سنراود عنه أباه
تغريبة بني إسرائيل 3 - مرحلة إقناع الأب

محمد خليفة في الجمعة ١٩ - فبراير - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً


 

المرحلة الثانية :  مرحلة إقناع الأب

{ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) }

 

 

الآية 63

" فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىأَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْمَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ "

سنلاحظ أن تزامن بدء الآية هو التسارع والفورية، لأن الكلمات بدأت بحرف " ف "، أى أنهم بمجرد أنرجعوا وقبل أن ينيخوا إبلهم، ذهبوا من فورهم إلى أبيهم ليبدأوا ما إستقرت نفوسهم عليه من مراودةأبيهم ومحاولات إقناعه بالسماح لأخيهم بمصاحبتهم فى الرحلة القادمة وبدأت المراودة بإسترقاق الأبفى ندائهم المجمع

" يَا أَبَانَا "ثم ذهبوا مباشرة إلى ما جاءوا فيه لكنهم إستعملوا أسلوب المباغتة وإستثارةالفضول فى نفس الأب بقولهم

 " مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ "  وكان الطبيعى أن يتساءل الأب عن السبب فى منع الكيلو لم يعطوا له الفرصة فى التساؤل فبادروه بالنهاية -  بذكر هدفهم البعيد - وهو أن يسمح لهم بإصطحاب أخيهم فى زيارتهم القادمة.

 لكننا سوف نلحظملحوظتين:

 

أولهما:أن الحق إستعمل " مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ " ولم يقل منع عنا الكيل، حيث أن إستعمال " عنا " تعنى أن بهم شخصياً مانعيمنعهم من التمتع بالرخصة المتاحة للجميع فمثلاً لوقلنا أن كلية البنات لا تقبل بين صفوفها إلا البنات وفى هذا حظر عن جنس الرجال أو نقول أن محظور على غير المسلمين الإلتحاق بجامعة الأزهر وفىهذا حظر عن دين أو نقول مثلاً أن أبحاث الذرة فى ألمانيا مقصوره على الألمان وهذا حظر علىجنسية معينة فإستعمال    " عنا " تعنى أن بهم خصيصة أو ميزة تمنعهم من التمتع بالتسهيلات المتاحةللأخرين أما  " منع منا "  فتعنى أن هناك عائق أو شرط لابد من إستيفائه للحصول على التموين.

 

وقد يتصور البعض أنهم منع منهم الكيل هذه المرة أى أنهم راجعين خالين الوفاض دون حبة قمح واحدةلكن ما سبق من آيات يعطينا إنطباعا بعكس ذلك "فَلَمَّا جَهَّزَهُمبِجَهَازِهِمْ " / " أَلاَتَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ "

فالمنع قاصر على قادم الرحلات وهذا المنع متعلق بشرط واحد هو وجود الأخ المفتقد ولم ينسوا أنيزيلوا كلماتهم

" وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ "  نفس الكلمات ونفس الأسلوب ونفس التأكيد الذى سبق وإستعملوه عندأخذ يوسف وهذا يعنى أن هناك ما يسمى خيال المرآة أو الشكل المتماثل أو العنصر المكمل بمعنىوجود محور رئيسى تدور حوله القصة كلها وسوف تذكر بعض الحوادث قبل هذا المحور - هو آيات الدعوة إلى الله وهى الآيات من 37 إلى 40 والتى تحدد أسلوب ومواصفات الدعاه أو الأسلوب الأمثللذلك - وسوف نجد أن رؤيا السجينين فى الآية 36 هو الحدث الذى جاء قبل هذه الآيات مباشرة وبعدها أيضاً مباشرة جاء تأويل هذه الرؤيا فى الآية 41 وهكذا يمكن رسم شجرة العلاقات وهى مخطط يوضح الروابط والعلاقات بين آيات التقديم وآيات التأخير فى السورة (أنظر المرفقات) وعودة إلى ما كنا عليهمن حديث فإننا نلاحظ هنا أنه وكما قلنا أن أخوة يوسف إستعملوا نفس الكلمات المؤكدة الواعدةبالمحافظة على أخوهم لكن الأمر اختلف فى المرتين.

 

ففى الأولى كان الغدر يغلف كلماتهم أى أن ظاهر الكلام هو وعد بالمحافظة لكن باطنه يؤكد أنهم يبيتونالعكس وإستشعر يعقوب من كلامهم الخطر لكنه ومع تأكيداتهم الملحة

" إِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ / َإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ "

أجابهم بوجل " قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ "

إستجاب لهم على خشية...! ، لكن ما من فرار من قضاء الله إلالقضاء الله لكنهم هذه المرة كان رجائهم حاراً وتأكيداتهم صادقة فلم يشر يعقوب إلي الحزن كما جاء مع يوسف.

 

الآية 64

" قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِإِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌحَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ "

بدأت الآية " قال "  وخلت منها واو الإسترخاء، وفاء التعجيل تعنى أنه رد بعد تفكير لم يستغرق وقتاً وانقسمت الآية إلي قسمين الأول هو قوله متهكماً

" قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِإِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ "

وهذا تنديد من الأب لأولاده بأنه صدقهم من قبل وصدق تأكيداتهم بالمحافظة على يوسف وسلم لهم يوسفلكي يفعلوا فيه ما فعلوا.

فهل لازالت لديكم القدرة على تنفيذ تأكيداتكم بالمحافظة عليه وجعله آمنا في الذهاب والإياب وتلحوا على سلامته والمحافظة عليه بأرواحكم كما سبق وفعلتم مع يوسف ولم تستطيعوا حينها ضمان  سلامة يوسف وتسببتم فى ضياعه، يعنى هل أسلمكم أخو يوسف أمانة لتضيعونها كما ضيعتم يوسف مع حار تأكيداتكم بالمحافظة عليه.

 

لكن النصف الثانى من الآية يتماشى مع صدق حديثهم وعميق نبراتهم فقد مالت نفس الأب إلى تصديقهمهذه المرة وصدر القرار الوجداني الداخلى بالموافقة لكنه لم يفصح عنها حتى يتيقن من جدية إحساسههذه المرة بالصدق فى حديثهم لذا أرجا الحديث هنيهة ورد الأمر إلى الله بأنه لا حافظ  إلا الله ولا راحم إلا الله فقد أوكل أمر الحفظ إلى الله وإنه " خَيْرٌحَافِظًا "ولما كان في هذا الحفظ رحمة بالشخص ورحمة بالأب ورحمة بذويه لذا إشار إلي الحق الذي أوكل إليه أمر الحفظ بأنه أرحم الراحمين.

 

الآية 65

" وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْوَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَانَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَاوَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ "

بدأ تزامن الآية بالإسترخاء لبدءها بحرف " و " حيث قالت الكلمات " وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ"أي أنهم بعدما إستراحوا من السفر قاموا لرحالهم يفتحونها ففوجئوا بوجود البضاعة التى كانت معهم وقايضوا بها فعلا - أغلب الظن أنهاكانت من الأحجار الكريمة التي يسهل دسها في داخل الرحال - وعندما تيقنوا منأن بضاعتهم قد ردت بكاملها إليهم هرعوا إلي أبيهم يزفون إليه هذه البشرى

"قَالُواْ يَا أَبَانَا مَانَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا "

ولنا هنا وقفة.

الأولي  :ما نبغى أى أننا لا نكذب من البغى وهو الإدعاء الكاذب أى أننا لم نكذب فى حديثنا عن عزيز مصر فقدإستضافنا الرجل وأكرم وفادتنا وأنزلنا خير منزل، وأوفى لنا الكيل ثم رد إلينا بضاعتنا محبة منه وتقديراً لظروفنافلا أقل من أن نكون نحن أيضاً صادقين معه وصادقين فى إدعاءنا بأن لنا أخا من أبينافاسمح لنا بإصطحاب هذا الأخ فى الرحلة القادمة.

 

والثانية  :  ما نبغى أى أن هذا ما نريد بقوة من البغية، وبغية الشئ إرادته وطلبه والرغبة فيه، أو ما نريد أن نقوله لك أو نصوره لك أو ليس فىالإمكان خير مما كان، فقد أتينا بالقمح والطعام وبضاعتنا ردت إلينا، فماذا نريد أكثر من ذلك ويمكن بهذه البضاعةأن نعود فى العام القادم لنحصل على تموين العام كله لنا ولأهلنا ونمير أهلنا أىنحصل على الميرة وهى الطعام المصنوع من القمح مثل الخبز وغيره أى أننا نضمن بها توفر الطعاملعام لاحق.

وللطرق علي الحديد وهو ساخن، وبعد ما قدموه للأب من دلائل، وللإجهاز على ما تبقي من موانع في نفسه أضافوا

" وَنَحْفَظُ أَخَانَا "يعنى تأكيد على الحفظ والتكرار..." َإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ / وَنَحْفَظُ أَخَانَا "

ثم عرضوا ما يعنيه السماح لهم بإصطحاب أخيهم من خير سوف يفيض على الجميع وهو زيادة كيل بعير وأن ذلكسهل ميسور وفي متناول أيديهم إذا سمح لهم بمرافقة الأخ معهم فى رحلتهم القادمة.

 

الآية 66

" قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْحَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنيُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَانَقُولُ وَكِيلٌ "

 بدأ تزامن الآية بالتريث لا إسترخاء ولا تعجيل، وكان أن تكالبت على يعقوب الآراء والإقناعات والدلالات والميل الأوَّلى للموافقة، لكى يلقي بآخر مناعاته بإشتراط أن يعطوه موثقاً من الله أى يقسمواله غير حانثين أو يعاهدوه على أن يحافظوا على سلامة هذا الأخ الباقى وأن يؤكدوا على آمنه وراحتهوسلامته ذهاباً وإياباً والكلمة كانت عندهم عهد ووعد، إلا أنه كرجل إدارة حصيف فإنه كمن يكون قدوقع عقدا معهم، ولابد من توثيق هذا العقد، ويكون أكبر وأجل وأعظم التوثيق هو أن يكون " موثقاً من الله "  أى أنهوثق العقد عند الله، وحين يقول

" اللَّهُ عَلَى مَانَقُولُ وَكِيلٌ "

ففيها فصل الخطاب، إلا أنه كرجل إدارة يستثنى من العهد " إِلاَّ أَنيُحَاطَ بِكُمْ "بمعنى أنه سوف يكون هذا العهد ملزما  لكم، إلا إذااضطررتم إلى غيره تحت أي ظرف قهري علي غير إرادتكم وعلى غير قدرتكم في دفعه عن أخيكم، أي ظرف خارج السيطرة وفوق طاقة المنع ففي هذه الحالة يمكن أن يغفر الله لكم تفريطكم لأنه شاهد عليكم.

 وهذه تذكرني بنية الإحرام، حيث يقول من نوي الإحرام بالعمرة أو بالحج، اللهم إني احرم إليك (بالعمرة / الحج / أو كلاهما) فإن حبسنى حابس فمـُحـِلي حيث حبستني / محبسى أي أنه إذا حدث ظرف قهري مثلاً قابلت وحش كاسر أو تعطلت سيارتك وحيدا فى طريق مقطوع عندها أكون قد تحللت من الإحرام بهذا المحبس.

 

الآية67

" وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَتَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍمُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِالْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِفَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُون َ"

بدأ تزامن الآية بالإسترخاء "وَقَالَ يَا بَنِيَّ " أى أن الحوادث السابقة جرت على عدة أيام وكان إيقاع الآيات السابقة سريع التعاقب، لكن فى هذه الآية تلبس نبي الله يعقوب شخصية الأب، بعدما كان في شخصية رجل الإدارة وصانع القرار، فنجد فى كلماته الناصحة أنها تنضح بالأبوه والحنان والحرص على أولاده، فقدنصحهم بالتفرق عند الوصول على مشارف المدينة، حتى لا يدخلوا من باب واحد وهذه ملحظ إدارىهام فجمعهم قد يشكل ريبة فى نفس الناظر إليهم، فهم احدى عشر رجلاً، يرتدون نفس الزى، ويتحدثوننفس اللغه الغريبة عن البلاد، مما قد يوحى بأنهم فى شكل عصبة تثير الريب والمشاكل، وتدفع للتساؤلوالإحتكاك، أيضا وفي أقل تقدير تثير أعين الحاسدين وهى ثانيها، وأما الثالثة فهى لتقليل المخاطربمعنى أن لو أن لدينا فريقا كبيرا يسافر لحضور مؤتمر فإن الحكمة تقتضى ألا يسافروا جميعا فى طائرةواحدة، وإنما فى ثلاث طائرات أو أربع، حتى إذا حدثت لواحدة منهم حادثة فيكون فقدنا ربع الفريقيشكل نصف مصيبة لكن خسارة الفريق كله فى حادثة واحدة يشكل مصيبة فادحة.

وهذا ملمح إدارى غاية فى الأهمية، ثم الإشارة إلي أنها أبواب متفرقة يعني ثلاثة على الأقل، لأنها جاءتبالجمع ثم أعقبها  يعقوب

" وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ "

أى أنه فقط يأخذ بالأسباب، ويدعوهم إلى فعل ما فى وسعهم أن يفعلوه، لكنه لا يضمن لهم بشكلقاطع مخاطر الغيب فهى كلها فى علم الله، وهو يشبه القول المأثور ولله المثل الأعلى (على أن أسعى وليس على ادراك النجاح)،

 " إِنِالْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ َ"    جاء هذا المقطع فى آية سابقة وهي الآية 40

" مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ "

وكانت فى مرحلة الدعوة، حيث كان يوسف يدعوالسجينين إلى الله الواحد المعبود بحق، لكن هنا يُعَد إقراراً بعدم معرفة الغيب، وفى ذلك يكون الحكم فيه إلى اللهومن الله فهو الوحيد المطلع على الغيب المحيط به.

لذا لايسع المؤمنون به، إلا أن يتوكلوا عليه ويتقوه حق تقاته وكما يقول الحديث

" احفظ الله يحفظك ان استعنتفاستعن بالله وان توكلت فتوكل على الله وما أصابك ما كان ليخطئك وما أخطأك ما كان ليصيبك "

ونود أن نلقى مزيداً من الضوء على لفظة المتوكلون، فقد يأخذها البعض على معنى التواكل، وشتان بينالتوكل والتواكل فالتوكل معناه أن تأخذ بالأسباب و تصنع ما فى وسعك من دراسة وإستيعاب وتخطيطثم بعدها يكون التوكل على الله.

 

أما التواكل فهو مذموم مدحور، وهى السلبية بعينها، فقد رأى رسول الله ( عليه أفضل الصلاة وله أتم التسليم ) فى مسجده رجل يصلى قائم عابدفسأل من ينفق عليه قالوا أخوه قال أخوه أعبد منه / أتقي منه / خير منه، لذا سنلاحظ أن الآية بدأتبالنصيحة بالأخذ بالأسباب قدر المستطاع، ثم التسليم بأن الأسباب لا تمنع قدر(لا يغنى حذر عن قدر) فإن الحكم كله لله لذا عليك أن تأخذ بالأسباب ثم تتوكل على الله.

 

الآية 68

" وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُأَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍإِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍلِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ "

التزامن يوحي بالإسترخاء " وَلَمَّا " لأنه من الطبيعى أن يمر وقت بالأيام حتي تكمل رحلتهم إلى أرضمصر، وحين وصلوها عملوا بنصحية الأب أى أنهم تفرقوا إلى عدة فرق (ثلاثة على الأقل) ودخلت كل فرقة من باب مختلف عن الفرقة الأخرى، ثم عاودت الكلمات التأكيد على أن ذلك بالقطع لم يكن ليدفععنهم بلاء قد قدره الله عليهم، أو يكونوا فى غناء عن رعاية الله، وكانت دعوة رسول الله عليه أفضل الصلوات وله أتم التسليم " اللهم لا تكلنىإلى نفسى طرفة عين، أو أقل من ذلك، اللهم انى عليك توكلت، وإليك أنبت وإليك المصير "، ثم أشارت الآية إلى حاجة فىنفس يعقوب قضاها، ولأنها جاءت فى نفس نبي الله يعقوب ولم يشر الحق من بعيد ولا من قريب إلى تلك الحاجة،فلا معنى لبحث ماهية هذه الحاجة، فلا طاقة لنا بمعرفتها أو حتى توقعها، فقد وقعت فى نفس يعقوب فهىغيب محقق ومغيب عنا، ولا نستطيع معرفته أو الإلمامبه، مهما حاولنا أو بذلنا من مجهود، يكفى أنه أخذبالأسباب وقدم النصيحة ثم توكل على الله، فالبحث فى هذه القضية لا طائل من وراءه، ثم يأتي عجز الآية بنيشان يوضع على صدر نبي الله يعقوب فالحقيصفه  " وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ"

ومع إضافة لام التوكيد أى أنه قطعاً رجل عالم عليم، ليس بفضله ولا ميزة فى ذاته، وإنما لما أفاض الله عليه من فيوضاته وتعليمه له، سواء كان ذلك بالعلم اللادنى الملقى فى القلب ويمتلأ بهالوجدان، أو عن طريق الوحى المرسل من قبل الله عن طريق روح القدس أو أمين الوحى، الخلاصة أنهذو علم لما علمه الله ولكن كثير من الناس لا يعلمون هذه الحقيقة البسيطة، أن العلم إنما هو رزق من عندالله يخص به من شاء من عباده، وسوف تلاحظ أن ثلاثة إشتقاقات من الجذر علم قد استخدمت فى هذهالآية (ذو علم / لما علمناه / يعلمون) ويعد هذا من أكبر التجمعات التي تجتمع لإشتقاقات جذر واحد فى آية واحدة.

هكذا وصل الإخوة إلى مصر وفي صحبتهم أخيهم  الأصغر وهو من يقع تحت دائرة الضوء حاليا، من حيث أنهم أوفوا بعهدهم مع عزيز مصر، ومن حيث نواياهم بالحفاظ على عهدهم مع أبيهم في إعادته سالما، لكن الله أعلم بما تخبئه الأيام لهم.

 

ونخرج من المرحلة الثانية من خطة جلب الأخ الأصغر بالمفاهيم والنصائح الآتية :

1.  تمكن يوسف من تحفيز حماس إخوته، وتبنيهم موضوع إصطحاب أخيهم الأصغر وكأنه موضوع  يهم شخص كل منهم ( علم نفس ، وإدارة ).

2.       إستخدامهم للإيحاء النفسي ، وإشعار الأب - نبي الله يعقوب - بأن موضوع إصطحابهم لأخيهم الأصغر هو

 بمثابة حياة أو موت لهم جميعا ( علم نفس ).

3.       إستجابة الأب الحذرة لمطلبهم، مع أخذه تعهد عليهم بإعادته سالما ( إبرام العقود ، التوثيق ).

4.       توثيق هذا التعهد، وجعل الله شاهدا علية (علم لادني ، وإدارة ، نظم المعلومات والتوثيق  ).

5.       صيانة إحتمال وقوع المخاطر، وعدم استطاعتهم مواجهتها ( علم لادني ، وإدارة ).

6.       نصيحة أبوية، بعدم دخولهم من باب واحد درءا لإحتمالات غير منظورة (علم لادني ، وإدارة ).

7.       الإقرار بأن نبي الله يعقوب ذو علم لما علمه الله ( علم لادني ).

8.       التسليم الكامل بقضاء الله وقدره ( علم العقيدة ).

اجمالي القراءات 7383