العلمانية هي الطريق
العلمانية هي الطريق

كمال غبريال في الأحد ٠١ - أبريل - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

شعوبنا محشورة منذ قرون في نتوء زمني، نأى بها عن مسرى تيار الزمن، وقبعت فيه متحوصلة داخل قشرة من الجهالة، يزداد سمكها يوماً فيوماً، مع ما يداوم جوفها على إفرازه من جهالات، لا يملك سواها فيما يعكف على اجترار ماضيه، وإعادة إنتاج ذاته في عود أبدي لا نهاية له، لنظل داخل حوصلتنا كحشفة ملتصقة برصيف محطة قديمة مهجورة، كان قطار الحضارة قد غادرها منذ زمن طويل، لكن بداخل الحوصلة كائنات بشرية تتكاثر بكفاءة منقطعة النظير، فيموج ما بداخل الحوصلة ويتضارب لتتفاقم مآسيها، تتصدع بعض أجزاء من القشرة ليخرج بعض من المكبوت على هيئة دخان أسود ونار، تضطر البشرية إزائه إلى الانتباه، والاقتراب في محاولة لمعالجة ذلك الاكتشاف الذي بدا مفاجئاً . . هنا تبرز الإشكالية شبه المستحيلة، فموكب البشرية السابح مع تيار الزمن يحيا ألفيته الثالثة، فيما الحوصلة داخل النتوء الزمني قابعة هناك في مجاهل القرون الغابرة، فكيف يمكن والحالة هذه أن يتحقق الحد الأدنى من التواصل، اللازم لحقن جوف الحوصلة بدماء جديدة وهواء نقي، بينما المتوقع أن تطيش كل الجهود، وتضل قوافل الإمداد طريقها، لتضيع في غياهب الزمن المفقود؟!!

حل هذا التناقض لا يتم إلا بأحد خيارين، إما أن يرتد العالم كله في مسيرة حضارته، حتى يصل إلى محطتنا المهجورة، وينحشر معنا في نتوءنا الزمني، وهذا ما تحاوله الآن طلائعنا المجاهدة بقيادة بن لادن والظواهري والزرقاوي وخلفائه، ورجالهم المنتشرين في أوروبا وأمريكا وسائر بقاع العالم، منطلقين من قواعدهم الأصلية بين ظهراني شعوبنا أسيرة النتوء الزمني، وإما أن تستطيع شعوبنا تفجير حوصلتها، وتجد لنفسها طريقاً تعود به إلى مجرى الزمن، تسرع فيه الخطى، علها تصل في غد ليس بعيداً إلى الألفية الثالثة.

ولأننا نزعم أن أي عاقل لابد وأن يتجه بحزم نحو الخيار الثاني، يتحتم علينا أن نبحث كيف يمكن أن يتم هذا، وهو ما يتطلب أمرين رئيسيين، أولهما أن نحدد المحطة التي توقفنا عندها لنتخلف عن مسيرة الحضارة، والثاني أن نعرف كيف نفجر قشرة الحوصلة، ونجد طريقاً يعود بنا إلى مسرى الحضارة والزمن.

هنا قد تختلف التشخيصات ومن ثم الحلول المقترحة، إلى حد أن نجد أن الأكثر رواجاً وارتفاعاً للصوت هو ما يرجع إلى النهج الذي أودى بنا إلى أزمتنا ذاتها، كأنما يقولون أن علاج ما ترتب على الانفصال عن الزمن هو المزيد من الانفصال، أو تفجير قاطرة الحضارة، إن لم ننجح في تغيير اتجاهها، لتعود إلى حيث كانت، بل والأفضل أن تواصل طريقها إلى الخلف، حتى نقطة محددة، عجزت مشاعرنا وأفكارنا عن تجاوز نطاقها.

بدأت مسيرة الحضارة وعقل الإنسان صفحة بيضاء خاوية، ليبدأ باكتساب الخبرات العملية من واقع ممارساته الحياتية العملية، وليبدأ مع هذا تكاثر تساؤلاته، عن الوجود والحياة ومظاهر الطبيعة، وقد أتاحت له خبراته المستمدة من ممارساته العملية إجابات بسيطة عن النزر اليسير من الأسئلة الملحة والمحيرة، تاركة فجوة تتسع مع الأيام، نتيجة زيادة معدلات التساؤل الناتجة عن تفجر الوعي الإنساني، على المعدلات المتواضعة للإجابات المكتسبة من الخبرات العلمية، وهنا تصدى الخيال الإنساني لسد تلك الفجوة، وتخفيض مستوى التوتر الإنساني الناجم عن الحيرة وما يستتبعها من قلق، فافترض الخيال افتراضات وأساطير، تحاول حل أكبر عدد من الإشكاليات، حتى ولو على حساب خلق إشكاليات جديدة، قد تكون أكثر استعصاء على الفهم أو القبول من الأولى، واختلفت تلك الاجتهادات وتطورت باختلاف الشعوب وتطورها، وصارت مع الوقت بمثابة حقائق مقدسة، اختلطت مع المعارف العملية المكتسبة، ليحتويها جميعاً وعاء واحد، يصح تسميته "بالفكر الديني"، وقد قام عليه رجال عرفوا بالكهنة، فكان الكاهن هو حكيم الجماعة وطبيبها ومهندسها ومدرسها، ومن ثم كان حاكمها الفعلي، حتى وإن تصدر الصورة من هو الأقدر على حمل السيف وإعماله في الرقاب.

استغرقت هذه المرحلة الجزء الأطول من مسيرة الحضارة الإنسانية،ورغم أن المليارات من البشر آمنوا بأديان أتى وحيها من السماء، إلا أن ما نصطلح على تسميته "الفكر الديني" كان دائماً –في نظر الصفوة على الأقل- فكراً وفهماً بشرياً، ويشمل الجزء المتعلق بالدين ذاته، كما يشمل الجزء المتعلق بالخبرات البشرية الحياتية المكتسبة،وقد انصهر الجزءان ليبدوان كمنظومة واحدة، تعتقد الغالبية من العوام أنها بكاملها وحي سماوي مقدس، وهو التصور الذي صادف هوى رجال الدين وحوارييهم، لأنه يجعلهم مصدر كل المعارف، مما يتيح لهم القبض على جميع السلطات، ورغم أن تنظيرات تلك المرحلة كانت تنظر للكيان الإنساني على أنه مقسم إلى عقل وروح وجسد، بما كان يستدعي التفرقة بين احتياجات كل جزء من هذه الأجزاء المفترضة، وهو ما فرضته جزئياً -بعد مرحلة ما- دواعي التخصص، فوجدنا من يتخصص في الفلسفة ومن يتخصص في الطب أو التجارة والزراعة . . . . إلخ، إلا أن إصرار رجال الدين على الهيمنة، واستئثارهم بقلوب وعقول العامة، جعل المتخصصين في تلك العصور يتحركون على استحياء وبحذر، يبقيهم في الأغلب تحت مظلة القداسة ورجالها، اتقاء لمصير ركب طويل من شهداء الإنسانية، ربما ستجانبنا الدقة لو قلنا أن أولهم كان سقراط العظيم، ومازال ركب الشهداء هذا ترفده الدماء الزكية حتى يوم الإنسان هذا.

جاءت المحطة الفارقة، أو اللحظة المفصلية في تاريخ البشرية، مع اصطلحنا على تسميته عصر النهضة في أوروبا، والذي تميز بظهور الأسلوب العلمي التجريبي في البحث، والذي يعتمد على مراقبة الظواهر الطبيعية ورصدها، في الوصول إلى إجابات على أسئلة الإنسان، وفي حل إشكالياته مع الطبيعة، وقد أدى تطور هذا الأسلوب العلمي، رغم وبعد حسم صراعه مع قوى المحافظة والقداسة، إلى تحقيق طفرة هائلة في حجم المعارف الإنسانية، ما استدعى انفصاله واستقلاله التام عن حزمة "الفكر الديني".

عند هذه النقطة بالتحديد انفصلت الشعوب التي عجزت عن استيعاب وإنتاج المناهج العلمية الحديثة عن باقي الشعوب، وبينما سارت الأخيرة في طريقها في صنع الحضارة وإبداعها، دخلت الأولى فيما شبهناه بالنتوء الزمني، لتغيب عن الزمن وعن الحضارة، وتتقوقع حول نفسها، لتعيش أسيرة "الفكر الديني الشامل"، والذي يدعي امتلاك مفاتيح كل ما يعترض الإنسانية من إشكاليات، هذا الادعاء الذي كان صحيحاً في يوم ما، وفي مرحلة ما من مراحل تطور الإنسانية، لكنه لم يعد كذلك منذ عصر النهضة وما بعده، إلا إذا كنا قد قررنا ألا نغادر تلك المحطة المفصلية من محطات التاريخ، وهذا ما حدث فعلاً!!

لو صح ما ذهبنا إليه نكون قد حددنا لحظة غيابنا عن التاريخ وعلة ذلك الغياب، ويتبقى إن كان وضعنا الحالي يقلقنا، أن نبحث عن طريق العودة، رغم أن الأمر هكذا لم يعد يحتاج لمزيد من البحث، فنقطة النهوض هي ذاتها نقطة السقوط ، التي نزعم أننا قد حددناها بدقة، هي تبني المنهج العلمي في البحث عن حلول لإشكاليات حياتنا، هي تدريب أبنائنا على التفكير العلمي الحر والمستقل عن كل ما ورثناه من تراث، ولن نستطيع أن ننفصل عن التراث أو نقف منه موقفاً نقدياً، إلا إذا امتلكنا ما يكفي من الشجاعة والثقة بالذات، وهذا لن يتحقق بدعوات جوفاء أو مواعظ تبشيرية وتنويرية، بل سيتحقق تلقائياً متى امتلكنا ناصية العلم وأساليبه، واغتنينا بمعارفه المنتجة ذاتياً، وليس المنقولة عن الغرب نقلاً آلياً، دون فهم عميق أو قناعة حقيقية، لكن كيف تتحقق لنا تلك النقلة التي عجزنا عنها عصوراً طويلة؟!

تحييداً للمشاعر التي تنحو دوماً للتفاؤل أو التشاؤم، نرى مصير شعوبنا -المغيبة في النتوء الزمني- رهن بتصرف الصفوة من حكام ومفكرين ونشطاء مجتمع، فإن ساروا بعزم وحزم باتجاه إنتاج أجيال تمتلك التفكير العلمي، وتثق بالعلم وتعتمد عليه في حل مشاكلها، وفي المقابل تختصر حزمة "الفكر الديني" التقليدية، لتقتصر على معالجة الروحانيات، التي تحتاج إليها النفس البشرية بالسليقة، وأن لا يسمحوا لرجال الدين بادعاء ما لا شأن لهم به ولا علم، إن فعلت الصفوة ذلك ونجحت فيه، عندها فقط يمكن أن تعود شعوبنا من غيابها، وربما تتمكن يوماً من الوصول إلى الألفية الثالثة!!

هل يتحتم علينا تقديم اقتراحات محددة، أم نترك الأمر للعلم والعلماء الذين اتفقنا على احترامهم والثقة بهم؟!

• التغيير الشامل والجذري لمناهج وأساليب التعليم، لتنمية القدرة على البحث والنقد والتفكير الإبداعي الحر، وليس على الاستظهار والنقل.

• إغلاق جميع مدارس التعليم الديني، وقصر الالتحاق بالمعاهد العليا للتعليم الديني على المتخصصين، بعد مرورهم على مراحل التعليم الأساسي والثانوي العام، لضمان تشكل عقولهم وفقاً للمنهج العلمي السليم.

• مراجعة جميع النظم والعلاقات المجتمعية في كافة مناهج الحياة، لتتواءم مع العلم، عوضاً عن الفوضوية والعشوائية السائدة، التي من أهم معالمها تسييس الدين وتديين السياسة، لنخلق واقعاً يحفز الشباب على الثقة في جدوى العلم وأهميته لتحقيق حياة أفضل.

لا نزعم أن ما طرحناه في النقاط الثلاث السابقة هو من قبيل الحلول للإشكاليات، لأنها ربما كانت في ذاتها إشكاليات أكثر حدة، من حيث كيفية تحقيقها، بعد تلك العصور الطويلة من الثبات والتحجر والغياب، ومع ذلك فهي جديرة بالبحث، إن كنا معنيين بمصير شعوبنا وأولادنا وأحفادنا.

اجمالي القراءات 13148