التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية : البذاءة

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٢٩ - مايو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

 الفصل السادس : التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية :  البذاءة  

  الإسلام دين الإحسان فى القول والعمل : ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) البقرة 83") والمسلم لايكتفى بالإعراض عن البذاءة بل يعرض عن أصحابها ، يقول لهم ( سلاما ) : (  وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً )  الفرقان ) 63")(  وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (  القصص 55) . وفى إعطاء الصدقة لا يقبلها رب العزة جل وعلا حين يصاحبها منُّ وأذى قولى : ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّاً وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِوَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)  البقرة ).

أما التصوف فله شأن آخر . هو البذاءة .

بين التصوف والبذاءة :

 1 ـ بدأ  التصوف بالبذاءة مع الله تعالى فيما عرف بالشطح أو إعلان الصوفى عقيدته فى الله افتراء على الله وجرأة عليه ، وبغض النظر عن الشطح ــ وهو من لوازم التصوف ــ فإن أهون مظاهر التصوف فيها إساءة لله تعالى، من ذلك ادعاؤهم أن الله تعالى اختارهم وحدهم من دون البشر جميعا لولايته وحكَمهم فى ملكه وفضلهم على ذاته بدون أى مبرر ، فكأنهم وصفوا الله تعالى بالظلم والضعف والجهل، تعالى الله عما يصفون عُلُوّا كبيرا .وأى صوفى معاصر إذا دافع عن افتراءات الصوفية فقد أوقع نفسه فى اتهام الله تعالى وسبه، ولذلك أمر القرآن بعدم جدال المشركين لأنهم فى دفاعهم عن عقيدتهم الضالة يقعون فى سب الله تعالى دون أن يدروا، يقول  سبحانه وتعالى : ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (108) الأنعام108".).

2 ـ وبعد سب الله تعالى بالشطح أجترأ الصوفية على البذاءة فى حق الناس، بدأوا بالدين والعقيدة وانتهوا بالسلوك ، والشيخ نصر المجذوب ت922 " كان يشتم السلطان  فمن دونه ويحتمله الناس"[1]. ويشتم من كلَمه ويستر حاله"[2].

  بل كانت الجرأة على السلطان دليلا على الولاية حتى لو كان صاحبها غير مستحق  لها فى عرف الناس، والجرأة هنا مقصود بها البذاءة، أو الشطح فى حق السلطات وفى حوادث سنة 854" اشتهر عبد أسود بالولاية، وذلك لأنه عارض الإستادار وأفحش فى خطابه ، ولم يستطع الإستادار مسكه فتحاكى العوام عنه مايدل عندهم على الصلاح على أنحاء مختلفة ، وفشا أمره جدا"[3].

وقبيل العصر المملوكى إشتهر بعض محققى التصوف بالبذاءة . فالشيخ الفخر الصفدى ( ت 622 ) نزيل مصر كان شيخا مشهورا بعلمه بمقالات التصوف ، ويقول عنه المؤرخ ابن أيبك الصفدى ( وله تصانيف فى الطريقة . وكان بذىء اللسان كثير الوقيعة فى الناس ) ( الوافى بالوفيات 2 / 9 ) .

  3 ـ وبدأت البذاءة ببداية التصوف تحت اسم عدم الاحتشام وترك التكلف يقول الجنيد : ( صحبت أربع طبقات كل طبقة ثلاثون رجلا.. فما تآخى اثنان فى الله واحتشم أحدهما من صاحبه . ) .

 وجعل الغزالى من حق الصحبة : (  التخفيف وترك التكلف والتكليف ).  ويقول : (  وتمام التخفيف طى بساط التكليف حتى لا يُستحى منه فيما لايستحى من نفسه ، وقال بعض الصوفية لاتعاشر من الناس إلا من لاتزيد عنه ببر ولاتنقص عنه بإثم ، يكون ذلك لك وعليك وأنت عنده سواء، وقال بعضهم: كن مع أبناء الدنيا بالأدب ومع أبناء الآخرة بالعلم ، ومع العارفين كيف شئت ) "[4].

 4 ـ والصوفية كانوا فى بداية الأمر من أصحاب الحرف وأبناء الطبقات الشعبية التى يختلط لديها مفهوم الصراحة بالبذاءة، وأغلبيتهم كانوا أميين لم يلتزموا بفلسفة الغزالى التى تخفف من مفهوم البذاءة، لذا كان لأوباش الصوفية منذ بدأ التصوف فلاسفتهم الذين توسعوا فى مفهوم البذاءة ضمن ماتوسعوا فيه فى كل ما تهواه نفوسهم.  وكان من الطبيعى أن ينقم مثقفو الصوفية على أولئك الأوباش صراحتهم واستعمالهم مصطلحات شأن الكبار والتوسع فيها ، يقول الواسطى فيهم : (  نقضوا أركان التصوف وهدموا سبيلها وغيروا معانيها بأسامى أحدثوها، سموا الطمع زيادة وسوء الأدب أخلاصا . ) ، أى أصبحت البذاءة أخلاصا، يقول الواسطى : (  جعلوا سوء أدبهم إخلاصا وشره نفوسهم انبساطا ) [5].

البذاءة فى رسوم التصوف ومؤسساته الدينية:

1 ــ وحين انتشر التصوف فى العصر المملوكى وتكاثرت طوائفهم ، وكان من بينها طائفة القلندرية وكان من رسومهم مايعبر عن البذاءة وهى : (  طرح التقيد بآداب المجالسات والمخاطبات ) "[6].

2 ــ  وحين أقيمت لهم فى العصر المملوكى المؤسسات الصوفية أصبح من طقوسهم الدينية استقبال الضيف ـ لا بالإكرام ـ ولكن بالشتم والسب والإهانة ، وبعد موشح الإساءة للضيف يأمرونه عند إرادة دخول الرباط  : ( أن يقف على الباب ثم يخرج إليه من فى الرباط فيوذونه بالشتم، ويقلون الأدب عليه ، ويخرقون حرمته ، ويكسرون الإبريق الذى معه ، ويفعلون ذلك به مرة بعد أخرى حتى ييأسون من غضبه، ويعللون ذلك بأن يقفوا على حسن خلقه وحمله للأذى، ثم يخرج إليه الخادم فيأخذ السجادة عن كتفه وهو ساكت لايسلم أحدهما على الآخر ويدخل الخادم والوارد يتبعه . ).

3 ــ  وداخل المؤسسة الصوفية كانوا يتشاتمون ، وانتقل ذلك منهم للناس كالعدوى ، وما أسهل وما أسرع إنتشار الفساد القولى والفعلى . ، يقول ابن الحاج عن بذاءتهم مع بعضهم : (  وقد جاوزوا الحد فى ذلك، يشتم بعضهم بعضا دون أجنبى بينهم يكفهم . ولو نبههم أحد على ماهم فيه من شدة القبح المجمع على منعه ، فمنهم من يسخر منه ويقول : "إن هذا بسط لا حقيقة ". وكل هذا سببه السريان من الخاصة إلى العامة . ). ويقول عن عادة شتمهم الضيف: ( إن ذلك سرى إلى عامة المسلمين لتعلقهم بالمتصوفة واعتقاهم فيهم فاقتدوا بهم... فنجد كثيرا من الناس فى هذا الزمان يقعد الرجل والأولاد، كل واحد منهم يشتم صاحبه ويشتمون الأباء والأجداد ، ويلعنون أنفسهم والوالدان ينظران إليهم.!! )"[7]

4 ــ  ومن الطبيعى بعدها أن تكون المؤسسات الصوفية معاهد للبذاءة ونشرها بين الناس، يقول السخاوى فى ترجمة أحد صوفية الخانقاه البيبرسيه : (  كان مسرفا على نفسه ، مجاهرا بالمعاصى . شاهدته مرة وهو غائب العقل يسىء الأدب على شيخنا بحضرته مرة بعد أخرى ، فما وسعه إلا أن قام من المجلس ، وتركه. )"[8].اى ظل هذا الصوفى يسيء الأدب على ( ابن حجر العسقلانى ) شيخ السخاوى حتى إضطر ابن حجر لترك المجلس .

 وبعض مؤسسى الخوانق حاول أن يسمو بمستوى خانقاته ؛ فجمال الدين الاستادار جعل من شروط السكنى فى خانقاته : ألا يكون الصوفى معروفا بالسلاطة والإفتراء على الناس "[9].

ومن الصعب العثور على هذا الصنف من الصوفية طالما أن دينهم قائم على ارضاء هوى الأنفس فى كل ماتريد.لذا كان الشرط مُخففا ، ألا يكون معروفا بالبذاءة . أى يكون متصفا بها ولكن ليس مشهورا بها .

شيوخ البذاءة

1 ــ  وبعض الصوفية تعرض للمساءلة بسبب بذاءته ، مثل أبى الخير  الذى استقبل أحد الأشراف بقوله: ( أهلا بالكلب ابن الكلب ، وكرر ذلك ثلاثا ).! ولكونه شريفا حسب تقاليد العصر فقد ادعى الشريف عليه[10]

2 ــ ونفى الشيخ ابن العطار أحد أعيان الصوفية فى الشيخونية بسبب بذاءته فى حق الأشياخ[11].          3 ــ وحتى فى الوعظ كان بعض الصوفية لايستطيع التحكم فى لسانه مثل الشيخ الجعبرى الذى كان " يشتم فى الوعظ "[12].

 4 ــ  وفى خصومة الصوفية مع الفقهاء كان السب أهم أسلحتهم فى الجدال.

يقول ابن تيمية عن خصومه الصوفية فى القرن الثامن : (  انقلبوا فينا بالسب القبيح والشتم . ) "[13].

ويقول البقاعى  عن خصومه بعدها فى القرن التاسع : (  فعُلم من تركهم الكتابة على شدة الخصومة والمشاورة والانتقال إلى الفحش أن المراد أن يغلبوا بالباطل . )"[14].

5 ــ وفى المجادلات فيما بينهم كان اللسان ينزع دائما للبذاءة حتى أن الشعرانى عد من المنن إقامته": ( العذر باطنا للإخوان إذا أخرجوا أخلاقهم الرديئة على بعضهم ، فكان لا يبادر  لعتاب أحد منهم " إذا خرج فى سوء  الخلق عن الحد ) "[15]. يعنى مقبول منهم سوء الأدب العادى أما إذا تطور وزاد عن الحدّ ، فالشعرانى أيضا يجد لهم العذر .

 6 ــ  ويذكر أبو المحاسن أن الولى الصوفى محمد السنارى ت 855 " أفحش فى الجواب للوالى حين أراد أخذ بعض أتباعه بسبب تهمة" [16].

القضاة والبذاءة :

1 ــ  وامتد وباء البذاءة للقضاة وهم صوفية بالدين وأعداء الفقهاء المنكرين على الصوفية.

2 ــ والسخاوى يذكر فى ترجمة الشيخ عبدالباسط بن النقرى أنه كان يصرح بالإنكار على بذاءة الفقهاء ولكن يحكى عنه السخاوى حكايتين تمتلئان  بالسب القبيح .  أما القاضى عبدالبر بن الشحنة وهو شيخ الحديث والتصوف فى الشيخونية وقاضى قضاة الحنفية ، فقد قال عنه السخاوى : (  لم يضبط لسانه من الوقيعة فى الأكابر ولم يسلم من آذاه أحد ) "[17].

ويقول أبوالمحاسن فى ترجمة " الإمام المحقق الفقه " المحلى الشافعى ىت 864  ( وكان فى طباعه حدة مع عدم التكلف، بحيث أن كان من لايعرفه يظنه من جملة العوام ) [18].

3 ــ وقاضى القضاة السفطى ت 854 كان نموذجا حيا لتأثر القضاة بالتصوف يقول عنه أبوالمحاسن " : ( كان ذا أوراد هائلة وصلاة وخشوع وصوم وعبادة ، مع بذاءة لسان وفُحش فى لفظه. )  فذلك القاضى الصوفى لم ير تعارضا بين أوراده وصلاته وبين بذاءته وفحشه .

وفى موضع آخر يتحدث عنه أبو المحاسن فيقول معبرا عن ذلك التناقض فى شخصية قاضى القضاة السفطى : ( أظهرفى ولايته من شراسة الخلق وحدة المزاج والبطش وبذاءة اللسان أمور يستقبح ذكرها، هذا مع التعبد والاجتهاد فى العبادة ليلا ونهارا من تلاوة القرآن وقيام الليل والتعفف عن المنكرات والفروج حتى أنه كان فى شهر رمضان يختتم القرآن الكريم كل ليلة فى ركعتين، أما سجوده وتضرعه فكان إليه المنتهى، وكانت له أوراد هائلة دوما فكان بمجرد فراغه من ورده يعود إلى تسليطه على خلق الله وعباده ) [19]. فذلك القاضى صريع التصوف جعل من أوراده وعبادته طريقا للغلو فى الظلم والبذاءة على الخلق.

 4 ــ وفي خصومات القضاة ومناقشاتهم كان الأمر يتطور سريعا إلى الفحش والسب العنيف حتى لو كان في حضرة السلطان.. ويذكر المقريزي في حوادث سنة 821 أنه حدث تنافس بين القاضيين الهروى والديري أمام السلطان" ( وخرجا عن الحد حتى تسابا سبابا قبيحاً بحضرة السلطان. )(  وقد اجتمع من طوائف الناس خلق كثير يقول المقريزي: (  فكان هذا مما لايليق. ). " وفي مجلس آخر بحضرة السلطان أيضا تسابا وعدّد الديري مساوئ الهروى وأنه كان من أتباع تيمور لنك وحجر عليه وعلى الفتوى، ونفذ القاضيان الآخران حكمه في الهروى يقول المقريزي: (  فكان مجلسا غاية في القبح . )"[20].

5 ــ ويذكر الصيرفي في حوادث سنة 821 أيضاً ما وقع من الاستادار وناظر الخاص من كلام فاحش أمام السلطان المؤيد شيخ ، يقول الصيرفي : ( وانفتح القاضي – ناظر الخاص – على فخر الدين – الاستادار- ورماه بأمور عظيمة ولم يلتفت السلطان إلى ذلك، وأصلح بينهما . ).

وفي حوادث 822  تشاجر الوزير والاستادار: ( وافحشا الكلام ، وآخر ذا أخلع عليهما السلطان ، وألزمهما بحمل مائة ألف دينار. )"[21].   

 ويذكر العينى في حوادث 822 ( أفحش كل من الهروى وابن المغلى في حق بعضهما". ) ، و ( "أفحش الديري في حق الهروى . )"[22] .

6 ــ وكلمة ( أفحش فلان ) ومرادفاتها تتكرر كثيرا فى التاريخ الملوكى وحولياته التاريخية .

وفي قراءة سريعة لبعض صفحات من كتاب ( إنباء الغمر ..)  لابن حجر نرى الآتى :

( وفيه تشاجر الوزير والاستادار وتفاحشا". ) (  وتقاول القاضيان الشافعى والحنفى حتى تسابا وأفحش الديري في أمر الهروى. ) ، ( وتحامى كثير من النواب الركوب مع الهروى خوفا من البلقينى ومما يقاسونه من السب الصريح من أتباعه. ) ، (  وحضر السلطان في خاصته في الجامع بباب زويلة واجتمع عنده القضاة فتنافس كل من القاضيين الهروى والديري ، وخرجا عن الحد في السباب والفحش في القول ثم سكن السلطان ما بينهما فسكنا . ) ، (  وعظم الشر بين فخر الدين الاستادار وبدر الدين بن نصر الله وتفاحشا بحضرة السلطان . ) ، ( وفي مجلس السلطان واجه الشيخ ابن المغربي صدر الدين العجمى بأنه يتمنى ورث السلطان ويدعو عليه ، وتفاحشا في القول . ) ، ( وعقد مجلس بسبب زيادة الجوامك لمدرسي المنصورية ، وقام في ذلك القمنى ، وحصل بينه وبين المحتسب كلام سيئ ، وتساقطا ً ، فقام السلطان وتركهم . ) [23]  ".

 وفي تاريخ ابن إياس يكثر قوله " أفحش فلان " كما لو كان الكلام المتداول بين خواص الناس كله فحشاً، ويقول في حوادث سنة 912 أنه وقع تشاجر بين قاضى القضاة الشافعى ابن النقيب والحنفى عبد البر بن أبى الشحنة : ( حتى خرجوا في ذلك عن الحد . )" ( وأمر هذه الواقعة اشتهر بين الناس. ) " ( وعندما ذهب لتهنئة السلطان بالشهر "ربيع أول" أصلح بينهما )[24].

 وفي حوادث 922 ": ( وقع بين القاضيين الشهاب الرملى والقارئ بسبب إمامة الجامع الأموى كلمات قبيحة لاتصدر من مثلهما ولا من أقل منهما يؤدى أمرها إلى شئ عظيم حتى بقى جماعات من الترك ( المماليك ) وغيرهم يستهزئون بأهل الشرع . فلما كثر ذلك عزلهما موليهما ) "[25]. . هذا ما يذكره ابن طولون عن قضاة دمشق.

المماليك :

1 ــ  ومن الطبيعي أن يمتد الأمر للمماليك وقد امتاز برسباى عن غيره من السلاطين بعفة لسانه، يقول فيه أبو المحاسن: ( كان برسباى يعيب على المؤيد – شيخ – سفه لسانه.  أما الأشرف – برسباى – فإنه كان لايسفه على أحد من مماليك ولاخدمه..فكان أعظم ما شتم به أحداً أن يقول له حمار، وكان ذلك في الغالب مزحاً.  ولقد داومت خدمته من أوائل سلطنته إلى أن مات فما سمعته أفحش في سب واحد بعينه كائن من كان. )".

وفي نفس الوقت يصف أبو المحاسن الكثيرين من الأمراء المماليك بالفحش والبذاءة ، ومنهم الأمير تمر باى ت 853 الذى وصفه بحدة الخلق وبذاءة اللسان.

وذكر أن ابن العطار ت853 خدم عند الزيني عبد الباسط ناظر الجيش "( فملأه سباً وتوبيخاً عند مباشرته إلى أن ملَ ذلك وترك التوقيع") .  

أما الأمير سيف الدين ايتمش فقد وصفه أبو المحاسن بكثرة الكلام فيما لا يعنيه ومخاطبة الرجل بما يكره وتوبيخ الشخص بما فيه من المعايب بلا عداوة بينهما مع البادرة والجرأة والإفحاش في اللفظ"[26] .

2 ــ وامتدت البذاءة إلى نساء المماليك . ويذكر المقدسي أنه لما مات السعيد ناصر الدين بركة ت678 "خرجت الخواندات حاسرات ، واسمعن المنصور قلاوون الكلام القبيح من سب وغيره وهو لا يتكلم"[27].

العوام :

1 ــ  وتوارث المصريون حتى الآن من التصوف بذاءته ، فالعوام يحتفظون بالآثار السيئة ويحافظون عليها، وفي إحدى موجات الغلاء في القرن التاسع اجتمع جمهور من العامة": ( من داخل باب زويلة إلى تحت القلعة ، وأكثروا من الاستغاثة والصياح والشنعة مع السب واللعن والتهديد والتصريح بالعيب الذي له من مزيد ، من غير إفصاح بمراد ولا إيضاح شيئ مستقر في الفؤاد، لكثرة غوغائهم ولغطهم ودعائهم إلى أن اجتاز بهم المحتسب .. فأخذوه بتلك الألسنة وأوسعوه من الإساءة المعلنة ولم يتحاشوا عن القذف بالتصريح والإيماء..إلى أن طلع القلعة بعد أن ملأ من السوء سمعه) "[28].  

2 ــ والمثل الشعبي يشير إلى الأصل الصوفي الذي تعتمد عليه البذاءة عند المصريين وهو: ( البساط أحمدى") ، ويضرب في طرح التكليف والإحتشام بين الحاضرين"[29].

3 ــ وفي العصر العثمانى يصور كلوت بك ذلك الملمح  في الحياة الإجتماعية المصرية يقول : (  تثور المنازعات بأسباب تافهة ، وتتبادل فيها ألفاظ السب والشتم واللعنات ، ويتراشق الفريقان بالمخازى والمعاير ، فيتبادر للذهن أن الشجار لسوف يفضي إلى أوخم العواقب ، إلا أنه قلما ينقلب الشجار بين المصريين من التنابذ بالقول إلى التضارب بالأيدي، بل أنه سرعان ما تهدأ النفوس وتسكن ثورة الغضب فيها بعد تنازل أحد الخصمين عن حقه بقوله للآخر: الحق علىّ .. وقد يتعانقان  تعانق الوئام والوداد". ) أى أن الشجار في معظمه سباب وبذاءة لا حد لها دون تضارب.

4 ــ  ويقول كلوت بك عن معجم السباب عند المصريين ": ( ومعجم الشتائم عندهم غني بكثرة الألفاظ ، ومنها ما يندى الجبين خجلاً.. وهم يتظاهرون أحيانا بالبصق على الذين يشتمونهم لأن البصق في نظرهم أبلغ فى الإهانة والتحقير"[30].

وفي العصر الحديث يقول أحمد أمين: ( معجم المصريين في السباب معجم وافٍ ذو ألفاظ متعددة ، وكلما مضى زمن زيدت هذه الألفاظ ، وكثيراً ما يستعملون في السباب أسماء  بعض الحيوانات كالخنزير والكلب والحمار، وربما كان أشنع السباب عندهم السباب بالدين كابن النصرانى وابن اليهودى ويا كافر. ) [31].

5 ــ وأقول أن "سب الدين" انتشر حتى لم يعد عيباً . ومع سب الدين انتشر سب الأم في كرامتها وشرفها بألفاظ واضحة مكشوفة .

والمفجع في الأمر أن سب الدين أو سب الأم لا يستعمل دائماً عند الغضب ، بل تعدى إلى مناسبات الفرح والمداعبة بل والإعجاب ..

وهذا يذكرنا بمدح الشعرانى لأشياخه بأنهم أصحاب شطح عظيم..

وهكذا عندما يسود الفساد لا يصبح عيباً..بل قد يكون مسوغاً للمدح والإعجاب ..



[1]
ـ الغزى . الكواكب ج1/311.

[2] ـ أخبار القرن العاشر 185.

[3] ـالتبر المسبوك،30.

[4] ـاحياء ج2/166.

[5] ـ الرسالة القشيرية 50، 41.

[6] ـ خطط المقريزى 3، 430، 431.

[7] ـ المدخل ج2/198.

[8] ـ التبر المسبوك 227.

[9] ـ وثيقة وقف خانقاه ، جمال الاستادار.

[10] ـ التبر المسبوك 315، 316، 90.

[11] ـ الطبقات الكبرى للمناوى 258، 259.

[12] ـالطبقات الكبرى للمناوى 258، 259.

[13] ـ تكسير الأحجار : 155.

[14] ـ تاريخ البقاعى 9ب .

[15] ـ لطائف المنن 348.

[16] ـ النجوم الزاهرة جـ16/5.

[17] ـ الضوء اللامع جـ14/31: 32، 34.

[18] ـ النجوم الزاهرة جـ16/5،209

[19] ـ حوادث الدهور جـ1/ 157، النجوم الزاهرة ج15/557.

[20] - السوك جـ4 / 1 / 471 ، 479 : 480 .

[21] - نزهة النفوس جـ2/ 428 : 429 ، 446 .

[22] -  عقد الجمان حوادث 821 ، 822 لوحة 469 ، 480 .

[23] - إنباء الغمر جـ3 / 165 ، 190 ، 192 ، 174 ، 214 ، 217 .

[24] - تاريخ ابن اياس ج4 / 95 ، 96 .

[25] - تاريخ ابن طولون ج2/ 10: 11 .

[26] - النجوم الزاهرة ج15/ 109 ،543 ،545 ، 499 .

[27] - تاريخ المقدسي 40 .

[28] - السخاوى. التبر المسبوك 260 .

[29] -  تيمور .الأمثال الشعبية 140 ،141 .

[30] - لمحة عامة إلى مصر : ج1 /556 ،597 : 598 .

[31] - قاموس العادات والتقاليد 227 . 

اجمالي القراءات 6811