الأكثر إنجازاً هم الأكثر اضطهاداً في الوطن العربي

سعد الدين ابراهيم في الجمعة ٢٣ - مارس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

من المفارقات الجديرة بالتأمل هي أن أقباط مصر خصوصاً، ومسيحيوا الشرق عموماً، كانوا طلائع النهضة العربية الحديثة، منذ بدأت، قبل قرنين ـ أي في أعقاب الحملة الفرنسية، ومع عهد محمد على الكبير. وكلاهما كانت له بصمات بارزة على مصر والشام معاً (أو المشرق، الذي شمل وقتها فلسطين وسوريا ولبنان والأردن والعراق).



فرغم أن التأثير كان شاملاً لجميع سكان وشعوب المنطقة الممتدة من الفرات إلى النيل، بمسلميها ومسيحيها ويهودها، إلا أن غير المسلمين كانوا الأسبق استفادة من رياح التغيير التي هبت مع مقدم نابليون وحكم محمد علي، فقد أذنت رياح التغيير هذه بانكسار جدران التفرقة الدينية، التي كرّسها نظام "الملل"، العثماني، الذي كان تطويراً لنظام "أهل الذمة"، الذي ساد في القرون الإسلامية الأولى (من السابع إلى الرابع عشر). أن مفهومي "أهل الذمة" أو "الملة"، يعطي لغير المسلمين حقوق الحماية والرعاية وحرية ممارسة عباداتهم وشعائرهم، مقابل أداء "الجزية". ولم يكن غير المسلمين، بهذا المعنى يتمتعون بكامل حقوق المسلمين، الذين اعتبروا أنفسهم "أغلبية غازية"، فتحت بلاد غير المسلمين بالسيف. وبالتالي برروا سيادتهم عليهم. وربما كان هذا شائعاً ومقبولاً، في العصور الوسطى، حيث كان الدين هو المحدد الأساسي، لا فقط لعضوية الهيئة الاجتماعية (المجتمع)، ولكن أيضاً "التراتبية"، أي الموقع الرأسي في الهرم الاجتماعي. وطبيعي، أنه بمجرد أخذ مصر، وبعدها بلدان الشرق العربي بمفهوم "المواطنة"، أي المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات بدون تمييز على أساس الدين، فإن غير المسلمين، بدأوا يتركون الأحياء السكنية، التي كانوا يتركزون فيها ـ مثل حارة النصارى، وحارة اليهود، وحارة الأرمن، ويختلطون في سكنهم ومعاشهم مع الأغلبية من المسلمين. وبدأ أطفالهم يذهبون إلى نفس المدارس، وشبابهم يؤدي واجب الجندية، أسوة بالمسلمين، وكذلك لأول مرة، منذ الفتح العربي الإسلامي (أي قبل اثنى عشر قرناً)، تقلد كبارهم الوظائف العامة، بما في ذلك منصب رئيس الوزراء، مثل نوبار باشا (الأرمني الأصل)، وبطرس غالي، ويوسف وهبه، مصر، وفارس الخوري، كأول رئيس وزراء سوري قبل الاستقلال، في أربعينات القرن الماضي. هذا فضلاً عن أن معظم أبناء أقباط مصر ومسيحيوا الشرق في المجرى الرئيسي للحياة العامة، سياسياً واقتصادياً وثقافياً. فساهموا في السينما. ونبغ منهم الأطباء والعلماء والمهندسون والمحامون وأساتذة الجامعات. ويؤكد المؤرخون أن العصر الليبرالي، الذي بدأ من أوائل القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، هو العهد الذهبي للأقباط وكل الأقليات في مصر والعالم العربي.



بل وكان نفس ذلك العصر الليبرالي هو العهد الذهبي للنساء في مصر. فمنذ كتب قاسم أمين كتابه "تحرير المرأة" (1892)، بدأ نساء مصر يسعين على تبوأ مكانتهم المتكافأة مع الرجال. وكانت ثورة 1919 نقطة فارقة في هذه المسيرة. فقد خرجت طلائع النساء، أسوة بالرجال، لمواجهة جنود الاحتلال البريطاني، ويطالبن بالاستقلال وسقطت منهن الشهيدات، اللائي كان أولهن شفيقة بنت محمد في حي المنيرة بالقاهرة، في 24 مارس 1919. وقادت هدى شعراوي حركة نسائية نشطة، حصلت للنساء المصريات عن حقوقهن في التعليم، والسفور وتقلد المناصب العامة، لكن هذه الحركة النسائية الواعدة، جرى "تأميمها" مع ثورة يوليو 1952. فرغم تعاطف عامة الضباط الشباب الذين قادوا الثورة، إلا أنهم، ربما بسبب خلفيتهم العسكرية، لم يطبقوا معظم مبادئ حركتهم. انطبق ذلك على الحركة النسائية، كما على الحركة العمالية، كما على الحركة الطلابية، وعلى النقابات المهنية، الجمعيات والأحزاب. وكان لسان حال ضباط حركة يوليو يقول "ظلوا في منازلكم، ومصانعكم ومدارسكم، ونحن سنقوم بالواجب نيابة عنكم". وبالفعل أدت ثورة يوليو خدمات جليلة لكل هذه الفئات، ولكن مقابل ثمن اجتماعي ومعنوي باهظ، ألا وهو سلب كل هذه الفئات الاستقلالية والحركة والمبادرة.



وهكذا منذ يوليو، 1952، ودّعت النساء المصريات والأقباط المصريون العصر الليبرالي الذي أينعوا فيه، من خلال أرباح، ومكاسب متراكمة. وأدخلوا عصراً جديداً، مما كانت أدق تسمية له، هو العصر "الشعبوي"، حيث رفع العسكريون الجدد شعارات شعبية جذابة لكل الفئات، مقابل ألا يتحركوا أو يتكلموا إلا بأوامر السلطة وتعليماتها. أي أن المبادرة، أو المشاركة التي صنعت العصر الليبرالي (1800-1952) استبدلها الامتثال والطاعة والتعبئة، في العصر الشعبوي (1952-2000) الذي هيمن عليه العسكريون.



والجدير بالذكر أن خطى الأقباط والنساء قد تحركا معاً، صعوداً، وجموداً، وهبوطاً، طوال القرنين الأخيرين ـ لا فقط في مواجهة سلطة الدولة، ولكن أيضاً في مواجهة القوى الاجتماعية المحافظة والرجعية. ومن المفارقات أن هذه الأخيرة كان تشددها وافتئاتها على حقوق النساء والأقباط بنفس الضراوة التي مارستها السلطة الرسمية. ولا أصدق على ذلك من الانتخابات التشريعية في العقود الخمسة الأخيرة. فالنظام الشعبوي المسيطر على جهاز الدولة اختلق لنفسه تنظيم سياسي، أقرب إلى نظام الحزب الواحد. وقد سماه حينا "بالاتحاد القومي"، وحيناً تالياً "بالاتحاد الاشتراكي" وأخيراً سماه "بالحزب الوطني الديمقراطي". وتزامنت هذه التسمية الأخيرة مع الأخذ من جديد بنظام تعدد الأحزاب، أواخر سبعينات القرن الماضي. ولكن التنظيم السياسي، تحت أي مسمى، عزف غالباً عن ترشيح الأقباط والنساء لعضوية المجالس الشعبية المنتخبة. وكان ذلك نموذجاً صارخاً لتعصب السلطة. ولكن حتى في المرات الاستثنائية التي قام فيها حزب السلطة (أي ما يدعى أنه حزب الأغلبية) لقلة من النساء والأقباط، كما حدث مثلاً في الانتخابات الأخيرة، عام 2005، فإن الجماهير تخذل هؤلاء المرشحين والمرشحات. لم يتم إلا ترشيح أربعة أقباط، نجح منهم واحد فقط، وهو يوسف بطرس غالي (وزير المالية)، وترشيح ست نساء، لم ينجح منهن إلا اثنين، بينهم الوزيرة السابقة آمال عثمان، أي أننا هنا بصدد ظاهرة تنطوي على الازدواج والتقصير أو التجاهل الرسمي لحزب السلطة، مع التعصب الشعبي ضد النساء والأقباط. ويبدو أن الأمرين وجهين لنفس العملة، حيث من الصعب معرفة أيهما السبب وأيهما النتيجة.



من ذلك أننا لو قارنا هذا المشهد البائس عام 2005 بمثيله قبل ستين عاماً، مع أول انتخابات برلمانية في أعقاب دستور 1923. رغم أن نسبة الأمية كانت ضعف مثيلتها، ولم تكن هناك وسائل إعلام جماهيرية على نفس النطاق أو المستوى، إلا أن حزب الوفد كان يرشح عشرات الأقباط لمقاعد البرلمان في كل أنحاء مصر، من ذلك دوائر لا يوجد فيها ناخبون أقباط، ومع ذلك كانوا يفوزون بامتياز. ولم يقل عدد النواب الأقباط في البرلمانات المصرية المنتخبة قبل عام 1952، عن خمسة عشر في المائة، رغم أن نسبة الأقباط من عموم السكان لم تكن تتجاوز عشرة في المائة. أي أن الأقباط كانوا ممثلين بأكثر مما كانوا يتوقعون. وحقيقة الأمر أنه في ذلك العهد الليبرالي، لم يكن الأمر الديني أو الطائفي مطروحاً أو مُلحاً في ذلك الوقت. فقد كانت "المواطنة" والانتماء السياسي يجبان "الديانة" والانتماء الطائفي. ولكن تغيرت الأمور وتبدلت الأحوال إلى ما هو أدنى وأسوأ. وربما كان لنمو الحركات الدينية المتشددة، أو ما يسمى "بالإسلام السياسي" دور في هذا التدهور.



ومع ذلك فإن هذا الكاتب على يقين أنه باستعادة الأجواء الليبرالية وتكريس الحركات العامة، سيعود المجتمع المصري، ومعه بقية الوطن العربي، إلى سيرته الليبرالية الأولى.



وعلى الله قصد السبيل.



 

اجمالي القراءات 13669