النص القرآني نص إنساني فوق الشبهات والإشكاليات

سامر إسلامبولي في الأربعاء ٢٨ - مارس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

النص القرآني نص إنساني فوق الشبهات والإشكاليات
رد على الدكتور الجابري في ذكره لإشكاليات نقل النص القرآني


إن من الغرابة على درجة كبيرة أن يأتي أحد ويناقش ما هو ثابت ومعلوم بالضرورة، بل بلغ صفة الحق من حيث الحكم عليه وجوداً أو صحة نحو أحقية وجود الخالق المدبر وأحقية وجود اليوم الآخر ووجود السماء والأرض.. إلخ، وقصدت بكلامي أحقية النص القرآني كمتن وحفظه من التحريف زيادة أو نقصاناً.
فالنص القرآني بدأ حقاً، واستمر بهذه الصفة إلى أن وصل إلينا حقيقة تاريخيةute; كنص ثابت لم يتعرض للاختراق أبداً، وأي محاولة جرت للتلاعب فيه كانت تجهض ذاتياً لتفكك وهزالة المحاولة أمام عظمة النص القرآني، ومع ذلك يأتي باحث ليغوص في التراث ويتتبع الروايات التي وضعت بدافع إيديولوجي ويجمعها ليناقش على موجبها حقيقةً مشاهدةً في الزمن المعاصر ويحاول على أقل احتمال التشكيك بهذه الحقيقة، فمثله كمثل من يريد أن يناقش مسألة دوران الأرض حول الشمس من خلال الموروث البشري وذهب يجمع المقولات والنصوص لكبار الرجال في التاريخ بجانب الإشكاليات التي جرت حول هذه المسألة ووصل من جراء ذلك إلى أن مسألة دوران الأرض حول الشمس أمر مشكوك فيه أو على الأقل يجب إعادة النظر بهذه المسألة والتأكد منها، ولا يمكن ذلك إلا بمعالجة النصوص التاريخية والأحداث التي جرت وحل الإشكال الحاصل حينئذ، وهذا أمر محال لأن ذلك مغالطة كبيرة فالأرض والشمس واقع مشاهد، والتأكد من صحة النظرية أمر متاح الآن لا علاقة لها بالنصوص والأحداث التي جرت وعدالة الرواة وغير ذلك فهذا أمر مستحيل حل إشكالياته بأية وسيلة، فكل حل وتوفيق قابل لأن يرفض من جهة ويقبل من أخرى وبالتالي فالأمر لا يمكن حسمه ويصبح الأمر موقفاً شخصياً وليس حقيقة علمية تلزم الجميع بالتسليم والإقرار بها.
والنص القرآني هو من هذا القبيل فهو موجود بين أظهرنا قابل للدراسة والتأكد من صحة مضمونه على صعيد الآفاق والأنفس من خلال مراكز ومؤسسات علمية على كافة الاختصاصات، فإذا ثبت أن مضمونه خطأ ومناقض لمحل الخطاب من الآفاق والأنفس يكون نصاً قد تم تحريفه والتلاعب به قطعاً رغم أنف الجميع ولو ألَّف المؤمنون بصحته آلاف المجلدات ونقلوا الإجماع على ذلك والتواتر له، لأن النص الرباني لا يمكن أن يتناقض مع محل خطابه ولا بأي شكل، أما إذا ثبت أنه نص منسجم كل الانسجام مع سيرورة وصيرورة الآفاق والأنفس بحيث أصبح النص القرآني المتلو هو صورة لغوية طبق الأصل للصورة الموضوعية فلا شك أن هذا النص رباني وهو صحيح لم يتعرض لأي تحريف أو تلاعب ولو جرت في التاريخ محاولات لذلك وتم نقل روايات عن زيد وعمرو بما يفيد أن النص قد تحرف، فالأمر تجاوز موضوع السند والإسناد وعدالة الرواة والإشكاليات التي رافقت استمرار النص القرآني لأن كل هذه الترهات كانت تسقط في زمانها أمام نور النص القرآني لأن النص القرآني أشبه بالشمس وهي ساطعة في كبد السماء تحرق بشعاعها كل من ينكر وحودها أو يشكك فيه وهو يتعرض لضوئها وحرارتها، فَمَنْ من الناس يسمع لمدعي هذا الادعاء مهما أتى بالمقولات والروايات والإشكاليات وحشد شهادات للخصوم وغير ذلك. فالحقيقة أقوى من الجميع لأنها مشاهدة ومن ينكر عالم الشهادة وهو يراه لايعتد بقوله ولايسمعه أحد كائناً من كان، فالنص القرآني تواتر في المجتمع الأول الذي نزل فيه النص، وبدأ التواتر يتصاعد ويتنامى مع مرور الزمن وتتسع دائرته إلى أن تجاوز المجتمع العربي وبدأ يتواتر في المجتمعات الإسلامية غير العربية، وبهذا الأمر أصبح النص القرآني متواتراً إنسانياً، وهذا لا يعني انتفاء وجود إشكاليات رافقت تواتر النص في الزمن الأول وذلك بسبب الصراع بين الحق والباطل، فالتواتر غير الإجماع وبالتالي لايشترط في تواتر الخبر أن يسلم به الجميع فممكن- لظروف وملابسات معينة - أن يطعن أفراد من الناس بصحة هذا الخبر، وهذا الطعن من أفراد من الناس لايؤثر بتواتر الخبر وصحته ولايشكك به إطلاقاً ولايعتد بقولهم ومن يأخذ بقولهم مقابل التواتر لا يُعَدُّ موقفه موقفاً علمياً إطلاقاً.
ومسألة تواتر النص القرآني مسألة متواترة في الأمة الإسلامية ليست هي محل نقاش أو دراسة، فالنص القرآني واحد في مشارق الأرض ومغاربها واليقين لايزول إلا بيقين مثله، أما الظن فلا يعتد به أمام اليقين أبداً.
لننظر على سبيل المثال قول الباحث موريس بوكاي في كتابه (دراسة الكتب المقدسة) داررشا، بيروت الصفحة (10): [ فالقرآن هو الوحي الذي أنزل على محمد عن طريق جبريل، وقد كُتب فور نزوله ويحفظه ويستظهره المؤمنون عند الصلاة وخاصة في شهر رمضان وقد رتب في سور بأمر من محمد نفسه، وجمعت هذه السور فور موت النبي وفي خلافة عثمان ذلك لتصبح النص الذي نعرفه اليوم ].
وقال في صفحة (13): [ وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث ].
وقال في صفحة (145): [ وعلى حين نجد في التوراة أخطاء علمية ضخمة لا نكتشف في القرآن أي خطأ، وقد دفعني ذلك لأن أتساءل: لو كان كاتب القرآن إنساناً، كيف استطاع في القرن السابع من العصر المسيحي أن يكتب ما اتضح أنه يتفق اليوم مع المعارف العلمية الحديثة؟! ليس هناك أي مجال للشك، فنص القرآن الذي نملك اليوم هو فعلاً نفس النص الأول ].
وقال في صفحة (151): [ صحة القرآن التي لا تقبل الجدل تعطي النص مكانة خاصة بين كتب التنزيل ولا يشترك مع نص القرآن في هذه الصحة لا العهد القديم ولا العهد الجديد].
وقال في الصفحة نفسها: [ لم يتعرض النص القرآني لأي تحريف من يوم أن أنزل على الرسول حتى يومنا هذا].
وماذكرته من أقوال إنما هي مَثَلٌ على طريقة البحث الموضوعي وكيف يصل الباحث إلى الحقيقة فهو لم يجر وراء السند والإسناد والإشكاليات إنما تعامل مع النص بشكل مباشر وحكم عليه من جراء الدراسة العلمية له.
بينما نلاحظ بعض الباحثين يتناول دراسة النص القرآني من خلال السند والرواة والأحداث والإشكاليات في الموروث الثقافي، أي بمعنى آخر درس كل ما يحيط النص من إشكاليات وأغفل دراسة النص نفسه الذي هو محل الدراسة، وأغمض عينيه عن مسألة تواتر النص القرآني، وتتبع الإشكاليات وأقامها وجهاً لوجه أمام الحقيقة وخرج بنتيجة أن النص القرآني طبخة عثمانية والنص الذي بين أيدينا ليس هو نفسه كما نزل على محمد ص .
لننظر إلى هذا النص( ): [ ومن الملاحظ أن تلك الظروف التي أحاطت بعملية جمع القرآن في مصحف واحد وتحريق ماتبقى من المصاحف، كانت تشير إلى أن عثمان ربما كان يهدف من وراء ذلك تحقيق أمرين اثنين متضايفين. الأول منهما تمثل في الحفاظ على الوحدة الدينية (الإيديولوجية) للمسلمين في الدولة الفتية المتعاظمة، حتى لو تم ذلك على أساس نص قام على أنقاض نصوص انتهى بها الأمر إلى ""الطبخ""...].
ولننظر أيضاً إلى هذا النص( ): [ إذا أخذنا بما نقله إلينا بعض المحدثين والفقهاء مثل البخاري ومسلم والترمذي من أن حجم نص القرآن الحقيقي ليس هو هذا الذي نجده في (مصحف عثمان)، أفليس من المحتمل حينئذ أن نرجع أسباب ذلك الوجه الإشكالي إلى هذا الأمر؟ فالكثير من السور والآيات زيدت أو نقصت أو أبعدت، بحيث لم يعد صحيحاً- بالاعتبار الوثيقي التاريخي- أن يقال بأنه لم يطرأ على النص المعني أي تغيير وبأننا نملك الآن هذا النص في حجمه الأساسي تماماً].
ولننظر أيضاً إلى قوله( ): [ وسوف نتبين ـ في ضوء عودة مدقّقة لنصوص إسلامية مبكرة ـ أنه يبدو أن للمسألة وجهاً آخر أكثر دلالة وحساسية ولم ينتبه إليه ماسيه ولابيرك( ) وباحثون آخرون كثيرون، ويقوم على أن القرآن، وفق آراء جمع من الكتاب الإسلاميين، خضع أثناء جمعه-وبتأثير من المصالح السياسية المتصارعة خصوصاً للتكونات السياسية والإيديولوجية الإسلامية الناهضة - لعمليات أدت إلى اختراق متنه زيادة ونقصاناً].
بينما نحى بعض الباحثين منحى آخر فهم لم يتطرقوا إلى إشكاليات السند والرواة التي رافقت تواتر النص القرآني، وإنما تطرقوا إلى المفاهيم والأحكام التي استندت على النص القرآني وعلقت به وانتقلت على أساس أنها الحكم الشرعي الذي أنزله الله عز وجل ولم يفرقوا بين النص القرآني كنص رباني وفهم وتفاعل المسلمين الزمكاني مع هذا النص ونظروا إليهما نظرة اندماجية وكون الفهم السابق للنص ممكن أن يكون خطأ وغير مناسب للمجتمع اللاحق فطالبوا بإبعاد الدين عن الحياة الاجتماعية.
لننظر على سبيل المثال إلى هذا النص( ): [ فلماذا لانفصل الشريعة أو الدين عن قانون الأحوال الشخصية مثل غيرها من القوانين حفاظاً على سلامة الأسرة وحقوق النساء والأطفال ] .
وعند دراسة أبعاد ودوافع هؤلاء الباحثين والظاهر من أبحاثهم نجد أن السبب هو واقع المسلمين الثقافي المتخلف والمتردي والموقف المتشنج من الحوار وعدم احترام الرأي الآخر ومحاولة اغتياله ورفض الاجتهاد والجديد وإضفاء- على الموروث الثقافي- صفة الحق المطلق وماسواه لاشك ببطلانه، غير الانحطاط والممارسة الاستبدادية من جميع مؤسسات المجتمع التي ينتج عنها الاستعباد للشعوب على كافة الأصعدة فكل ذلك وغيره دفع هؤلاء إلى التفكير في النهضة بالأمة والرقي بها فنظروا إلى ثقافة الأمة فرأوها ركاماً ضخماً جداً من الموروث الثقافي الديني والأساس لهذه الثقافة هو القرآن بالدرجة الأولى ومن منطلق أهل مكة أدرى بشعابها أي رجال الدين أقروا ما هو موجود في التراث وأعطوه صفة الحق والتمثيل للنص القرآني نفسه حتى نظرت الأمة إلى موروثها الثقافي الديني نظرتها إلى النص القرآني من حيث القداسة وبالتالي أي طعن أو نقد للموروث يعدُّ طعناً ونقداً للدين نفسه. فلم يجد هؤلاء الباحثون إلا عملية النقض للنص القرآني نفسه سواء بعرض الإشكاليات التي رافقت تواتره للوصول إلى أنه قد تم تحريفه أم المطالبة بإبعاده عن الحياة الاجتماعية فالنتيجة لكليهما واحدة وهي سحب صفة صلاحية النص القرآني وديمومته لكل زمان ومكان.
إذاً الأمر على درجة كبيرة من الخطورة والأهمية وأقل ما يقال في أمثال هؤلاء الباحثين أنهم وقعوا فريسة الغزو الثقافي العولمي وأنه تم اختراق طبقة المثقفين والمفكرين العرب.
فالنص القرآني ليس موروثاً ثقافياً ـ بمعنى أنه ليس من صنع أي مجتمع ـ تتوارثه المجتمعات اللاحقة عن المجتمعات السابقة، وإنما هو نص أصيل ووحي من الخالق المدبر للناس عبر الزمان والمكان وهذه مسألة إيمانية لها أصول في البحث غير تلك التي نحن بصددها، فنحن ننطلق من كون أن النص القرآني رباني المصدر وهذا محل اتفاق وتسليم بين المؤمنين به، وبما أن الأمر كذلك فالحوار هو حوار بين المؤمنين، أي حوار ثقافي داخلي في الأمة الواحدة.
لذا ينبغي التمييز بين النص القرآني كمتن رباني وبين فهم وتفاعل المجتمعات معه حسب الزمكان والأدوات المعرفية التي يملكونها، فهذا التفاعل هو موروث ثقافي يتراكم خلال التاريخ ليس له أية صفة من القداسة أو الإلزام به للمجتمع اللاحق.
ومن هذا الوجه نطالب ـ بإلحاح ـ بإعادة فرز الموروث الثقافي دون استثناء لأي مفهوم منه، والعمدة بذلك هو القرآن ومحل خطابه من الواقع ـ آفاق وأنفس ـ دون الخوف من مخالفة الموروث الثقافي أو مجتمع السلف.
وبهذا العمل الثقافي ـ سيرورة وصيرورة ـ نستطيع أن نحمي ثقافتنا العربية والإسلامية من الاختراق والغزو الثقافي نتيجة العولمة الزاحفة بواسطة التقنية الإلكترونية والتكنولوجية التي فرضت نفسها على معطيات الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
فالأمر على درجة كبيرة من الخطورة، إنه صراع بين الثقافات والبقاء للأقوى والأقوى هو الأصلح والأنفع للناس ولو لم يظهر ذلك عاجلاً.
[ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ]

اجمالي القراءات 16309