إما أن تعبد الله وحده وإما أن يستعبدك هواك
القدرة على الاستغناء

آحمد صبحي منصور في السبت ١٥ - أغسطس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

النفس البشرية بين التزكية والتطهر وبين الهوى والتطرف

1 ــ البشر صنفان : صنف يزكى نفسه بالايمان الحق والعمل الصالح والخلق السامى ، يتقى الله جل وعلا بحيث يبتعد عن المعاصى وبحيث إذا قام بعمل صالح يشعر أنه لم يقم به كما يجب ، وتخوف أنه ربما لا يقبله الله تعالى منه ، يقول جل وعلا فى صفات  المتقين ( إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ) ( المؤمنون  57 :  ). الصنف الآخر هو الذى يعبد هواه، ويتبع هوى نفسه ، يرتكب الشر ، ثم يبرره ، ثم يتطرف ويتحول التبرير للشر الى تشريع بالاباحة ، ويتطرف أكثر فيتحول تشريع الشر من مباح الى  فرض واجب . السرقة حرام ، ولكن العاصى يسرق ثم يجد لنفسه تبريرا ، ثم يستحل السرقة، ويضع لها تشريعا يُجيزها دينيا بالكذب على الله جل وعلا .

2 ــ وقع فى هذا  بعض أهل الكتاب الذين إستحلوا أموال العرب ( الأميين ) ، ولأنها قضية خطيرة تتكرر، فقد ذكرها رب العزة وردّ عليها ، يقول جل وعلا  : (  وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) آل عمران ). ونفس الحال فى بعض السنيين فى الغرب يستحلون السرقة والاختلاس من البلاد التى إستضافتهم ، ويبررون ذلك بفتاوى آثمة .

3 ــ ثم تكون الكارثة حين يتحول الاستحلال الى الفرض الواجب ، بما يسمى بالجهاد الذى يقتل الناس عشوائيا فى الشوارع ووسائل المواصلات والمساجد ودور العبادة . ومنه ما كان يقترفه الجاهليون من الفسق ويزعمون أن الله جل وعلا أمرهم بهذا ، وأن هذا هو ماوجدوا عليه السلف ( الصالح ) ولأنها قضية خطيرة تتكرر، فقد ذكرها رب العزة وردّ عليها ، يقول جل وعلا  فى التعقيب على قصة آدم بعد أن خدعه الشيطان : ( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)  (29)  الاعراف )

4 ــ  هذا الصنف يتحول الهوى لديه الى تشريع فى دين أرضى ، يجعل إجرامه جهادا وقربة لله جل وعلا ، وهذا الصنف قد إحتنكه الشيطان وسيطر عليه وطبع قلبه على كراهية الخير و حب السوء  وزين له سوء عمله وأراه إياه حسنا . عندها لا مجال معه لنصح أو وعظ ، يقول جل وعلا (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) ( فاطر 8 ).

النفس اللوامة والنفس الأمارة بالسوء

1 ـ نقطة الفصل هنا أن من يتزكى هو سيد نفسه ويتمتع بنفس لوامة، أما الآخر فهو عبد نفسه ، وهو عبد لهواه ، وبالتالى فهو عبد للشيطان  .وهو عبد لنفسه الأمارة بالسوء .

2 ــ هذا يدخل بنا الى لمحة عن (علم النفس فى القرآن الكريم )أى معنى كلمة نفس وتوابعها ، وهو موضوع شائك ، نأخذ  منه ما يناسب موضوعنا هنا . فطبقا للقرآن الحكيم هناك درجات للنفس البشرية التى تحتل الجسد الانسانى و تسيطر عليه طالما ظل حيا يسعى . الذى يتزكى تتكون لديه ما يعرف بالأنا الأعلى ، وهى التى تتحكم فيما دونها من درجات النفس ، وتقوم بالسيطرة على الغرائز و الشهوات وتضبط إيقاعها وفق التشريع الالهى ، ولا تجعل لأهواء النفس مجالا . هنا نعيد قراءة قوله تعالى (  وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا  ) ( الشمس 7 : 10 ) فالذى أفلح فى إختبار الحياة الدنيا هو الذى يتخذ قرارا وينفذه بتزكية نفسه ، وهو الذى ينهى نفسه عن الهوى خشية لله جل وعلا وأملا فى دخول جنته ، ويوم القيامة سيكون البشر قسمين : قسم طغى وآثر الحياة الدنيا ومصيره جهنم :(  فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ) ( النازعات 37 : 39 )، وقسم إتقى وسعى سعيه للآخرة وهو مؤمن ونهى نفسه عن إتباع الهوى ، ومآله الى الجنة : (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) ( النازعات 40 : 41) .

الحرية الانسانية بين النفس المؤمنة والنفس التى يحكمها الهوى

1 ــ الحرية الحقيقية أن تسيطر على نفسك و تتحكم فيها وتمتلك زمامها ، وهذه الحرية الحقيقية تجعل صاحبها أقوى إنسان فى العالم ـ فطالما لا يخشى إلا الله وحده فلن يخشى مخلوقا . هذا المؤمن الحرّ الذى تحرر من عبادة الشهوات وتحكم الغرائز يمتاز بالقدرة على الاستغناء ، بينما الآخر لا يستطيع الاستغناء عن الكماليات وما فوق الكماليات من أمور الترف ، وتهلك نفسه جزعا عند أى مصيبة ، وينهار هلعا لو حدثت له كارثة ، ويتحرق طمعا لو رأى من يتميز عنه فى حطام الدنيا و يثور كمدا لو طولب بالتبرع وعمل الصالحات ، وليس هناك أروع من قوله جل وعلا عن الانسان الذى لم يقم بتزكية نفسه :(إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ) أما إذا زكى نفسه بالأعمال الصالحة والايمان الحق فقد نجا من تلك الصفات فى الدنيا ونجح فى إختبار الآخرة ، يقول جل وعلا يستثنى من تزكى: (إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ) ( المعارج 19 :   )

2 ـ فى السجن هناك من يبيع نفسه بسيجاره لأنه أصبح عبدا للسيجارة ، وفى خارج السجن المعروف هناك سجن اكبر يدور بين جنباته صاحب الهوى الذى يتحكم فيه هواه ، يسير خلف شهواته وأطماعه ، كلما حقق شيئا منها زهدته نفسه وتطلع لغيره ، لا يرضى ولا يشبع ولا يقنع ، وإذا تعرض لكارثة إنهار ، وإذا خاف من كارثة أسرع بالتسليم ، فى سطوته يكون متجبرا عنيدا وفى محنته يكون متذللا رعديدا . مثله كمن يشرب من ماء المحيط المالح ، كلما شرب إزداد عطشا الى أن ينفجر ويموت ، وحتى يموت لا يكون حُرا بل مجرد عبد لهواه ولشيطانه ، ثم إذا مات فما أغنى عنه ماله وما كسب .

3 ــ الأمر فى يد الانسان . له حرية الاختيار . له أن يختار أن يكون عبدا لهواه وتفكيره ( الرغبى ) الذى يبرر ويشرع له ما يرغبه وما يهواه ، وله ايضا أن يختار أن يسيطر على نفسه وغرائزه ، ويعلّم نفسه القدرة على الاستغناء ، بحيث يستسهل أن يستغنى عن أى شىء يتمناه ويرغبه إذا كان هذا الشىء يخالف تقواه ، أو يمسُّ إحترامه لنفسه . وهو حين يفعل ذلك فهو يعرف أن الله جل وعلا قد ضمن له الرزق ، وأن أجله مُحدّد سلفا ، لا يستطيع أحد أن يميته قبل موعد موته أو أن يدفع عنه الموت إذا حل به فى موعده ، ولا يستطيع أحد أن يمنع مصيبة له بالخير أو الشر لأنه لايصيبه إلا ما كتب الله له ، ولا يستطيع أحد أن يمنع عنه رزقا قدره له المولى جل وعلا . طالما يتنفس فهو متمتع بالحياة وله أن يتمتع بحريته لو سيطر على نفسه .

4 ـ ومع وضوح الأمر فى أن للإنسان حرية إختيار معروفة لا شك فيها تجد فارقا بين الثقافة الغربية العلمانية الحُرة وبين الثقافة السائدة لدى العرب والمحمديين عموما . الشخص الغربى يقول : إنها إختياراته وقد إختار ويتحمل مسئولية هذا الاختيار . يتردد هذا فى الحديث العادى وحتى فى الحوار الدرامى . أما المحمديون فينسبون خطأهم وإجرامهم الى القضاء الالهى ( ربنا عايز كده ) ( دى إراة ربنا ) أو بالمفهوم الصوفى ( وحدة الفاعل ) أى إن كل الأفعال البشرية يفعلها الله جل وعلا ـ تعالى عن ذلك علوا كبيرا . أو بالمفهوم السُّنّى فالارهاب بالقتل جهاد والاغتصاب سبى ، والسلب والنهب غنائم ..لذا فهناك أمل فى إصلاح الغرب العلمانى ، ولا يخلو الغرب العلمانى من ملامح إيجابية ، أما المحمديون فلا أمل فيهم ولا خير فيهم ، طالما تتحكم فيهم أديانهم الأرضية ، (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) ابراهيم   ) .

وعن مصيرهم يوم القيامة يقول جل وعلا : (   وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ (45) ابراهيم )

 ودائما : صدق الله العظيم .

اجمالي القراءات 12204