إحياء الذكريات، واستشراق قرب اللقاء
تغريبة بني إسرائيل 2- خطة جلب الأخ الأصغر

محمد خليفة في الجمعة ١٩ - فبراير - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً


الجزء الثاني : خطة جلب الأخ الأصغر، كمقدمة لإستدعاء بقية الأهل

                                         وقد جاء وصفها في الآيات من   58  إلى  79

مشروع جلب الأخ الأصغر

مقدمة :

جاءت أول إشارة لوجود هذا الأخ ، بل  لإخوة يوسف جميعا في السورة في الآية

{  لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) }

وهي تقع في بداية السورة، حيث إنتقلنا لتونا من مشهد دار بين نبي الله يعقوب وبين نبي الله يوسف طفلا أو هو كان صبيا لم يبلغ الحلم، حيث كان يدور حول رؤيا منامية شاهدها يوسف، ومن تحذير أبيه له بعدم التنويه عما جاء فيها من رموز لأي من إخوته، حيث أورد الحق

{ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) }

 

ومن هاتين الآيتين نستطيع أن نلمح عدة نقاط هامة

1.  أن إخوة يوسف كانوا كلهم راشدين، وكانوا ذوي قوة وبأس شديد " وَنَحْنُ عُصْبَةٌ "

2.  أنهم كلهم مجتمعين، كان لديهم إلمام بعلم تأويل الرؤى، بدليل تحذير نبي الله يعقوب لولده الصغير، بعدم سرد أحداث ورموز الرؤيا المبشرة بصعود نجم يوسف، لأنهم على الأغلب سوف يأولونها بما لديهم من علم[1] ، ويعرفون معانيها ، ومع أن علم التأويل هو علم ظني الثبوت ظني الدلالة، إلا أنهم ولصيانة إحتمال تحقق رؤيا أخوهم الصغير، فإنهم سيحقدون عليه، فضلا عما في نفوسهم من حقد يكسوه لون السواد.

3.  أن الآية (8) تشير إلى وجود أخ شقيق وحيد ليوسف، وأنهما الإثنين صغيرين، لكن يوسف أكبرهما، بدليل ورود إسمه أولا في النص.

4.  أن إخوة يوسف جانبهم التوفيق بل زادوا إلى حد إساءة الأدب، حين رموا أبيهم بصفة مذمومة بأنه في ضلال مبين ، وزادوا الطين بلة بأن شددوا التأكيد على هذه الصفة وأضافوا لام التوكيد قبلها ، فقد وردت  "..  إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) } "

5.  أنه جاءت إشارة إلى الكيد ، وهذا الكيد أردف بشيئين :

·          ففيه إشارة إلى أن كيدهم مستمد من كيد الشيطان [2]، لكن كيد الشيطان سبق وأن وصفه الحق بأنه كان ضعيفا ، فالمحتمل أن يكون كيدهم  نحو يوسف سوف يأتي بما لا يستطيع الشيطان ذاته أن يأتي به، أو أنهم سيقدرون على ما  لا  ولم   يقدر عليه الشيطان من الكيد.

·     إن هذا الكيد مهما إستشرت شروره، وفاق ما كان يمكن أن توسوس لهم به شياطينهم إلا أنه في النهاية سيؤول إلى أن يصبح في صالح يوسف، ذلك لأن النص جاء   "..فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا .."  ، بما يعني أن الكيد ليوسف وليس عليه.

 

وهكذا جاءت بداية التنويه إلى وجود أخ أصغر شقيق لنبي الله يوسف، وسكتت الأحداث عنه إلى أن تقلد يوسف منصبا رفيعا، وصار مسئولا عن إقتصاديات البلاد، وأدار خطة الإنقاذ بكفاءة عالية، وكان أن مرت السبع سنين الأولى الخصيبة، وأيضا أتم يوسف تخزين الميرة استعدادا للسنين العجاف، وبدأت الوفود الجائعة في الورود إلى القرية التي خصصت لإستقبالها، ولتوزيع الحصص التموينية التي قدرت لكل عائل تتبعه عائلة ،حيث كانت حمل بعير من الحنطة، وهكذا وجد يوسف إخوته أمامه.

لقد مرت أعوام طويلة منذ آخر لقاء معهم ، وهو لم يكن لقاء سعيدا، فقد تكالبوا عليه لإنزاله في غيابات الجب، ولم يسمع أحدا منهم لرجاءاته وقتها بتركه يعود إلى الديار، ولولا أن رحمة الله أدركته، وقد أوحي إليه لحظتها فغشيته السكينة، وهدأت أصوات إستغاثاته، واستسلم الصبي لقدره المرسوم له.

إرتسمت تعبيرات وجوههم المتجهمة في ذهن يوسف بل حفرت نحتا في ذاكرته، لذا  سوف يسهل عليه تذكر هذه الوجوه بمجرد رؤيتها ،

{  قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) }

وببعض التوقع المنطقي والحساب المقبول، نستطيع أن نتوقع المدة بين اللقاءين

عمر يوسف وقت إلقاءه في الجب تقريبا بين الثامنة والعاشرة، وذلك لأن العرض الذي عرضوه علي نبي الله يعقوب لإصطحاب يوسف، كان ليرتع ويلعب، لأنه كان صغيرا بعد ولم يكن له أن يكلف بأية أعمال فليس له إلا أن يرتع ويلعب

{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) }

كما دلت الآيات على أنه كان خفيف الوزن قليل الجسم، وذلك لأن وارد الماء، حين أدلى دلوه، وتعلق به يوسف، فقد فوجئ الرجل بالصبي متعلقا في دلوه

{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) }

ثم ظل في بيت الذي إشتراه من مصر، حتى بلغ أشده، وهذه استغرقت عشر سنوات أخرى

{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) }

ثم حادثة المراودة، وبعدها مؤتمر النسوة والذي دعت إليه إمرأة العزيز، ثم إدخاله السجن دون ذنب جناه، ودون محاكمة، ودون تحديد لمدة سجنه، ومقابلة صاحبي السجن وتأويله لرؤاهم، ثم توصيته لمن ظن أنه ناج منهما، أن يذكره عند ربه، وهذا الأخير لم يتذكر هذا الرجاء إلا بعد أمة ( فترة طويلة)، وهكذا مكث يوسف في السجن بضع سنين - والبضع بين الثلاثة والتسع -  نظرا لأن الساقي قد إدكر بعد أمة فنأخذ الحد الأقصي، بما يعني تسع سنين أخرى.

{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42... (43) ... (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) }

ثم كانأن قدم يوسف تأويلا لرؤيا الملك مشفوعة بالحل، مما حدا بالملك - بعد أن تأكد من براءة يوسف، وخلو صحيفته الجنائية مما يمكن أن يشوبه - إلى أنه أوكل إليه تنفيذ ومتابعة خطة الإنقاذ الفذة، التي إقترحها، ولم يكن هناك أجدر منه بقيادة مجموعة العمل لتعبر بالبلاد أزمتها الإقتصادية، إلى أن مرت سنين الرخاء السبع، وأعقبتها سنين الجفاف، وهذا يوجب مرور ثماني سنوات على الأقل، لبدأ توافد الجموع للحصول على حصصهم التموينية من الميرة ، بما يعني أن الفارق الزمني بين حادثة الجب واللقاء الأول مع إخوته، لا يقل بحال عن ثلاثون عاما .

هذه المدة كافية تماما لإحداث تغيير كامل في معالم الصبى يوسف، وقد صار الآن في الأربعين من عمره، إلا أنها لم تؤثر كثيرا في أشكال إخوته حيث كانوا رجالا وقت إلقائه في الجب، ولم يعتريهم الكثير من التغيير اللهم إلا من شيبة في اللحية وشعر الرأس، وبعض التجاعيد التي ولابد أن تكون حفرت أخاديدها في بشرة الوجه، ويدل على ذلك سرعة تعرفه عليهم { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) }

هكذا كان اللقاء الثاني مع إخوته، وبدأت تحاك في ذهنه خطة محكمة، وتدبير رباني لإحضار شقيقه، ليتنعم معه بما أصبح فيه من خير، وليبعده عن سطوة إخوته الكبار فمن المحتم أنهم كانوا يعاملونه أسوأ معاملة فقد أبغضوهما معا، وإن كانت يد الأذى والذي تمكنوا من إلحاقه بيوسف لم تطل بعد أخاه، لكنه بشكل أو بآخر يجرحون أحاسيسه ويؤذون مشاعره .

وعلينا أن نلاحظ في البداية، تواجد يوسف الدائم والمستمر في كل مراحل العملية بدءا من استقبال الوفود، وتهيئة أماكن مريحة لإنزالهم وتيسيير إقامتهم، وإكرام وفادتهم، بل وفي مشاركتهم أسمارهم الليلية، ثم ظهوره الآني في كل مكان، وفي محطات الكيل، واستلام البضائع البديلة - بطبيعة الحال لم يكن توزيع الحصص التموينية يتم بلا مقابل من المتوافر في بيئة كل وفد - ، ومع وجود نظام توثيق وتسجيل ومراجعة لكل صغيرة وكبيرة حتى لايختلط الحابل بالنابل ويأخذ كل وفد حقه في الإكرام وفي المكيال، ثم توافر مجموعة لحفظ نظام الأمن ومراقبة انتظام سير العملية، فكل الأمور تحت السيطرة، ولكل جماعة مهمتها ويوسف متواجد في كل ذلك، وموجود بجرمه المادي، وبشخصيته المعنوية مشرفا ومتابعا وحالا للمشاكل آن ظهورها.

أي أنهم بمجرد وصولهم فقد سارعوا مقابلة عظيم القوم وكان هو يوسف وبمجرد ما أن رآهم عرفهم من أشكالهم ومن أزياءهم ومن تجمعهم وعددهم لكنهم بطبيعة الحال لم يتعرفوا عليه لبعد الشقة وظنهم أن يوسف هلك فلا مجال لإحتمال ظهوره مجدداً.

 

نقطة أخري نود لفت الإنتباه إليها وهى نقطة " فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ " وهذه تعني أنهم قابلوا يوسف ولا يعقل أن تقوم الوفود القادمة لأخذ الميرة بمقابلة الوزيرالمسئول لكن المنطقى أنه كان فى الموقع، حيث كان يشرفبنفسه على كل شئ, يتابع كل صغيرة وكبيرة ويسهل والحال كذلك أن يقابل الوفود فلا مكاتب ولاسكرتارية ولا أبواب موصدة ولاحرس ولا موانع من أى نوع تحول بين يوسف وهو المسئول الأعظم وبين الناس والوفود فهو دائم التواجد في الموقع ودائما موجود في كل مكان وتعطى هذه اللمحة لأي مسؤول - في أي موقع سلطه - كيفية التصرف الأمثل لو كان فى مثل موقف يوسف.

 

كان والأمر كما عرضنا أن تكون خطة جلب الأخ من مراحل ثلاثة:

المرحلة الأولى :  مرحلة إكتساب الثقةوجمع المعلومات

{ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)}

         أدار يوسف المرحلة الأولى من الخطة بفكر رجل العلاقات العامة، وأيضا بفكر إخصائيو جمع وتحليل البيانات ( علم نظم المعلومات )، فهو قد تقرب منهم وشاركهم جلساتهم المسائية، وتودد إليهم وأظهر عظيم الترحاب بهم، عرف منهم يوسف أن أباهم ما زال على قيد الحياة، وأن لهم أخ لهم من أبيهم لم تمكنه الظروف من الحضو، أو إختلقوا حجة مناسبة لتفسير غياب الأخ، فأنسوا إليه وطالبوه بأخذ حصة تموينية لأخاهم غير الموجود معهم، وافق يوسف على إعطائهم حصة لهذا الأخ الغائب، على شرط أن يكونوا صادقين في إدعائهم بوجود هذا الأخ فعلا، ولإثبات حسن النوايا فإنه ألزمهم بإحضار هذا الأخ المدعى معهم في عامهم القادم، فإن حدث ولم يحضروه، كان ذلك دليلا على تدليسهم وكذبهم، وفي هذه الحالة وعقابا لهم  لن يكون لهم الحق في أخذ ميرة العامالتالي، ولا يفكرون حينها في مجرد الإقتراب من قرية البضائع، وكان ذلك بمثابة الشرط الجزائي الذي يوقع على المتعاملين إذا ما أخلوا بتنفيذ أحد بنود العقد، ثم وبذكاء رجل الإدارة أردف  "...أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ..." بما يعني أنهم سيلقون كامل الترحيب والإكرام وبالزيادة عما لقوه في عامهم هذا، إذا ما أوفوا بكلمتهم وأحضروا أخاهم معهم .

يتحتم مع هذا الذي قيل، أو يتوجب لتحقيقه من وجود نظام صارم لتوثيق المعطيات والمخرجات والكميات المنصرفة ولمن تم الصرف والقائم بالصرف، حتى يتسنى إنضباط العمليات مع تعاظم أعداد الوافدين وإختلاف مشاربهم .

إستقى يوسف أيضا من ثنايا كلماتهم، أن البضاعة التي جلبوها معهم للمقايضة بها كانت تمثل كل ما كانوا يملكون، واستشف من ذلك أنهم في عامهم القادم لن يكون لديهم ما يقايضون به، لذا أمر غلمانه ومساعدوه بإعادة دس البضاعة المجلوبة معهم في رحالهم، والتي هي أغلب الظن مما قل وزنه وزاد ثمنه ( أحجار كريمة مثلا ) ، لأنه أشار على فتيانه    "..وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ .." ولأنه لا يدس إلا ما هو صغيرالحجم، إشفاقا منه عليهم، وأيضا لسد الزرائع، فقد يحاجونه بأنهم لم يكن لديهم ما يقايضون به.

 

أسقط في يد الأخوة، فليس هناك بد من إحضار أخاهم معهم، لكن دون ذلك خرط القتاد، يعني أنه سيواجههم لتدبير هذا الأمر، مشكلة ليست بالهينة، وهي موافقة الأب على إصطحابهم لهذا الأخ، خاصة وأن لهم سابقة شديدة الوطأ، فقد كانوا السبب في ضياع يوسف شقيق هذا المطلوب، لكنهم وتحت ضغط الإغراءات التي قدمها لهم يوسف، وخوفا من تهديداته، لم يكن أمامهم من سبيل إلا أنهم سيحاولوا جاهدين، وسيفعلوا كل ما في وسعهم في محاولة لإقناع أبيهم بتنفيذ رغبة آمر القرية وأميرها  ،بجلب أخاهم معهم

" ....قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ...."

 

لقد نجحت خطة يوسف في مرحلتها الأولى، في إقناع إخوته بضرورة إحضار الأخ الغائب معهم، بل وفي إستفزاز ملكاتهم وإحالة الأمر ليكون محط إهتمامهم وجعله موضوعهم النابع منهم، كأنهم هم الطالبين له والملحين فيه، أي أصبحوا وكأنهم يتحدثون عنه ويتكلمون بإسمه، ولزيادة تأكيد تنفيذهم لهذا الوعد، رأى أن البضاعة التي أحضروها معهم للمبادلة بالميرة، قد تكون أخر ما عندهم من البضائع، فإذا ما دار العام وجاء موعد تسلم الحصة التموينية للعام الجديد ولم يكن لديهم شئ جاهز للمقايضة، فقد يثنيهم هذا عن الحضور، ليس لكونهم لم يتمكنوا من إحضار أخيهم، ولكن لقلة ذات اليد، ودرءا لهذا الإحتمال أيضا، أمر بعضا من معاونيه الشباب بإعادة دس البضاعة التي أحضروها معهم في رحالهم، أي أعادوها إليهم دون أن يشعروهم بهذه المدفوسة الخفية.

 

هل كان من حق يوسف -  والمفروض فيه أنه أمير القرية وقائدها بل هو قائد هذه المسيرة كلها، حيث يجب توخي العدالة في التوزيع - ، أن يقوم بهذا الصنيع ؟

لو قلنا أن هذه حنكة تجارية، ومثالا لما يجب أن يكون عليه رجل الإدارة من معرفة لأصول العلاقات العامة، وذلك لكسب الزبائن، واكتساب العملاء، لتعارض ذلك من كون أن السلعة المقدمة ليس هناك من منافس له في تقديمها، فلا حاجة عنده لكسب المزيد من المتعاملين، خاصة وأنها سلعة ليست بالترفيهية، وإنما هي سلعة حتمية للإبقاء على الحياة .

 

وعودة للتساؤل.. هل كان من حق يوسف بصفته مديرا للمشروع أن يقوم بتوزيع الهدايا على الخاصة من أهل الثقة والأصدقاء ؟

سؤال لم أحر له جوابا، وتساؤل كامن في منطقة الإستفهام من الذهن، عالق بحيز الإستغراب المحير إلى أن يشاء الله ويفتح على بعض من خلقه جوابا لهذا السؤال .

 

لكن الذى يلفت الإنتباه هنا أن يوسف كان لا يوزع الميرة بالمجان ولكن يقايض بها للحصول على أشياءأخرى من الطبيعى أن تكون متوافرة فى بيئة المقايضين فمثلاً الرعاة تتوافر عندهم الجلود والأصوافوأخرينتتوافر لديهم الأخشاب لتوافر الأشجار عندهم وأخرين لديهم الخامات المعدنية من الحديد والنحاس، كما يمكن أن تصلح الأحجار الكريمة المتوافرة في الجبال وغيرها للمقايضة، وكان هناك نظاماً دقيقاً للمقايضة وذلك بغرض تحقيق أكثر من هدف.

 

الهدف الأول:هو أن جعل التوزيع بمقابل وليس بالمجان سوف يدفع المشترون إلى تفعيل حساباتهم وضبط مصاريفهم حتى يمكن أن تتوافر لديهم البضاعة التى سوف يقايضون بها وهذا يعني أنهم سيعملوا بمزيد من الجهد لإقتناء المتوافر لديهم من بضاعة ولو كان التوزيع بالمجان لتكاسل الجميع.

 

الهدف الثانى:هو أن عمال مصر الزراعين سيكونون عاطلين في سنوات القحط والعاطل قنبلةموقوتة ضد نفسه وضد مجتمعه ويعني توافر بضاعة البلاد المجاورة أن يتم تشغيل هذه الآلآفالمتعطلة فى صناعات تحويلية يسهل تدريبهم وتحويلهم إليها لتصير هذه البضاعة منتجات يصير تداولها فى الأسواق وتدر دخلاً على العاملين تمكنهم من شراء القمح وإطعام أنفسهم وذويهم وذلكحفاظاً على ماء وجوههم من التسول وصرف جهودهم إلى أشياء مفيدة، وفي هذا القضاء على البطالة الذميمة، مما يهدأ من نفوسهم ويظللالمجتمع بالسكينة والأمان وهذه لمسة لعلوم الإجتماع والأمن العام.

 

ونخلص من عرض هذه المرحلة، ببعض التعليقات الظاهرة للعيان ويردفها إشارة إلى أحد العلوم، والتي تؤكد على توافق سمات رجل الإدارة الناجح وتصرفات يوسف، للدرجة التي يمكن معها استنباط بعضا من أسس القيادة الإدارية من الخطوات التي إتخذها يوسف في إدارته للمرحلة الأولى من خطة جلب الأخ الشقيق :

 

1.       استخدام الشرط الجزائي في تنفيذ العقود إذا ما أخل أحد الأطراف باشتراطات العقد   ( علم إبرام العقود ).

2.       التأكد من تنفيذ الجزء الذي يخصه من العقد على أكمل وجه، وتسلم الدفعة كاملة ( ضبط الجودة ).

3.       العمل على إعمال مغريات الترغيب، مع التلويح بعينات من الترهيب ( أمن عام ).

4.       عرض المزايا والتسهيلات المقدمة من المؤسسة إلى العملاء ( علاقات عامة).

5.       تحفيز ملكات العملاء لتنفيذ العقود، وجعلهم يتحدثون بإسمك ( علم نفس).

6.       إستخدام الشباب، وخلق خط قيادة ثان من العاملين ( إدارة ).

7.       الإعداد الجيد لتنفيذ المهام بالتدريب المستمر لرفع المهارات ( إدارة ).

8.       المتابعة الدائمة والإشراف اللحظي والتواجد الحقلي الآني ( إدارة ).

9.       وجود نظام توثيق ومتابعة مكتوبة لضبط الأمور  ( نظم المعلومات ).

10.  إقرار نظام المقايضة بالبضائع من المتوافر ببيئة الوافدين ( علم إبرام العقود ).

11.  إقرار نظام إستقبال الوفود وتخصيص أماكن لإقامتهم (علاقات عامة ).

12.  إقرار نظام توزيع نمطي عادل باستخدام نظام الحصص التموينية ( إدارة ).

13.  إقرار وحدة مكيال واحدة - صغيرة نسبيا -  تحقيقا للعدل ( إدارة ).

14.  إقرار وجود وحدات أمنية مسؤولة عن إقرار النظام واستباب الأمن ( أمن عام ).

 



[1]
 مع أن علم تأويل الرؤى ، علم ظني الدلالة ظني الثبوت، وذلك بدليل أنه وبعد تأويل رؤيا السجينين صاحبي يوسف في سجنه    صاح بالذي ظن أنه ناج منهما ، ومع أن السياق يدل على أن نبي الله يوسف هو المتكلم ، وهو الذي قام بالتأويل ، إلا أنه ولصيانة الإحتمال بعدم تحقق الرؤيا تماما قال للذي ".. ظَنَّ .."

 { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) }

 

[2]  وصف الحق كيد الشيطان بأنه كيد ضعيف

  { الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ َكيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)  } سورة النساء

اجمالي القراءات 8288