما ارتكبه كاجراء وقائي ليمنع حدوث ما هو أعظم منه، أو ما ارتكبه بالخطأ، أو ما ارتكبه قبل إسلامه وتوبته، أو الذنب الصغير جدا والذي لا يكاد يذكر، ويستحيل علی أي إنسان أن لا يقع فيه، قد يكون اللمم كل ما ذكر.

وعموما فالإنسان محاسب علی كل صغيرة وكبيرة فليتقي الله ربه.

اجمالي القراءات 9403