المهزومون تاريخياً.. ينتخبون الفاشيين الجُدد فى الغرب

سعد الدين ابراهيم في السبت ١٩ - نوفمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

كان انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة صدمة للكثيرين فى الولايات المتحدة وفى بقية العالم. صحيح أن مُنافسته، هيلارى كلينتون حصلت على أصوات أكثر، فى مُجمل الولايات المتحدة بحوالى مليون صوت. ولكن نظام الانتخابات الأمريكى يحتسب الأصوات طبقاً للأوزان النسبية للولايات الخمسين، التى تتكون منها أمريكا، فيما يُسمى «المُجمع الانتخابى» (Electoral college). فهناك ولايات مُتناهية الصغر، وربما لم يسمع بها المصريون، مثل ولاية فيرمونت، لا يتجاوز عدد سُكانها عُشر سُكان ولاية أخرى، مثل كاليفورنيا أو نيويورك، ولكن لها الخُمس من أصوات المجُمع الانتخابى، مثلما لها نفس عدد أعضاء مجلس الشيوخ (شيخان لكل ولاية). وهو نظام تمثيلى يوافق عليه الأمريكيون منذ أكثر من مائتى سنة، ونصوا فى دستورهم، الذى يصعب تغيير مواده إلا بأغلبية الثلثين فى كل ولاية، من الولايات الخمسين. وهو ما لن توافق عليه الولايات الأصغر.

ولكن بصرف النظر عن تلك التفصيلات والتعقيدات الدستورية، يُمثل انتخاب دونالد ترامب الصيحة الأخيرة، لطبقات اجتماعية تشعر بالإحباط والغضب، لا فى أمريكا وحدها، ولكن فى معظم المجتمعات الغربية.

من ذلك أن نسبة مُماثلة (٥٢%) صوّتت فى بريطانيا للانسحاب من الاتحاد الأوروبى منذ شهور، وسط صدمة أوروبية وصدمة عالمية مشهودتين. كما ظهرت حركات وأحزاب تطالب بنفس الشىء، وانتخبت مثيلاً لدونالد ترامب فى المجر والنمسا وهولندا وإسبانيا وبلجيكا وألمانيا وفرنسا.

وضمن ما يُثير الإحباط والغضب والعدوانية عند الناخبين فى هذه المجتمعات، الخوف من المستقبل، ومن «الغُرباء». والغُرباء فى معظم هذه البُلدان هم المُهاجرون أو الوافدون الجُدد، سواء جاءوا بطريقة شرعية أو غير شرعية، من أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط.

وقد تجلى ذلك فى حملة دونالد ترامب بالشعارات والوعود التى أطلقها أثناء حملته الانتخابية: مثل بناء سور أو حائط بين أمريكا وجارتها الجنوبية، وهى المكسيك، لمنع تسلل العمّال المكسيكيين إلى الولايات المتحدة، بحثاً عن العمل بأجور أعلى مما هو مُتاح لهم فى المكسيك. وكذلك دعوة ترامب بإقفال الباب أمام دخول المسلمين إلى أمريكا، وترحيل الموجودين منهم إلى البُلدان التى أتوا منها.

والمُفارقة الصارخة فى مثل تلك الصيحات ضد الغُرباء، هى أن أمريكا كلها هى مجتمع بدأ، قبل ثلاثمائة سنة، واستمر إلى اليوم بغُرباء، قادمين بداية من غرب أوروبا، ثم من شرقها، ثم من جنوبها. وبعد ذلك وفدت موجات غُرباء آخرين من شرق آسيا (صينيون ويابانيون)، ثم من جنوبها (هنود وباكستانيون) ثم من غربها (إيرانيون وعرب وأتراك).

بل إن دونالد ترامب نفسه أتى جده من ألمانيا، قبل ستين عاماً، كما أن زوجته الأخيرة ميلانيا، وفدت مُهاجرة من يوغوسلافيا، مع أسرتها، منذ رُبع قرن.

ولكن جُزءاً من غوغائية أمثال دونالد ترامب، هو تناسى التاريخ الأسرى والشخصى له ولزوجته، والعزف على الأوتار التى تلقى آذاناً صاغية لدى المُحبطين والخائفين من الأمريكيين، وخاصة البيض من الطبقة المتوسطة الصغيرة. فهذه الشريحة تتذكر أن آباءهم، منذ رُبع قرن فقط، كانوا هم عماد الحياة والإنتاج والغلبة فى المجتمع الأمريكى. وهى الشريحة التى يُشير إليها عُلماء الاجتماع الأمريكيون اختصاراً بمُصطلح الدبّور WASP، وهى الحروف الأولى من (White Anglo-Saxon Protestant)، أى البيض الأنجلوـ سكسونيون، البروتستانت. وكانت موجات الهجرة الأولى قبل ثلاثة قرون من غرب أوروبا التى تنطبق عليهم هذه السمات، واعتبروا أنفسهم هم أبناء الأصول، وهم الآباء االمؤسّسون لأمريكا (Founding Fathers)، وهم الذين شكلوا، وما زالوا يُشكلون النُخبة الحاكمة سياسياً، والمُتحكمة اقتصادياً، والمُهيمنة ثقافياً، والسائدة اجتماعياً.

وليست هذه هى المرة الأولى فى التاريخ الاجتماعى الحديث للولايات المتحدة، التى يظهر فيها سياسيون غوغائيون مثل دونالد ترامب. فقد ظهر مثله فى القرن الماضى، أمثال جورج ولاس، حاكم ولاية ألاباما، والشيخ (سيناتور) بارى جولد ووتر، من ولاية أريزونا، بل انتخب هذه الشريحة أحدهم رئيساً للولايات المتحدة لفترتين مُتتاليتين وهو الممثل الهليوودى، رونالد ريجان، ثم بعد ذلك برُبع قرن، جورج بوش الابن، فى تسعينيات القرن الماضى.

وهكذا، يبدو أن الخوف لدى أبناء المجتمعات الغربية، يجعلهم يُفرزون أسوأ ما فى ثقافتهم السياسية. وهذا بالمناسبة هو ما كان قد حدث فى ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال فى ثلاثينيات القرن العشرين، حيث ظهرت النازية والفاشية، التى جرّت الدنيا بأسرها إلى ويلات الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩-١٩٤٥)، والتى فقدت فيها البشرية قرابة أربعين مليوناً، ومأساة اكتشاف واستخدام القنابل الذرية.

وهذا، ما يُفسر خروج مُظاهرات شبابية احتجاجية، خوفاً من غوغائية الرئيس الجديد، دونالد ترامب، التى يمكن أن تؤدى بأمريكا والبشرية كلها إلى الهلاك.

فنرجو ألا تتحقق هذه المخاوف، وأن يتغير دونالد ترامب، ويتصرف كرجل دولة مسؤول. ولا يسعنا إلا التعاطف مع هؤلاء الشباب الأمريكى البرىء.

اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.

وعلى الله قصد السبيل.

اجمالي القراءات 7557