الإسلام دين علماني
علمانية الإسلام

عبدالوهاب سنان النواري في الخميس ٠٤ - فبراير - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

المقدمة –عميانيون وليسوا علمانيون:

1- يفهم معظم الإخوة العلمانيون العرب العلمانية فهما خاطئا ويقدمونها للناس بشكل سيء ومنفر، وقد نجحوا في تشويهها وجعلها مقرونة بالإلحاد والعداء للدين، هؤلاء المحترمون ملحدون وليسو علمانيون فعلا، هم فقط يتخذون من العلمانية ستارا لتمرير مشاريعهم الحاقدة على الإسلام والإسلام فقط.

2- في المقابل هناك عدد قليل من الإخوة العلمانيين المحايدين الباحثين فعلا عن الحق والعدل والسلام والتعايش والحرية المطلقة في الفكر والمعتقد، وقد كان لزاما علينا أن نجادل أولئك وأن نحاور هؤلاء، وفق رؤية ومنهجية قرآنية خالصة.

3- وقد كان مبعث الدهشة لدى الجميع تقريبا هو تأكيدنا في دعوتنا القرآنية على علمانية الإسلام، وهو أمر غير متوقع في تصورهم، إذ كيف نكون قرآنيون ندعو إلى الاكتفاء بالقرآن، ونقول أن الإسلام هو الحل، ثم بعد ذلك ندعم ونشجع العلمانيون في دعوتهم الجميلة (الدين لله والوطن للجميع) .

4- أكدنا لهم أن الإسلام دين علماني، وأن الأنظمة العلمانية الحديثة هي الأقرب إلى النظام الإسلامي الذي أقام عليه خاتم النبيين دولته المدنية، وأن القرآن الكريم يدعم ويؤكد كلامنا هذا، وفي موقعنا (أهل القرآن) العديد من الأبحاث والكتب التي تؤصل لعلمانية الإسلام، وعلى رأسها أبحاث والدي الدكتور/ أحمد صبحي منصور.

5- زار عدد من هؤلاء الإخوة موقعنا (أهل القرآن) وقد أبدوا إعجابهم الشديد به، ولكنهم صدموا بالكم الهائل للكتب والمقالات التي يزخر بها، وعندها طلب مني عدد منهم إعداد ورقة بحثية مختصرة تؤكد دعوانا. وعلى الفور بدأت بجمع المادة العلمية من موقعنا الأغر، وقمت بإعداد هذه الورقة.

 

أولاً- تحديد المفاهيم:

1- لا بد من تحديد المفاهيم أولا، فنحن نتحدث عن الإسلام وليس عن المسلمين. والإسلام عندنا هو القرآن الكريم فقط، وليس المصادر البشرية المزورة التي نسبها أئمة المسلمين زورا لله تعالى ورسوله محمد باسم الحديث النبوي أو الحديث القدسي. الإسلام ليس له علاقة بالسنة أو التشيع أو التصوف، هذه كلها فرق وطوائف انتشرت بين المسلمين، ونسبت أقوالها بالتزوير لله تعالى ورسوله عبر منامات وأحلام وعنعنات وأسانيد لا تصمد أمام المنهج العلمي.نحن هنا نتحدث عن حقائق الإسلام التي جاءت في القرآن العظيم، والتي يمكن فهمها بسهولة إذا قرأنا القرآن الكريم قراءة موضوعية وفقا لمفاهيمه ومصطلحاته بعيداً عن مفاهيم التراث وسمومه.

2- العلمانيين التقليديين بثقافتهم الغربية عاجزين عن التوفيق بين العلمانية والإسلام، لانهم لا يرون فارقا بين الإسلام والمسلمين ويعتبرون السلفيين المتطرفين ممثلين للإسلام ويطلقون عليهم جهلا لقب (الإسلاميين) بل ويعتبرون أن (الأزهر وقُم وتنظيمات الإخوان المسلمين السرية والعلنية ومليشيات الشيعة .. الخ) هم الممثلون للإسلام.ونحن نؤكد على أن التيار السلفي (سني وشيعي وصوفي) هو أكبر عدو للإسلام ونؤكد على التناقض بين الدولة الإسلامية ودولة الخلافة وولاية الفقيه التي يريد السلفيون إرجاعها. لا بد من التذكير والتأكيد على ذلك حتى نستريح مقدّماً من ذلك الخلط المؤلم بين النقيضين.

3- الذي لا يعرفه العلمانيون أن الإسلام دين علماني، وأن دولته الإسلامية دولة علمانية، صحيحٌ أنه توجد خلافات بين علمانية الإسلام وعلمانية الغرب التي تأثر بها العلمانيون العرب، ولكن الصحيح أيضا أن هناك خلافاً في داخل العلمانيات الغربية ذاتها، فمنها العلمانية الشيوعية التي ترفض الدين مطلقاً وتعتبره أفيونا للشعوب، ومنها العلمانية الرأسمالية بانفتاحها وقبولها للمسيحية. وهناك خلافات محلية داخل العلمانية الشيوعية، كما توجد خلافات نوعية داخل العلمانية الغربية حول مدى الفصل بين الدين والدولة والدين والسياسة. ولا يزال فيها متسع للاجتهاد والاختلاف والتجديد مع وجود حراك فكري مستمر في الغرب الذي يرفع شعار حرية الفكر والمعتقد، ويمارس من خلالها كل صور النقد والنقاش للثوابت حتى ما كان منها متصلا بالعلمانية أو بالكنيسة.

4- وهكذا فمن الطبيعي أن توجد خلافات بين علمانية الإسلام وعلمانيات البشر المختلفة فيما بينها. لدينا فهمنا القرآني الخاص الذي يضع لنا ملامح الدولة الإسلامية العلمانية التي تتبنى حقوق الإنسان وقيم العدل والديمقراطية والحرية المطلقة في الدين والفكر والتسامح الديني. فبالرجوع للقرآن الكريم تبين لنا أن للإسلام نوعيته الخاصة من العلمانية، يمكن أن نسميها العلمانية الإيمانية.

5- وواقع الأمر أن خاتم النبيين (عليه السلام) أقام دولة مدنية ديمقراطية علمانية في أشد العصور الوسطى ظلاما. لم يلبث المناخ المظلم للعصور الوسطى أن أطفأ نورها، إلا أنه بقي منها أصولها القرآنية وما تواتر في السيرة النبوية عن إقامة تلك الدولة في الجزيرة العربية. دولة الإسلام المدنية العلمانية الديمقراطية ما لبثت أن تحولت إلى الاستبداد السياسي والحكم القبلي بعد الحروب الاستعمارية والحروب الأهلية بين الصحابة أو ما يعرف بالفتنة الكبرى وتأسيس الدولة الأموية، ثم تحول الحكم الاستبدادي القبلي إلى حكم ديني سياسي في الدولة العباسية، واستمر هذا النظام سائداً إلى سقوط الدولة العثمانية تحت اسم الخلافة.

6- وقد اصطلح المؤرخون على تسمية الدولة الإسلامية بعد النبي محمد بالخلافة الراشدة - مع تحفظنا على هذه التسمية - وأطلقوا على الدول التالية مسمى الخلفاء فقط، أي لم يكونوا خلفاء راشدين. وهذا في حد ذاته دليل على تحول هائل في نظام الحكم دفع المسلمون ثمنه غالياً ولا يزالون. وقد تم تدوين التراث في عصر الخلفاء العباسيين غير الراشدين، وذلك التدوين تجاهل كتابة التاريخ الحقيقي لدولة النبي وفق الاشارات التي جاءت في القرآن الكريم، بل على العكس قام بإضافة ما يتفق وأيديولوجية الاستبداد في الدولة العباسية إلى سيرة النبي.

 

ثانياً- ليس في الإسلام كهنوت:

1- المسلم الحقيقي لا يقدّس مع الله تعالى بشراً أو حجراً أو شجراً أو جناً أو حتى ملكاً، وبالتالي لا يمكن أن يخضع هذا المسلم العظيم لحاكم مستبد متأله تحت أي ظرف من الظروف، أي أن عقيدة الإسلام هي التي تخلق الديمقراطية والحرية في عقل وقلب ووجدان المسلم. فإذا تحرر الفرد من تقديس البشر أصبح مستعدا لقبول مبادئ العدل والمساواة والحرية والديمقراطية والتعدد وحقوق وكرامة الإنسان.

2- ليس في الإسلام كهنوت، وليس فيه أسرار ورموز وطلاسم؛ القرآن الكريم كتاب مفتوح ضمن الله تعالى حفظه إلى قيام الساعة. وهو كتاب ميسر للذكر والفهم والتعلم؛ والمثقفون المسلمون العلمانيون إذا قرأوا القرآن بقلب مفتوح دون أن يجعلوا بينهم وبينه حاجزا أو حائلا من كتب التراث والتفاسير والأحاديث فسيكتشفون أن أعدى أعداء الإسلام هم أولئك الشيوخ المحترفون المتكسبون بالدين، ولكتشفوا أنهم الأقرب إلى جوهر الإسلام القائم على العدل وحرية الفكر والمعتقد والسلام والتسامح والإحسان والرحمة والبر والتقوى، وسيكتشفون أخيرا أنهم أخطئوا في حق أنفسهم وحق دينهم الإسلامي العظيم حين تركوه أسيرا بين يدي أعدائه من شيوخ السلف غير الصالح.

3- القرآن الكريم يقترب من العلمانية بقدر تناقضه مع تراث المسلمين. ولذلك فإن الإسلام قد سبق في تقرير العلمانية التي لا مجال فيها لكهنوت أو تقديس للبشر أو استغلال للدين في تحقيق مطامح بشرية وسياسية. وما أتى الإسلام إلا للقضاء على الدولة الدينية وكهنوتها، لذا كانت دولة النبي محمد دولةً علمانية ديمقراطية لا تزال ملامحها في القرآن الكريم، ورغم القضاء على كلّ ملامح هذه الدولة فلا يزال باقياً من معالمها: أنه ليس في الإسلام كهنوت أو مؤسسة دينية أو رجل دين، هذا مع أن المسلمين أقاموا كهنوتا ومؤسسات ودول دينية.

4- المؤسف أن الشيوخ المحترفين نجحوا في إقناع المثقفين العلمانيين بأن الإسلام كهنوت وأسرار وأقفال لا يملك مفاتيحها إلا أولئك الشيوخ. هذه الخديعة الكبرى انطلت على جمهور المتعلمين والمثقفين المسلمين، فابتعدوا عن ساحة الكتابة الإسلامية وتركوها لجهل أولئك الشيوخ فانفردوا بعقول الناس يتلاعبون بها كيف شاءوا في عفن التراث، وينسبون ذلك الرجس للإسلام ورب العزة جل وعلا ورسوله الكريم؛ وكانت النتيجة أن انتشرت الخرافة وارتدت ثوب القداسة، وتضخم الجهل ولبس وشاح العلم.

5- ولينظر المثقفون المسلمون إلى ما يحدث الآن نتيجة لانفراد الشيوخ الجهلة السلفيون بمقاليد الفكر الديني؛ أخذت في الانتحار الجماعي والبطيء بعض الشعوب العربية والإسلامية من فلسطين والعراق إلى سوريا واليمن، وتتابع شعوب أخرى لتلحق بمصير الهلاك، وكل ذلك يحدث في ظل سيطرة أولئك الشيوخ الذين يسعون لاستمرار المذابح بتشجيع السكوت عليها خوف البحث في أسبابها. ولذلك يثيرون قضايا هامشية تافهة مثل تربية اللحية، لإلهاء الناس عن آلاف القتلى في العالم، وحتى تظل الأزمات بدون نقاش حقيقي يسفر عن حل حقيقي. بالله عليكم ما هو الأخطر والأهم: أنهار الدم اليومي في العراق وفلسطين واليمن وسوريا أم تربية اللحية؟

 

ثالثاً- الإسلام دين ودولة:

1- نؤمن‏ ‏بأن‏ ‏الإسلام‏ ‏دين‏ ‏ودولة‏، ‏وهذا‏ ‏معتقدنا ‏الذي ‏نرجو‏ ‏أن‏ نقابل‏ ‏الله‏ ‏تعالى ‏عليه‏، ‏ولكننا ‏نخالف‏ ‏في ‏ذلك‏ ‏أكبر‏ ‏طائفتين‏ ‏متصارعتين‏ ‏سياسيا‏ ‏وفكريا‏، ‏وهما‏ ‏العلمانيون‏ ‏التقليديون والسلفيون‏ ‏المتطرفون‏.‏ نخالف‏ ‏العلمانيين‏ ‏الذين‏ ‏يفصلون‏ ‏الدين‏ ‏عن‏ ‏الدولة‏، ‏ويقطعون‏ ‏كل‏ ‏أواصر‏ ‏الصلة‏ ‏بين‏ ‏الدين‏ ‏ونظام الحكم، ‏ونقصد‏ ‏بالدين‏ ‏تحديدا‏ ‏هنا‏ ‏دين‏ ‏الإسلام‏. ‏وهم‏ ‏بذلك‏ ‏يتجاهلون‏ ‏أن‏ ‏الإسلام‏ ‏أقام‏ ‏دولة‏ عظيمة ‏في ‏عهد النبي محمد (عليه السلام) ‏سبقت في مدنيتها وديمقراطيتها العالم الغربي، وكانت واحة فريدة في ظلمات العصور الوسطى.‏ كما‏ نخالف‏ ‏التيار‏ ‏السلفي ‏الديني الوهابي والشيعي في فهمهم لمقولة الإسلام دين ودولة.

2- ‏صحيح‏ ‏أن‏ ‏الإسلام‏ ‏دين‏ ‏ودولة‏، ‏ولكن‏ ‏أي ‏دين‏ ‏وأي ‏دولة؟‏ ‏هنا‏ ‏نختلف‏ ‏ليس‏ ‏في ‏الفروع‏، ‏ولكن‏ ‏في ‏الأصول‏ ‏والجذور‏. ‏هم‏ ‏يرون‏ ‏الإسلام‏ ‏كهنوتا‏ ‏ويرون‏ ‏دولته‏ ‏دولة‏ ‏دينية‏ ‏كهنوتية‏ ‏يملكها‏ ‏الخليفة‏ ‏والملأ‏ ‏التابع‏ ‏له‏، ‏ومن‏ ‏يخالفه‏ ‏فهو‏ ‏مرتد‏ ‏مباح‏ ‏الدم‏، ‏لأنه‏ ‏خالف‏ ‏الراعي ‏الذي ‏يملك‏ ‏الرعية‏، ‏فالناس‏ ‏هم‏ ‏رعية‏، ‏وحيوانات‏ ‏أليفة‏ ‏يملكها‏ ‏الخليفة‏، ‏ويتحكم‏ ‏فيها‏ ‏كيف‏ ‏يشاء‏، ‏ولديه‏ ‏جيش‏ ‏من‏ ‏مرتزقة‏ ‏العلماء‏ ‏يحلل‏ ‏له‏ ‏الحرام‏ ‏ويحرم‏ ‏على الشعب‏ ‏الحلال‏.‏ هذه‏ ‏هي ‏طبيعة‏ ‏التدين‏ ‏السائد‏ ‏في ‏العصور‏ ‏الوسطى ‏منذ‏ ‏موت خاتم النبيين‏ ‏وحتى ‏الخلافة‏ ‏العثمانية‏. ‏وتلك‏ ‏هي ‏الدولة‏ ‏المثلى ‏التي ‏يطمح‏ ‏التيار‏ ‏الديني ‏في ‏إقامتها‏ ‏باسم‏ ‏الإسلام‏ ‏في ‏عصرنا‏. ‏ومن‏ ‏الطبيعي ‏أن‏ ‏تلك‏ ‏المفاهيم‏ ‏عن‏ ‏الإسلام‏ ‏ودولته‏ ‏الإسلامية‏ ‏تتناقض‏ ‏تماما‏ ‏مع‏ ‏الإسلام‏ ‏الذي ‏جاء‏ ‏في ‏القرآن‏ ‏والذي ‏طبقه‏ ‏خاتم‏ ‏النبيين‏ ‏عليهم‏ ‏السلام.‏ ‏

3- أما القائلين بالفصل بين الإسلام والدولة؛ فقد أساءوا فهم الآيات القرآنية التي كانت تخاطب مجتمعاً ولا تخاطب حاكماً أو رئيساً؛ لأن العقول عاشت على وجود رئيس يستأثر بالسلطة ويتوجّه إليه الخطاب؛ فإنهم فهموا خطأ أنه ليس في الإسلام دولة، لأن القرآن لا يخاطب حاكماً. وفعلاً فإنه ليس في الإسلام دولة ثيوقراطية أو حتى دولة رئاسية، وإنما هي دولة يحكمها شعبها بالديمقراطية المباشرة وفق نظام الدولة السويسرية في عصرنا. إن أساس قوة هذه الدولة في قوة أفرادها وقوة المجتمع. والشورى في مصطلح القرآن وشريعته هي فن ممارسة القوة. وكل فرد مفروض عليه أن يمارس الشأن العام بحيوية وفعالية، وليس من حق أحد أن يستأثر بالسلطة، وإذا حدث ذلك فإن الشورى تصبح فريضةً غائبة.

4- على أن السائد خطأ بين الناس هو أن للإسلام دولة دينية، والأحزاب والمليشيات الدينية تناضل لإقامة تلك الدولة الدينية على أنقاض دول الاستبداد العسكري والحزبي الحالية. ومن قبل نجح السعوديون بمذهبهم الوهابي الإرهابي في إقامة دولة دينية تحكم طبقا للحاكمية التي تجعل الحاكم يحكم باسم الله تعالى، ويستمد منه السلطة وليس مسئولا إلا أمام الله تعالى يوم القيامة، وهذه الحاكمية أشر أنواع الاستبداد الذي ساد في العصور الوسطى في العالم بأسره، وكانت تعرفه أوربا وقتها بمبدأ الحق الملكي المقدس. وبعد نضال استمر قرونا تخلص الغرب من الاستبداد الديني وأرسى الديمقراطية. ثم تسللت رياح الديمقراطية والإصلاح الديني إلى العالم العربي، لولا أن الدولة السعودية نشرت ثقافة الاستبداد الديني المنتمية للعصور الوسطى، وعطلت الإصلاح السياسي والديني، ودعمت المستبد العسكري، وقامت بتغييب الديمقراطية كفريضة إسلامية، وعلى منوالها تسير إيران الجعفرية الخمينية. والمؤسف أن يحدث كل هذا ويستمر في عصرنا الحديث .. عصر الديمقراطية.

5- وهكذا فبينما تغزو رياح الديمقراطية دول أفريقيا، فإن الشرق الأوسط ـ مهد الحضارات والرائد الطبيعي والملهم لأفريقيا ـ لا يزال بعيدا عن الديمقراطية، بسبب ثقافة التخلف السني الوهابي والشيعي الخميني التي نشرتها وتنشرها السعودية وإيران على أنها الإسلام مع أنها تناقض الإسلام. وبينما تنادي كل حركات المعارضة في كل دول العالم بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الفكر والعقيدة فإن المعارضة السلفية (سنية وشيعية) تقف ضد الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الأقليات وحقوق المرأة. وبينما تتطلع حركات المعارضة ـ وأحيانا النظم الحاكمة نفسها ـ إلى المستقبل، وتستعد له في ظل ثورة المعلومات والاتصالات وقفزاتها الهائلة فإن السلفيين يريدون العودة بنا إلى العصور الوسطى، وأكاذيب البخاري، وتفاهة أبي هريرة، وتخلف الشافعي، وتحجر ابن حنبل، وخرافات الجعفرية، والإرهاب الدموي لابن عبدالوهاب وابن تيمية. وبينما تحول الكفاح في عصرنا إلى الوسائل السلمية والدبلوماسية فإن الجهاد السلفي لا يزال قتلا للمدنيين في الشوارع والمساجد والكنائس والمقاهي والبيوت.

 

رابعاً- بين العلمانية والاحتراف الديني:

1 ـ دعونا نتفق أولا على تسمية الكفاح للوصول إلى الحكم أو في المقاومة  بـ (العمل السياسي) سواء كان الكفاح سياسيا بحتا أو سياسيا عسكريا. هذا لأن الذي يحترف (المقاومة والنضال) هو الذي يحكم. وحتى في أثناء عمله النضالي وقبل أن ينجح ويؤسس نظام حكم أو دولة فهو قائد وحاكم يجد من يسمع له ويطيع . أي في البداية قائد لمجموعة مسلحة أو حزب سياسي ثم إذا نجح يكون قائدا لنظام الحكم أو للدولة.

2 ـ بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط فهي تتميز بنوعين من العمل السياسي: عمل سياسي لا يخلط  ـ كثيرا ـ السياسة بالدين مثل نظام عفاش والأسد والبشير، وهناك عمل سياسي قائم على خلط السياسة بالدين الأرضي مثل النظام السعودي والإيراني. هذان النوعان يعتبران روح العمل السياسي في الشرق الأوسط ( الكبير ) بثقافته الاستبدادية، فالعلمانية فيه من نظم عسكرية أو حزبية مستبدة لا تمانع في إستغلال الدين في سياستها لو اقتضى الأمر، وهذا يحدث غالبا عندما يتعرض الحكم العلماني المستبد إلى أزمة تهدد بقاءه، حينئذ يلجأ إلى استدعاء الدين الأرضي، والدين الأرضي عنده هو ( الحاضر / الغائب ) على كل حال.

3 ـ  المهم في ثقافة الاستبداد في الشرق الأوسط هو الوصول والبقاء في السلطة مستبدا بها تحت أي لافتة حتى لو كانت لافتة ديمقراطية أو لافتة دينية. حتى لو وصلوا بالانتخابات إلى الحكم فإنهم يضحون بعد ذلك بالديمقراطية عند أول فرصة. ولا تفترق حركة دينية في هذا عن حركة علمانية ديكتاتورية.

4 ـ وعند المقارنة بين حركتين تحملان لافتتين متعارضتين، وقد نجحتا في الوصول للحكم، نجد أنهما تشتركان في (النوع) وهو الفساد والاستبداد، وتختلفان في (الكم) أي مدى الاستبداد والفساد، ونجد أن الحركة الدينية هي الأكثر استبدادا والأكثر فسادا. فمن يعترض عليها يصبح مرتد مُستباح الدم، والفرد العادي الذي يسير (جنب الحائط) لا ينجو من عصاها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طبق الشريعة الكهنوتية. وهناك أمل ولو ضعيف في وجود ديكور هامشي ديمقراطي لدى الحركة العلمانية، ولكن الديمقراطية تصبحت كافرة بعد أن صعدت بها الحركة الدينية للسلطة.

5 ـ الأنظمة والجماعات الدينية هي الأكثر ظلما للناس من الأنظمة العلمانية. ظلم الأخيرة قاصر على شعبها، ولكن ظلم الأنظمة الدينية يصل للشعوب الأخرى، لأنها تمثل دينا أرضيا يضرب بفساده معظم الشرق الأوسط، تتمدد به هذه الأنظمة مستفيدة منه. وهذه الأنظمة لا تظلم الناس فقط، بل وتظلم رب الناس الواحد القهار جل وعلا، بزعمها أنها تمثّل رب العزة، وأنها مُفوضة عنه بحكم الناس، وأن كل ما ترتكبه من كبائر هو إرادة الله جل وعلا وشريعته، وهي بهذا تفسد السياسة وتدمر الدين.

6 ـ بثقافة الاستبداد والاستبعاد والاستعباد هذه، وصلت منطقة الشرق الأوسط إلى مرحلة الدمار والخراب والحروب الأهلية ضحاياها بالملايين، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا.!! فكيف الخلاص وكلهم أعدائي.

7 ـ الخلاص من هذا هو بتغيير ثقافة الاستبداد والاستبعاد والاستعباد إلى ثقافة الديمقراطية والحرية الدينية والاحتفال بالتنوع العرقي والديني والمذهبي والمساواة والعدل وكرامة الإنسان وحقوق الفرد. أي تغيير سطحي وشكلي بنظام ديمقراطي وانتخابات وبرلمان لن ينتج إلا قادة مستبدين صغارا يركبون شعوبهم ويعيدون إنتاج الاستبداد والاستبعاد والاستعباد. ولن تنجح الديمقراطية ولن تترسخ حقوق الإنسان إلا بترسيخ ثقافة الديمقراطية وثقافة التعدد وحقوق الإنسان. وهذا يحتاج إلى ترسيخ الوعي الجمعي والفردي.

8 ــ العقبة الأساسية بشكل عام هي الدين الأرضي السائد، ولقد صدقت مقولة (الدين أفيون الشعوب) التي استخلصتها أوربا عبر معاناة استمرت قرون، تحكمت فيها الكنيسة في شعوب أوربا متعاونة مع استبداد الملوك. الدين المقصود هنا هو الدين الأرضي الكاثولوكي. وبدأ العلاج بحركة احتجاج دينية إصلاحية تزعمها لوثر وتبعه زونجلي وكالفن، اهتزت بها هيبة الكاثولوكية وانضم مبكرا للمحتجين (البروتستانت) أمراء طموحون يريدون التحرر من سلطة البابا، ونشأت البرجوازية، ودخلت أوربا إلى العلمانية التي فرضت حظر التجول على الكنيسة ومنعتها من العمل السياسي وقصرتها على العمل الخيري الاجتماعي. وبهذه العلمانية وما صاحبها من تحرر ومخترعات في البخار وكشوف جغرافية واستعمار حكمت أوربا معظم العالم، بينما ظل المحمديون (المسلمون) أسرى للإمبراطورية العثمانية وخلافتها الدينية المتخلفة، حتى إذا سقطت الإمبراطورية العثمانية عام 1924م، بدأت الوهابية السعودية طريقها لتكون البديل، ثم جاء البترول بتأييد الغرب للوهابية السعودية، وبعدها جاءت الثورة الشيعية الخمينية في إيران، فوصلوا بالشرق الأوسط الآن إلى الرقص فوق فوهة بركان.

9 ــ والعقبة الأساسية لدينا هي الدين الأرضي السائد من تشيع وتصوف ووهابية. لذا لا بد من تحييده وحظر تجوله ليكون شأنا فرديا بلا تسلط على الناس، أي تأكيد حق كل فرد في أن يؤمن أو أن يكفر، دون أن يفرض إيمانه أو كفره على أحد. إن بداية الفساد دائما هي في تقديس الكهنوت الديني ورجاله وتصديق أكاذيبهم، إذ سرعان ما يستغل المستبد القائم أو القادم هذا الكهنوت سياسياً.

10 ـ  وهذه هي دعوتنا (أهل القرآن) على أنه يجب أن يكون معلوما ومؤكدا: أننا لا نفرض هويتنا الإسلامية على أحد، ليس فقط في جوهر دعوتنا إلى العدل والمساواة والحرية والديمقراطية والتعدد وحقوق وكرامة الإنسان للجميع، ولكن أيضا في دعوتنا إلى رفع هذه الشعارات كقيم عليا يدخل تحتها كل المؤمنين بها من كل المواطنين من كل الملل والنحل والأعراق، سعيا لإقامة نظم علمانية ديمقراطية حقوقية حقيقية. وأيدينا ممدودة لكل الأحرار في كل مكان، ليعملوا معنا على التخلص من الطغيان. والله جل وعلا هو المستعان. 

 

خامساً- التناقض بين دولة الإسلام العلمانية ودولة الكهنوت الدينية:

1- التناقض في وظيفة الدولة:

     ليس إدخال الناس الجنة وهدايتهم إلى الحق هو الأساس في إقامة الدولة الإسلامية؛ لأن الهداية مسئولية شخصية لكل إنسان، وهذا أمر يفوق طاقة الدولة والحاكم، قال تعالى: ﴿مّنِ اهْتَدَىَ فَإِنّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلّ فَإِنّمَا يَضِلّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ﴾ (الإسراء 15) بل إن الهداية ليست وظيفة النبي نفسه حتى حين كان حاكماً، يقول تعالى له: ﴿لّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ (البقرة 272) ويقول له: ﴿إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ (القصص 56) ويقول له مؤكدا عدم الإكراه في الدين: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ﴾ (البقرة 256) .. ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّىَ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس 99) .

     الأساس في إقامة الدولة الإسلامية فهو إقامة القسط بين الناس، أو بتعبير الفقهاء رعاية حقوق العباد أو بتعبير عصرنا رعاية حقوق الإنسان. والفقهاء المستنيرون أكدوا على أن حقوق الله تعالى من الإيمان به جل وعلا وعبادته هي مسئولية شخصية والحكم فيها مرجعه لله تعالى يوم القيامة، أما حقوق العباد فهي مسئولية الدولة في هذه الدنيا. والله تعالى يقول: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد 25) أي أن الهدف الأساسي من إنزال الكتب السماوية وإرسال الأنبياء والرسل هو أن يقيم الناس القسط فيما بينهم. والقسط نوعان: القسط أو العدل في التعامل مع الله تعالى بحيث لا نشرك به أحدا، والله تعالى يقول: ﴿إِنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان 13) ، والحكم في هذا الموضوع مرجعه لله تعالى يوم القيامة في كل ما يخص تصورات البشر عن ربهم جل وعلا، يقول تعالى في ذلك: ﴿قُلِ اللّهُمّ فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (الزمر 46) . أما النوع الثاني فهو القسط أو العدل في التعامل مع البشر وذلك يستلزم نظام حكم، وبقدر نجاح ذلك النظام في إقامة العدل تكون إسلاميته، وذلك معنى قوله تعالى: ﴿لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ ولذلك فإن العقوبات في تشريع القرآن تهدف أساساً لحفظ حقوق العباد أو حقوق الإنسان في الحياة والمال والعرض والشرف. ومن إقامة القسط تتفرع كل حقوق الفرد وحقوق المجتمع والتوازن بين العدل والحرية في منظومة رائعة تفتقدها البشرية المعاصرة.

     أما في الدولة الدينية فالأمر مختلف، فكل دولة دينية تتبنى مذهباً دينياً ترغم الناس على قبوله وتستخدمه في تدعيم سلطتها، وفيها يتمتع الحاكم وحده بالسلطة والثروة ويعاونه رجال الدين في اخضاع الشعب لاستبداده، بحيث يصير انتقاده خروجاً على الدين. وبطبيعة الحال تعاونه قوة عسكرية يستخدمها لإرهاب الناس، وبالكهنوت الديني والعسكر يصير الحاكم المستبد المتأله في اعتقاد الناس متحكماً في الدين والدنيا والآخرة. وبينما يكتفي الاستبداد العادي بقتل المعارضين فإن الاستبداد في الدولة الدينية يصادر حق الخصوم في الدنيا وفي الآخرة أيضاً، إذ يقتلهم باسم الشرع متهما إياهم بالكفر وحد الردة، ويزعم أنهم أيضا من أهل النار منتزعا سلطة الله تعالى في الآخرة بعد أن انتزع سلطة الشعب في الدنيا .. وكل ذلك تحت لافتة الشرع وإقامة الدين. وفي ذلك ظلم عظيم لله تعالى ورسوله ودينه. وهذه هي خلاصة التاريخ الواقعي للدول الدينية في الشرق والغرب في كل العصور في تاريخ المسيحية والإسلام .. الخ ـ كلها استغلت دين الله تعالى في ظلم الناس وإرهابهم وأكل أموالهم بالباطل.

2- التناقض في حقوق الإنسان:

     إقامة القسط بين الناس في الدولة الإسلامية تتوازن فيها حقوق الفرد مع حقوق المجتمع، كما يتوازن فيها العدل مع الحرية، أما في الدولة الدينية الكهنوتية فلا يحتاج الأمر إلى هذا التشابك والتداخل، حيث يتمتع فيها فرد واحد بكل الحقوق وهو الحاكم، وتنتهي الأمور عند هذا الحد، وعموما فللفرد حق مطلق في الدولة الإسلامية في شيئين وهما: (القسط وحرية الفكر والاعتقاد) وللمجتمع حق مطلق في ثلاثة أشياء وهي: (السلطة والثروة والأمن) وهي حقوق نسبية للفرد، ونأتي إلى التفصيل:

أ- حقوق الفرد المطلقة:

أ/1- حق الفرد المطلق في القسط:

     لن نتوقف بالتفصيل مع الآيات القرآنية التي توجب إقامة العدل والقسط في التعامل مع العدو أو الصديق مثل قوله تعالى: ﴿إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ﴾ (النحل 90) .. ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ (النساء 58) .. ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ﴾ (الأنعام 152) .. ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَىَ بِهِمَا فَلاَ تَتّبِعُواْ الْهَوَىَ﴾ (النساء 135) .. ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ للّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىَ أَلاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة 8) .

     لن نتوقف مع هذه الآيات الكريمة إلا في تقرير حقيقة قرآنية واحدة، وهي أن الحكم المقصود في الآيات هو الحكم القضائي، أو الحكم بين الناس. وإقامة ذلك الحكم بالقسط يعني أن الوظيفة الأساسية للدولة الإسلامية هي إقامة العدل والقسط، أو الحكم بين الناس بالعدل، وليس حكم الناس أو التحكم بهم. والمعنى المقصود أن يقتصر تدخل الدولة بين الناس على إقامة القسط في الداخل. ولكن إلى أي حد؟ نقول إلى حد القسط المطلق للأفراد، أي بنسبة مائة في المائة، وتتعرف على ذلك من التفرقة الدقيقة بين كلمتين قرآنيتين وهما "المقسطين" و "القاسطون" والمقسط هو تعبير مبالغة يفيد تحري القسط دائماً، أي القسط بنسبة مائة في المائة. ويتكرر في القرآن قوله تعالى: ﴿إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (المائدة 42، الحجرات 9، الممتحنة 8) فالذي يراعي العدل بنسبة 100% يحبه الله، أما القاسط الذي يراعي العدل بنسبة أقل من 100% فمصيره جهنم، يقول تعالى: ﴿وَأَمّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنّمَ حَطَباً﴾ (الجن 15) .

أ/2- حق الفرد المطلق في الفكر والعقيدة:

     في القرآن الكريم أكثر من خمسمائة آية قرآنية تؤكد حرية العقيدة وحرية التعبير عنها وحرية الفعل العقيدي إيماناً وكفراً، وإرجاع الحكم في العقائد لله تعالى يوم القيامة، وأن ذلك يسري على النبي نفسه. ونكتفي من مئات الآيات القرآنية التي تؤكد حرية العقيدة ببضع آيات قلما يستشهد بها الناس؛ فالله تعالى يقول للبشر جميعا: ﴿إِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىَ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ مّرْجِعُكُـمْ فَيُنَبّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ﴾ (الزمر 7) إذن هي حرية مطلقة في الإيمان والكفر، ومسئولية شخصية، والحساب عليها أمام الله تعالى يوم القيامة.

     والله تعالى يقرر أيضاً حرية الفعل الإلحادي مع آيات الله جل وعلا، ويجعل العقوبة عليه يوم القيامة، ويؤكد حفظ كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يقول تعالى: ﴿إِنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيَ آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَىَ فِي النّارِ خَيْرٌ أَم مّن يَأْتِيَ آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (فصلت 40) يوم القيامة يكون البشر حسب تصوراتهم عن الله وعقائدهم فيه قسمين كل منهما خصم للآخر، وأحدهما في النار والآخر في الجنة، والله تعالى يقول: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ ﴾ (الحج 19) والملفت للنظر أن القرآن الكريم ساوى بينهما في وصف الخصومة، ولم يجعل أحد الخصمين حكماً على الآخر، إذ كيف يكون الشخص خصماً وحكماً في نفس الوقت.

     الحرية في الشريعة الإسلامية تسمح أيضاً بوجود حرية قولية مطلقة للجماعات التي تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف، جاء ذلك في قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) ... وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة] .

     وهكذا فإن الفرد يتمتع في الدولة الإسلامية بحق مطلق في العدل وحق مطلق في حرية الرأي والعقيدة في الإيمان أو الكفر، في الهداية أو الضلال طالما لا يتعرض في حريته القولية والفعلية إلى سب الأشخاص واهانتهم، هنا يقع في عقوبة القذف وهي من حقوق الأفراد أو حقوق الإنسان وليس من حقوق الله تعالى. حسابه عن عقيدته عند ربه فقط يوم القيامة وليس لأي بشر أن يتدخل في تلك الحرية الدينية بأي حال من الأحوال ، وإلا كان مدعيا للألوهية متقمصا دور الله تعالى، وهذا ينافي عقيدة الإسلام في أنه لا إله إلا الله.

ب- حقوق المجتمع المطلقة:

ب/1- حق المجتمع المطلق في السلطة السياسية أو الشورى (الأمة مصدر السلطة) :

     الله تعالى وحده هو الذي لا يُسأل عما يفعل، وما عداه يتعرض للمساءلة، قال تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء : 23] وعليه فإن المستبد بالسلطة والذي يتعالى عن المساءلة من الشعب إنما يجعل نفسه مدعياً للألوهية، ولذلك فإن الاستبداد يقترن بادعاء الألوهية صراحة أو ضمنا، وهذا ما يؤكد التناقض بين الاستبداد والإسلام في مجال العقيدة، وفي نفس الوقت يوثق الصلة بين الشورى ـ أو الديمقراطية الإسلامية وعقيدة أنه لا إله إلا الله تعالى. وقد جعل الله تعالى من فرعون مثلا للمستبد الذي أوصله استبداده لادعاء الإلوهية، وتكررت قصته في القرآن للتأكيد على هذا المعنى للأجيال القادمة بعد نزول القرآن الكريم .. وهذا هو موقع الشورى في عقيدة لا إله إلا الله الإسلامية، يعزز ذلك أنه إذا كان النبي محمد (عليه السلام) الذي كان ينزل عليه الوحي مأموراً بالشورى في قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ﴾ (آل عمران 159) فإن أي حاكم يستنكف من الشورى يكون قد رفع نفسه فوق مستوى النبي.

     على أن الآية الكريمة ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ﴾ تؤسس حق المجتمع المطلق في السلطة، وأن الأمة مصدر السلطات، وهذا يشمل كل الأمة من رجال ونساء وأغنياء وفقراء على قاعدة المساواة. يقول الله جل وعلا في خطابه للنبي: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران : 159] أي بسبب رحمة من الله جعلك ليناً معهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، وإذا انفضوا من حولك فلن تكون لك دولة ولن تكون لك سلطة، لأنك تستمد سلطتك من اجتماعهم حولك، وإذن فهم مصدر السلطة والقوة لك، وبهم تكونت لك دولة وانتهت قصة اضطهادك في مكة، ولأنهم مصدر السلطة فاعف عنهم إذا أساءوا إليك، واستغفر لهم إذا أذنبوا في حقك، وشاورهم في الأمر لأنهم أصحاب الأمر، فإذا عزمت على التنفيذ بعد المشورة فتوكل على الله.

     إذن فالنبي حين كان "حاكماً" للدولة الإسلامية لم يستمد سلطته من الله جل وعلا كما يدعي أصحاب مشروع الدولة الدينية الكهنوتية، وإنما يؤكد القرآن على أنه كان يستمد سلطته من الأمة ومن اجتماعها حوله، ولذلك جعله الله تعالى برحمته ليناً هيناً معهم، ولو كان فظاً غليظ القلب لتركوه وانفضوا عنه وانهارت دولته.

ب/2- حق المجتمع المطلق في الثروة:

     الثروة في الأصل ملك لله تعالى، وقد جعلها حقاً مطلقاً للمجتمع، وهي حق نسبي للأفراد بحسب العمل وحسن الاستغلال والاستثمار، وهي حق للورثة طالما أحسنوا الاستغلال والاستثمار، فإذا تصرفوا بسفاهة قام المجتمع بالحجر عليهم والالتزام بالإنفاق عليهم وحسن معاملتهم. نستفيد هذا من قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (6)} [النساء] فالمال حق مطلق للمجتمع ولهذا كان الخطاب للمجتمع في الإشراف على الثروة ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ والمجتمع هو القائم على تنمية الثروة ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ فإذا أحسن الفرد القيام على تنمية ثروته كانت حقاً له ﴿فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ ويتجلى هذا في الفرق بين كلمتي "أموالكم" و"أموالهم" في الآية.

     وبالنسبة لمن يعجز عن الكسب فإن له حقاً في ثروة الأمة، والقرآن يؤكد على "حق" السائل والمحروم وحق المسكين واليتيم وابن السبيل في الصدقات الفرية والصدقات الرسمية كقوله تعالى: ﴿وَالّذِينَ فِيَ أَمْوَالِهِمْ حَقّ مّعْلُومٌ . لّلسّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (المعارج 24: 25) .. ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَىَ حَقّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ﴾ (الروم 38) .. ﴿وَآتُواْ حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ (الأنعام 141) . ويلاحظ هنا أن حقوق الفقراء والمساكين واليتامى وأبناء السبيل لا شأن لها بالعنصر والدين والايمان والكفر والملة والطائفة والذكورة والأنوثة، يكفي أن يكون أحدهم فقيرا أو مسكينا أو ابن سبيل أو يتيما ليأخذ حقه. 

ب/3- حق المجتمع المطلق في الأمن:

     الوظيفة الأساسية للدولة الإسلامية نحو أفرادها هي إقامة القسط وضمان حرية العقيدة وحمايتهم داخليا وخارجيا بتوفير الأمن الداخلي والخارجي. الأمن ضد الخطر الخارجي يعني أن يكون للمجتمع جيش قوي يرهب الأعداء من الاعتداء عليه، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ﴾ (الأنفال 60) وهذا الاستعداد لإرهاب العدو يعني ردعه عن التفكير في الاعتداء، وبالتالي حقن الدماء ـ دماء العدو ودماء أبناء الدولة الإسلامية ـ وهذا يقع ضمن مشروعية القتال في الدولة الإسلامية. إنها دولة تعتنق السلام كفريضة دينية في تعاملها الدولي، إذ لا مجال في شريعة الإسلام للاعتداء على أحد بل مجرد رد العدوان بمثله. وشأن الدولة المسالمة أن يتشجع المعتدون على الاعتداء عليها إذا اقترن السلام عندها بالضعف، ولذا كان لا بد من أن يقترن السلام بالقوة الحربية لتخويف المعتدين وردعهم. وبذلك فإن القرآن الكريم في تشريعاته قد سبق سياسة الردع النووي التي استعملها المعسكران الغربي والشيوعي في النصف الثاني من القرن السابق. 

     مشروعية القتال في الدولة الإسلامية تتفق مع القسط والعدالة، فكل الآيات التي تحض على القتال هي أوامر تشريعية تخضع لقواعد تشريعية تحصر القتال في الدفاع ورد الاعتداء بمثله، نفهم ذلك من قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ﴾ ﴿فَمَنِ اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ﴾ (البقرة 190/194) ثم المقصد النهائي للقتال هو أن يكون لمنع الاضطهاد والإكراه في الدين، والمصطلح القرآني هو الفتنة وتعني الإكراه في الدين، يقول تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ﴾ (البقرة 193) .. ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله﴾ (الأنفال 39) ومعنى أن يكون الدين كله لله أي بدون كهنوت، وأن يكون الناس أحراراً في اختيار ما يشاءون من عقائد حتى لا تكون لأحدهم حجة أمام الله تعالى يوم القيامة.

3- التناقض في حقوق المواطنة:

     هنا نشير إلى أن مصطلح الإيمان والإسلام في التعامل البشري بين أفراد الأمة والمجتمع يعني الأمن والأمان والسلم والسلام. فالمؤمن هو المأمون الجانب مهما كانت عقيدته، والمسلم هو المسالم مهما كان دينه. والجميع مهما اختلفت أديانهم هم مسلمون مؤمنون طالما لا يرفع أحدهم السلاح ضد الآخر، والجميع مهما اختلفت دياناتهم وعقائدهم ومذاهبهم موعدهم أمام الله تعالى يوم القيامة ليفصل بينهم فيما كانوا مختلفين. وإلى أن يأتي ذلك اليوم فالجميع يعيشون في إطار العدل والقسط والمساواة ولهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. والآيات في ذلك بالمئات في القرآن، ولكن نستشهد بآية واحدة جاء فيها الإذن بالقتال، ونصت على حيثيات الإذن بالقتال واختتمت بالمقصد التشريعي للقتال وهو حماية دور العبادة من صوامع وبيع وصلوات لليهود والنصارى ومساجد للمسلمين ففيها جميعاً يذكر أصحابها الله تعالى كثيراً، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج : 40] .

     ثم نستشهد بآية أخرى يتحدد فيها مفهوم المواطنة، يقول تعالى: ﴿إِنّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مّنْهُمْ﴾ (القصص 4) فالطائفة المستضعفة كانوا بني إسرائيل، والقرآن يعتبرهم ضمن أهل مصر مع اختلافهم العرقي والديني. أي أن تشريع القرآن يجعل الوطن للجميع بدون أقلية أو أكثرية. وإذا صودرت حقوق المواطن الإنسانية والثقافية والدينية ولم يستطع المقاومة تحتم عليه الهجرة إلى بلد آخر إذا استطاع، جاء ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)} [النساء]فالوطن الحقيقي هو البلد الذي تجد فيه رزقك وتعيش فيه بحرية وكرامة.

     أما الدولة الدينية فتقسم‏ ‏المواطنين‏ ‏إلى ‏طبقات‏: ‏أعلاهم‏ ‏الخليفة‏ ‏وبيته‏ ‏ثم‏ ‏أسرته‏ ‏وعائلته‏ ‏والقواد‏ ‏ومراكز‏ ‏القوى، ‏ثم‏ ‏أرباب‏ ‏الوظائف‏. ‏وبعدها‏ ‏عموم‏ ‏المسلمين‏ ‏بالدين‏. ‏أما‏ ‏غير‏ ‏المسلمين‏ ‏فهم‏ ‏في ‏الدرجة‏ ‏السفلى ‏كأهل‏ ‏ذمة‏، ‏وأعداء‏ ‏الدولة‏ ‏هم‏ ‏من‏ ‏يخالفونها‏ ‏في ‏المذهب‏ ‏الفكري ‏والفقهي ‏والسياسي، ‏وتعاملهم‏ ‏الدولة‏ ‏بحد‏ ‏الردة‏ ‏والحسبة‏، ‏أي ‏بالقتل‏.

4- التناقض في مصدرية السلطة:

     أصحاب مشروع الدولة الدينية يرون أن الخليفة‏‏ ‏يستمد سلطته‏ ‏من‏ ‏الله‏ ‏باعتباره‏ ‏خليفة‏ ‏الله‏ ‏وظل‏ ‏الله‏ ‏على ‏الأرض‏، ‏لذلك‏ ‏قال‏ ‏عبد‏ ‏الملك‏ ‏بن‏ ‏مروان:‏ "‏والله‏ ‏لا‏ ‏يأمرني ‏أحد‏ ‏بتقوى ‏الله‏ ‏بعد‏ ‏مقامي ‏هذا‏ ‏إلا‏ ‏ضربت‏ ‏عنقه‏" ‏وقال‏ ‏أبو‏ ‏جعفر‏ ‏المنصور:‏ "‏إنما‏ ‏أنا‏ ‏خليفة‏ ‏الله‏ ‏في ‏أرضه‏ ‏وأمينه‏ ‏على‏ ‏خلقه‏" ‏ويكون‏ ‏بذلك‏ ‏الخليفة راعيا‏ ‏والناس‏ ‏رعية‏، ‏ويكون‏ ‏مسئولا‏ ‏عنهم‏ ‏أمام‏ ‏الله‏ ‏فقط‏. ‏ويحق‏ ‏له‏ ‏أن‏ ‏يقتل‏ ‏ثلث‏ ‏الرعية‏ ‏لإصلاح‏ ‏حال‏ ‏الثلثين‏ ‏طبقا‏ ‏لفتوى ‏فقهية‏ ‏لعينة ومشهورة‏. ‏وفي ‏كل‏ ‏الأحوال‏ ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يسأل‏ ‏عما‏ ‏يفعل‏ ‏في ‏الدنيا‏. ‏ويكون‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏نموذج‏ ‏فرعون‏ ‏في ‏القرآن‏ ‏الكريم‏.‏

      أما في الدولة الإسلامية فالواقع أن الأمة‏ ‏هي مصدر‏ ‏السلطات‏ ‏أي أن الخليفة يستمد سلطته ‏من‏ ‏الناس‏ ‏والمجتمع‏ وليس من الله جل وعلا، ‏يقول‏ ‏تعالى ‏للنبي ‏حين‏ ‏كان‏ ‏حاكما:‏ {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران : 159] كما سبق وبينا ذلك.

5- التناقض في العلاقة مع الدول المجاورة:

     القاعدة العامة في الدولة الدينية‏ ‏هي ‏نشر‏ ‏الإسلام‏ ‏أو‏ بالأصح ‏المذهب‏ ‏الذي ‏تتبعه‏ ‏الدولة‏ ‏بالقوة‏ ‏تطبيقا‏ ‏للحديث‏ ‏الذي ‏اخترعوه‏: "‏أمرت‏ ‏أن‏ ‏أقاتل‏ ‏الناس‏ ‏حتى ‏يقولوا‏ ‏لا‏ ‏إله‏ ‏إلا‏ ‏الله‏.." ‏وبعد‏ ‏احتلال‏ ‏الدولة‏ ‏يتم‏ ‏فرض‏ ‏الجزية‏ ‏على ‏أهلها‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏أسلموا‏ ‏كما‏ ‏حدث‏ بعد موت النبي وفي ‏العصر‏ ‏الأموي ‏والعباسي ‏والعثماني‏.‏ والنظرة‏ ‏الأساسية‏ ‏للدول‏ ‏غير‏ ‏الإسلامية‏ ‏أو‏ ‏المخالفة‏ ‏في ‏المذهب‏ ‏أنها‏ ‏دار‏ ‏حرب‏ ‏أو‏ ‏دار‏ ‏كفر‏، ‏حتى ‏في ‏أوقات‏ ‏السلم‏، ‏إذ‏ ‏تكون‏ ‏مجرد‏ ‏هدنة‏ ‏حربية‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يقوى ‏المسلمون‏ ‏على ‏غزوها‏.‏

     أما الدولة الإسلامية فالقاعدة‏ العامة لديها ‏هي ‏السلام‏ ‏وعدم‏ ‏الاعتداء‏.‏ والحرب‏ ‏لا‏ ‏تكون‏ ‏إلا‏ ‏لرد‏ ‏الاعتداء‏ ‏بمثله، قال تعالى‏:‏ {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة : 190] .. {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة : 194] ‏وحين‏ ‏تعتدي ‏دولة‏ ‏ما‏ ‏على ‏الدولة‏ ‏الإسلامية‏ ‏وتهزمها‏ ‏الدولة‏ ‏الإسلامية‏ ‏فإن‏ ‏من‏ ‏حق‏ ‏الدولة‏ ‏الإسلامية‏ ‏أن‏ ‏تفرض‏ ‏على ‏الدولة‏ ‏المعتدية‏ ‏الجزية‏ وهي المتعارف عليها في عصرنا بـ ‏(الغرامة‏ ‏الحربية‏) قال تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة : 29] .‏

 

6- التناقض في المرجعية الفكرية والتشريعية:

‏      في الدولة الدينية وخلال‏ ‏عصر‏ ‏الخلفاء‏ ‏غير‏ ‏الراشدين‏ ‏تم‏ ‏تدوين‏ ‏التراث‏ ‏ليكون‏ ‏مرجعية‏ ‏فكرية‏ ‏للتشريع‏. ‏وبسبب‏ ‏الفجوة‏ ‏الهائلة‏ ‏بينهم‏ ‏وبين‏ ‏تشريع‏ ‏القرآن‏، ‏فإن‏ ‏ما‏ ‏يريدون‏ ‏تطبيقه‏ ‏خارج‏ ‏القرآن‏ ‏اخترعوا‏ ‏له‏ ‏أحاديث‏، ‏وما‏ ‏لا‏ ‏يعجبهم‏ ‏في ‏تشريع‏ ‏القرآن‏ ‏أبطلوا‏ ‏العمل‏ ‏به‏ ‏تحت‏ ‏دعوى ‏النسخ‏، ‏مع‏ ‏أن‏ ‏مفهوم‏ ‏النسخ‏ ‏في ‏القرآن‏ ‏وفي ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏يعني ‏الإثبات‏ ‏والتدوين‏ ‏والكتابة‏ ‏وليس‏ ‏الحذف‏ ‏والإلغاء‏.‏ أما في الدولة الإسلامية فالقرآن‏ ‏الكريم‏ ‏الذي ‏يصلح‏ ‏لكل‏ ‏زمان‏ ‏ومكان‏ ‏هو المرجعية الوحيدة، والاجتهاد‏ ‏في ‏تطبيق‏ ‏نصوصه‏، ‏والاجتهاد‏ ‏في ‏تدبره‏ ‏وفقا‏ ‏لمصطلحاته‏ ‏ومفاهيمه‏ متاح للجميع‏‏.‏

7- التناقض في الظروف التاريخية في إقامة وانهيار الدولة:

     بالنسبة للدولة الدينية فقد كانت‏ ‏الخلافة‏ ‏غير‏ ‏الرشيدة‏ ‏تعبيرا‏ ‏صادقا‏ ‏عن‏ ‏فكر‏ ‏العصور‏ ‏الوسطى ‏وتعصبها‏ ‏وتطرفها‏ ‏وتخلفها‏، ‏سواء‏ ‏في ‏أوربا‏ ‏أو‏ ‏في ‏الشرق‏ ‏الإسلامي‏. ‏ونهضت‏ ‏أوربا‏ ‏وخلعت‏ ‏عنها‏ ‏الكهنوت‏ ‏وأقامت‏ ‏الدول‏ ‏الحديثة‏ ‏تحت‏ ‏مسمى ‏العلمانية‏ ‏وفصل‏ ‏الدين‏ ‏عن‏ ‏الدولة‏. ‏وسقطت‏ ‏الخلافة‏ ‏العثمانية‏ ‏وتحولت‏ ‏تركيا‏ ‏إلى ‏العلمانية‏ ‏الأوربية‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏تعرف‏ ‏ماهية‏ ‏الدولة‏ ‏الإسلامية‏. ‏وهذا‏ ‏التطرف‏ ‏العلماني ‏في ‏تركيا‏ ‏واجهه‏ ‏تطرف‏ ‏ديني ‏سياسي ‏لدينا‏ ‏إذ‏ ‏قامت‏ ‏جمعيات‏ ‏دينية‏ ‏سلفية‏ ‏وحركية‏، ‏وكلهم‏ ‏عملوا‏ ‏في ‏الدعوة‏ ‏لإقامة‏ ‏دولة‏ ‏دينية‏ ‏على ‏مثال‏ ‏الدول‏ الأموية والعباسية‏ ‏والعثمانية‏‏. أما الدولة الإسلامية فقد أقام‏ ‏النبي ‏(عليه‏ ‏السلام‏) ‏دولته‏ ‏الإسلامية‏، ‏وحافظ‏ ‏أبو‏ ‏بكر‏ ‏وعمر‏ ‏على بعض ‏ملامحها‏، ‏ثم‏ ‏بدأت‏ ‏تتصدع‏ ‏في ‏أواخر‏ ‏خلافة‏ ‏عثمان‏، ‏وبمقتله‏ ‏ثارت‏ ‏الفتنة‏ ‏الكبرى ‏وأقيمت‏ ‏الدول‏ ‏المستبدة‏ ‏تحت‏ ‏مسمى ‏الخلافة‏ ‏الأموية‏، ‏العباسية‏، ‏الفاطمية‏، والعثمانية‏.‏

8- التناقض في احتمالات النجاح والفشل في عصرنا:

     في الدولة الدينية تنجح‏ ‏اجهزة‏ ‏الأمن‏ ‏في ‏تحجيم‏ ‏التطرف‏، ‏ولكن‏ ‏ثقافة‏ ‏التطرف‏ ‏تظل‏ ‏سارية‏ ‏برعاية‏ ‏أجهزة‏ ‏الدولة‏ ‏الأخرى ‏التي ‏تصادر‏ ‏الفكر‏ ‏الإسلامي ‏المستنير‏. ‏وإذا‏ ‏استمر‏ ‏الحال‏ ‏على ‏ما‏ ‏هو‏ ‏عليه‏ ‏فإن‏ ‏التطرف‏ ‏هو‏ ‏الذي ‏سيكسب‏ ‏في ‏النهاية‏، ‏مع‏ ‏أن‏ ‏الدولة‏ ‏الدينية‏ ‏لا‏ ‏تلائم‏ ‏عصرنا‏ ‏أو‏ ‏العصر‏ ‏القادم‏، ‏أي ‏أن‏ ‏الدولة‏ ‏الدينية‏ ‏إذا‏ ‏قامت‏ ‏فسترجع‏ ‏بالمجتمع‏ ‏إلى ‏الوراء‏ ‏كي ‏يتناسب‏ ‏مع‏ ‏تراثها‏. أما نموذج‏ ‏الدولة‏ ‏الإسلامية‏ ‏فهو‏ ‏الأمثل‏ ‏في ‏عصر‏ ‏حقوق‏ ‏الإنسان‏ ‏والليبرالية‏ ‏وايثار‏ ‏السلام‏، ‏ولكن‏ ‏الترويج‏ ‏لها‏ ‏يستلزم‏ ‏اجتهادا‏ ‏وصبرا‏ ‏ومعاناة‏ ‏واصلاحا‏ ‏دينيا‏ ‏ووعيا‏ ‏بحقائق‏ ‏الإسلام‏، ‏وإن‏ ‏لم‏ ‏يحدث‏ ‏ذلك‏ ‏فسينجح‏ ‏المتطرفون‏ ‏في ‏اقامة‏ ‏دولتهم‏.‏

 

سادساً- تطبيق مبدأ الأمة مصدر السلطات في الدولة الإسلامية:

1- الدولة الإسلامية تتفق مع الدولة العلمانية في أن الأمة أو المجتمع هو مصدر السلطات. وتختلف الدولتان عن الدولة الدينية الكهنوتية في ذلك الأمر، إلا أن الدولة الإسلامية العلمانية تختلف أيضاً مع الدولة العلمانية التقليدية في تطبيق مبدأ "الأمة مصدر السلطات" الذي يعبر عن حق المجتمع المطلق في السلطة. فالدولة العلمانية في تنفيذها هذا المبدأ تعتنق نظرية العقد الاجتماعي، وهو أن الأمة تتنازل عن جزء من سيادتها لحاكم ومجموعة من الناس لكي تحكم بالنيابة، وتنتخب الأمة مجموعة تمثلها في البرلمان وتنوب عنها في التشريع ومساءلة الحاكم، باختصار فالأمة في الدولة العلمانية لا تحكم وإنما تنيب عنها من يحكمها وتنيب عنها من يمثلها ويتحدث باسمها، وهذه نقطة الخلاف الوحيدة تقريبا بين الدولة المدنية الإسلامية والدولة المدنية العلمانية.

2- الخطاب السياسي والتشريعي في القرآن لا يتوجه إلى حاكم مسلم أو سلطة حاكمة مميزة تختص بالحكم والتشريع والتطبيق، وإنما يتوجه إلى الأمة التي تحكم فعلاً نفسها بنفسها وفق ما يسمى بالديمقراطية المباشرة، والتي يكون فيها الحاكم موظفاً بعقد وبأجر ولمدة محدودة لينفذ المطلوب منه باعتباره أجيراً وخادماً للأمة، فإذا انتهى عقده رجع إنسان عادياً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. ولكي تمارس الأمة هذا الحق المطلق لها في السلطة فإن القرآن قام بتحويل هذا الحق إلى فريضة ملزمة واجبة وقرنها بالصلاة والزكاة، وذلك في سورة "الشورى" قبل أن يقيم المسلمون لهم دولة، وسورة الشورى مكية، وفيها يقول تعالى واصفا المجتمع المسلم المدني فيقول من ضمن ملامحه: ﴿وَالّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (الشورى 38) فجاءت الشورى بين الصلاة والزكاة لتؤكد أنها فريضة كالصلاة تماماً، فإذا كانت الصلاة فرض عين فالشورى كذلك، وإذا كانت الصلاة تؤدى في المسجد فكذلك كانت الشورى، وإذا كانت الصلاة لا تصح فيها الاستنابة والتمثيل النيابي فالشورى أيضاً كذلك. كما أن الحديث عن الشورى جاء وصفاً للمجتمع القوي الذي يمسك زمام أموره بنفسه، فقال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ﴾ وكون أمرهم شورى بينهم يؤكد على اشتراكهم جميعا في مسئولية القيام بالأمر على قاعدة المساواة، بلا فرق بين غني أو فقير، رجل أو امرأة.

3- وعندما انتقل المسلمون إلى المدينة وأقاموا لهم دولة "مدنية" كانت مجالس الشورى تعقد في المسجد وينادى على الناس بأذان يقول: "الصلاة جامعة". وفي بداية الأمر تثاقل بعض الأنصار عن حضور مجالس الشورى، وبعضهم كان يعتذر للنبي قبل الحضور، وبعضهم كان يعتذر بعد الحضور وبعضهم كان يتسلل لواذاً بعد الحضور دون استئذان. وذلك التثاقل يعني أن ينفرد بالأمر قلة لا تلبث أن تحتكر السلطة، وتتعطل فريضة الشورى ويضيع حق الأمة بسبب تهاون أبنائها وتحولهم إلى "أغلبية صامتة"، من أجل ذلك نزلت الآيات الثلاث الأخيرة من سورة النور، وهي من أوائل السور المدنية: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)} [النور] .

4- نزلت الآيات تجعل حضور مجالس الشورى فريضة إيمانية تعبدية وتهدد وتحذر من يتهاون في الحضور، والتزم المسلمون بعدها في حضور مجالس الشورى، وتحدثت سورة المجادلة عن مكائد المنافقين وإشاعاتهم في تلك المجالس: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)} [المجادلة] .

5- ولأنه ليس في الدولة الاسلامية حاكم فرد ـ ديمقراطي أو استبدادي ـ ولأن المسلمين كانوا يحكمون أنفسهم بأنفسهم وفق نظام محدد أشار إليه القرآن الكريم كثيرا، فإن النبي محمدا (عليه السلام) حين مات لم يرشح بعده حاكماً بل ترك الأمة تحكم نفسها بنفسها وفق ما تعودوا عليه في عصره. وأول خروج عن تعاليم الإسلام حدث حين أقام المهاجرون أبا بكر حاكما بسبب ظروف استثنائية كانت لمواجهة هجوم المرتدين على المدينة فاحتاجوا إلى قائد حربي ما لبث أن تحول إلى حاكم فردي ديمقراطي. ثم تزايد العصيان لتشريع الإسلام بالفتوحات العربية التي حملت اسم الإسلام زورا لتعتدي على من لم يعتد على المسلمين ويحتلوا بلادهم، وأدى الوضع الجديد ـ الفتوحات ـ إلى الحروب الأهلية، والتي أدت بدورها إلى تدمير الحكم شبه الديمقراطي للخلفاء الراشدين وتحوله إلى حكم استبدادي وراثي قائم على القهر هو الحكم الأموي العسكري القبلي، وهو الذي أسلم الراية إلى الحكم العباسي الديني الذي شهد تدوين التراث للمسلمين ليبرر الدولة الدينية الكهنوتية، ويؤكد زورا انتماءها للإسلام بالأحاديث المنسوبة كذبا للنبي محمد (عليه السلام) والفتاوى التي أصدرها علماء السلطان المستبد. 

 

سابعاً- النظام القضائي في الدولة الإسلامية:

1- بعد معرفة التناقض بين دولة الإسلام المدنية الديمقراطية والدولة الدينية الكهنوتية التي عرفها المسلمون والأوربيون في العصور الوسطى، ومعرفة الاختلاف بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية في تطبيق مبدأ الأمة مصدر السلطات، نصل‏ ‏إلى ‏قضية‏ تتعلق بسيادة الدولة الإسلامية وسلطة نظامها القضائي: ‏ماذا‏ ‏لو‏ ‏رفضت‏ ‏جماعة‏ ‏في ‏الدولة‏ الإسلامية ‏الالتزام‏ ‏بالنظام‏ ‏القضائي ‏للدولة‏ ‏الإسلامية‏ ‏ورفضت‏ ‏التحاكم‏ ‏إليه؟

2- إن‏ ‏هذه‏ ‏الجماعة‏ ‏جزء‏ ‏من‏ ‏المجتمع‏، ‏ولها‏ ‏حقوقها‏ ‏في ‏المشاركة‏ ‏السياسية‏ ‏والقضائية‏، ‏طالما‏ ‏تعيش‏ ‏في ‏سلام‏ ‏مع‏ ‏المجتمع‏ ‏ولا‏ ‏ترفع‏ ‏في ‏وجهه‏ ‏السلاح‏، ‏وكان‏ ‏ذلك‏ ‏حال‏ ‏المنافقين‏ ‏الذين‏ ‏أتاح‏ ‏لهم‏ ‏تشريع‏ ‏القرآن‏ ‏حرية‏ ‏المعارضة‏ ‏بالقول‏ ‏والعمل‏ السلمي ‏الذي ‏كان‏ ‏يصل‏ أحيانا ‏إلى ‏درجة‏ ‏إيذاء‏ ‏النبي ‏نفسه‏ ‏والاستهزاء‏ ‏بالإسلام‏ ‏والقرآن‏  ‏والكيد‏ ‏للمسلمين‏، ‏وآيات‏ ‏القرآن‏ ‏حافلة‏ ‏بما‏ ‏كانوا‏ ‏يقترفون‏، ‏وكان‏ ‏الله‏ ‏تعالى ‏يأمر‏ ‏النبي ‏والمسلمين‏ ‏بالإعراض‏ ‏عنهم‏ ‏وعدم‏ ‏التعرض‏ ‏لهم‏ ‏اكتفاء‏ ‏بما‏ ‏سيحدث‏ ‏لهم‏ ‏يوم‏ ‏القيامة‏.

‏3- أما‏ ‏المنافقون‏ ‏الخارجون‏ ‏على ‏الدولة‏ ‏والذين‏ ‏يكيدون‏ ‏لها‏ ‏من‏ ‏الخارج‏ ‏ويتحالفون‏ ‏مع‏ ‏أعدائها‏ ‏ويخدعون‏ ‏الدولة‏ ‏الإسلامية‏ ‏فليس‏ ‏أمامهم‏ ‏إلا‏ ‏الانخراط‏ ‏في ‏إطار‏ ‏الدولة‏ ‏بالحياة‏ ‏في ‏أرضها‏ ‏والاستمتاع‏ ‏بحرية‏ ‏المعارضة‏ ‏السلمية‏ ‏في ‏إطارها‏،‏ وإذا‏ ‏أصروا‏ ‏على ‏البقاء‏ ‏خارج‏ ‏الدولة‏ ‏والكيد‏ ‏للمسلمين‏ ‏فلابد‏ ‏من‏ ‏حزم‏ ‏الأمر‏ ‏معهم‏ ‏والرد‏ ‏على ‏عدوانهم‏ ‏إذا‏ ‏اعتدوا‏، قال تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)} [النساء] .‏

4- ونعود‏ ‏إلى ‏المنافقين‏ ‏الذين‏ ‏يعيشون‏ ‏في ‏إطار‏ ‏الدولة‏ ‏الإسلامية‏ ‏ويمارسون‏ ‏حريتهم‏ ‏في ‏المعارضة‏ ‏بالقول‏ ‏والفعل‏. ‏ونتساءل‏، ‏هل‏ ‏تصل‏ ‏حريتهم‏ ‏في ‏المعارضة‏ ‏إلى ‏رفض‏ ‏الاحتكام‏ ‏إلى ‏النظام‏ ‏القضائي ‏للدولة؟‏ وهل من سلطة الدولة الإسلامية فرض نظامها القضائي عليهم؟

‏5- من‏ ‏المعروف‏ ‏أن‏ ‏أشد‏ ‏النظم‏ ‏ليبرالية‏ ‏وديمقراطية‏ ‏ترفض‏ ‏حق‏ ‏المواطنين‏ ‏في ‏الالتجاء‏ ‏إلى ‏قانون‏ ‏آخر‏ ‏ونظام‏ ‏قضائي ‏آخر‏، ‏ولكن‏ ‏تشريع‏ ‏القرآن‏ ‏يعطي ‏المنافقين‏ ‏الحق‏ ‏في ‏التحاكم‏ ‏لنظام‏ ‏قضائي ‏عدائي ‏للدولة‏. ‏فذلك‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏يحدث‏ ‏من‏ ‏المنافقين‏، ‏وكان‏ ‏القرآن‏ ‏ينزل‏ ‏يحتج‏ ‏على ‏ما‏ ‏يفعلون‏ ‏ويعتبره‏ ‏دليلا‏ ‏على ‏عدم‏ ‏إيمانهم‏، ‏ولكن‏ ‏يأمر‏ ‏النبي ‏بعدم‏ ‏التعرض‏ ‏لهم‏ ‏وتلك‏ ‏قمة‏ ‏الليبرالية‏ ‏وحقوق‏ ‏الإنسان‏ في دولة الإسلام.‏

 

ثامناً- أسس العلمانية الإسلامية:

1- الإنسان هو سيد هذا العالم الدنيوي:

     فالله تعالى قد خلق كل هذا العالم للإنسان، ليكون ذلك اختبارا لنا في الحياة الآخرة، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود : 7] العالم هنا يشمل السماوات والأرض وما بينهما أي الأرض بما فيها من نبات وجماد وحيوان ومادة وطاقة. وما بين السماوات والأرض يعني كل الكون المادي من كواكب ونجوم و مجرات وسدوم، تبلغ المسافات بينها بلايين السنين الضوئية. وفي نفس الوقت فإن تلك النجوم والمجرات ليست إلا زينة لما لا نعلمه وهو السماوات، قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} [الواقعة] .. {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)} [الصافات]خلق الله تعالى كل هذا الكون الحالي المرئي منه وغير المرئي لمجرد اختبار الإنسان في هذه الحياة الدنيا. وحين ينتهي الوقت المعين لهذا العالم ويأتي موعد حساب الإنسان (القيامة) يقوم الله تعالى بتدمير هذا الكون بالأرض والسماوات وما بينهما، ويخلق الله تعالى بدلا منها أرضا جديدة وسماوات جديدة خالدة لا تفنى بما فيها من جنة للفائزين ونار للخاسرين، نفهم ذلك من قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)} [إبراهيم] كل هذا الكون قد سخره الله تعالى للإنسان، وفي ذلك يقول سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)} [الجاثية] والتسخير يعني أن الله تعالى أخضع هذا الكون للإنسان ليستغله كيف شاء، وهو مسئول عن استغلاله لهذا الكون المسخر له. وموعد المساءلة هو يوم القيامة. وحرية الإنسان في هذا الكون ومسئوليته عما يفعل تعني "الأمانة" في مصطلحات القرآن الكريم، جاء ذلك في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب : 72] .

     الله جل وعلا جعل هذا الكون مسخرا للإنسان، ولكن لم يسخّر الإنسان لعبادة الخالق جل وعلا، بل ترك له الحرية في الايمان أو الكفر، في الطاعة أو العصيان، ليكون مسئولا عن إختياره بعد تدمير هذا العالم ومجيء العالم الآخر أو اليوم الآخر. وهنا تتحقق علمانية الإسلام بأن يكون (الدين) لله جل وعلا وحده يحكم فيه بين الناس ( يوم الدين ) فيما هم فيه مختلفون، والناس دائما في الدين مختلفون، وبالتحديد هم (خصوم مختلفون) يزعم كل منهم أنه على الحق في رؤيته الدينية، وفي رؤيته للخلق وللخالق، وإذن يجب تأجيل الحكم للخالق ليحكم هو وحده بين أولئك الخصوم.

2ـ لا سيد للإنسان إلا الله تعالى وحده:

     ليس في الإسلام إله إلا الله تعالى وحده، وليست هناك واسطة بين الإنسان وربه جل وعلا، نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة] . العبادات اتصال مباشر بين الخالق والمخلوق، و"التقوى" هي قمة السلوك البشري في الأخلاق والعقيدة، وهي تعني خشية الله تعالى وحده ومراعاة أوامره في السر والعلن، وحسن الصلة به عبر العمل الصالح والايمان الخالص. ولأنه ليست في الإسلام واسطة بين الله تعالى والناس فإنه ليست في الإسلام مؤسسة دينية أو دولة دينية أو رجل دين أو كهنوت. في الإسلام فقط {أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل : 43] أو {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [المجادلة : 11] وهو مجال مفتوح لكل إنسان أن يتخصص فيه حسب ذكائه واجتهاده وتحصيله العلمي، ثم إنه بأطروحاته لا يعبر عن الإسلام وإنما عن رأيه الخاص الذي يقبل النقاش والأخذ والردّ والرفض والقبول.

3ـ المساواة بين كل البشر:

     ومعنى أن يكون الإنسان عبدا للخالق وحده هو أن يتساوى البشر جميعا باعتبارهم عباد الله تعالى وحده، وليست هناك مؤسسات كهنوتية تمثل الله تعالى في الأرض وتتسلط على الناس باسم الله تعالى، بل إن عقيدة الإسلام تمنع وجود واسطة بين الناس ورب الناس، لذا فقد أكّد الله تعالى على المساواة التامة بين البشر في النشأة والانتماء، فقد خلق البشر جميعا من أب واحد وأمّ واحدة، أي هم إخوة ينتمون لنفس الأب ولنفس الأم، وقد جعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا لا ليتقاتلوا، والتعارف يعني الصداقة؛ معرفة التنوع البشري في الجنس والعنصر واللغة والثقافة واللسان والاستفادة منه في إثراء الحضارة الإنسانية. وهذا التعارف بمعنى الصداقة لا يكون إلا بالاتصال السلمي والعلاقات السلمية. وبعد المساواة بين البشر في الأصل والانتماء أكّد الله تعالى على أن أفضل البشر عنده ليس بالثروة أو الجاه أو الجمال أو الشباب أو القوة والصحة أو الذكورة أو الأبيض أو الأسود أو الأعلم أو الأذكى، بل الأفضل عند الله تعالى هو الأكثر تقوى لله تعالى، جاء ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات : 13] والتقوى تتحدّد في الآخرة يوم الحساب، وهي تأتي نتيجة عمل الصالحات والايمان الخالص الذي يدفع ابن آدم للتمسك بالقيم الإنسانية العليا.

4ـ التوازن بين الفرد والمجتمع:

     العلمانية الشيوعية تسحق الفرد لمصلحة المجموع، ويتكشف الأمر على أن المجموع ليس سوى القائد الأعلى للحزب الذي احتكر السلطة والثروة والمجتمع. العلمانية الغربية تربي الفرد على أساس الاستقلالية والأنانية وتجعل الفرد هو اللبنة الأولى في المجتمع وتبالغ في ذلك إلى درجة تفكك الرابطة الأسرية.أما العلمانية الإسلامية فتجعل الأسرة هي اللبنة الأولى للمجتمع ولذلك فان التفصيلات القرآنية لم تأت إلا فيما يخص الأسرة حتى تتأسس في جو صحي، وحتى ينشأ في ظلها أفراد أصحّاء. ومع ذلك فإن القرآن الكريم يوازن بين الفرد والمجتمع، فطبقا للقرآن الكريم فالإنسان يولد فردا ويموت فردا ويأتي يوم القيامة للقاء ربه فردا لا ينفعه ولا يضره يوم الحساب إلا عمله إن كان صالحا أو فاسدا، وفي كل الأحوال فإنه إن عمل صالحا فلنفسه وإن أساء فعلى نفسه ولن ينفع الآخرين يوم القيامة، كما أنه ليس مسئولا عن أوزار غيره، فليس له إلا ما سعى أثناء حياته، وفي ذلك يقول سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ (94)} [الأنعام] .. {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)} [مريم] .. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت] .. {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (15)} [الإسراء] .. {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)} [فاطر] .. {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم] .

     ولكن هذا الإنسان الفرد مطالب في الإسلام بالعمل الصالح النافع للمجتمع، وأن يكون متقيا لله تعالى بمعنى أن يكون مخلصا في عقيدته لله تعالى وأن يكون فاعلا بالخير للناس، إيجابيا كريما رحيما، وأن يكون آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر ليس بمعنى التسلط ولكن بالنصيحة، وبالتالي لا بد أن يكون هو قدوة للآخرين وإلا كان من الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، نفهم ذلك من قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} [البقرة] وكان من الذين يقولون ما لا يفعلون وتلك خطيئة تستوجب مقت الله تعالى، وفي ذلك يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف] وبالتالي فالفرد مع مسئوليته الشخصية أمام الله تعالى فإن من ضمن مسئوليته أن يكون عنصر خير في المحيط الذي يعيش فيه بدءا من أسرته وزوجته وأولاده ووالديه وأقاربه وجيرانه ومحيط عمله إلى المستوى الأعم الذي يشمل كل المجتمع والإنسانية.

5ـ عدم استغلال الدين في السياسة والمطامع الدنيوية:

     المتقون هم أفضل الخلق عند الله تعالى، ولكن لا يصح للمؤمن أن يصف نفسه بالتقوى، لأن تزكية النفس بالتقوى معصية لله تعالى، وفي ذلك يقول سبحانه: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} [النجم] ومعرفة من هو المتقي لن تكون إلا لله تعالى يوم القيامة والحساب، حين يساق الذين كفروا إلى جهنم زمرا، ويساق الذين اتقوا إلى الجنة زمرا، جاء ذلك في قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} [الزمر] .

     وحتى يأتي ذلك اليوم فلا مجال لأحد أن يزايد على الناس بالتقوى، أو أن يتظاهر بالتقوى ليخدع الناس متخذا عهدا الله تعالى وسيلة للوصول للتحكم السياسي أو أي متاع دنيوي زائل، وفي ذلك يقول سبحانه: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)} [النحل] .. {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(80)} [آل عمران] .

6ـ حرية البشر المطلقة في العقيدة والايمان والكفر:

    القرآن الكريم كله كتاب في الهداية، وحوالي الف آية من آياته تؤكد بطريق مباشر أو غير مباشر حرية الإنسان المطلقة في عقيدته ومسئوليته أمام الله تعالى فقط يوم الدين على ما اختاره من عقيدة وسلوك. ويلفت النظر تركيز آيات القرآن على العذاب ونعيم الجنة تأسيسا على تقرير مسئولية الإنسان بعد اعطائه الحرية الكاملة في الرفض والقبول. ليست في الإسلام عقوبة جنائية فيما يخص حقوق الله تعالى، وهي الايمان به وحده وتقديسه وحده وعبادته وحده. إنما العقوبة فقط فيما يخص حقوق البشر والمجتمع، فمثلا فإن من انتهك حقوق الآخر فإنه يعاقب عما ارتكبه. إلا أنه إذا سب الله تعالى فليست عليه مؤاخذة عقابية في الدنيا، فقط علينا الإعراض عنه أي تركه ويكفي ما سيصير إليه حاله في الآخرة إذا لم يتب.

7ـ الدولة الإسلامية دولة علمانية:

     لأنها دولة الديمقراطية المباشرة التي تقوم على رعاية حقوق الإنسان والموازنة بين الحرية والعدل، والموازنة بين الفردية والتفاعل مع المجتمع، وتكفل للمواطن حقوق المواطنة بالعدل المطلق بغض النظر عن عقيدته ودينه. هي دولة الدين لله والوطن للجميع: بمعنى حرية التدين المطلقة بدون تدخل من أحد ليكون كل فرد مسئولا عن اختياره أمام الله تعالى وحده يوم الدين، وحتى لا يجد الإنسان حجة أمام الله تعالى بالاضطهاد أو مصادرة الحرية. وهي دولة الوطن فيها للجميع على حد سواء وفق عدل الله تعالى المطلق. وهي دولة يكون (الآخر) فيها ليس المختلف في الجنس أو العقيدة أو المذهب أو اللغة أو الفقير، بل (الآخر) فيها هو المجرم الإرهابي الخارج عن القانون إلى أن يتوب ويعطي حق المجتمع. وهي دولة لا تكره ولا تمقت ذلك (الآخر) المجرم المعتدي، وإنما تسعى لإصلاحه وتهذيبه، تكره فعله وإجرامه دون أن تبغضه هو لشخصه. بل إن عملها على إصلاحه يعني حرصا عليه وحبا فيه باعتباره إنسانا قبل كل شيء, ولذلك فإنها تعطيه فرصة أخرى ليتوب، وبالتوبة ترتفع عنه العقوبة، فكل العقوبات في الشريعة الإسلامية تسقط بالتوبة أمام عين المجتمع.

8ـ الشريعة الإسلامية العلمانية تعطي المجال الأكبر للتشريع البشري:

     تشريعات القرآن الكريم محدودة لا تتجاوز مائتي آية، بكل التفصيلات والتكرار في أوامرها وقواعدها ومقاصدها. تفصيلاتها تحتكم إلى العرف أو المعروف في التطبيق. وتأتي أحيانا قواعد عامة بدون تفصيلات تحتكم للعرف في وضع تفصيلات قانونية ومذكرات تفسيرية للتطبيق. وفي جميع الأحوال فإن القيم العليا هي الغاية التشريعية أو المقصد التشريعي لتفصيلات التشريع القرآني وقواعده. وكل قانون يراعي القيم العليا فهو قانون إسلامي في أي زمان ومكان، لأن غاية التشريع الإسلامي ومقاصده هي التيسير والتخفيف ورفع الحرج وحفظ حقوق العباد.

9ـ الشريعة الإسلامية العلمانية مجالها محدود في الزام الفرد وفي عقابه:

     لأن تطبيق الشريعة الإسلامية تقوم به الدولة الإسلامية ذات الحكم الديمقراطي المباشر فإن الأفراد هم الذين يحكمون أنفسهم بأنفسهم، وما يسمى بالحاكم ليس سوى خادم للمجتمع بعقد معين، وهو مسئول أمام المجتمع الذي يملك عزله ومحاكمته ومكافأته. ومن هنا فإن الفرد شريك في السلطة وفيما يصدر عنها من تشريعات، وهو أولى الناس بالالتزام بما يشارك في اصداره من قوانين تحمي حقوق الأفراد وتحفظ حق المجتمع. ومع ذلك فإن الدولة لا سلطة لها في علاقة المواطن بربه فيما يخص العبادات والعقائد، وليس لها سلطة الالزام في شيء سوى الجانب العقابي الذي يحفظ حقوق الفرد في الحياة وفي السمعة والعرض والمال والكرامة.

     وحتى في الجانب العقابي فإن العقوبات ـ أو الحدود ـ تسقط بالتوبة التي تعني الاعتراف بالذنب والتعهد بالكف عنه، ورد الحقوق لأصحابها، نفهم ذلك من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)} [البقرة] .. {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) ... وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)} [المائدة] .. {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [النور] .. {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)} [الفرقان] .

10ـ الايمان باليوم الآخر هو الفارق الأساسي بين العلمانية الإسلامية والعلمانية الغربية:

     في كل الجوانب الأخلاقية والتشريعية المأمور بها الفرد المسلم فإن خلفها الايمان باليوم الآخر الذي سيكون فيه الإنسان مسئولا ومحاسبا أمام الله تعالى. وهذا هو معنى التقوى الذي يجعل المسلم ـ الحق ـ يخشى الله قبل أن يخشى الناس، ويجعله يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه ربه، ويجعله حتى في سريرته قبل علانيته يتحسب لما يفعل. وبهذه العقيدة الحية في اليوم الآخر الذي لا مكان فيه لشفاعة بشر فإن تطبيق الشريعة الإسلامية الحقة يخضع أولا وأخيرا لضمير المسلم المؤمن لأنه حريص على رضى الله تعالى ويخشى إغضابه جل وعلا. وبينما تؤمن العلمانية الغربية بالضبطية القضائية ويكون فيها المتهم بريئا إلى أن تثبت إدانته، وبغض النظرعن دول المسلمين الاستبدادية حيث يكون فيها البريء متهما إلى أن تثبت بالتلفيق إدانته، فإن المسلم الذي يتقي ربه ويعمل لليوم الآخر يهتم بضبط نفسه وكبح جماحها في السر والعلن.

 

أخيراً:

1- هذا هو الإسلام القرآني العلماني الذي طبّقه خاتم النبيين محمد (عليه وعليهم السلام) وكان تطبيقه مخالفا للسائد في العصور الوسطى. ولذلك ما لبث أن عاد منطق العصور الوسطى، وطغى على هذه الدولة الإسلامية العلمانية، وأقام مكانها نظم حكم ديكتاتورية ثيوقراطية على النسق السائد في أوربا وقتها، وأنسى مبادئها القرآنية في طوفان أكاذيب التراث والأحاديث والسند والعنعنة والخلافات الفقهية والكلامية الفلسفية. وأصبح مثيرا للدهشة أن نكتشف الآن ـ بعد خمسة عشر قرنا من الزمان ـ أن الشورى الإسلامية هي الديمقراطية المباشرة وأن الإسلام دين علماني.!!

2- أن الدولة الإسلامية ليست يوتوبيا خيالية، بل قد أمكن تأسيسها من لا شيء في عصر خاتم النبيين وصمدت بعدها، وكان نتيجة انهيارها فتنة الكبرى وحروباً طوالاً، لا تزال إلى يومنا هذا. وبرغم التحريف التشريعي بإرساء قواعد تشريعية للدولة الدينية في العصر العباسي، فإن حقائق القرآن المنزه عن التحريف لا تزال تحتفظ بأسس الدولة الإسلامية وتناقضها مع الدولة الدينية التي عرفها المسلمون والغرب على السواء.

3ـ خيار الدولة المدنية العلمانية الديمقراطية الحقوقية يستلزم إصلاحا تشريعيا وتعليميا واقتصاديا وسياسيا، وقبل ذلك يستلزم إصلاحا دينيا يؤكد فصل الدين عن العمل السياسي، مع التأكيد على حرية الدين وحرية الفكر والإعلام والابداع للجميع. البديل لهذا الإصلاح هو المزيد من التدهور الذي يدفع باتجاه الإفلاس الاقتصادي والجوع والحروب الأهلية، والمسلمون ليس لديهم الآن ترف التأجيل والتمهل والتردد. وطالما يتحدد الطريق فلا بد من المُضي فيه سريعا وبحزم .. السلفيون (سنة وشيعة) يعيشون على نكبات الأوطان والإصلاح الحقيقي هو الكفيل بالقضاء سلميا على خطرهم، ومهما كانت قسوة الكلمة فهي لا تجرح ولا تُسيل دما. أما بقاء ثقافة السلف بلا مناقشة من داخل الإسلام فهو الكفيل بدخول باقي بلدان المسلمين إلى حمامات دم يهون إلى جانبها ما يحدث في سوريا والعراق واليمن.

4- "الاسلام هو الحل" شعار يرفعه السلفيون لخداع الناس واتخاذ الإسلام مطية يصلون بها للسلطة. ونحن نقول "الإسلام هو الحل" فعلا في تعرية السلفيين وإثبات عدائهم للإسلام الذي يتمسحون به. فالسلفيون ثقافة دينية تنتمي للعصور الوسطى المظلمة بتعصبها وتطرفها واستبدادها، وهم أكبر من أن يكونوا مجرد تنظيمات ومليشيات سرية وعلنية. أي أننا لا يمكن أن نواجههم إلا بثقافة إسلامية مستنيرة من داخل الإسلام. ومن حسن الحظ أن الإسلام يناقضهم على طول الخط عقيديا وتشريعيا وسلوكيا وأخلاقيا وثقافيا.

5- أن الدولة العلمانية الحديثة هي الأقرب للدولة الإسلامية، ولكن أقرب النظم الحديثة للدولة الإسلامية هو نظام الديمقراطية المباشرة في الاتحاد السويسري. وإذا كانت الدولة الإسلامية في عصر خاتم النبيين قد سقطت لأنها كانت ضد المناخ السائد في العصور الوسطى فإن مبادئها تتسق مع المناخ السائد في عصرنا، وهي فعلا موجودة على أرض الواقع في الاتحاد السويسري، وبصورة أقل في الديمقراطيات الغربية النيابية التمثيلية. 

اجمالي القراءات 10248