الفصل الخامس: تحقيق النظرية الخلدونية فى الدولة السعودية الأولى (1158-1233 /1745 –1818 )
فى الدعاية : رسائل ابن عبد الوهاب كانت إعلانا بالحرب

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ١٣ - أكتوبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

فى الدعاية : رسائل ابن عبد الوهاب كانت إعلانا بالحرب

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الخامس: تحقيق النظرية الخلدونية فى الدولة السعودية الأولى (1158-1233 /1745 1818 )  

فى الدعاية :   رسائل ابن عبد الوهاب كانت إعلانا بالحرب

  1 ـ  كانت إقامة الشرع السنى الحنبلى أساس التحالف بين الشيخ والأمير ،وأساس الخلافة أو الإمامة أو الملك الذي يتحرى الشرع وفق ما قرره إبن خلدون .إلا أن ذلك لم يكن مجرد كلمات أو تصريحات سياسية ،وإنما كان سياسة ثابتة للدولة الوليدة في تعاملها مع الداخل والخارج .وعلى أساس هذه السياسة ثار الضجيج حولها داخل أو خارج الجزيرة العربية .

2 ـ إن ابن عبدالوهاب لم يأت بجديد في تقعيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وهو لم يكن مجتهدا يأتى بالجديد ، بل هو أعاد للصدارة الفكر الحنبلى التيمى ، أو قام بتلخيصه فى رسائله ، وكان تلخيصه فى تلك الرسائل أقل جودة من الأصل الذى تأثر به ، وهو رسائل ابن تيميه . ولقد راعى مكانة ( الأمير ) فى موضوع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر،  مثل قوله في الرفق في الأمر والنهي (إن بعض أهل الدين ينكر منكرا وهو مصيب ،لكن يخطئ في تغليظ الأمور إلى شئ يوجب الفرقة بين الإخوان ،وأهل العلم يقولون الذي يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر يحتاج إلى ثلاث :أن يعرف ما يأمر به وينهي عنه ،ويكون رفيقا فيما يأمر به وينهي عنه ،صابرا على ما جاء من الأذى)وكقوله في نصح الأمير (إذا صدر المنكر من الأمير أو غيره ينصح برفق خفية .مايعلم أحد .فإن وافق وإلا أرسل له رجلا يقبل منه خفية ،فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهرا )[17]. 

ولكن تطبيقه للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى تعامله مع الآخر كان يعنى الحرب والفتح والغزو .

إلا أن عبقرية الشيخ ابن عبد الوهاب تبدو من فهمه لواقع المسلمين من حوله . كانوا فى غيابات الجهل الصوفى والشيعى فى تقديس القبور والاعتقاد فى خرافات الكرامات . وهذا التردى الصوفى الشيعى الواقعى يقوده شيوخ فى حضيض الجهل ، ومن السهل الانتصار عليهم بمقولات ابن تيمية . ولقد كانت لابن عبد الوهاب  تجربته فى مناظرتهم وتفوق عليهم فاضطهدوه .

وبتحالفه مع ابن سعود فى تطبيق الجهاد السلفى على أرض الواقع ــ  الرافض لفكر الشيخ ودعوته ــ    إستحدث آليه للتطبيق يمكن تلمس ملامحها فى اسلوبه فى الدعاية بإرسال الرسائل التى كانت بمثابة إعلان للحرب وتسويغ للإحتلال والفتح .  

3 ـ وهنا نلمس بعض التشابه والتأثر في أسلوب إبن تيميه في إرسال الرسائل والفتاوي ،غير أن إبن عبد الوهاب تميز بالدأب في كتابة الرسائل وفي المبادرة بتزويد الحجاج بها ليقوموا بتوصيلها إلى أوطانهم ،  مستغلا سلطته فى الدولة السعودية ، وهذا لم يكن مُتاحا لابن تيمية الذى عانى الاضطهاد فى دعوته .  ومن هنا وصلت رسائل ابن عبد الوهاب إلى كل من يعنيه الأمر، وأحدثت حركة في المياة الراكدة ،وأحيت الدعوة السنية الحنبلية التيميه ، وبعثتها من مرقدها مُعززة بالأحاديث السنية وسيرة ابن هشام وابن اسحاق والتى لا مجال للإعتراض عليها.

4 ــ  وحققت بهذا مكاسب ، منها : مواجهة الدعاية المضادة للوهابيين والتعتيم على وحشية الوهابيين فى الغزو وتسويغ وتشريع وتبرير إحتلالهم لبلاد الآخرين ، وإكتساب أنصار خارج الجزيرة العربية ،كان منهم المؤرخ المصري الجبرتي الذي تتبع تاريخ الحركة الوهابية وصراعها مع الوالي التركي محمد علي باشا وأعلن مناصرته لها ودفاعه عنها ،مما سبب العداء بينه وبين الوالي .

أثر الدعاية الوهابية فى المؤرخ المصرى : الجبرتى

1 ــ في دفاعه عن ابن عبد الوهاب يقول المؤرخ المصرى الشهير الجبرتى في أحداث شهر ربيع الثاني سنة 1222 أن (أخبار الوهابي إضطربت بحسب الأغراض )أي تم تشويهها لحساب بعض الجهات ،ويقول أن الوهابي وزع كراسة يرد فيها على إتهامات المخالفين له ،أي أنه يخاطب الرأي المعاصر الإسلامي والعربي بعيدا عن السلطات العثمانية وأعوانها ،وهي بذلك أول محاولة لمخاطبة الرأي العام العربي بالكلمة المكتوبة في العصر الحديث . وأول منشور مكتوب على نطاق العالم العربي لشرح أهداف حركة دينية سياسية ،والعجيب أن تأتي من ( ظُلمات ) " نجد " لتخاطب الحواضر العربية فيما بين الخليج الي المغرب .

2 ــ وفي احداث 16 صفر سنة 1218 يكتب الجبرتي عن الوهابي الذي أصبح حديث القاهرة ،وينقلالجبرتي نص رسالة كاملة بعث بها الشيخ ابن عبد الوهاب مع شيخ ركب الحجاج المغربي ،وفيها يقول الشيخ ابن عبد الوهاب : (ولهذا قال غير واحد من العلماء يجب هدم القباب المبنية على القبور لأنها أسست على معصية الرسول (ص) فهذا هو الذي أوجب الإختلاف بيننا وبين الناس حتي آل بهم الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتي نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم ،وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعدما نقيم عليهم الحجة ) إلى أن يقول (وندعوا الناس  إلي إقامة الصلوات في الجماعات على الوجه المشروع وإيتاء الزكاة وصيام شهر رىضان وحج البيت الحرام ونأمر بالمعروف وننهي عن المنكر ،كما قال تعالي (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ).

وبعد أن نقل الجبرتي هذا المنشور الوهابي بحذافيره قال عنه معجبا : (أقول إن كان كذلك فهذا ما ندين الله به نحن أيضا ،وهو خلاصة لباب التوحيد،وما علينا من المارقين والمتعصبين ،وقد بسط الكلام في ذلك إبن القيم في كتابه إغاثة اللهفان والحافظ ابن حجر والمقريزي في تجريد التوحيد ..الخ ).

3 ــ وكان الجبرتي أمينا مع نفسه فيما كتبه من قبل عن الوهابية وحركتها ،لم يكن قرأ من قبل ذلك رسائل الشيخ إبن عبد الوهاب لذا أكتفي بنقل ما يشاع في القاهرة عن الشيخ والدولة السعودية ،إذ يقول في حوادث الإثنين أول محرم سنة 1217 (ترادفت الأخبار بأمر عبد الوهاب وظهور شأنه من مدة ثلاث سنوات من ناحية نجد ،  ودخل في عقيدته قبائل من العرب كثيرة ،وبث دعاته في أقاليم الأرض ، ويزعم أنه يدعو إلى كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله ، ويأمر بترك البدع التي إرتكبها الناس ومشوا عليها إلى غير ذلك .) . أي أنه في ذلك الخبر القصير عن الوهابية والسعودية يلخص الجبرتي طبيعة الدعوة والدولة ، ويشير إلى أن الشيخ بث دعاته في أقاليم الأرض . ولعل ذلك ما دفع الجبرتي إلى الحصول على منشور من المنشورات التي أرسلها الشيخ ، فلما قرأه تغيرت لهجته عن الدعوة ودولتها فلم يعد يقول (دخل في عقيدته )أو (يزعم ) ، وإنما أصبح مدافعا عنها  ضد الباشا العثماني ( محمد على ) نفسه .والتزم بهذا الموقف مدافعا إلى نهاية كتابه .

4 ــ ونجاح هذه المنشورات الوهابية في كسب الجبرتي إلى جانبها يدل على عبقرية الشيخ في إختيار آلية مناسبة للدعوة الوهابية يؤثر بها على النخبة المثقفة من العلماء والشيوخ .

5 ــ على أن عبقرية ابن عبد الوهاب لا تتجلى فقط فى إستشهاده فى منشوراته ورسائله بالأحاديث والسيرة النبوية وتمسكه بالثوابت السنية المتفق عليها ، وإنما فى إتهامه  ( كذبا ) للآخرين بأنهم الذين بدأوه بالقتال بسبب دعوته التى لاغُبار عليها ، يقول : (حتي آل بهم الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتي نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم . ) على أنه سريعا يعود الى مشروعية قتاله وغزوه لمن يرفض دعوته ، فيقول : ( وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعدما نقيم عليهم الحجة  ). أى إن إقامة الحُجّة بارسال تلك المنشورات هى بمثابة إعلان الحرب . يرسل لهم المنشور فإن أذعنوا ودخلوا فى طاعته كفّ عنهم ، وإن رفضوا قاتلهم .

أى سار على ( السُّنّة ) التى ابتكرها أبوبكر فى الفتوحات ، أى تخيير البلاد بين واحد من ثلاث : الاسلام أو الجزية ، وإلّا فالحرب . ليس هذا تخييرا ، بل هو إكراه فى الدين وإرغام لأى بلد يحترم إستقلاله إما أن يرضى بذل الاحتلال ( والاستعمار ) وإما أن يدخل حربا ليس مستعدا لها ، ولكن تم فرضها عليه من جيش قادم للإعتداء يقف على حدود هذه الدولة يفرض عليها شروطه إما أن تدخل دينه أو تدفع له جزية ، وإلا يقاتلها ويحتلها  .

 لم يفعل هذا خاتم النبيين عليه السلام ، إكتفى فى أواخر عمره بارسال رسائل للدعوة لمجرد التبليغ ، ولم يدخل فى حرب هجومية ابدا ، بل كان يقاتل دفاعا فقط ملتزما بقول الله جل وعلا : (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)  البقرة ) (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9) الممتحنة  ).

ابن عبد الوهاب قام بتطبيق الشرع السنى فى جهاده السُّنّى ، والذى إستمد مشروعيته من الفتوحات العربية ، تلك الفتوحات التى تناقض الاسلام ، والتى كانت أكبر ردة عن الاسلام ، ومنها نبتت الأديان الأرضية للمحمديين ، من السّنة الى التشيع الى التصوف السّنّى . وكانت الوهابية هى الأكثر تعبيرا عن هذه الفتوحات العربية وما نتج عنها من الفتنة الكبرى والحروب الأهلية ، خصوصا وأن أعراب ( نجد ) كانوا جُند الفتوحات وأساس الفتنة الكبرى ، ثم بعدها بإثنى عشر قرنا أتى أحفاد الأعراب السابقين فى نفس المنطقة ( نجد) فكرروا نفس القصة فى نجد تحت دعوة دينية هى الوهابية. وهذا ما أشار اليه ابن خلدون   من قبل . 

اجمالي القراءات 8534