العلم ... الجزء الثاني

شريف هادي في الثلاثاء ٠٣ - أبريل - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

أيها الأحبه ، بدأنا الكلام في العلم وعرفناه على أنه الأحاطة مع إجتماع الفهم والإدراك ، وقد قسمنا العلم بمعيار الفائدة أقسام ثلاثة ، العلم الرشيد (علم السوابق) ، والعلم اللدني (علم الرحمة) ، والعلم الراقي (علم النظر) ، وأعلم أخي الحبيب أن علم التوحيد هو ذروة سنام علم النظر قال تعالى" الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وانزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله اندادا وانتم تعلمون" البقرة 22 ، وقال تعالى" افلا ينظرون الى الابل كيف خل&cute;قت(17) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)" الغاشية ، وهو العلم الذي يكون به الإيمان ومحله القلب ، أما علم السوابق فهو العلم الذي تكون به حركة تعمير الأرض وتطور الأشياء وإنتظام الفعل والأداء وبرهان الإيمان والابتلاء قال تعالى"كانوا اشد منهم قوة واثاروا الارض وعمروها اكثر مما عمروها" الروم ،وقال تعالى " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" البقرة65 ، وقال تعالى" ومنهم اميون لا يعلمون الكتاب الا اماني وان هم الا يظنون" البقرة78 ، وقال تعالى" واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما انزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من احد حتى يقولا انما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من احد الا باذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الاخرة من خلاق ولبئس ما شروا به انفسهم لو كانوا يعلمون" البقرة 102 ،ومما لا شك فيه أن كل علم يمكن تقليده هو من قبيل العلم الرشيد الذي هو علم السوابق ويكون السحر أيضا من هذا القبيل علم رشيد وإن كان حراما ويؤدي بصاحبه للكفر ، والعلم الرشيد يكون دائما برهانا لعلم النظر فمن آمن بالله فسوف يؤدي فرائضه ويأتمر بأوامره قال تعالى" واذ اخذنا ميثاق بني اسرائيل لا تعبدون الا الله وبالوالدين احسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا واقيموا الصلاة واتوا الزكاة ثم توليتم الا قليلا منكم وانتم معرضون" البقرة 83 ومحل العلم الرشيد هو الجوارح والأركان ، أما العلم اللدني فهو علم تصحيح الخلل الذي يحدثه الفجار في الناموس بالناموس ومحل هذا العلم عبادا مختارين لايدَعوه ولا يأمروا به أو يحدثوا به غيرهم وأداته التلقي من رب العالمين ، قال تعالى " وما فعلته عن امري ذلك تاويل ما لم تسطع عليه صبرا" الكهف 82 ، إلا أن صاحب هذا العلم قد تكون له معجزات وخوارق على نحو ما سوف نشرحه في هذا البحث بإذن الله تعالى.
ونأتي هنا لحل هذه الاشكالية وبالله التوفيق.
قال تعالى " قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ" النمل 40 نقرأ جميعا هذه الآية الكريمة ، ولا يدعي أحدنا مبلغ علمه بها وننظر لشرح السلف فنجدهم يقولون أنه رجل غالب الظن أن أسمه آصف أو أسطوم رجل من الإنس وهو كاتب سليمان وقد علمه الله الاسم الأعظم وقد توضأ وصلى ودعاه به فأجاب الله دعوته فلما رأى سليمان العرش مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبولوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ،وقال أبن لهيعة هو الخضر (العبد الصالح).
ولكن لنعاود النظر في الآية الكريمة ونستخرج بعض الإسئلة ، ما هو علم من الكتاب؟ وما هو الكتاب؟ ثم كيف نحصل عليه؟ وكيف نتعلمه؟ ومن هو ذلك الرجل الذي أتى بعرش بلقيس؟
وفي الحقيقة أن علماء من السلف فكروا في نفس الإسئلة ولحل تلك المشكلة فقد قال بعضهم وهو ابن لهيعة ومن وافقه هو (الخضر) يقصدون العبد الصالح في سورة الكهف ، وكأن الله لم يخلق إلا عبدا صالحا واحدا أعطاه من العلم اللدني! والبعض مثل محمد بن المنكدر ومن وافقه قال هو سليمان نفسه حاجج عفريت الجن ويكون الكتاب هنا الرسالة المنزلة على سليمان ولكن مردود على هذا الرأي أن الله قال علم من الكتاب ولم يقل علم الكتاب ، كما أن سليمان عليه السلام هو من طلب العرش ، فلو كان هو أسرع من عفريت الجن لقال أنا آتي به ، ولم يقل أنا آتيك به ف(كاف المخاطب) هنا تعود على طالب العرش وهو سلمان نفسه فكيف يكون هو المخاطب (بضم أوله وكسر ما قبل آخره) والمخاطب(بضم أوله وفتح ما قبل آخره) في نفس الوقت.
والأفضل شرح القرآن بالقرآن ، قال تعالى"وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة الا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين " الآنعام 59 ، وقال تعالى" وما تكون في شان وما تتلو منه من قران ولا تعملون من عمل الا كنا عليكم شهودا اذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا في السماء ولا اصغر من ذلك ولا اكبر الا في كتاب مبين" يونس61 ، وقال تعالى" وما من دابة في الارض الا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين"هود6 ، وقال تعالى" وقال الذين كفروا لا تاتينا الساعة قل بلى وربي لتاتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الارض ولا اصغر من ذلك ولا اكبر الا في كتاب مبين" سبأ3 ، فعند الله كتاب مبين مدون فيه كل كبيرة وصغيرة حتى ولوكانت مثقال ذرة في الأرض أو في السماء أو أصغر من مثقال الذرة أو حتى أكبر من المجرة ، ومدون فيه جميع الأحداث حتى ولو ظن البعض أنها تافهة كسقوط ورقة من شجرة أو حبة في ظلمات الإرض ، وهذا الكتاب قطعا في علم الله وحده لا يطلع عليه غيرة قال تعالى"عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احدا "الجن 26 ، ولكن أخبرنا سبحانه أنه لحكمة يعلمها تجلت مشيئته في إطلاع من يختار من عباده على بعض الغيب وليس على كل الغيب ، ولنا في قصة العبد الصالح مع موسى أكبر دليل على ذلك فقد أطلعه رب العالمين على أمر الملك الذي يأخذ كل سفينة غصبا ، كما أطلعه على ما سيكون من أمر الغلام لو كبر من إرهاق اهله طغيانا وكفرا ، واطلعه على انه سيبدلهما خيرا منه كما أطلعه على أمر الجدار وما تحته والغلامين اليتيمين وما سيكون من امرهما عندما يبلغا أشدهما سيتوصلا لكنزهما ، وكل ذلك هو من علم الغيب ولكنه ليس كل الغيب ، ولكنه بالمقدار الذي أراده رب العزة أن يعرفة ليتدخل وفق مشيئة الله لتصحيح ما سوف يكون من خطأ لو لم يتدخل العبد الصالح وفقا لمشيئة رب العالمين ، ولذلك قال تعالى" عنده علم من الكتاب" ومن هنا تبعيضية ولم يقل عنده علم الكتاب ، لأن علم الكتاب لا ينبغي لغير رب العالمين ،وتصبح الإجابة على السؤال الأول علم من الكتاب؟ هو علم من الكتاب المبين الذي فيه كل ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون منذ خلق الله الخلق إلي نهايته ، والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ .
ثم ما هي الكيفية التي استخدمها لإحضار العرش في لمح البصر؟ الأمر غاية في البساطة دعا الله رب العالمين أن يأتي بالعرش في لمح البصر وهو سبحانه يقول للشيء كن فيكون ، وهذا العبد الصالح من جنود رب العالمين الذي أطلعه سبحانه على بعض أسرارة وآتاه الرحمة والعلم قال تعالى" فوجدا عبدا من عبادنا اتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما"الكهف 65 فهو لو طلب من رب العالمين فإن الله سينفذ له طلبه ويقضي له حاجته ويبر قسمه ووعده لسليمان ، ثم أن هذا الذي عنده علم من الكتاب لما حضر العرش ورآه مستقرا عنده بين يديه هو الذي قال وليس سليمان عليه السلام (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) نعم الحقيقة أنه ليس هو الذي آتى بالعرش ولكن الله هو الذي آتى به لذلك رد الفضل لصاحبه وقال هذا من فضل ربي ، ويوضح ذلك الابتلاء بالشكر أو الكفر ، فقد يظن في نفسه قوة ويدعي أنه هو الذي جاء بالعرش وهذا من كفر النعمة التي أنعمها الله علية بإستجابته لدعائه وإبراره لوعده الذي قطعه على نفسه لسليمان ، أو يكون بالشكر ورد الفضل لصاحب الفضل وهو رب العالمين ، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه وهذا حق لأن الله يزيد النعمة عند الشكر قال تعالى"واذ تاذن ربكم لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد" ابراهيم 7 أما إذا كفر فإن الله سبحانه غني كريم ، لأنه لو كان منه كفرا لنعمة ربه فإن الله غني عنه وعن شكره وعن العالمين وهو سبحانه كريم بل أكرم الأكرمين ورب العالمين قد أكرمه بإحضار عرش بلقيس لمجلس سليمان.
كيف تعلم هذا الرجل علم من الكتاب؟ ولماذا لا يكون الخضر؟ قال تعالى"ما كان الله ليذر المؤمنين على ما انتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فامنوا بالله ورسله وان تؤمنوا وتتقوا فلكم اجر عظيم" آل عمران 179 ، وقال تعالى" شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه ، الله يجتبي اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب" الشورى 13 ، بنفس الطريقة التي اختار الله بها الأنبياء والرسل أختار هؤلاء العباد بعظيم حكمته ودلائل قدرته ، فهم عباد مختارون لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ،فهم عباد صالحون ، اتحدت ارادتهم وهم وإرادتهم إلي الفناء ذاهبون بإرادة رب العالمين وهو الباقي ، الأخر الذي ليس بعده شيء ،فانتفت إرادتهم ولم تبقى إلا إرادته سبحانه ، وأنظر معي لقوله تعالى" أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82)" الكهف ، قال أردت فيما أحدث من عيبٍ في السفينة تنزيها لرب العالمين ، وأردنا في قتل الغلام فقرن إرادته بالقتل بإرادة رب العالمين بالتعويض وأراد رب العالمين وحده في فعل الخير الذي ليس فيه شر تعظيما وإجلالا لذي الجلال والإكرام ، والحقيقة أنه ما فعله عن أمره فلا إرادة له إلا إرادة رب العالمين فرجل هذا حاله وتلك هيئته وأدبه مع الخالق سبحانه وتعالى فكيف لا يمكنه إحضار عرش بلقيس إذا أراد ، لأنها في الحقيقة هي إرادة الله وليس إرادته قد تجلت للبشر في إرادته وهومعدوم الارادة بنفسه عظيمها برب العالمين فله الحمد والشكر على النعمة,
والسؤال إذا لماذا لا يكون هو الخضر نفسه؟ وأقول اسمع قوله تعالى"عبدا من عبادنا" ومن التبعيضية تعني بعض الشيء أي أن لله عبادا كثيرا اختارهم لهذه المهمة ولكننا كما قلت سابقا لا نعرفهم – ولكنهم بشر يسري عليهم ما يسري على البشر من ولادة وطفولة وصبا وشباب وكهولة ورجولة وشيخوخة وموت فمن كان في عصر موسى ليس هو من كان في عصر سليمان – ثم أننا لا نعرف كراماتهم ، كما أنهم لا يدعوها لنفسهم ، أما ما حدث من العبد الصالح مع موسى عليه السلام ، وهذا العبد الذي عنده علم من الكتاب مع سليمان عليه السلام فكان بإرادة رب العالمين آية لكل من موسى وسليمان عليهما السلام ، قد يقول قائل ، نعم من تبعيضية فلماذا تعني أنه واحد من كثير من العباد لهم نفس صفاته ولا تعني عبدا (العبد الصالح) من عبادنا (كلهم مسلمهم وكافرهم برهم وفاجرهم) فلا تعني على هذا المعنى أن الله أختار عبادا كثيرين لهذه المهمة ولكنه الخضر فقط ، أقول له سبحان الله إسمع قوله تعالى" افنجعل المسلمين كالمجرمين(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)" القلم فلا يكون تبعيض المسلم من الكافر في أمر الاختيار وقد يكون في أمر الخلق والله تعالى أعلم.
مازلنا لم نجيب على السؤال الذي فرضناه في المقالة السابقة وهو ما الفرق بين علم الله وعلم الرسول؟ والذي هو مقدمة للاجابة عن سؤال لماذا الأخذ بكتاب الله دون الأخذ بالأحاديث المنسوبة للرسول
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شريف هادي
يتبع

اجمالي القراءات 21009