مختصر لسيرة الجماعة الإسلامية في أحد أحياء الصعيد في بداية التسعينيات
الجماعة الإسلامية في بلدتنا

عامر سعد في الخميس ٢٢ - سبتمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

 
1- بلدتنا قبل ظهور الجماعة: 
     بلدتنا عبارة عن حي صغير في مركز من مراكز محافظة سوهاج، هي ليست بالقرية ولم تأخذ طابع المدينة بشكلها المكتمل، كل السكان تجمعهم صلة القرابة والنسب، ولكل أسرة أو عائلة منزل لا يشاركها فيه أحد، مزدحمة إلي حد ما وشوارعها ضيقة تشبه المناطق الشعبية في القاهرة ولكن بشكل أقل بشاعة، الكثير يعملون بالزراعة في أراضيهم التي تقع بعيدا عن الحي بضعة كيلومترات والقليل منهم يعملون في القاهرة والإسكندرية والمملكة السعودية والبقية تعمل في الأعمال الخدمية التي تلزم كل مجتمع، لا يوجد في حينا الصغير عائلات ثرية أو صاحبة مناصب بل يكاد يكون الجميع فقراء أو بالكاد مستورين كعامة الشعب المصري، أما باقي المركز فتوجد به عائلات كبيرة تعتز بأصلها وفصلها وثراءها وأراضيها ومناصبها العليا في الشرطة والقضاء، ولذلك كانوا يحتقرون حينا ولا يأبهون به، حيٌنا كان فيه الكثير من المسيحيين يكاد عددهم يزيد عن ثلث السكان وكانوا يقطنون في المنطقة الغربية من الحي ولكنهم لم يكونوا منعزلين عن المسلمين فقد كانت البيوت ملاصقة للبيوت، وكان الحي مقسم كالآتي، المحلات والمتاجر الهامة  ومواقف السيارات ومركز المدينة كل ذلك يقع في ناحية الشرق، توجد عدة شوارع رئيسية تقطع الحي من الشرق إلي الغرب وكان المسيحيون يسكنون الأجزاء الغربية من تلك الشوارع فكانوا في ذهابهم وإيابهم يمرون من أمام بيوتنا وكانت تجمعنا بهم علاقات الود والجيرة والبيع والشراء والتهاني والعزاء والطعام والشراب في الأفراح والمناسبات الأخري، وكنا نحتفل بأعيادهم كما كانوا يحتفلون بأعيادنا، وكان الكثير من أولادهم في مدارسنا وفصولنا تجمعنا بهم الصداقة والود واللعب وحسن المعاملة.
في ذلك الوقت كان يوجد بالحي ثلاث مساجد، أصغرهم يقع في شارعنا ويبعد عن بيتنا مسافة تقل عن الخمسين مترا، في الحديث عن الجماعة الإسلامية يجدر بنا ذكر الأستاذ عادل، لصلته ببعض الأحداث وللمقارنة بين ما كان يفعله وما كانت تفعله الجماعة، هو مدرس لمادة الرياضيات في مدرسة الحي الإبتدائية، منذ وعيت علي الدنيا في سنة 1988، كان متكفلا بالمسجد يأذِّن للصلوات الخمس ويؤم الناس وبعد صلاة العصر يلتف حوله مجموعة من الأطفال في أعمار مختلفه يحفظهم القرآن، كنت أنا في عمر الخامسة وقتها، لم أكن قد التحقت بالمدرسة بعد وكنت أجلس بجواره كل يوم أترجاه أن يحفظني القرآن كما يحفظهم، ظللت عدة شهور هكذا حتي أول يوم التحقت فيه بالمدرسة الإبتدائية فأشار إلي يومها أن أحضر جزء عم من دولاب المصاحف وقرأ علي  ( قل هو الله أحد ) ولم تكن الدنيا تسعني من الفرحة يومها، كان راتب الأستاذ عادل من المدرسة هو مصدر دخله الوحيد ولم يكن يتقاضي قرشا واحدا منا أو مقابلا  لرعايته للمسجد فلم يكن المسجد قد انضم للأوقاف بعد، ظللنا نحفظ القرآن يوميا وانتظمنا أنا وثلاثة من أصحابي من نفس العمر فكنا نحفظ نفس السور لا يسبق أحدنا الآخر، كان الأستاذ عادل حريصا جدا علي استمرارنا في الحفظ فلم يكن أحد منا يستطيع الإنقطاع عن الحضور، فانتظمنا علي ذلك نحفظ القرآن ونصلي الصلوات الخمس في المسجد وكنا جميعنا متفوقين في دراستنا بفضل حفظنا للقرآن.
 
بداية ظهور الجماعة:
كنت في الصف الثالث الإبتدائي عندما بدأ بعض الشباب من أهل البلدة وتبعهم الكثير من أقاربي في إعفاء اللحي ولبس الجلاليب البيضاء القصيرة والمواظبة علي الصلاة في المسجد، وزاد عددهم كثيرا إلي أن نصَّبوا منهم أميراً كانت له سابقة اعتقال واشتروا قطعة أرض كبيرة تقع كفاصل بين بيوت المسلمين وبيوت المسيحيين في أحد الشوارع في منطقة تبعد عن بيتنا قرابة 500 متر وأقاموا مسجدا كبيرا لم نعهد بمثله في بلدتنا وجعلوا له طابقا ثانيا للنساء، وأطلقوا عليه إسم مسجد الرحمن، قالوا أنهم جمعوا المال من التبرعات من بلدتنا ومن البلدان المجاورة والله أعلم من أين أتوا بذلك المال، لا أعلم هل كان اختيارهم لموقع المسجد مقصودا أم لا، فكرت في هذا منذ بضعة أشهر وأصبت بالغثيان إذ أدركت أن ذلك المسجد الذي تعلقت به وأحببته في صغري كان مسجدا ضرارا ينشر العداوة والبغضاء بين الناس علي اعتبارهما شرع الله، بسبب المسجد صار للحي الفقير المتطرف ناحية الصحراء الذي لا تأبه به العائلات الكبيرة ذات الأصل والفصل والأموال والنفوذ شأن كبير، صار الحي قبلة الإخوة - كما كانوا يسمون أنفسهم - من مركزنا ومن المراكز المجاورة التي كان بعضها يبعد عنا كثيرا، وصار يوم الجمعة عندنا محفلا كبيرا تري فيه أفواجا من اللحي والجلاليب البيضاء تملأ الشوارع المؤدية إلي المسجد وكان مما يوصي به أن يذهبوا إلي المسجد من طريق يمر بين بيوت النصاري حتي يرهبون عدو الله بالطبع، كنت أري رهبة حقيقية في عيون جيراننا المسيحيين وأنا صغير، كان المسجد مفعما بالحياة حقاً، كانت تقام مسابقات دينية وحلقات لحفظ القرآن وحفلات فيها الطعام والشراب والعروض المسرحية الدينية و مسابقات في الأسئلة العامة وحفظ القرآن وخطباء يأتون من كل حدب وصوب، وباعة للمصاحف وللكتب الدينية والعطور والبخور والسواك وغيره يعرضون بضاعتهم أمام المسجد، عقب صلاة الجمعة، كانت للجماعة بعض الحسنات والتي لم نكن نري غيرها واكتشفت عندما كبرت أنها لا تذكر بجانب ما أفسدوه، التزم الكثير من الشباب بالصلاة واهتموا بمعرفة أمور الدين وهجر كثير من الرجال والنساء تخاريف الصوفية التي كان ينتمي لها عائلات بأكملها في البلدة، لم تعد النساء تندبنالموتي ولم يعد يقام للأموات سرادقات للعزاء، كانت النساء يلبسن جلاليب مفتوحة الصدر وكانت المرضعات تكشفن أثدائهن علي قارعة الطريق دون خجل فأصبحن يرتدين الخمار أو النقاب، تعود الناس علي قول السلام عليكم بدلا من سعيدة وصباح الخير، البقاء لله بدلا من البقية في حياتك، تقبل الله عقب الصلاة وفي الأعياد، لم يعد أحد يحلف بغير الله أو بالطلاق أو يسب الدين وغير ذلك الكثير من العادات التي تغيرت، ومازال أهل البلدة علي ذلك من وقتها ولكن كما ترون كلها شكليات فطباع الناس وسلوكياتهم لم تتغير وسيأتي ذكر بعض ذلك. 
أما عن الشر الذي جاءوا به فإن أوله قد أصاب شيخي الأستاذ عادل، شابين فتيين مفتولي العضلات قويي الشكيمة كانا قد أطلقا لحيتاهما منذ فترة وجيزة لا تتجاوز بضعة أشهر، طلبوا من الأستاذ عادل أن يقيم الصلاة في ميكروفون المسجد كما يفعل في الآذان، لم أحضر بنفسي تلك الحادثة ولا أذكر تفاصيلها ولم أسأل الأستاذ عنها لصغر سني وعدم اهتمامي، المهم أنه رفض حيث لم تكن العادة قد جرت علي ذلك في كل المساجد التي نعرفها إلا مسجد الجماعة ( مسجد الرحمن ) ، تأزم واحتد الموقف ولا أعلم إذ كان قد حدث تعدٍ جسدي علي الأستاذ أم لا، وقام أحد أقرباء الأستاذ عادل بتبليغ الشرطة وانتهي الموضوع بشكل ودي ولكن الشابين وضعا تحت المراقبة بالتأكيد،  وفي صلاتي المغرب والعشاء من نفس اليوم حضر وفد من اللحي والجلاليب البيض ممن نعرفهم لكنهم لم يكونوا قد اعتادوا الصلاة في مسجدنا فأذَّنوا وأقاموا الصلاة في الميكروفون وأمَٓ أحدهم المصلين واضطر الأستاذ عادل أن يترك لهم المسجد بدون رجعة، وإلي اليوم لم ينتظم في مسجدنا هذا مؤذن ولا إمام بشكل دائم حتي بعد انضمام المسجد للأوقاف منذ ما يزيد عن عشرين سنة إلا في فترة صغيرة عُيِّن فيها أخو الأستاذ عادل الأصغر مؤذنا للمسجد وكان فرانا بالكاد يقرأ ويكتب ولكنه كان يحفظ بعض الأجزاء من القرآن ويحرص علي مراجعته باستمرار، فحافظ علي المسجد وانتظم في الآذان والإقامة وكان يؤم الناس عندما لا يوجد بديل أحفظ منه للقرآن ثم تركه وانتقل إلي مسجد الرحمن الذي كان قد انضم للأوقاف أيضا، أحد الفتية الذين تعدوا علي الأستاذ عادل اعتقل في أحداث تالية قرابة 10 أعوام و خرج من السجن وقد حفظ القرآن وياللغرابة فقد سلك طريق الأستاذ عادل وبدأ يحفظ القرآن لأولاده الثلاثة مع الكثيرين من أبناء إخوتي وغيرهم من الأقارب وفي المجمل هو إنسان صادق طيب القلب عفيف اللسان  حتي عندما أجادله في بعض الأمور يجادلني بالحسني،ولكنه مازال متعصبا لفكر الجماعات السلفيه والإخوان وهناك قصة طريفة تحكي عنه أيضا وقد شهدتها بنفسي، فقد كان يوجد بجوار مسجدنا أحد بيوت المسيحيين قديما ومهجورا منذ سنين، نُحِت صليبين بارزين بالطوب منذ عشرات السنين علي جانبي بوابته  وكانا لا يلفتا النظر مطلقا فالباب نفسه كان قد ردم نصفه تحت الأرص، وذات يوم بعد واقعة الأستاذ عادل بقليل استيقظنا في الصباح فوجدنا هذين الصليبين قد حطما وطمس مكانهما بالمازوت وهذا ما رأيته بعيني، انتشرت القصة واتهم فيها صاحبنا وقيل أن قطرات المازوت كانت تقطر من باب بيته وحتي باب البيت المهجور، وقدم المسيحيون شكوي للشرطة، حدثت شيخنا في هذه الحادثة منذ فترة وجيزة فقال لي أنها كانت تهمة باطلة ألصقوها إليه بجانب قصة الأستاذ عادل وأن الفاعل الحقيقي كان أمير الجماعة بذاته، وأما الشاب الآخر الذي تصدي للأستاذ عادل فقد ترك الجماعة بعد أن اعتقل لأشهر قليلة وحلق لحيته وأصبح غير محسوب عليهم، واعترف لي الأول منذ عهد قريب أنهم فعلوا ذلك بنية طرد الأستاذ عادل من المسجد لأنه كان ذو ميول صوفيه  فقلت له أنني لم أكن أري منه شيئا من ذلك، قال إن أخاه الأكبر وأحد أصدقاءه المقربين كانا صوفيين ويفهم من ذلك أنه إنما طردوه فقط لأنه رفض اتباعهم ولرغبتهم في ضم المسجد دونما تقدير للمجهود الذي يبذله الأستاذ عادل للمسجد و للأولاد الصغار إذ يعلمهم القرآن، وضعت الجماعة يدها علي المسجد وقابل الناس ذلك بالرضا والسرور وأطلقوا علي المسجد إسما حيث لم يكن له إسم وسمي ( مسجد الحق ) واتخذوه كفرع أو مقر ثان لهم بعد المسجد الرئيسي ( مسجد الرحمن ).
      لم يتوقف الأستاذ عادل عن تحفيظ القرآن فقد كنا نذهب إليه في بيته وأحيانا كان يلتقي بنا في فترة الفسحة في المدرسة، وصلت وأصحابي الثلاثة إلي سورة الكهف وقت أن كنا في الصف الخامس الابتدائي وكنا إذا حفظنا سورة نكاد ننساها إذا انتقلنا للتي بعدها، ولسوء فهم منا جميعا حتي من الأستاذ لآيات القرآن التي تحذر من نسيان الذكر، قال لنا الأستاذ لنتوقف هنا حتي نراجع ما حفظناه ثم نستأنف الحفظ فيما بعد، وللأسف ظللنا عدة سنوات بعدها نراجع فقط حتي توقفنا عن المراجعة أيضا ومع مرور الوقت نسينا ما حفظناه إلا أقل القليل، كان ذلك مصدر حزن دائم لي حتي هداني الله لأهل القرآن وعلمت أن الله أنزل الذكر وهو الذي تكفل بحفظه وماعلينا إلا أن نعقل ونتدبر.
     نعود إلي الجماعة وإلي التغيير الرهيب الذي أحدثته في البلده، كما ذكرت كانت التغييرات شكلية ولا تمس جوهر الدين وحقيقة التقوي بحال، أقبل الكثيرون من الشباب علي الصلاة وأقبل الكثيرون من الأطفال والكبار علي حفظ القرآن علي أيدي الشباب الجدد وأذكر أنني ذهبت يوما لأحفظ معهم فكان من ضمن برنامج اليوم بعض التدريبات الرياضية في منطقة خالية جوار المسجد لتدريب جيل مستعد للجهاد، ولكني لم أذهب بعدها، كما تطوع الكثيرون لتحفيظ القرآن ولكن لم يستمر أو ينتظم أحدهم إطلاقا  وكانت تقام مسابقات حفظ فكانت تحدد بحفظ جزء عم لا أكثر في معظم الأحيان، أما الأستاذ عادل فقد تفرق الكثيرون من حوله بعد انقطاعه عن المسجد إلا القليل.
     نأتي للفكر الجهادي لدي الجماعة، بلدتنا بها الكثير من المسيحيين كما ذكرت من قبل ، جاءت الجماعة بفكرها المسموم ونشروا الحقد والبغضاء في المجتمع وحضوا الناس علي قطع العلاقات الإجتماعية ومنع التبادل التجاري معهم، بل والتصدي لهم وانتهاز أي فرصة لبث الرعب في نفوسهم وغيظهم، تسرب هذا الفكر إلي العقول دون أن ينتبه إليه أو يدرك خطورته أحد، كنا فرحين بهذا وفخورين به تداعبنا أحلام العودة إلي دولة الخلافة وامتلاك الدنيا، كان بعض الشباب قد اقتني أسلحة كثيرة مسدسات وأسلحة بيضاء وجنازير، ومن المضحك أن الجنزير صار له مكانة خاصة، فكما كانت رأس الأخ لابد أن تتزين بالملفحة البيضاء المتهدلة علي الجبهة والمصحف في جيبه وبجانبه السواك، كان الخصر في بعض الظروف لابد أن يتزين بالجنزير الملفوف عليه تحت الجلابية القصيرة استعدادا لأي معركة مع الكفار من عساكر أمن الدولة أو النصاري، مكانة الجنزير تلك لم يحزها أي سلاح آخر كالخناجر أو المسدسات، وكنت أري ذلك بعيني في بعض بيوت الإخوة، ومن رحمة الله أنهم لم يتسببوا في قتل أحد من حينا مطلقا مسلم أو مسيحي، لا أدري شيئا عما كان يتم خارج الحي.
 
مضت الأيام هنيئة سعيدة علي الجميع لا ينغص صفوها إلا بعض الإعتقالات لبعض شباب الجماعة هنا وهناك والتي لم تكن تستمر سوي أشهر قليلة، حتي جاء اليوم الذي أذن باقتراب النهاية، وقبل أن أقص أحداث هذا اليوم سأتحدث قليلا عن ياسر صديقي، فلو اعتبرنا أنني أكتب قصة درامية عن الجماعة الإسلامية في بلدتنا لكان ياسر من أهم أبطالها، لأنه الطفل الذي أشعل شرارة الحدث الأهم، ياسر هو واحد من الثلاثة الذين كانوا يحفظون معي القرآن وكان منافسي الأقوي طوال سنوات الدراسة والأقرب إلي قلبي وهو الآن أخصائي أمراض قلب ناجح، مسجد الحق يبعد عن بيتنا بحوالي خمسين متر غربا، وبعد المسجد بمائة متر تقريبا يقع بيت ياسر في نفس الشارع ، وهو آخر بيت من بيوت المسلمين حيث تبدأ بعده بيوت النصاري، أما أول بيوت النصاري فتقع في طابقه الأرضي ورشة نجارة كبيرة كنا نعتبر مالكها من ألد الأعداء فقد كان مشهوراً عنه أنه صاحب كلمة علي جيرانه من النصاري وأنه متعاون مع أمن الدولة، كنت أنا قريب من الجماعة وأحد أشبالها الواعدين وذلك لتحمسي من جهة ومن جهة أخري لأن أخي وكثير من أقربائي منتمين لها، وكان ياسر كذلك حيث كان له أخوين شابين من أعضاء الجماعة ، بل كان يحظي برعاية واهتمام أكبر كون أبيه ميسور الحال، كانوا يصطحبوننا معهم في اللقاءات الليلية والندوات والدروس والتي كانت تقام في مدن بعيدة عنا أحيانا، وانضمننا لحلقة تعليم الخطابة رغم حداثة سننا وأذكر الفرحة العارمة التي عمت المسجد حين ألقي علينا ياسر خطبة تمكن من حفظها كاملة، كنا شغوفين بحفظ مقدمات الخطب والأناشيد الدينية والأحاديث، ويبدو أننا كنا أشبالا مبشرين بمستقبل إرهابي مشرق حيث أذكر مرة كنت عائدا من المسجد فدخلت بيتنا ورفعت رجلي عاليا ودفعت بها  زر التلفزيون ( المفسديون ) فأطفأته أمام أمي وإخوتي بدون استئذان من باب تغيير المنكر باليد.
 
لا أذكر بالضبط ولكنا كنا في حوالي الصف الثالث الابتدائي حين كان ياسر يلعب أمام البيت قريبا من ورشة النجارة - السابق ذكرها - وأخذ يغني أحد الأغاني الجهادية تقول كلماتها علي ما أذكر ( مصر هتحكم بالقرآن ... وبكره نكسر الصلبان )، وبلغ صوته سمع صاحب الورشة فنهره وقال له إلعب بعيدا، شاهد الواقعة شاب من أقرباء ياسر مفتول العضلات معروف بالقوة  وهو من أولئك الذين يتربصون بالمشاكل حتي يمارسون هوايتهم في الفتونة، لم تكن له أي علاقة بالجماعة ولكنه كان يحمل علي الأقل الحد الأدني من ثقافة العداء الطائفي الذي ساد المجتمع  في سنوات مجد الجماعة، كان الوقت صباحا باكرا وانتبهنا علي ضجة كبيرة وخلق كثيرون يجرون في الشارع ناحية الغرب، ومما أذكره أنني صعدت فوق سطح منزلنا بعد أن سمعنا أن البعض يتراشقون بالحجارة من فوق البيوت ورأيت علي البعد كرات من النار تطير في الهواء لم أتبين وقتها من الذي يرشق بها الآخر، وتذكرت المنجنيق الذي قرأنا عنه في المدرسة فأيقنت أنها الحرب،  سري نداء الجهاد في البلدة كلها وتجمع الكثير من الخلق يتزعمهم شباب الجماعة وامتلأ الميدان عن آخره وصار مسجد الحق كأنه مركز القيادة، انتشرت المعارك في بضع نقاط أخري من البلدة ورأيت بعيني فيما بعد آثاراعتداءات علي أبواب المنازل و المحال التجارية المملوكة للنصاري ويبدو أن معظمهم قد آثروا السلامة وتملكهم الرعب فأغلقوا عليهم أبوابهم، ذاع وقتها أيضا أن بعضهم أشعل النار في بيته عمدا أو أحدث بنفسه جراحا ليرمي بها المسلمين،  برغم هذه الضجة لم يقتل أحد أو يصب إصابة بليغة إلا أخو ياسر الذي شجت فروة رأسة وواحد من قيادات الجماعة كسر زراعه، وذلك لاعتصام النصاري في بيوتهم وتجنبهم المواجهة المباشرة فكانت معظم المواجهات عبارة عن تراشق بالطوب من بُعد ولأن تلك الضجة لم تدم طويلا فبعد حوالي ساعتين إلي ثلاثة حضرت قوات الأمن من المحافظة رأساً وبأعداد كبيرة، كان أمير الجماعة قد وصل إلي مسجد الحق وهو الذي تصدي للرد علي الرتبة العالية التي حضرت ورفض فض التجمع وأصر علي إقامة صلاة الظهر في المسجد، كانت الأعداد تسد الشارع من أفراد الجماعة وغيرهم من أهل الحي ولذلك لم يهابوا قوات الأمن، ولأول مرة فرشت الحصر خارج المسجد لتكفي أعداد المصلين الأمر الذي لم يتكرر بعدها قط حتي في صلوات الجمعة، كنت أقف خلف باب بيتنا أجاهد أختي الكبري لتتركني أذهب للصلاة مع الجموع، ثم رضخت لها أخيرا ووقفنا نراقب المشهد من خلف الباب الموارب، كان قد حضر إلي الموقع نائب مجلس الشعب عن مركزنا و المنتمي للحزب الوطني  وأحد أبناء العائلات الكبيرة التي تحتقر أمثالنا، كنا نراه بوضوح واقفا خارج المسجد بجوار المصلين، وحين سجد المصلون هوي بمأخرتها الخشبية بشكل عمودي علي ظهر أحد الإخوة فانبطح أرضا، فزّ المصلون من سجودهم وحدث هرج ومرج، صرخت أختي وقالت الأستاذ عبدالله ( كان من أقرباء أمي وكان مدرسا لمادة الفنية - الرسم - خفيف الظل، طيب القلب ويحبه الجميع، حمل إلي المستشفي ثم إلي السجن بعد ذلك ) ثم سمع صوت طلقة نارية ( ظل أثرها لسنوات بعدها علي حائط في صحن المسجد ) ففزع المصلون من داخل المسجد وهموا خارجين، لاز الكثيرون بالفرار وعاند الكثيرون، لحظات وسمعنا صوتا آخر أقرب وأثقل وانتشر علي إثره غاز أبيض كثيف أصابنا بسعال شديد وحرقة في العيون ودموع تنهمر، قفزت أنا وأختي وخالتي لبيت مهجور خلفنا يفصله عنا حائط منخفض هربا من الغاز دون جدوي،  حتي أنني من فرط السعال رددّتُ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله مرات عديدة بصوت مسموع أقلق أختي وخالتي ولم تكونا أفضل حالا مني، كانت قنبلة الغاز قد ألقت أمام بيتنا مباشرة، من رحمة الله أن أمي وأخوتي الصغار لم يكونوا بالمنزل في تلك الساعة، حدثت أيضا تجمعات أخري أمام مسجد الرحمن وأماكن أخري في البلدة ولم تجدي معها أيضا إلا قنابل الغاز المسيل للدموع، كلٌ أغلق عليه بابه وانقضي ذلك النهار الشتوي سريعا، فُرض حظر التجوال في البلدة من آذان المغرب لمطلع الصباح واستمر أسبوعين كاملين، كان يرابط اثنين من العساكر مع غفير 24 ساعة أمام بيتنا يوميا وكنا نسهر معهم أيام الشتاء نحضر لهم الشاي ونشعل النيران للتدفئة، ونجري هاربين عندما يظهر علي البعد أحد الضباط، كان لا يمر يوم حتي نسمع عن القبض علي عدد من أفراد الجماعة ، اعتقل عدد كبير لا أظن أن بلدة في مصر اعتقل منها عدد بهذه الكثافة، فشارعنا الذي لا تتجاوز المسافة التي يسكنها المسلمون منه 500 متر قد اعتقل منه 9 أشخاص، آخرهم كان يبلغ من العمر 14 عاما، كان يتعلم الخطابة معنا وعندما اعتقل الكثير من أفراد الجماعة صعد يوما إلي المنبر في مسجد الرحمن وخطب الجمعة لعدم وجود خطيب فاعتقل رغم حداثة سنه، خيم الحزن علي بلدتنا الصغيرة سنين طويلة، حزن لا يواسيه سوي أنه قد أصاب الجميع، اعتقل أخي وابن خالتي وأباه ( زوج خالتي وابن خال أمي ) وابن عمتي، وابن خال أبي، وأحد إخوة ياسر ( كان الأخ الآخر قد ترك الجماعة منذ شهور بعد اعتقاله لمدة وجيزة كما ذكرت سابقا ) والكثير من الجيران والأقارب عن بعد، أخي كان قد اعتقل قبل هذا الحدث بعام تقريبا من داخل مسجد الرحمة الشهير في أسيوط حيث كان يحضر درسا بعد صلاة العشاء، هجمت القوة علي المسجد فصعد هو إلي الدور الثاني وقفذ من الشباك فكسرت إحدي فقرات ظهره، قبض عليه وألقي في زنزانة ضيقة مع العشرات مكدسين كعلب السردين، ينام بعضهم ويقف الآخرون لضيق المكان، حتي نقلوا لسجون أكبر والتأم كسر ظهره دونما حبة واحدة مسكنة للألم، كما ظلوا لسنوات يضربون جميع المعتقلين يوميا بغرض التعذيب لا أكثر.
 
ما بعد الجماعة:
مرت سنوات عديدة ذاق فيها أهالي المعتقلين الأمرين في البحث عنهم وزيارتهم،  معاناة جسدية خصوصا علي زوجاتهم وأمهاتهم وأطفالهم وتكاليف مادية لم يكن يطيقها إلا القليل، كانوا يوضعون في سجون بعيدة في وادي النطرون والفيوم والوادي الجديد، وفي بعض الأحيان كان الأهل لا يعرفون إلي أي سجن انتقل ابنهم أو رب عائلتهم وما إن كان بخير أو أصابه سوء. وأخيرا أفرج عنهم جميعا الواحد تلو الآخر بعد أن قضي كل منهم عشرة أعوام في المتوسط، كان أهالي البلدة  قد ظلوا علي حالهم بعد رحيل الجماعة وصارت التغييرات التي استحدثت جزءا أصيلا من العادات والتقاليد ولم تتغير حتي الآن ومن مظاهر ذلك ارتداء معظم النساء للنقاب والإحتشام بشكل عام، تحسنت العلاقات مع جيراننا المسيحين شيئا فشيئا ولكنها لم تعد إلي سابق عهدها حتي الآن أي بعد مرور أكثر من عشرين عاما، خرجت الجماعة وأبقي معظمهم علي لحاهم لم يحلقوها، جاء الإفراج عن الجماعة الإسلامية في الجمهورية كلها عقب إجراء مراجعات فكرية قام بها مجموعة من القيادات العليا للجماعة وأقيمت ندوات كثيرة في السجون لتعريف المعتقلين ومناقشتهم في تلك المراجعات، وكانت تنشر بعض هذا الندوات بالصور في الجرائد والمجلات، كما اختلف تعامل الدولة مع المعتقلين في السنوات الأخيرة تمهيدا للإفراج عنهم وحتي يخففوا من العداء الذي يحملونه للدولة وينسون العذاب الذي عانوه لسنوات عديدة، علي سبيل المثال كانت الزيارة في السنوات الأولي لا تتعدي عشرة دقائق وكانت عبر أسلاك حيث يكون أمام المعتقلين شبكة من السلك وشبكة أخري أمام الزوار وتفصل بين الشبكتين مسافة مترين تقريبا ففي المرة التي زرت أخي فيها للمرة الأولي بعد مرور 6 سنوات علي اعتقاله في سجن الفيوم لم أسمع منه كلمة واحدة واكتفينا بالإشارة فقد كان الزحام والضوضاء شئ لا يطاق، أما بعد ذلك فقد تغير الحال فقد أدخلوا إليهم التلفزيونات وجعلوهم يقضون طيلة النهار في ساحات السجن المخصصة للرياضة والترفيه، وتحسنت نوعية الطعام الذي يقدم لهم حيث ذكر لي أخي أن الأرز كان يلقي إليهم علي أرضية الزنزانة وكانوا لا يتزوقون اللحم لشهور عديدة، كما تحسنت الزيارة فكانوا يخرجون المعتقلين ليجلسوا مع زويهم في ساحة كبيرة يقضون معهم أوقات تزيد عن ساعة كاملة وكانت فرصة أيضا لرؤية بقية الأقارب والجيران والجلوس معهم، وكان يسمح بدخول وخروج الرسائل المكتوبة من السجن، كما خصصوا أماكن ليلتقي فيها الأزواج بزوجاتهم، بعضهم كان خاطبا قبل أن يسجن فلما طال عليهم الأمد كان الأهل يكتبون الكتاب بالوكالة ويذهبون بالعروس ليدخل بها زوجها في السجن، تكرر ذلك حتي أصبح مألوفا، وكان عار علي الفتاة وأهلها أن تترك خطيبها أو أن تطلب المتزوجة الطلاق من زوجها.
وأخيرا خرجوا من السجن وانشغلوا بأمور حياتهم وأهاليهم، ولم تهملهم الداخلية أيضا فكانت تأتيهم معونات عينية من آن لآخر وتفتتح لبعضهم مشاريع يعيشون منها حتي ينشغلوا بعملهم وينسوا أيام القهر والعذاب ولا يعودوا لما كانوا عليه، وقد حاول بعضهم أن يعيد الإستيلاء علي مسجد الرحمن ولكن البقية رفضوا فقد كان خطيب المسجد المعين من وزارة الأوقاف هو أحد أبناء الجماعة الصغار وقد تخرج من جامعة أزهرية وكان بارعا في الخطابة أكثر من أي واحد فيهم، بعد قيام ثورة يناير2011 والسماح بإنشاء الأحزاب الدينية فكر بعضهم في إقامة حزب سياسي أو في الإنضمام لحزب الجماعة الإسلامية المسمي ( حزب البناء والتنمية ) ولكنهم لم يفعلوا أيضاً، وقصَّ عليَّ أخي أن مجموعة منهم جاؤوا يعرضون عليه الإنضمام إلي الحزب فرفض، كنت أنا منذ أن التحقت بالجامعة بعيدا عن بلدتنا ولا أحد يعرف عني الكثير، فقالوا لأخي إن لم تكن أنت فاقنع أخاك الطبيب بالإنضمام إلينا يبدوا أنه ليس لديه فكر وسنشكله كما نريد، فضحك وقال لهم إن أخي لديه فكر يعادل فكر جماعتكم كلها، انظروا كيف يفكر هؤلاء، يبحثون عن عقول لا تجيد إلا السمع والطاعة وعدم النقاش في أي شئ، وهذا أسلوب قوم لا يقتنعون بما يفعلون ويعرفون أنهم علي باطل، لم يعد من نشاط الجماعة أي شئ إلا حفاظهم علي الصلاة وثلاثة منهم أعرفهم يحفِّظون القرآن للأطفال بأجر أو بدون أجر، وأما تعاملهم مع الناس فلا يختلف عن الناس شيئا، ولم يؤثر تدينهم في سلوكياتهم قط إلا القليل منهم، فمنهم يعيشون علي الكذب والظلم وأكل أموال الناس بالباطل ولا يختلفون عمن سواهم في شئ، حتي إن إبقاءهم علي اللحي كان لحفظ ماء الوجه فقط لأن حلقها كان يعتبر خيانة لسابق عهدهم للجماعة ولم يكن ذلك مصدر قلق وخطر عليهم فقد سمحت لهم السلطات بذلك بشرط ألا يمارسوا شيئا من أنشطتهم القديمة.
هذه الأحداث هي مختصر ما أعرفه عن الجماعة منذ كنت صغيرا، وبعض الأحداث التي ذكرتها ليست دقيقة بالضبط فمعظمها لم أراه بعيني، وفي زيارتي الأخيرة للبلدة جلست مع بعضهم لفترات قصيرة لضيق وقتي وقصٌوا عليَّ أحداثا كثيرا كنت أسمعها للمرة الأولي، الكثير منها كان يحدث خارج البلدة وكانت تتضمن اغتيالات وشروع في القتل لأسباب تافهه، لم أسمع منهم بشكل كافي لضيق الوقت وأنوي أن أفرِّغ نفسي في أحد الزيارات حتي أسمع من معظمهم وأكتب القصة كاملة للتاريخ فلعل الله ييسر لي ذلك، وهكذا فمازال الكثير من أهلي وجيراني متشربين بالفكر الوهابي كما الكثير من أصدقائي المقربين من السلفيين والإخوان المسلمين حتي في غربتي وفي محيط عملي مما يجعلني في حيرة وفي قلق من إعلان انتمائي لأهل القرآن، لا أخاف أن يؤذونني فأنا مطمئن أنهم لن يصلوا إلي هذا الحد ولن يجرؤوا، ولكنهم سيعادونني ويتربصون بي الأخطاء ويشهرون بكل كبيرة وصغيرة تصدر مني، ويلزمني إذا جادلني أحدهم أن أكون مستعدا تماما للجدال هذا من ناحية، ومن الناحية الأخري أريد أن أصل إلي خطة وإلي كتابة بعض المواضيع التي تبين لهم ماهم فيه من ضلال بشكل تدريجي فالصدام غير مستحب في هذه الأمور وأأمل أن تكون تلك الكتابات سببا في هداية بعضهم شيئا فشيئا كما أراني الله طريق الهداية بالتدرج ، فإن جحدوا بما أقول لهم يتركوني في حال علي الأقل ولا يفسد هذا شيئا من المودة بيننا.
أشكر لكم قراءتكم وأعتذر عن الإطالة، وإلي لقاء آخر إن شاء الله.
 
اجمالي القراءات 6781