تجميع المقالات فى كتاب واحد
كتاب الابتلاء

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٢٨ - أبريل - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب الابتلاء

مقدمة كتاب ( الابتلاء )

كان مقالا فأصبح كتابا ..

كالعادة : سؤال يرد لى فأبحث عن الاجابة فى القرآن الكريم ، وأكتب مقالا ، فتتكشف لى حقائق قرآنية جديدة ، فيتحول المقال الى مقالات ، ثم ينتهى الأمر بكتاب . جاءنى سؤال من قرأنى تعرض لابتلاء ، فكتبت مقالا فى حتمية ابتلاء المؤمنين ، وتشعب الموضوع ليصبح هذا الكتاب .

بعد خمسين عاما من معايشة القرآن ؛ كلما إزددت منه علما إزداد إحساسى بأنى لا ازال تلميذا على ساحل التدبر فى آياته .

سبحان من أنزله نورا وهدى : (قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) المائدة  ) 

ودائما : صدق الله العظيم

الفهرس

 

 

 الفصل الأول : أهمية الابتلاء

 ( إبتلاءات المؤمنين )

هذه رسالة أحببت أن أجيب عليها فى هذا المقال :

(.. لماذا تنهال علىّ كل هذه المصايب من الناس ؟ أنا انسان فى حالى ، واعتبر نفسى مسلم وأصلى واصوم وملتزم . وطبعا غير معصوم ربما اعمل اشياء وحشة لكن أنا أحسن من غيرى .. كفاية ان انا قرآنى لا أؤمن بالأحاديث و الأديان الأرضية ، ولم أعد أعتقد فى الشفاعة وقد قمت بالحج للمرة الثانية فلم أضيع حجتى بزيارة قبر النبى فى المدينة . ولم يعد عذاب القبر يخيفنى بعد أن عرفت من موقعكم أهل القرآن انه خرافة ، وانتهى من عقلى تقديس البخارى بعد أن قرأت كتابك ( القرآن وكفى ) ، وتعلمت ان الاسلام هو السلام مع الناس وهو  طاعة الله جل وعلا . كنت من قبل إذا قيل حديث للرسول أهتف بالصلاة والسلام عليه معتقدا أنه يسمعنى وسيشفع لى بينما لو قيل ( الله ) فلا يهتز لى جفن ، الآن إذا ذُكر إسم الله أقول سبحان الله وأصبح تسبيح الله جل وعلا على لسانى ، وإقتنعت بأن شهادة الاسلام هى ( لا إله إلا الله ) وأنها تتضمن الايمان بكل الرسل بلا تفريق بينهم . ولا أطيل عليك يا استاذ .ولكن منذ أن عرفت الحق واسترحت اليه والمصائب والبلاوى تتوالى على . كنت قد أرسلت لك رسالة سابقة عن معاناتى مع الذين أكلمهم عن البخارى وأدعوهم الى التمسك بالقرآن وكفى .ورديت علىّ تنصحنى بعدم الجدال معهم وأن أتفقه فى الاسلام بمتابعة ما تكتبه وتنشره . وأفعل ذلك ، ولكن أحتاج الى جواب من حضرتك : لماذ تتوالى علىّ المصائب والابتلاءات من يوم ما عرفت الدين الصحيح ؟ لماذا أصبحتُ مكروها ؟ لماذا تأثرت تجارتى وتخلى عن أقرب الأقارب وأخلص الأصدقاء ؟ لماذا حلّ بى المرض وأصابنى الإكتئاب ؟ هل هذا كما يقولون  غضب من الله لأنى فى نظرهم كافر وعدو للرسول . أنا لا أصدق هذا . بس محتاج الاجابة منك .وأرجو أن لا تهمل رسالتى لأن نفسيتى فعلا تعبانة . )

وأقول

أولا :

1 ـ فى سياق الردّ على أتباع الأحاديث الشيطانية الضالة المُضلة والذين لا يؤمنون بتمام القرآن والاكتفاء به وحده  يقول جل وعلا  لخاتم النبيين: (  وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) الانعام ). فى آية قرآنية واحدة ذكر رب العزة أن النبى نفسه لو أطاع اكثر من فى الأرض سيضلونه عن سبيل الله ، وأنهم يتبعون أديانا تقوم على ( الظن ) والكذب على الله جل وعلا أى ( يخرصون ). هنا أربع حقائق : أكثرية البشر مضلون ، وليسوا فقط ضالين ، وأن قدرتهم على الاضلال تصل للنبى نفسه لو أطاعهم ، وأنهم يتبعون أكاذيب دينهم الأرضى وأحاديثه الشيطانية ، وأن دينهم الأرضى قائم على الظن  وليس الحق ، ويتأكّد هذا بقوله جل وعلا : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) الأنعام )(  وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)) يونس )( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى (23) ) (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً (28) النجم ).

2 ـ هذه الحقائق القرآنية الأربع تتجلى فى عصرنا . فأكثرية البشر ــ ومنهم المسيحيون والمحمديون والبوذيون والهندوسيون و السيخيون  ـ يتبعون أديانا أرضية تقدس البشر والحجر ، وتتبع أحاديث ما أنزل الله جل وعلا بها من سلطان .

3 ـ قد يُقال بأن أكثرية البشر من أتباع الديانات الأرضية ضالون فقط ، وأن أئمتهم هم المُضلون ، وهؤلاء الأئمة أقلية ، وهذا يخالف ما جاء فى الآية الكريمة فى إعتبار الأكثرية مُضلّة .

وأقول إن التجربة العملية الواقعية تُثبت صدق الآية الكريمة .

جرّب بنفسك أن تقول لأحد العوام من المحمديين مثلا أن شهادة الاسلام هى واحدة ( لا إله إلا الله ) أو أن النبى لا يشفع أو أنه لا يجوز إسلاميا زيارة قبر النبى ، أو أن قبر النبى المنسوب اليه هو رجس من عمل الشيطان ، أو ان البخارى يطعن فى رب العزة والرسول الكريم والاسلام العظيم.  ولهذا فإن أصحاب النار قسمان : الذين إستكبروا ( القادة الأئمة ) وأتباعهم جنودهم من العوام المستضعفين . وسيظلون فى خلود جهنم يتلاومون ويتلاعنون . يقول جل وعلا عنهم :(فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (102) الشعراء ). 
وعن تخاصمهم فى جهنم يقول ربى جل وعلا : (  وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) سبأ ). ويقول رب العزة جل وعلا عن أولئك المستضعفين وهم فى النار : ( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)  الأحزاب) 
.عندما تتصوّر هذا تحمد رب العزة على الهداية .!

المُراد أنه بمجرد أن تصدع بالحق فى وجه العوام فسرعان ما يتحولون من ( ضالين ) الى ( مُضلين ) ، ولا يدخرون وسعا فى إكراهك فى الدين ، وإيذائك لو إستطاعوا . وهم فى إيذائك لا يتورعون عن الافتراء على الله جل وعلا ورسوله دفاعا عن دينهم الأرضى، أى يؤذونك ويؤذون الله ورسوله ، وبهذا ينطبق عليهم قوله جل وعلا : (  إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) الاحزاب ) . بل يتجاوز الأمر مجرد الأذى الى ما هو أشنع . وقد عشنا هذا ، وقاسينا من العوام ومن المستكبرين ، وتأكّد لنا أنهم معا من المُضلين . والحمد لله رب العالمين .

4 ــ وبالتالى فإن الذى يعرف الايمان الحق لا بد أن يتعرض للإبتلاء ، ومنه الاضطهاد فى الدين.

وبعض الناس يظن أنه بمجرد أن يعرف الحق ستتوالى عليه الخيرات وسيُقيم له الناس حفلات التكريم .  يحسب أن إيمانه القولى والقلبى يعصمه من الابتلاء ، ولا يعرف إن هذا الايمان الحق ليس إلا بوابة تدخل منها الابتلاءات ، إذ لا بد أن يتم إختباره بمواقف صعبة ليرى ذلك المؤمن بنفسه هل سيصمد أم  سينهار . لذا يقول جل وعلا فى سؤال إستنكارى للناس الذين يتوهمون أنه بإعلانهم إيمانهم سيكونون فى حصانة من الابتلاء والفتنة فى الدين أى الاضطهاد الدينى : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) العنكبوت )

5 ــ إن معرفة الحق ليست صعبة . من أراد الهداية وسعى لها يجد هداية الله جل وعلا فى إنتظاره ، ويزيده الله جل وعلا هُدى . قد يأتى لك الحق سهلا ، فى مقال أو خطبة ، أو فى تدبّر مُخلص لآية قرآنية تؤكد بشرية النبى وتنفى عصمته وتقديسه وشفاعته . بل مجرد أن تقول وأنت تصلى ( إهدنا الصراط المستقيم ) وتدعو بها بإخلاص حقيقى راغبا فعلا فى الهداية سيهديك ربك جل وعلا. والمحمديون يقرأون فى الفاتحة ( إهدنا الصراط المستقيم ) ملايين المرات وهم عنها لاهون ، وإذا سمعوا الهداية أعرضوا ، بل ربما إزدادوا كفرا وعنادا.

معرفة الحق ليست صعبة . الصعب فعلا هو التمسك بالحق بعد أن تعرفه. لأن الصوارف عن الحق كثيرة وشديدة التأثير ، من الحرص على المال والجاه والهروب من الاضطهاد . لأن قول الحق والتمسك به سيخلق لك مصاعب و أعداءا ، فلقد تأسست للباطل مؤسسات ، وقامت عليه مصالح وسياسات ، ولن يرضى هؤلاء بكلمة تؤثر على أوضاعهم و مكاسبهم . وهكذا .. فمجرد أن تعرف الحق وتعلنه سيتكاثر أعداؤك ، ويتخصص أناس فى الكيد لك ، وترى نفسك فى إبتلاء حقيقى.

6 ــ لذا يرتبط الحق بالصبر ، لأنه بدون الصبر على الحق لن يستمرّ فى هذه الأرض . والمؤمنون الذين يعملون الصالحات ويتمسكون بالحق وبالصبر والذين يتواصون بالحق والصبر هم فقط الفائزون ، وغيرهم من بقية البشر فى خُسر . ( وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)  العصر ) .  

إن هذا الابتلاء قد يكون بشرى إذا تمسكت بالصبر . لك لأنه يعنى أنك على طريق الايمان الحقيقى .

ثانيا : التأكيد الثقيل على إبتلاء المؤمنين عموما

1 ـ من المُفيد أن نذكر أن الله جل وعلا عندما تحدث عن إبتلاء البشر جميعا فإنه جل وعلا لم يستعمل أسلوب التأكيد قال للبشر جميعا  : ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الملك ). (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)  الكهف ). (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) الانبياء ) جاءت بدون تأكيد قوله جل وعلا : (ِيَبْلُوَكُمْ ) ، (ِنَبْلُوَهُمْ ) ، (َنَبْلُوكُمْ ).  ولكنه جل وعلا إستعمل اسلوب التأكيد الثقيل المُغلّظ فى إبتلاء المؤمنين بالذات .

2 ـ يأتى التأكيد بحتمية إبتلاء المؤمنين فى قوله جل وعلا  : ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ )   (186)آل عمران). لم يقل جل وعلا ( نبلوكم )، وسيكون التعبير كافيا لأنه قول رب العالمين ، والمؤمن يقول ( صدق الله العظيم ). ولكن جاء التعبير هنا فى الابتلاء محملا بكل أدوات التأكيد فى اللسان العربى . جاء الخطاب  ب ( لام ) التوكيد فى أول الكلمة ، وب ( نون ) التوكيد الثقيلة فى آخرها (َ  لَتُبْلَوُنَّ  ) .

ونفس الحال فى قوله جل وعلا :  : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ )  (155) البقرة ) . هنا نفس أساليب التأكيد : لام التوكيد ونون التوكيد الثقيلة : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ  ).

  3 ـ وتأتى عناصر الابتلاء المؤكد فى الأنفس والأموال : ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) هنا إبتلاء مؤكد فى فقدان الأنفس بالموت قتلا ، وبفقدان المال . ، ويأتى مزيد من التفصيل في قوله جل وعلا: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ) (155) البقرة ). هنا فقدان لبعض ( الأمن ) وبعض الفقر وما يعنيه من الجوع ونقص فى الدخل . وقتل لبعض المؤمنين .

4 ـ ويأتى الحل الالهى للمؤمنين فى التغلب على هذا الابتلاء الحتمى ليجتازوا هذا الابتلاء والاختبار بنجاح ؛ إنه الصبر والتقوى . هذا ما جاء فى قوله جل وعلا : ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)آل عمران)، وفى قوله جل وعلا فى مزيد من التفصيل:( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أالبقرة) . أولئك المؤمنون الصابرون يعدهم ربهم جل وعلا بأن يُصلّى عليهم وأن يرحمهم وأن يجعلهم من المهتدين : ( أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ (157) البقرة ).

ولذا قال لقمان لابنه أن يصبر على المصائب :( يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (17) لقمان )

ثالثا : التأكيد الثقيل على إبتلاء المؤمنين بالقتال خصوصا

1 ـ يصل الإضطهاد الدينى من المشركين المعتدين الى القاع والحضيض حين يقومون بطرد المؤمنين من ديارهم وسلب أموالهم وقتلهم وقتالهم . هنا يتعرض المؤمنون المسالمون الى محنتين وإبتلاءين : الهجرة ، والقتال الدفاعى عندما يستطيعون الدفاع عن أنفسهم . وكلا الابتلاءين فرض على المستطيع .

2 ــ عن إبتلاء الهجرة : فالمستضعفون المؤمنون المُعرضون للإضطهاد يدعون ربهم قائلين : ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) النساء ) . إذا عجزوا عن الهجرة فعسى أن يغفر الله جل وعلا لهم . إن تكاسلوا عنها مع قدرتهم عليها فهم خالدون فى النار : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) النساء ).

 إذا هاجر فسيجد صعابا وتحديات فى السفر يُباح له فيها قصر الصر الصلاة ( النساء 101 : 103 ) .

ثم ستواجهه متاعب وإبتلاءات فى أرض المهجر فى الاقامة والعمل ، ولكن ستلاحقه رحمة الله جل وعلا ، وتجعله فى سعة وراحة بعد تعب وعناء ، يقول جل وعلا : ( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)  النساء ).

وفى مقابل هذه الابتلاءات المترتبة على الهجرة فإن الله جل وعلا يعد المهاجر فى سبيله إذا صبر وتوكل على الله جل وعلا بحسنة فى الدنيا وحسنة أكبر فى الآخرة : (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)  النحل ) .

2 ـ عن إبتلاء الحرب الدفاعية فى سبيل الله جل وعلا يصل الابتلاء الى ذروته ، لأن المؤمنين حق الايمان هم فى الأصل مُسالمون ، يكرهون الحرب ، ولكن عندما يتعرضون لاعتداء حربى يوشك أن يستأصلهم فلا بد لهم من الدفاع عن انفسهم . وكان هذا موقف المؤمنين بعد هجرتهم . فى البداية قيل لهم ( كفوا أيديكم ) عن القتال الدفاعى لأنهم لم يكونوا مستعدين عسكريا ، وكان قتالهم الدفاعى فى غير مصلحتهم ، فلما إستعدوا ، ونزل الإذن لهم بالقتال الدفاعى إعترض بعضهم وطلب التأجيل ، يقول جل وعلا عنهم :(  أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) النساء ) . معظم المؤمنين كرهوا فريضة الحرب الدفاعية ، ولم يعلموا أنها خير لهم : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) ) البقرة ) .

3 ـ لذا يأتى التأكيد على حتمية إبتلاء المؤمنين بالقتال الدفاعى مرتبطا بتمحيص المؤمنين خلال الجهاد والصبر ، يقول جل وعلا : (  وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) محمد )،

4 ـ وبالتقوى والصبر فى إختبار الجهاد تكون الجنة هى المثوبة ، يقول جل وعلا  : (  أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)) البقرة )، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) ) آل عمران ).

5 ــ الحرب فى سبيل الله جل وعلا الاسلام لا مثيل لها فى حروب البشر . حرب البشر فى الصراع الدنيوى تصل بالانسان الى مرتبة أحطّ من الحيوان ، وتتمثل فيها الهمجية بأبشع ما فيها ، ويدفع الثمن فيها المستضعفون ، ويفوز فيها وينجو ويكسب المستكبرون المترفون . الحرب فى سبيل الله يتجلى فيها أروع ما فى البشرية من نُبل ورقى حضارى . العدو المقاتل فى الجيش المعتدى يتم حقن دمه فى أرض المعركة لو نطق بكلمة السلام ، أو إستجار بالمسلمين ، ثم تتوقف الحرب ضد المعتدين بمجرد توقفهم عن الاعتداء ، وبمجرد توقفهم عن الاعتداء يصبح أخوة  فى الدين ( الاسلام السلوكى القائم على السلام) ، بل يغفر الله جل وعلا للمشركين المعتدين إذا إنتهوا عما هم فيه . وفى كل الأحوال فعلى المؤمنين رد الاعتداء بمثله دون زيادة ، وأن يكون إستعداهم الحربى ليس للإعتداء بل لردع المعتدى حتى لا يعتدى ، أى إستعداد حربى لتأكيد السلام ، لأن الاسلام هو دين السلام .

أخيرا

هذا الابتلاء للمؤمن إذا نجح فيه فاز بالخلود فى الجنة . إذا فشل فيه إستحق الخلود فى النار . وهنا أيضا الابتلاء الأعظم لكل البشر.  

 

 

 

 

  عناصر الإبتلاءات للبشر

 

أولا : حتمية الابتلاءات للبشر :

1 ــ الله جل وعلا خلقنا ليختبرنا فى حياة يعقبها الموت . يمارس الفرد منا حريته ومشيئته فى الايمان أو كفر ، فى الطاعة أو المعصية ، ويتعرض لاختبار النعمة والنقمة والمنحة والمحنة ، وفى كل الأحوال يتعرض قلبه للإيمان أو الكفر زيادة أو نقصا .قد يتوب مبكرا ، وقد يتوب متأخرا ، وقد يتوب عند الاحتضار . وقد يتوب وينكث توبته ، وتنتهى حياته ويكتمل إختباره بالموت . وعند الموت يرى ملائكة الموت تبشره بالجنة إن نجح فى الإختبار أو تبكته وتبشره بالنار إن فشل فى الاختبار .    

 وعن الاختبار العام لكل البشر يقول جل وعلا : (  الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)  الملك ).

ثانيا : عناصر الابتلاء للبشر :

1 ـ إذن لدينا فى إختبار هذه الحياة الدنيا : الحرية المطلقة فى الايمان والكفر والطاعة والعصيان ، وما يتبع هذا من توبة أو إستمرار فى المعصية ، مع تعرضنا لمختلف المحن والنعم .

وهذه الحرية البشرية فى الايمان او الكفر تُعتبر فى حدّ ذاتها إختبارا . الله جل وعلا لا يتدخّل فى حرية الانسان ، خلقة بمشيئة حرة يختار الإيمان أو الكفر والطاعة أو المعصية ، ثم سيكون مسئولا عن إختياره ، ويكون مصيره يوم القيامة بين الخلود فى الجنة أو الخلود فى النار. هذا يوضح حجم المسئولية المُلقاة على عاتقة ، وحجم الاختبار الذى يدخله ، ولنتأمل قول رب العزة لنا : ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) الزمر ). وقوله جل وعلا للعُصاة المُلحدين فى آياته : (  إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)) فصلت ).

2 ـ يزيد فى صعوبة الاختبار ما فى هذه الدنيا من زخارف وزينة تٌلهى الانسان عن الآخرة ، وتُغريه بالتصارع من أجل هذا الزُّخرف الفانى ، يقول جل وعلا عن زينة الدنيا ودورها فى الاختبار : (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)  الكهف ).

ومنها الأموال والأولاد ، وهذا ما حذّر منه رب العزة فقال : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) الانفال )، (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)  التغابن ).

2 / 1 : وذكر رب العزة قصة أصحاب الجنة وإبتلاءهم ببستان من الفواكه فبخلوا بالنعمة ، ففقدوها : ( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ (21) أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) القلم)

2 / 2 : وذكر رب العزة قصة صاحب الجنتين الذى إغتر بهما فوصل الى الكفر وإنكار البعث ، وانتهت القصة بتدمير جنتيه (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً (43) ) الكهف ).

وبعدها يُذكّر رب العزة بأن هذه الدنيا مثل الزرع الذى يزدهر ثم يندثر ، وأن المال والبنون هما مجرد زينة ، والزينة تفنى ، أما الذى يبقى فهو العمل الصالح : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) الكهف )

3 ــ ثم هناك خداع الشيطان الذى يغرُّ الانسان ، وهذا الذى حذّر منه الرحمن جل وعلا فقال : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) فاطر  )

4 ــ وتشريعات الرحمن إبتلاء أيضا ، ليس فقط فى حرية الانسان فى العمل بها أو إهمالها وإنكارها ، ولكن أيضا لأن الطاعة المطلوبة هنا مثل طاعة الملائكة حين أمرها الله جل وعلا بالسجود لآدم ، وكان أمرا غريبا ، فأطاعت الملائكة كلهم إلا إبليس الذى عصى واستكبر وجادل ، فإستحق اللعنة والطرد.

4 / 1 : الطاعة لأوامر الله جل وعلا تعنى التنفيذ الفورى بلا نقاش أو لجاج أو جدال . يمكن أن تجادل مخلوقا مثلك ، ولكن لا تسائل الله الخالق جل وعلا الذى (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)  ) الأنبياء ) لماذا . لا تسأل لماذا فرض هذا ولماذا حرّم ذاك . لا تسأل الله جل وعلا لماذا أباح معظم الطعام وحرّم أشياء محددة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)  ) البقرة )، لا تسأله جل وعلا لماذا أمر بالأكل والشرب : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) الاعراف )، ثم أمر بالصيام : ( َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) البقرة ). الطاعة إختبار يفشل فيه أغلبية البشر. بعضهم يتجاهلها ، وبعضهم يعصى ولا يكتفى بالعصيان بل يجادل على طريقة أو سُنّة ابليس .

4 / 2 : ابراهيم عليه السلام تعرض لابتلاءات خاصة ونجح فيها بإمتياز ، أو بالتعبير القرآنى (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37 ) النجم ). أمره رب العزة بأوامر فأطاع ونفّذ ولم يجادل ولم يسأل عن الحكمة فى الموضوع . ونتابع الموضوع قرآنيا . فى البداية بلغ ابراهيم عليه السلام الكهولة دون إنجاب ، فدعا ربه أن يهبه ابنا صالحا ، فجاءته البشرى بغلام حليم : ( رب هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) الصافات ) . ثم جاءه الأمر بتغريب إبنه الوحيد إسماعيل من الشام الى البيت الحرام ، فإمتثل وحمل إبنه وزوجته الى مكة ، وتركهما راجعا وهو يدعو ربه جل وعلا أن يتكفّل بهما : (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)  ابراهيم ) .

وكبر إسماعيل فى مكة ، وصار طفلا يسعى ، فجاء الابتلاء الصعب لابراهيم ، لم يكن أمرا صريحا ، بل جاءت الاشارة اليه فى منام أنه يذبح إبنه الوحيد وقتها ( إسماعيل )، والذى تركه يعيش بعيدا عنه فى مكة عند البيت الحرام . ومع أنها رؤية منامية ويمكن أن يعتبرها أضغاث أحلام إلا إنه عليه السلام قطع الطريق من الشام الى مكة لكى ينفّذ الأمر الالهى .يقول جل وعلا : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) الصافات ) . الله جل وعلا يصف هذا بالبلاء المبين :( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) الصافات ) . وكوفىء ابراهيم على النجاح فى هذا البلاء أو الابتلاء : ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ (112) الصافات ). أى كان ضمن المكافآت أن جاءت الملائكة متجسدة فى صورة بشر تبشره بغلام ( عليم ) هو إسحاق تلده زوجته العجوز العقيم : (قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) الحجر) (  فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) الذاريات  ). أى رزقه الله جل وعلا باسماعيل ( الغلام الحليم ) ثم إسحاق ( الغلام العليم ).

وبسبب نجاحه فى التنفيذ الفورى لكلمات ـ أى أوامر ربه جل وعلا فقد جعله ربه جل وعلا للناس إماما :( وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) البقرة ).

5 ـ إبليس رسب فى إختبار الابتلاء ، برفضه الأمر الالهى بالسجود لآدم . كان دافعه الاستكبار ، أى كما قال رب العزة (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (34) البقرة  ). والمستكبرون من أتباعه يرفضون الحق إستكبارا ، يقول جل وعلا : ( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) الانعام ). وكان الاستكبار هو دافع الملأ المتحكم  فى رفض الحق كما جاء فى قصص الأنبياء ، كانوا يستكثرون أن يكونوا أتباعا لبشر مثلهم ، وأن يتساووا بالمؤمنين المستضعفين .

أخيرا

1 ـ هو نفس الحال فى عصرنا ، فأئمة الضلال الذين يتحكمون بجهلهم فى الخطاب الدينى يستحيل على أحدهم أن يؤمن بالقرآن وكفى ، فلقد أمضى حياته يدعو للباطل ويرتزق منه فكيف يعترف بعدها أنه كان من قبل حمارا .!!

2 ــ إنه الحرص على المكانة والجاه والمناصب والثروة والسلطة . وأنظر الى ما يفعله شيوخ الأزهر وهم يُطاردون المفكرين المصلحين . لا يهمهم الاسلام أو الاصلاح أو الوطن أو البشر ، وحتى يهمهم النبى سواء فى حقيقته القرآنية أو فى الأساطير المتوارثة عنه ، لا يهمهم تقديسه أو إعتباره بشرا يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق . يهمهم فقط الحفاظ على مكانتهم ، وألّا يُقال لهم : إذا كان هذا حقا فلماذا لم تقولوه من قبل .؟ وإذا كان باطلا فلماذا تسكتون عنه . ولذلك فهم لا يسكتون عنه .

3 ــ وبالمناسبة :

السبب المباشر فى محنتى عام 1985 ، شكاوى ضدى إنهالت من الشيخ محمد زكى ابراهيم رائد ما يسمى بالعضيرة المحمدية ، وصلت الى السفارات ووسائل الاعلام ومكتب رئيس ئيس الوزراء وقتها كمال حسن على ، وتهدد هذه الشكاوى بتسيير مظاهرات ضد جامعة الأزهر بسبب سكوته عن المدرس أحمد صبحى ومنصور وكتابه ( الأنبياء فى القرآن الكريم ) الذى ينفى فيه تفضيل النبى على من سبقه من الأنبياء وينكر عصمته وشفاعته .

إستدعى كمال حسن على رئيس الجامعة فى ذلك الوقت ( محمد السعدى فرهود ) ، وقال له عنى : ( إذا كان ما يقوله  حقا فلماذا لم تقولوه من قبل .؟ وإذا كان باطلا فلماذا تسكتون عنه .) . ولهذا بدأت محاكمتى فى يوم 5 / 5 / 1985 بقيادة عميد كلية أصول الدين فى أسيوط وقتها د , محمد سيد طنطاوى . وكان الهدف منها إرغامى على التراجع حفظا لماء وجوه شيوخ الجهل ولعدم إحراجهم ، وظل د سيد طنطاوى بأسلوبه العاطفى يحاول إقناعى بالتراجع حتى لقد كان يوشك على البكاء . فرفضت .

أقول هذا شهادة أتحمّل مسئوليتها أمام الواحد القهار جل وعلا يوم القيامة .

كان هذا إبتلاءا لى وإبتلاءا لهم . وأرجو أن أكون قد نجحت فى الابتلاء .

 

     نوعا الابتلاء وتنوع المواقف منه

 

ابتلاء النعمة والنقمة

1 ــ والابتلاء قد يكون فيما نحسبه نعمة أو فيما نحسبه نقمة ، فيما نعتبره خيرا أو شرا ، يقول جل وعلا : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) الانبياء ) . ومصطلح ( الانسان ) يعنى فى القرآن الكريم بنى آدم العُصاة . ولهذا ( الانسان ) تفسيراته فى الابتلاءات ، فهو يربطها بهواه ، إذا حسب الابتلاء شرا إعتبره إهانة من ربه ، وإذا حسبه خيرا جعله تكريما خاصا له من ربه ، يقول جل وعلا :( فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) الفجر )

  2 ــ  وعموما فإن ما نحسبه خيرا أو شرا ليس بالضرورة هو الصحيح ، فعسى أن نكره شيئا وهو خير لنا ، وعسى أن نُحب شيئا وهو شر لنا .

2 / 1 : فى تاريخ الصحابة حسبوا فرض القتال شرا وهو خير لهم : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) البقرة ).

2 / 2 : وخرج أهل بدر مع النبى لقطع الطريق على القافلة التى هى حق شرعى للمؤمنين المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم . ثم فوجئوا بأن عليهم أن يواجهوا جيشا قرشيا يفوقهم بثلاثة أضعاف . كان إختبار صعبا ، إذ رفض فريق منهم القتال ، وأخذ يجادل النبى عليه السلام فى الحق الذى تبين ، كأنما يُساقون الى الموت وهم ينظرون ، يقول جل وعلا : ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) الانفال ) . لم يعرفوا أن هذا الإشتباك الحربى هو الخير لهم . ولقد إنتصروا بفضل الله جل وعلا وتغلبوا على عُقدة ومحنة الرٌّعب من قريش التى لا تُهزم ، يقول جل وعلا عن هذا الابتلاء : ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) الانفال ). ولنتذكر أن السيرة الت كتبها ابن إسحاق من دماغه تخالف تلك الحقائق القرآنية عن معركة بدر.

2 / 3 ـ وأذاع التراث أيضا اسطورة إتهام السيدة عائشة فى ( حديث الإفك ). وهذه  الاسطورة هى ( إفك ) فى حد ذاتها لأن الأمر كان يخص بعض المؤمنين والمؤمنات ، ولقد ناقشنا هذا فى كتابنا ( القرآن وكفى ) المنشور هنا , ولكن فيما يتعلق بوضوعنا عن الابتلاء وخطأ البشر فى تفسيره هو ما جاء فى قوله جل وعلا فى موضوع الإفك:(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) (11) النور ). وكان الخير فى تشريعات جديدة عقابية وإجتماعية أتت بها سورة النور .

3 ــ  المؤمن الصابر الراضى بقضاء الله جل وعلا تحُلُّ به مصيبة وإبتلاء ، يحسبه الجميع نقمة ، ولكنه يصبر ويحمد الله جل وعلا ويقترب أكثر من ربه يدعوه ويستغيث به ، فينجح فى إختبار الابتلاء ، فيصبح هذا الابتلاء نعمة له ، مع إنه فى الظاهر يبدو محنة ونقمة  .

 والمؤمن الصادق الشاكر لربه جل وعلا يقوم بحق النعمة شكرا وحمدا وتصدقا وزكاة لماله وجاهه . وهو يحذر إبتلاء النعمة بالذات ، خوفا من كفران النعمة ، وخوفا من أن يحل به إنتقام رب العزة ، ولقد قالها جل وعلا : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) ابراهيم ). شكران النعمة يزيدها بركة ونماءا ، وكفران النعمة يعنى العذاب الشديد .

3 / 1 : وعندما أُبتلى المؤمنون بالهزيمة فى أحد قال جل وعلا لهم : ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) آل عمران ). تمحيص المؤمنين وتطهيرهم يكون بالابتلاء ، وإذا نجحوا فيه بالصبر إستحقوا الجنة . فللجنة مهرها الغالى الذى يجب دفعه مقدما فى هذه الدنيا .

3 / 2 :ويقول جل وعلا فى نفس الموضوع عن الصابرين المجاهدين فى تاريخ الأنبياء السابقين : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) آل عمران )، اى كافأهم رب العزة جل وعلا فى الدنيا ثم تنتظرهم المكافأة فى الآخرة .

3 / 3 : وعن إبتلاء المؤمنين الخاشعين المخبتين  الصابرين يقول جل وعلا يبشرهم : ( وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِ الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) الحج ).

4 ــ ولقد ابتلى الله جل وعلا داود وسليمان بالنعم ، فأعلنا شكرهما لله جل وعلا : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) النمل ).

وتعرض سليمان لابتلاء هائل . رأى نفسه مرة واحدة مجردا من العرش ، وهناك جسد آخر فى صورته يعتلى عرشه ، فتذكر أن الذى منّ عليه بالمُلك والعرش قادر أن يسلبه منه , وكانت فتنة نجح فيها سليمان عليه السلام ، يقول جل وعلا : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (34)  ص )

وابتلى الله جل وعلا البنى أيوب بالمحن والضُّرّ ، فصبر ودعا ربه جل وعلا ، فكشف الله جل وعلا عنه الضُّرّ : (  وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) الانبياء ) .

أى هناك إبتلاء بالمحنة وبالمنحة ، بالنعمة والنقمة ، حدث حتى للأنبياء .

4 / 1 : .وفى مقابل إبتلاء المحنة ، يبتلى رب العزة أحدهم بالمال والبنين والجاه إختبارا له فيغتر، ويكفر بالنعمة ، ويكون ممّن قال فيهم رب العزة جل وعلا : (  أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) ابراهيم ) . وهذا ينطبق اليوم على المحمديين البتروليين الذين إبتلاهم رب العزة بنعمة البترول فكانت النتيجة أنهم أحلوا قومهم دار البوار فى هذه الدنيا ، ثم  مصيرهم الى النار يوم القيامة ، لو ماتوا بلا توبة . هنا القرآن الكريم ينطق فصيحا بحال العرب المحمديين .

4 / 2 : ونطق القرآن الكريم فصيحا بحال أثرياء المنافقين فى عهد النبى محمد عليه السلام ، ونبّأ مقدما بأن نعمة المال والأولاد ستتحول الى نقمة لهم ، لذا نهاه ربه جل وعلا ــ مرتين  ــ عن الاعجاب بما لديهم من جاه ومال فقال : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)  ) (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)  ) التوبة ). ومنافقو عصرنا الأثرياء هم مُعذبون فى هذه الدنيا بثرواتهم وبأبنائهم . فشلوا فى إبتلاء النعمة وهى تتحول بالنسبة لهم الى نقمة. . وبعض المترفين يحسبهم الناس سُعداء بما هم فيه وبما يتقلبون فيه من جاه ومال ، وهؤلاء المترفون قد يبتسمون فى مواكبهم ويتظاهرون بالسعادة بينما هم يعيشون فى قلق وصراع وتُحيط بهم المكائد والمؤامرات ، ويتحسبون للعدو والصديق ، ويفتقدون بهذا نعمة كبرى هى ( راحة البال ) .

4 / 3 : وفى كل فالمؤمن منهى عن الاغترار بإبتلاء الكافرين بنعمة الدنيا ، وتقلبهم فى البلاد ، كما يحدث لأثرياء ومترفى المحمديين من أصحاب البلايين والملايين . ولقد قال جل وعلا للنبى عليه السلام ولنا أيضا : ( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) آل عمران ). أى هو إبتلاء غرور خادع لهم بهذه النّعم والبلايين والملايين الذى يتقلبون به فى البلاد ويفسدون به العباد ، وبخسارتهم فى إبتلاء النعم فمصيرهم الى جهنم خلوا فيها لا خروج منه .

4 / 4 : ونفس النهى تكرّر مرتين لخاتم المُرسلين ؛ الّا ينبهر بالنعم التى يتمتع بها المترفون المستكبرون فى عهده: (  لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)) الحجر ). لأنها فتنة وإبتلاء لهم : (  وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) طه ).

كانت تلك النعم فى عهد النبى عليه السلام بسيطة بُدائية فى الجزيرة العربية . أصبحت الآن فى الجزيرة العربية وخارجها قصورا وجواهر كريمة وطائرات ويُخوتا وحمامات من الذهب ، وسيارات مصنوعة خصيصا لهم لا تخلو من الذهب ، وأكوام من الأموال يتم نثرها على الغانيات والراقصات وفى صالات القمار ، بينما معظم الجوعى فى العالم من المنتمين الى الاسلام . هؤلاء الوهابيون المترفون يدفعون بلايين أخرى فى إشعال الفتنة الدموية التى تقتل المسالمين فى سوريا والعراق واليمن ، وبدلا من إعانة الفقراء فى مصر وسوريا واليمن والصومال فإن مترفى الخليج الوهابيين ينشرون دينهم الوهابى لتثوير الفقراء فيقتلون أنفسهم والآخرين ، ويبعثون لهم الأسلحة بالملايين وهؤلاء الفقراء أحوج الى طعام ومدارس وملاجىء ومستشفيات . عندما نتذكر الخلود فى النار نؤمن بعدل الله جل وعلا .

ثانيا : إبتلاءات الكافرين

1 ـ أهمية الاختبار للمشركين الكافرين أنه يوقظهم وينبههم من غفلتهم ، لعلهم يتوبون ، يقول جل وعلا :(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) السجدة ) . (العذاب الأدنى )هو (العذاب الدنيوى ) من أمراض وأزمات ومضائب وكوارث . المقصد منها أن يتذكر الانسان ربه ، وأن يتوب ويئوب حتى ينجو من (العذاب الأكبر ) فى الآخرة .

2 ـ والأغلبية تتذكر ربها جل وعلا عند المحنة ، فإذا زالت عادت الى عصيانها و كفرها وشركها .

حدث هذا مع منافقى المدينة ، يقول جل وعلا عنهم : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) التوبة ) .

3 ــ وحدث فى قصص الأمم السابقة أن كانت تأتيهم إرهاصات الابتلاء بالمحنة والنقمة من البأساء والضراء ، لعلهم الى ربهم يتضرعون ، ولكن لا فائدة ، إذ تمت سيطرة الشيطان عليهم فقست قلوبهم ، ثم يأتيهم إبتلاء النعمة بعدها فيزدادون عُتُوا وغرورا ، وبهذا يحل بهم الهلاك الذى كان يقطع دابرهم ، يقول جل وعلا :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) الانعام )، ويقول جل وعلا : (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)  الأعراف )

4 ــ وحدث هذا فى قصة فرعون . أُوتى كل شىء فكفر النعمة وزعم الربوبية العظمى مفتخرا بما آتاه الله جل وعلا من نعم ،(  وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف ). فكانت نهايته وجنده بالغرق .

ويوجز رب العزة إبتلاء فرعون وقومه بقوله جل وعلا : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) الدخان ). كان إبتلاؤهم فى ارسال موسى لهم ، وفشلوا فى الابتلاء فخسروا .

 5 ــ وقصص بنى إسرائيل سلاسل من الابتلاءات ، تبدأ باضطهاد فرعون لهم ، وإنقاذهم منه ، وهذا هو البلاء العظيم لهم ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) البقرة ). ثم توالت عليهم إبتلاءات النعم ، ففشلوا فى بعضها ، ومنهم من صبر . يقول جل وعلا عن إبتلاءاتهم : ( وَآتَيْنَاهُمْ مِنْ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ (33) الدخان ), وبعضهم فى قرية ساحلية تعرضوا لابتلاء وفشلوا فيه فحاقت بهم اللعنة ( الأعراف 163: 166 )

6 ـ وبالرسالة الخاتمة ( القرآن الكريم ) لم يعد واردا ذلك الاهلاك الكلى الذى كان يحدث للأمم السابقة . الفشل فى الاختبار . تحوّل فى تاريخ المسلمين الى إهلاك جزئى ،أى  عقاب جزئى ، يعتبر إبتلاءا مترتبا على العصيان والتكذيب . ولقد نبّأ رب العزة بهذا فى سورة مكية ، وكان أول من سمع هذا الإنذار صحابة النبى القرشيون فى مكة ، ومع هذا كان منهم أعمدة التكذيب الذين إقترفوا خطيئة الفتوحات وما تلاها من خطيئة الفتنة الكبرى والحروب الأهلية التى لا تزال مشتعلة بين المحمديين الى وقتنا هذا. ولنتدبر قوله جل وعلا :  ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) الأنعام ) .

7 ـ والعادة أن إختبار الأبتلاء يخسر فيه معظم الناس ممّن لم يتغلغل الايمان الصادق فى قلوبهم ، أو بالتعبير القرآنى ( يعبد الله على حرف ). هو خاسر للدنيا والآخرة ، إذا أُبتلى بالخير إطمأن به مؤقتا ، وإذا أُبلى بالشر كفر : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) الحج ).

وبعضهم يُعلن إيمانه يظُنُّ أن حفلات التكريم ستُقام له ، وهو لا يعلم أن إعلان الايمان الحق يفتح أبواب الاضطهاد . ولكن صاحبنا إذا أوذى بسبب إيمانه الحق بالله جل وحده لا شريك له ـ إهتز إيمانه المزعوم وتأرجحت مواقفه ، يقول جل وعلا : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) العنكبوت )

8 ـ والعادة أن الانسان إذا تعرض لمرض أو ضرر ساحق فإنه يستغيث بربه ، فإذا كشف الله جل وعلا عنه الضُّر عاد الى ما كان عليه من ضلال وعناد ، يقول جل وعلا :  (  وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) يونس ) (  وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) الزمر  ) (فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) الزمر ) (  وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) النحل ).

والبحر من نعم الله جل وعلا . والإبحار فيه مُتعة ونعمة ، يقول جل فى بعض نعمه التى لا نستطيع تعدادها : (  وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)) ابراهيم ).

ولكن قد ينقلب إبتلاء نعمة البحر الى إبتلاء نقمة حين يتحول هذا البحر الوديع الى شىء كاسر يوشك أن يلتهم من كان يحملهم على سطحه يلعبون ويلهون ويتمتعون . عندها يتهدد الانسان بالغرق ، ويصرخ مستغيثا بربه جل وعلا ، وما أروع هذه الصورة التمثيلية القرآنية : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)   ) يونس )، ويقول جل وعلا : (وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67)  الاسراء )

  أخيرا

إنظر حولك وفى نفسك .. لا تستطيع ــ لو تذكّرت وتعقلت ــ أن تُحصى نعم الله عليك ، وأكثرها مُسخّر لك . وبقدر هذه النعم يكون الابتلاء والاختبار . والذى ينجح فى الاختبار هو المؤمن الصابر الشاكر .

فى يدك أن تنجح أو تفشل . بإمكانك أن تدخل الجنة أو أن تدخل النار . هذا متوقف عليك وأنت تسعى فى هذه الحياة الدنيا متمتعا بحريتك التى هى فى حدّ ذاتها أكبر إبتلاء لك .

سارع بالتعقل قبل أن يدركك الموت ، وهو آت لا محالة ، ولا سبيل للفرار منه .

 

 

الفصل الثانى : الابتلاء بالكوارث الطبيعية

بسبب ظلم الانسان

أولا : الميزان والتوازن بين شرع الله جل وعلا وخلق الكون والانسان

1 ــ إن الميزان هو أساس الخلق وأساس التشريع، وينبغي أن يكون أساس السلوك البشري، فإذا انحرف ذلك السلوك البشري عن الميزان والقسطاس المستقيم حدثت الكوارث .

2 ــ  تفاعل المادة بحساب دقيق أو بتقدير إلاهى مُحكم : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) الفرقان ) إن المخلوقات الحية والمادة وعناصرها والأجرام السماوية مخلوقة بتقدير الاهى غاية فى الدقة والحساب:( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)   )الأنعام ) ، يسرى هذا على حركة الذرات والكواكب والنجوم والمجرات ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)) يس) . إنه الميزان أو ما نسميه بالتوازن في حركة الأفلاك "( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5))( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)( الرحمن ). كل ذلك بحساب دقيق أو الميزان هو الذي يحفظ كل شيء في مداره وحركته وبدايته ونهايته ، يسري ذلك على الكون المادى فى ذراته وعلى الانسان فى خلاياه الحية ، وهو الذي جعله الله جل وعلا خليفة في الأرض مطالبا بالحفاظ على هذا التوازن في الكون: ( أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) الرحمن )، وفى التعاملات البشرية : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) الرحمن ) .

3 ــ إذن هناك ميزان ـ أو توازن إلهي ـ  في الكون المخلوق أو الطبيعة ، وهناك ميزان إلاهى  آخر نزلت به شرائع الرحمن ، يقوم على أساس العدل والقسط.. يقول تعالى في ذلك الميزان التشريعي: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد  ) ، فالكتاب السماوي هو الميزان الذي ينبغي أن يقوم عليه القسط في حياة الانسان. ويقول تعالى عن القرآن الكريم آخر كتاب سماوي : ( اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ) (17)  الشورى).

4 ـ وعندما يختل الميزان يكون الفساد وتقع الكوارث

يقع المرض في جسد الانسان حين لايراعي الميزان أو التوازن في طعامه وشرابه واستمتاعه وحركته، وحين يتدخل عامل خارحى فى جسده يؤثر فى هذا التوازن . ويقع الوهن في مجتمعه حين ينحرف عن الحق والعدل وحين تنتشر المظالم والفساد وما يتبعها من النفعية والسلبية والتواكلية . موظف صغير يسرق المخزن الذى يحرسه ثم يشعل فيه النار ليُخفى سرقته، فتمتد النار لتحرق وتفسد فى الأرض. المترفون الظالمون يحتكرون الثروة والسلطة فيلجأ الفقراء الى السكن فى أحياء عشوائية تنشر المرض والتلوث، وتصبح كوارث مستقرة ومستمرة . يؤجج المترفون الحروب التى تُهلك الزرع والضرع وتدمر البنية الأساسية ، وتنشر الخراب وتلوث البيئة . ويصل التدمير الى درجته القصوى باستعمال أسلحة الدمار الشامل ؛ الذرية والكيماوية و الجرثومية . هذه كلها مظالم مُحرمة شرعيا لأنها تتناقض مع الشرع الالهى القائم على ميزان القسط والعدل ، ويترتب عليها تلوث البيئة وتدميرها . 

5 ـ هذا الابتلاء بالكوارث سببه تدخل الانسان بالظلم لأخيه الانسان . ولكن قد يصل ظلم الانسان للبيئة مباشرة فيفسد التوازن الذى أوجده الخالق جل وعلا فيها . الأمثلة كثيرة ، ليس أولها النفايات المُشعّة وليس آخرها ثقب الأوزون. وهناك تجارب علمية مٌهلكة يتعدى فسادها الى البيئة . وفطنت البشرية مؤخرا لما يُحدثه التطور التكنولوجى من كوارث طبيعية ، فتنادت الى عقد مؤتمرات لرعاية ( الأرض ) . ولكن ستظل كوارث الأرض مستمرة ما بقى ظلم الانسان لنفسه ولبيئته .

ثانيا : ظهر الفساد

فى جريدة الاحرار بتاريخ 12ــ 10ــ 1992، ظهر لى هذا المقال بعنوان : ( ظهر الفساد فى البر والبحر !!) قلت فيه :

1 ـ فى طريقى إلى قريتى ( أبوحريز ) بمحافظة الشرقية قال أحدهم أنه يعيش فى قرية يسكنها أكثر من خمسين الفا، وبيوتهم عامرة ، وكل المسئولين فى القرية من أبناء القرية ، وجميعهم يصرفون مياه المجارى فى (البحر) الذى يشربون منه ، لا فارق فى ذلك بين مندوب الصحة أو مسئول الوحدة المحلية أو حتى العمدة وشيخ الخفر ، ويطل على البحر مصنع للطوب ، وقداعتاد صاحب ذلك (التنور) أن يصرف مخلفات  المصنع من السولار والقطران فى مياه النهر، وقال ان أهالى القرية المجاورة لهم اعتادوا غسل براميل المبيدات فى نفس النهر، وعندها كان يحدث تسمم عام للاسماك فى النهر فتطفو على السطح ويصطادها الاهالى ويأكلونها ويصاب بعضهم باغماء أو قىء ، ولكن لم تحدث وفيات ..وعندها لم  أستطع الصمت فقلت له : " إن الوفيات ربما لم تحدث حتى الآن ، ولكن انتظر بضع سنوات وسنرى نتيجة ذلك الاهمال والتراخى، سنرى كيف سيصاب الجميع بأمراض لا نهاية لها إلا بالموت ، بدءا من الفشل الكلوى إلى السرطان." . وقلت له : " ان ذلك التلوث الذى نصنعه بأيدينا هو المسئول عن انتشار ظاهرة الفشل الكلوى والسرطان فى شرق الدلتا على وجه الخصوص، واذا ذهبت الى معهد السرطان فى القاهرة وجد ت معظم المرضى من الارياف ، وقد استدعت هذه الظاهرة المؤلمة إلى انشاء معهد للسرطان فى محافظة الشرقية لكى يخفف العبء عن معهد الاورام فى القاهرة ، كما أن ذلك المرض اللعين قد بدأ فى الظهور على أجساد الاطفال الابرياء . ومعظم المرضى يزدحمون على المعهد فى القاهرة ، ومن يتمكن من الحصول على سرير فيه سرعان ما يتركه ليكمل العلاج فى بيته ليتيح الفرصة لمريض آخر ينتظر دوره على الرصيف المجاور للمعهد .

كما أن أقسام الكلى فى المستشفيات لم تعد تكفى المترددين عليها فأنشأ أحد أبناء المنصورة العظماء وهو الدكتور غنيم مركزا لعلاج الفشل الكلوى.  ومهما بذل فاعلوا  الخير فى تدعيم  تلك المعاهد والمراكز فإن جهدهم سيضيع هباء طالما ظل المصرى يعيش هذا التبلد والانانية، بصرف مخلفاته فى النيل، وتحملها مياه النيل الى الآخرين ليشربوها، فيتحول الماء الذى هو سبب الحياة الى سبب للموت، لأننا لانجد فارقا بين الكوب الذى نشرب منه والمرحاض الذى  نتبول فيه .!!"

2 ـ ماالذى حدث لنا ؟ أهى الرغبة المصرية الدفينة فى مقاومة السلطة الحاكمة ! فاذا كانت السلطة تعاقب من يلوث النهر فإننا بدافع المقاومة والانتقام نعصى الأوامر، وليس مهما أن كنا نحن الضحايا؟ . ولكن القرية التى تصرف مخلفاتها فى النيل ليس لديهم ذلك الخوف من المسئولين لأن المسئولين أنفسهم يفعلون ذلك .أهى الرغبة فى الانتحار البطىء لدى الفقراء بعد أن يئسوا من العلاج؟  ربما قالوا لأنفسهم إن الحيتان الكبيرة ترتع فى الفساد فى البر فلماذا لا نفسد نحن البحر؟ واذا كنا قد عجزنا عن مقاومة أولئك المفسدين المترفين فلنلوث لهم النهر الذى يشربون منه ليذوقوا بعض مانعانيه! ربما يفكرون بهذه الطريقة المضحكة، وإن كانوا لايعلمون أن المترفين لايشربون من النيل بعد أن اتضح لدى المترفين فى الداخل والخارج أن معدل التلوث فى النيل يفوق المسموح به، فأصبحوا يشربون المياه المعدنية، وتركوا النيل للفقراء يشربون منه ويقذفون بفضلاتهم فيه ..!!  أهى العادة السيئة المصرية التى تقول " وانا مالى" ؟ هل هى الانانية  والاهتمام بالفردية دون النظر للآخرين ؟ ربما.. ففى عصور القهر والاستبداد واتساع الفجوة بين الاثرياء   والفقراء ينكب كل انسان على نفسه ولا يعبأ بالآخرين، واذا كان ذلك واضحا بين الصفوة والنخبة فهو أكثر وضوحا بين جموع الشعب ، ونرى ذلك فى حادث فتاة العتبة وفى طريقة الحياة فى اللحظة الحاضرة ، أو المهم أن نعيش اليوم ولاداعى لأن نفكر فى الغد أو أن نفكر فى الغير.

3 ــ ومهما كان السبب فى ذلك التطور السلبى الذى طرأ على الشخصية المصرية فهو أخطر من تلوث ماء النيل ، إن تلوث النفس يظل أفظع من تلوث النهر . ومن السذاجة أن نطالب  فقط  بتطهير ماء النيل من التلوث ونترك أنفس المصريين مستنقعا لملوثات فكرية ومشاعر سلبية . صحيح أنه يمكن بالدعاية المكثفة فى التليفزيون وأجهزة الاعلام أن ننبه الغافلين الى خطورة التلوث وفظاعة أن نسمم مياه النيل بأيدينا ،لابد أن تتكاتف أجهزة الدولة لحماية النيل وحماية من يعيشون عليه من أنفسهم ، هذا ممكن ومطلوب بشدة وعلى وجه السرعة .. ولكن الاقتصارعلى ذلك سيجعل المشكلة أكثر حدة وأكثر تفجرا ،لأن الذى سيحدث أن تثور ضجة اعلامية وتحدث مواكب وتنطلق الزفة وتصدر الشعارات والتصريحات ثم ينفض المولد الى أن تظهر بدعة جديدة ينشغل بها الناس ، ويعود النيل أكثر تلوثا ، ويزداد الفقراء سلبية ويأسا ومرضا وقرفا .

4 ــ ان الحل الحقيقى هو علاج النفس المصرية من التلوث الذى يهدد حاضرنا ومستقبلنا ، ان المصرى ليس فاسدا بطبعه ، ولكن حين تنهمك أقلية من المصريين فى النهب والفساد فليس من حقك أن تلوم الأكثرية الضائعة الجائعة إذا سارت فى طريق الانتحار البطىء ..

5 ــ فى مصر بالذا ت يبدأ العلاج من فوق . من النخبة والصفوة والقدوة ، إن الله تعالى حين أرسل موسى لم يبعثه الى المصريين وإنما أرسله الى فرعون فقط ، بينما كان كل نبى مبعوثا

الى القوم أجمعين .. ولأن فرعون وآله كانوا من المفسدين  فقد دفع المصريون جميعا الثمن .. وذلك مانتعلمه من القرآن والتاريخ .

5 ـ ان الله تعالى يقول : (  ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) الروم ) ، أى أن الفساد نتيجة لما يرتكبه الناس بأيديهم ، وهو أيضا عقوبة لهم.. وبالتالى فانه يمكن أن نحارب الفساد ونمنع أسبابه وظهوره فى البر والبحر ، ذلك اذا صدقت النوايا وآمنا بأننا جميعا فى مركب واحد يسبح فوق مياه النيل ، وأنه اذا غرق المركب غرقنا جميعا.. لافارق بين غنى وفقير أ و حاكم ومحكوم ..

6 ـ إن فساد الأقلية المترفة هو سبب شقاء الأكثرية .. وسبب تلوث النيل ..

                  

                                                                                                 

 

 

السيول فى العصر العباسى

 

تعرضنا لابتلاءات الكوارث الناتجة عن ظلم الانسان بما يؤثر على الميزان ، أى التوازن فى البيئة وعناصرها من مناخ ومواد . لكن هذا التوازن فى حد ذاته يحتاج الى أن يُصلح ذاته بذاته ، طبقات الأرض قد تحتاج الى تعديل فتنشأ الزلازل. الكرة الأرضية تشبه مجازا البرتقالة . قشرتها تُخفى ما تحتها . القشرة الأرضية تحتها ( اللافا او الماجما ) أى الصخور الملتهبة الذائبة. الجبال هى مثل المسامير التى تثبت القشرة الأرضية حتى لا تميد بنا فوق هذه اللافا الملتهبة. والله جل وعلا يصف الجبال بأنها ( أوتاد ) : ( النبأ 7 ) وأنها :( رواسى ) ( النحل 15 ، الأنبياء 31 ، لقمان 10 )و( أوتاد ) ( النبأ 7 ) . جوف الأرض تحت القشرة الأرضية ينوء بما يحمل من هذه الصخور الذائبة الملتهبة فيدفعها الضغط لأن تتقيأها الجبال براكين متفجرة ، تبدو كارثة تدمر ما حولها .  نتكلم هنا عن كوارث لا دخل للإنسان فيها . وهى كوارث ينطبق عليها وصف الابتلاء . ولأنها إبتلاء ففيها المحنة والمنحة ، النعمة والنقمة . صحيح أن الظاهر للعيان هو الجانب الكارثى ، ولكن لا تخلو من فوائد ، يستطيع المتخصصون شرحها .

ولأن تخصصنا هو تاريخ المسلمين ، فإننا نعرض لبعض الكوارث الطبيعية التى أرّخ لها المؤرخون المعاصرون لها. ونبدأ بالسيول متذكرين تسونامى .

أولا : من أخبار السيول في العصر العباسي

مقدمة

1 ــ المؤرخ ابن الجوزي ولد عام  511 ومات سنة 597 هـ في خلافة الناصر بعد ان قاسي منه الامرين . ولم يستطع المؤرخ المسكين أن يسجل الظلم الذى حاق به فى أواخر أيامه تاركا تلك المهمة لمن جاء بعده من المؤرخين . ابن الجوزى كان يعيش شيخوخته عندما تولي الخليفة الناصر الحكم ،وحين ادرك المؤرخ العجوز جبروت الخليفة الشاب كف عن التأريخ ، وانهي كتابه الهام في التاريخ وهو كتاب (تاريخ المنتظم ) بنهاية الخليفة المستضئ ،او بمعني اصح سنة 574 هـ قبيل موت المستضئ . وفي عهد الخليفة المستضئ والد الناصر كان ابن الجوزي في اوج شهرته كأعظم علماء عصره في الحديث والتاريخ والفقه والوعظ ،وكان في تأريخه في السنوات الاخيره من تاريخ المنتظم يشير الي مجالس وعظه وتوليه المناصب بعناية العباسيين ،وانتهي ذلك كله بمجئ الناصر العباسى وظلمه ..

2 ــ لم تنقطع ظاهرة السيول في أي عصر، ولكنتسجيلها في أحداث التاريخ هو الذي كان ينقطع, والقليل من المؤرخين العرب والمسلمين هم الذين اهتموا برصد الظواهر الطبيعية من السيول والزلازل والأحوال المناخية وحركات النجوم والشهب والكواكب . ومن أولئك المؤرخين كان الفقيه المحدث عبد الرحمن الجوزي في تاريخه "المنتظم " الذي يرؤخ فيه للدولة العباسية بالذات بتفصيل اتسع لتسجيل النكبات والظواهر الطبيعية ومنها السيول .

3 ـ ونقتطف من تاريخ المنتظم لابن الجوزي موجز لكوارث السيول في العصر العباسي ، وقد ذكر بعض تفصيلات لها فى لأجزاء الأخيرة من المنتظم . 

أولا : فى القرن الخامس الهجرى

1 ـ في سنة 420 هـ  حدث سيل في نواحي النعمانية بالشام وتكاثرت فيه الكرات الثلجية الكبيرة ( برد )، وكان وزن الواحدة منها يصل عدة أرطال، وصاحبت السيول ريح سوداء اقتعلت أشجار الزيتون العتيقة وطرحتها بعيداً واقتلعت بعض النخيل وسقف المسجد الجامع في بعض القرى. وعثروا على كرة ثلجية تزيد على مائة رطل " وكانت كالثور النائم " وقد أحدثت في الأرض حفرة هائلة..

2 ــ سنة  489 : (  ..وكان الناسينتظـرون الغرق فوصل الخبر بأن الحاج حصلوا في وادي المناقب بعد نخلة فأتاهم سيلعظيم فنجا منهم من تعلق برؤوس الجبال وأذهب المـاء الرحـال والرجـال . ) . .‏

ثانيا : فى القرن السادس

1 ــ في سنة 515 هـ وقعت سيول هائلة بالعراق أهلكت الثمار والفواكه والأشجار وما في الخزائن من غلات واستمر سقوط الثلج عدة أيام وملأ الشوارع، واستمر يسد الطرقات فصنع منه الأطفال تماثيل وألعاباً.. وأصاب الثلج والسيول قدوم الحجاج من الحجاز وهم يدخلون الكوفة فأصابهم ببلاء شديد. ويقول ابن الجوزي في التعليق على هذا الخبر أن ذلك الثلج وقع في سنين كثيرة في أيام المقتدر والرشيد والطائع والمطيع والقادر بالله والقائم وما سمع أحد بمثل ذلك الثلج وذلك السيل الذي وقع في ذلك العام 515 هـ وقد بقي ذلك الثلج خمسة عشر يوماًقبل أن يذوب وأهلك الشجر والثمر.

3 ـ فى العام التالى   516 يقول : ( وفي هذه السنة‏:‏ زاد الماء حتى خيف على بغداد من الغرق . ) ( وفي يوم الأربعاء رابع عشر صفر‏:‏ مضى الوزير أبو علي بن صدقة ومعهموكب الخليفة إلى القورج واجتمع بالوزير أبي طالب ووقفا على ظهور مراكبهما ساعة ثمإنصرفا فما استقر النـاس فـي منازلهـم حتـى جـاء مطـر عظيـم أجمـع الأشيـاخ أنهـملـم يـروا مثلـه فـي أعمارهم ووقع برد عظيم معه ولم يبق بالبلد دار إلا ودخل الماءمن حيطانها وأبوابها وخرج من آبار الناس‏.‏)

 4 ــ سنة  549  : ( وحـدث فـي هـذه السنـة فـي دجلـة زيـادة واحمـرار الماء لم يعهد في ذلك الوقت وحدثفي هذه السنة في دجلة في عدة نواحي بلاد واسط ظهور دم من الأرض لا يعلم له سبب‏ . )

5 ــ سنة 553 : ( وفي يوم الجمعة العشرين من شوال‏:‏ وقع ببغداد مطر كان فيه برد مثلالبيض وأكبر على صورمختلفة وفيه برد مضرس ودام ساعة وكسر أشياء كثيرة . ‏)

6 ــ سنة 554 :

2 ـ  وشاهد ابن الجوزي بنفسه السيول التي وقعت في دجلة في ثامن عشر ربيع الأول سنة 554هـ , إذ فاض دجلة وزحفت منه السيول إلى البلاد فامتلأت الصحاري واقتحم الأسوار وملأ الشوارع في المدن وعزلها عن بعضها , ويقول ابن الجوزي أنه خرج من داره وقت الضحى فاحتلها الماء وقت الظهر, فلما جاء العصر وقعت البيوت كلها , وأخذ الناس يعبرون هاربين من السيل يركبون السفن التي ارتفع سعر ركوبها في تلك الكارثة ثم تناقص الماء بعد يومين  ورجع ابن الجوزي إلى بيته فلم ير فيه حائطاً قائماً ولم يعرف أحد موضع داره إلا بالتخمين إذ أصبحت المدينة تلالاً واستدل ابن الجوزي على موضع بيته بمنارة المسجد القريب منه والتي لم تسقط ..يقول : ( وفيها‏:‏ وقع برد عظيم فهلكت قرى وذكر أنه كان في بعض البرد ما وزنه خمسـة أرطـالوأهلكت الغلة فلم يقدروا على علف‏.‏) ( وفي ثامن عشر ربيع الأول كثر المد بدجلة وخرق القورج ، وأقبل إلىالبلد فامتلأت الصحارى وخندق السور وأفسد الماء السور ففتح فيه فتحة يوم السبت تاسععشر ربيع ، فوقع بعض السورعليها فسد بها ، ثم فتح الماء فتحة أخرى فأهملوها ظنًا أنهاتنفس عن السور لئلا يقع فغلب الماء وتعذر سده فغرق قراج ظفر والأجمة والمختارةوالمقتدية ودرب القيار وخرابة ابنجردة والزيات وقراح القاضي وبعض القطيعة وبعض باب الأزج وبعـضالمأمونيـة وقـراح أبـي الشحم وبعض قراح ابن رزين وبعض الظفرية وثب الماء تحت الأرضإلى أماكن فوقعت ).

ويحكى ابن الجوزى عن تجربته مع هذا السيل : ( قال المصنف‏:‏ وخرجت من داري بدرب القيار يوم الأحد وقت الضحى فدخلإليها المـاء وقت الظهر فلما كانت العصر وقعت الدوركلها وأخذ الناس يعبرون إلىالجانب الغربي فبلغت المعبرة دنانير ولم يكن يقدرعليها‏.‏ثـم نقـص المـاء يـوم الإثنيـن وسـدت الثلمة وتهدم السور وبقي الماءالذي في داخل البلد يدب في المحال إلى أن وصل بعض درب الشاكرية ودرب المطبخ . وجئتبعد يومين إلى درب القيار فما رأيت حائطًا قائمًا ، ولم يعرف أحد موضع داره إلابالتخمين ، وإنما الكل تلال ، فاستدللنا على دربنا بمنارة المسجد فإنها لـم تقـع . وغرقـتمقبـرة الإمـام أحمـد وغيرهـا مـن الأماكـن والمقابـر ، وانخسفت القبور المبنيـة،  وخـرج الموتـى علـى رأس المـاء وأسكـر المشهـد والحربيـة . وكانـت آيـة عجيبة ثم إنالماء عاد فزاد بعد عشرين يومًا فنقض سد القورج فعمل فيه أيامًا‏.‏)

6 ـ عام   568 - وتكرر السيل في شعبان سنة 568 هـ وبنفس التفاصيل وقام الدعاة في المساجد يحثون على العمل في تلافي أخطار السيل, وظلت آثاره إلى رمضان .. وارتبط ذلك السيل بحدوث حرائق وهبوب رياح سوداء استمرت إلى رمضان وكان ابن الجوزي في ذلك الوقت يعطي درسا في باب بدر في بغداد . ثم عاد السيل طوفاناً في رمضان إذ فاض دجلة وهطلت الأمطار والثلوج فانهدمت البيوت ومات كثير من الناس والحيوانات وبلغ وزن الثلج الساقط اكثر من سبعة أرطال للواحدة وبتوالي السيول ساحت البيوت, فخرج الناس إلى الصحراء يقيمون في الخيام وعملوا سدودا لحصر السيل , وتولى بناءها الجند والعوام ولكن كان السيل يغلبهم ويضج الناس حينئذً بالبكاء والتضرع إلى الله تعالى وغلى السعر وندرت الأقوات ولم تنج قصور الخلافة العباسية من السيل حتى خرج عنها الخليفة وامتلأت المقابر بالماء فتغيرت ملامح المدينة ولم يعد هناك فارق بين البيوت المهدومة والمقابر المنثورة وكان الناس ينتقلون من شارع لآخر بالسفن .. وفي الثاني والعشرين من رمضان ازداد السيل فملأ الصحراء يطارد الناس اللاجئين إليها فكثر التضرع لله .. ووصل السيل إلى أغلب المدن خصوصا الموصل والبصرة وما بينهما , وهلكت القرى والمزارع   ..  والغريب أن نهر دجلة قد نضب وهلكت المزارع حوله من العطش.. وسرى الوباء والغلاء هنا وهناك من كثرة الماء أو من الجفاف ..

4 - وتفاصيل أخرى عن ( تسونامى ) حدث  فى عام  569 ، ننقل بعضها:  ( وفـي غـرة رمضـان‏:‏ زادت دجلـة زيـادة كثيـرة ثـم تفاقـم الأمـرفـي سابـع رمضـان .وجـاء مطـر كثير في ليلـة الجمعـة ثامـن رمضـان ووقـع فـي قـرىحـول الحظيـرة وفـي الحظيرة برد ما رأوا مثله، فهدم الدور وقتل جماعة من الناس وجملةمن المواشي . وحدثني بعض الثقات انهم وزنوا بردة فكان فيها سبعة أرطال . قال وكانتعامته كالنارنج يكسر الاغصان . وساخت الدور . ثم زاد الماء في يوم الاحد عاشر رمضانفزاد على كل زيادة تقدمت منذ بدأت بـذراع وكسـر . وخـرج النـاس وضربوا الخيم علىتلال الصحراء ، ونقلوا رحالهم إلى دار الخليفة ، ومنهم من عبر وتقدم بالعوام يخرجوابالوعاظ إلى القورج ليعملوا فيه فخرجنا وقد انفتح موضع فوق القورج بقرية يقال لهاالزور تقية ، وجاء الماء من قبله فتداركه الناس فسدّوه ، وبات عليهم الجند . وتولى العملالأمير قيمـاز بنفسـه وحـده ثم انفتح يومئذ بعد العصر فتحة من جانب دار السلطانوساح الماء فملأ الجواد ثم سد بعد جهد . وبات الناس على اليأس يضجون بالبكاء والدعاء.  ثم نقص الماء نحو ذراعيـن فسكـن النـاس وغـلا السعـر فـي تلـك الأيام فبيع الشوك كلباقة بحبة والخبز الخشكار كل خمسـة أرطـال بقيـراط ودخـل نزيـز المـاء مـن الحيطـانفمـلأ النظاميـة والتتشية ومدرسة أبي النجيب وقيصـر وجميـع الشاطئـات ثـم وصـلالنزيـز إلـى ربـاط أبـي سعـد الصوفـي فهدمت فيه مواضع وإلى درب السلسلـة . ومـن هـذهالمواضـع مـا وقـع جميعه ومنه ما تضعضع وكثر نزيز الماء في دار الخلافة وامتلأتالسراديب ، فكان الخليفة يخرج من باب الفردوس إلى ناحية الديوان فيمضيَ إلى الجامع.  ونبع الماء من البحرية فهلكت كلها وغلقت أبوابها . ونبع في دار البساسيري ودرب الشعيرمن البلاليع . وانهدمت دور كثيرة حتى انه نفذ إلى المواضع البعيدة ، فوقعت آدر فيالمأمونية . وصعد الماء إلى الحريم الطاهري بالجانب الغربي فوقعت دوره . ودخل الماء إلىالمارستان وعلا فيه ، ورمـى عـدة شبابيـك مـن شبابيكـه الحديـد،  فكانـت السفـن تدخـلمـن الشبابيـك إلى أرض المارستان ولم يبق فيه مَنْ يقوم بمصلحته إلا المشرف علىالحوائج‏.‏...  وامتلأت مقبـرة أحمـد كلهـا ولـم يسلـم منهـاإلاموضـع قبـر بشر الحافـي ..وكان مَنْ يرى مقبرة أحمد بعد أيام يدهشكأن القبور قد قلبت وجمع الماء عليها كالتل العظيم من العظام وكالتل من ألواحالقبور . ..ووقع أكثر سور المشهد ، ونبع الماء من داخله الماء، فرمى الدور والترب . ووقعت آدر بالحربية من النزيز وامتلأ الماء من دجلة إلى سور دارالقز . وكان الناس ينزلون في السفن من شارع دار الرقيق ومن الحربية ومن الحربيـة ومـندرب الشعيـر . وامتلأت مقبـرة بـاب الشـام ووقـع المشهد الذي على باب النصرية . ووصلالمـاء مـن الصـراة الـى بـاب الكـرخ . وكـان النـاس قـد وطئـوا التلال العالية. وهلكت قرى كثيرة ومزارع لا تحصى‏.‏وجاء يوم الخميس حادي عشرين رمضان بعد الظهر برد كبار ( أى قطع ثلج ) ودام زمانًاكسر أشياء كثيرة ، وتوالت الأمطار في رمضان والرعود والبروق‏.‏. ثم عاد الماء في يوم السبـت ثالـثعشريـن رمضـان إلـى الزيـادة الأولـى علـى غفلـة ثم زاد عليها . وجاء يومئذ مطر عظيم....وغلب الماء فامتلأت الصحراء وضربإلى باب السور وضربوا الخيم على التلال العالية كتل الزبابية وتل الجعفرية ..وعم الماء السبتي والخيزرانية . وعسكر أهل أبيحنيفة فجاءهم الماء من خلف القرية وجامع المهدي فوقعت فيه أذرم . ونبع الماء من دارالخليفة من مواضع وهدم فيها دور كثيرة، وملأ السراديب ، وانتقل جماعة مـن الخـدم إلـىدور فـي الحريـم . وامتلأت الصحـارى ، وعبـر خلق كثير إلى الكرخ وتقطر السور وانفتحتفيه فتحات وكان الناس يعالجون الفتحة فإذا سدوها انفتحت أخرى ، وكثر الضجج والدعاءوالابتهال إلى الله سبحانه وتعالى . وغلا الخبر ‏.‏وجـاءت فـي هـذه الأيـام أكلـاك ( سفينة ) مـن الموصـل فتاهـت فـي المـاء حتـىبيـع مـا عليهـا ببعقوبا بثمن طفيف ، وأخبـر أهلهـا بمـا تهـدم مـن المنـازل بالأمطارفي الموصل . وقالوا : اتصلت عندنا الامطار أربعة أشهر فهدمت نحو ألفي دار وكانوا يهدمونالدار اذا خيف وقوعها فهدموا أكثر مما هدم المطر.  وكانت الدار تقع على ساكنيها فيهلكالكل.  ثم زادت الفرات زيادة كثيرة .. وجـاءالمـاء فأهلـك مـن القـرى والمـزارع الكثيـر ثـم جـاء إلـى الجانـب الغربي من نهرعيسـى والصـراة.. وأسكـر أهـل دار القـز وأهـل العتابيين وباب البصرة والكرخ وباتوامدة على التلال يحفظـون المحـال وقـد انبسـط المـاء فراسخ ومر خلف المحال فقلب فيالخندق والصرة ونهر عيسى ورمى قطعة من قنطرة باب البصرة‏.‏ومن العجائب أن هذا الماء على هذه الصفة ودجيل قد هلكـت مزارعـهبالعطـش ووقـع الموتـان فـي الغنـم وكان ما يؤتي به سليمًا يكون مطعون حتى بيعالحمـل بقيـراط ومـرض النـاس مـن أكلهـا ثـم غلـت الفواكـه فبيـع كـل من من التفاحبنصف دانق وكذلك الكمثرى والخوخ حتى غلا الطين الذي من المقالع‏.‏)

وتكررت الكارثة بتفاصيل أشد في شهر رجب سنة 573هـ ويقول فيه ابن الجوزي أنه جاء مطر عظيم دام ثلاثة أيام بلياليها وكانت فيه رعود هائلة وبرق عظيم هائل فوقعت قصور  وبيوت كثيرة وامتلأت الطرقات بالماء وبقى الوحل أسبوعاً وأنفق الخليفة أموالاً في تنحية الوحل من الطرقات ..يقول : ( وفـي ليلـة الاحـد سـادس عشر رجب‏:‏ جاء مطر عظيم ودام ثلاثة ايام بلياليهن وكانفيه رعود هائلة وبروق عظيمة ووقعت آدر كثيرة وامتلأت الطرقات بالماء وبقي الوحلأسبوعًا . وجمع أهل عرب بينهم اثني عشردينارًا لمن ينقل المـاء فـي المـزادات الـىدجلـة . واخـرج الخليفـة مـالًا ينفـق فـي تنحيـة الوحـل مـن الطـرق وزادت دجلـةزيـادة بينـة وذلـك فـي كانـون الثانـي ولـم يـزل ينقـص قليلًا ثم يعود الى الزيادةفقال شيخ من الملاحين لي ثمانون سنة ما رأيت مثل هذه الزيادة في كانون‏.‏) ( وفي سحرة يوم الأربعاء سابع شوال‏:‏ هبت ريحعظيمة فزلزلت الدنيا بتراب عظيم حتى خيف ان تكون القيامة ثم جاء فيها برد ودام ذلكساعة طويلة ثم انجلت وقد وقعت حيطان وتهدمت مواضع على اقوام مات منهم وارتث منهمووقع سقف متصل بمنظرة الخليفة التي عند باب الحلبة وكانت الريح تقوى ساعة وتخف ساعةالى وقت الضحى ثم اشتدت وملأت الدنيا ترابًا فصعد اعنان السماء فتبير السماء منهمصفرة الـى وقـت العصـر وزادت دجلـة فـي عاشـر شـوال زياثـة عشريـن فراعـآ علـىالمعتـاد وخـاف النـاس واشغلوا بالعمل في القورج ثم نقص الماء بعد ثلاثة ايام‏.‏وفـي يوم الجمعة سلخ شوال‏:‏ بعد أذان الجمعة صعد غيم وجاء مطرشديدمن جامع السلطان الـى الرصافـة فمـا فـوق فكانـت ثـم غـدران وامتلأت الصحـارىوالشوارع به ولم يأت بنهر معلى الا اليسير‏.‏)

 

 

 الزلازل فى العصر العباسى

 

مؤرخوالعصر العباسى وضعوا بغداد نصب أعينهم وانشغلوا بخلفائها والمتحكمين فى أمورها , وكانت حركات العيارين ـ أو قطاع الطرق ـ تشغل اهتمامهم أكثر من سياسة السلاطين فى شمال أفريقيا ومصر والأندلس , ومع ذلك فإن أحداثا ضخمة وكوارث طبيعية كالزلازل استطاعت أن ترغم المؤرخين العباسيين على تحويل وجوههم بعض الوقت عن بغداد إلى تلك المناطق البعيدة التى حدث فيها الزلزال .. فسجلوا وقائع الزلزال حسبما يصل إليهم . ومن ناقلة القول أن وقائع الزلزال الذى يحدث فى بغداد والعراق كانوا يهتمون بها أكثر من اهتمامهم بمثيلتها فى شمال أفريقيا ومصر , ولنا ان نعذرهم ، فالمؤرخ فى ذلك العصر كان مشغولا بما تقع عليه عيناه وبما يصل إلى مسامعه ولم تكن وسائل الإتصال سهلة ميسورة كما فى عصرنا ..

ونعرض لبعض الزلازل التى حدثت فى العصر العباسى فى بلاد المسلمين من واقع مارواه ابن الجوزى فى تاريخه المنتظم أكبر مصدر تاريخى عن العراق فى عصره ..

الزلازل فى بغداد  

1ـ وقد حدثت فى بغداد بعض الهزات الأرضية , وقد أفاض فى تسجيلها المؤرخون برغم أنهم لم يذكروا لها ضحايا مما يدل على أنها هزات محدودة الأثر .. فقد حدثت رجة زلزال فى رمضان سنة 186هـ بين المغرب والعشاء , وقد وصفها ابن الجوزى بأنها  "رجفة شديدة " ولم يذكر لها ضحايا , ولم يذكر لها تأثيراً على البيوت والمساكن ..

2 ــ وحدثت رجفة أخرى سنة 347هـ ولم تترك أثراً .

أمّا فى سنة 464هـ فقد حدث فى بغداد زلزال ارتجت له الأرض ست مرات وكان ذلك ليلة الجمعة ـ 26من ربيع الآخر وقت طلوع الشمس , ومع ذلك فلم تحدث خسائر بشرية أو مادية , 3 ــ ولخلو تلك الزلازل من خسائر بشرية فقد اكتفى أهل بغداد باعتبارها فألاً سيئاً ونذيراً بموت أحد الكبار , ونفهم ذلك من قول ابن الجوزى عن زلزال محرم سنة 487هـ أنه مات بعده الخليفة المقتدى ،

4 ــ  وكان زلزال يوم عرفه سنة 511هـ محسوسا فقد كانت الحيطان والستائر تروح وتجىء وأوقع الزلزال بعض البيوت والدكاكين , ولكن لم تقع خسائر فى الأنفس , واكتفى ابن الجوزى بالربط بين ذلك الزلزال وبين موت السلطان محمد بن ملكشاه .

5 ــ ويقول المؤرخ أبو الفضل بن ناصر عن زلزال بغداد يوم 16 ربيع الأول سنة 524هـ الذى حدث ليلة الجمعة " كنت فى المسجد بين العشائين فماجت الأرض مراراً كثيرة من اليمين عن القبلة إلى الشمال فلو دامت لهلك الناس , ووقعت دور كثيرة ومساكن فى الجانب الشرقى والغربى ثم حدث موت السلطان محمود وفتن وحروب " أى اعتبر الزلزال مؤذناً بالموت والفتن والحروب ..

6 ــ ويروى ابن الجوزى تجربته الشخصية عن زلزال بغداد سنة 529هـ " وزلزلت بغداد مراراً لا أحصيها , وكان مبتدأ الزلزال يوم الخميس ـ 11 شوال فزلزلت يومئذ ست مرات , ودامت كل يوم خمس مرات أو ست مرات إلى ليلة الجمعة سابع عشر من شوال , ثم ارتجَّت يوم الثلاثاء النصف من الليل حتى تفرقت السقوف وانتـثرت الحيطان , وكنت فى ذلك الزمان صبياً , وكان نومى ثقيلاً لا أنتبه إلا بعد الإنتباه الكثير فارتج السقف تحتى وكنت نائماً فى السطح رجة شديدة حتى انتبهت منزعجاً ،  ولم تزل الأرض تميد من نصف الليل إلى الفجر والناس يستغيثون ... !! ولم تقع ضحايا .. مما يدل على أنه ليس بالشدة التى تصورها ابن الجوزى ,

7 ــ ويكرر ابن الجوزى الحديث عن تجربته الشخصية مع زلزال بغداد ليلة الثلاثاء ـ 24من ذى القعدة سنة 538هـ وكان أيضاً نائماً ، يقول " كانت رجة عظيمة , كنت مضطجعاً على الفراس فارتج جسدى منها " ..

الزلازل فى العراق

1 ـ أمَّا الزلزال الحقيقى فهو الذى كان يحدث خارج بغداد وتصل أنباؤه الى مسمع ابن الجوزى فيسجلها ، وكانت الضحايا بالألوف وعشرات القرى والمدن . , وكنا نحتاج إلى قلم ابن الجوزى ليصدر وقائعة عن مشاهدة عينية , ولكنه كتب ما وصل إلى سمعه وما نقله عن الآخرين . وبالتأكيد فإن ذلك الوصف السماعى كان أخف كثيراً من الواقع البشع ،  ويبدو أن بغداد كانت بعيدة عن مراكز الزلازل القوية فى العراق التى كانت تضرب المدن الرئيسية وما حولها فى الأهواز وواسط والموصل وحلوان ..

2 ـ ففى مستهل جمادى الأولى سنة 225هـ حدث بالأهواز زلزال هائل تصدعت منه الجبال خصوصاً الجبل المطل على الأهواز , ودام الزلزال أربعة أيام بلياليها , وهرب أهل البلد إلى البر وإلى السفن وسقطت دور كثيرة وسقط نصف الجامع , ومكثت الزلازل ستة عشر يوماً, ولم يذكر المؤرخون أعداد الضحايا ..

3ـ وفى سنة 310هـ حدث زلزال هائل فى واسط نتج عنه شقوق هائلة فى الأرض عددها سبعة عشر شقاً أكبرها ألف ذراع وأصغرها مائة ذراع , وقد أغرق ذلك الزلزال ألفاً وثلثمائة قرية من القرى الكبيرة .. !! ولم يذكروا أعداد الضحايا ..

4 ـ وفى سنة 317هـ ضرب الزلزال منطقة الموصل فهدم كثيراً من المنازل وأهلك كثيراً من الخلق . 

5 ـ وفى سنة 444هـ عاد الزلزال يضرب منطقة الأهواز وأرجان فارتجت الأرض وتقلعت الحيطان ووقعت الشرفات , وحكى بعضهم انه كان قاعداً فى ايوان داره فتطاير السقف حتى رأى السماء .. ولم يذكر المؤرخون أعداد الضحايا ..

6 ـ وفى يوم 18 شوال سنة 450هـ بين المغرب والعشاء اهتز العراق كلها بزلزال ضخم أرهب الناس ودمر البيوت فى همدان وواسط وعانة وتكريت ووصلت أصداؤه إلى بغداد .. ولم يذكروا أرقام الضحايا ..

7 ـ وفى شهر ذى الحجة سنة 455هـ حدث زلزال آخر فى واسط وقد لبث مدة طويلة ..

8 ــ وفى يوم السبت أول ذى الحجة سنة 544هـ وفى وقت الضحى حدث زلزال عظيم فى حلوان , حيث ظلت الأرض تموج وتتحرك نحو عشر مرات , وتقطع الجبل وابتلعته الأرض , وانهدم الرباط البهروزى , ومات ألألاف من التركمان ..

فى فارس والمشرق : ـ

وايران حتى الان لا تزال تشهد كوارث الزلازل , وكانت مسرحا لها فى العصر العباسى ..

1 ـ فى سنة 224هـ ضرب زلزال مدينة فرغان فمات أكثر من خمسة عشر ألفاً . !!

2 ـ فى سنة242هـ وفى شهر شعبان دمر زلزال هائل ايران , فى منطقة الدامغان قتل 45ألفاً من بينهم الوالى العباسى ودمر نصف المدينة وامتد إلى قومس وما حولها فهدم البيوت وأسقط مدينة بدس كلها على أهلها ،  ومات الآلاف فى القرى تحت الهدم ،  ودمر ثلثى مدينة بسكام .  وفى نفس الوقت تزلزلت مناطق الرى وجرجان وطبرستان ونيسابور وأصفهان وقم وشاشان .  وسقطت جبال ودنا بعضها على بعض ، ونبع الماء مكان الجبال . واهتزت مدينة استراباذ وأصيب فيها الناس كلهم , وسمعوا أصواتاً هائلة،  وانشقت تحتهم الأرض .. !!

3 ـ فى سنة 281هـ وصل أنباء إلى بغداد بتفاصيل الزلزال الذى حدث فى ذى الحجة سنة 280هـ فى منطقة دبيل , فقد انخسف القمر فى 14 شوال ،  ثم تجلى فى آخر الليل ،  ثم أصبحوا بعد تلك الليلة والدنيا مظلمة ودامت الظلمة عليهم . فلما كان عند العصر هبت ريح سوداء شديدة دامت إلى ثلث الليل ، وبعده جاء الزلزال ،  وأصبحوا وقد ذهبت المدينة فلم ينج من مبانيها إلا اليسير ، أى حوالى مائة منزل  فقط .!. وكتبوا أنهم دفنوا حتى كتابة ذلك الخطاب بموت ثلاثين ألف شخص , وأنهم يخرجون الجثث من تحت الهدم ويدفنون ،  وأنهم أصيبوا بتوابع زلزالية خمس مرات , وقد بلغ جملة ما أخرجوه من تحت الهدم 150 ألف إنسان . !!

4 ـ وفى سنة 300هـ حدث زلزال هائل فى جبال الدينور , دمر الجبال وخسفها , وأخرج ما تحتها واغرق كثيراً من القرى ,

5ـ وفى سنة 328هـ حدث زلزال آخر فى المدائن , ولم تذكر له تفصيلات .

6 ـ وفى سنة 346هـ حدث فى شهر ذى الحجة زلزال عظيم فى منطقة الرى ونواحيها ومات فيه خلق كثير ..

7 ــ وفى العام التالى 347هـ ضرب زلزال عظيم غرب إيران فى قم وقاشان ووصل إلى العراق وبلاد الجبل , ووصلت أصداؤه إلى بغداد , وقد قتل فى إيران الالاف وأخرب المدن .

8 ــ وفي سنة  398 عاد الزلزال يضرب مدينة الدينور وما حولها فهدم المنازل وصرع أكثر من 16 ألف إنسان غير ما ابتلعته الارض ومات تحت الهدم , وخرج الناجون إلي الصحراء فاقاموا في أكواخ,، وضاع من الاثاث والمتاع ما لا يخفي ....

9 ــ وفي سنة 458 وفي جمادي الاخرة ضرب الزلزال منطقة خراسان واستمر عدة أيام فتصدعت الجبال وابتلعت الارض عدة قري ومات الالوف وأقام الباقون في الصحراء..

10 ــ وكان زلزال مدينة جنزة رهيبا , حدث سنة 533 فقتل 230 الفا من البشر , وكان قطر الزلزال عشرة فراسخ ،  وابتلعت الارض المدينة باكملها . وصار مكان المدينة بحيرة من الماء الاسود ..

11 ـ وفي سنة 572 وصل الخبر في شهر ذي القعدة إلي بغداد بان زلزالا هائلا عاد يضرب منطقة الري وقزوين , وأن الزلزال ابتلع عدة قري وأهلك أهلها ..

 في الشام

1 ــ في ربيع الاخر سنة 233 ضرب زلزال مدينة دمشق عند الضحي فدمر البيوت واسقط الحجارة وهدم الاسواق علي من فيها وقتل الالوف , وسقطت بعض شرفات المسجد الاموي وتصدعت طاقات القبة التي في وسط الجامع مما يلي المحراب , وانقطع ربع منارة الجامع , وهرب الناجون ألي مصلي العيد يتضرعون ويبكون ويصلون ويستغفرون إلي وقت المغرب , ثم سكن الزلزال فرجعوا واستخرجوا الضحايا والموتي من تحت الهدم ..

وذكر بعض من كان في دير موران بالقرب من دمشق انه كان يري مدينة دمشق وهي ترتفع وتنخفض عدة مرات .  وتدمرت قري كثيرة في غوطة دمشق واحدي القري في الغوطة ابتلعتها الأرض فلم ينج من أهلها إلا رجل واحد تصادف أن كان يركب فرسا خارج القرية،  وقد أتي دمشق فأخبر بما حدث لقريته.!

وقد ضرب نفس الزلزال مدينة البلقاء فهدم البيوت واسقط الحجارة من سور مدينتها , واسقط حائطا ضخما فيها , وهرب الناجون يبكون ويتضرعون إلي أن كف الزلزال .! .

ووصلت قوة الزلزال إلي انطاكية فقتل من اهلها كثيرين ، ووصل إلي الموصل ويقال انه مات فيها عشرون ألفا ..!.

2 ــ وفي جمادي الأولي سنة 239 حدث زلزال في ربع الليل الأول في طبرية فاصطكت الجبال واهتزت وسقطت قطعة ضخمة من الجبل المطل علي طبرية وقد مات تحتها كثيرون , وتدمرت بيوت كثيرة ..

3 ــ وحدث زلزال في لبنان سنة 300 هجرية فاسقط الجبال في البحر , ولم تذكر أصابات وضحايا ..

4 ـ وفى شوال سنة 328هـ حدث زلزال فى انطاكيه فاسقط 1500 دار واسقط من سورها أكثر من تسعين برجاً وهرب أهلها للصحراء ، وانهار جزء من جبلها المسمى بالأقرع وسقط فى البحر فارتفع منه دخان أسود مظلم ، ومات فى هذا الزلزال كثيرون .

5 ــ  وفى نفس العام حدث زلزال آخر فى بالس والرقة وحران ورأس العين وحمص ودمشق والرها وطرطوس والمصيصية وأدنه وسواحل الشام واللاذقية .  وقد هلك فيه معظم سكان اللاذقية , ومات أهل مدينة جبلة كلهم .. !!

6 ـ وفى سنة 425هـ حدث زلزال فى مدينة الرملة فهدم ثلث البلد ودمر المسجد الجامع وأهلك الكثير من الناس، وهرب الناجون إلى خارج البلد حيث أقاموا ثمانية أيام.  ووصل الزلزال إلى نابلس فدمر نصفها وقتل 300 من سكانها ،  وأسقط حائطاً من بيت المقدس وقطعة من محراب داود ومن مسجد إبراهيم عليهما السلام .  وسقطت منارة مسجد عقلان ورأس منارة غزة ،  وانخسفت فى الزلزال قرى كثيرة بسكانها ومواشيها ..!

7 ـ وفى سنة 455 عاد الزلزال يضرب انطاكيه واللاذقية وبلاد الروم (آسيا الصغرى) وطرابلس وصور وأماكن أخرى من الشام ،وأوقع من سور طرابلس قطعة. ولم يذكر عدد الضحايا . وقد حدث ذلك الزلزال فى شهر شعبان ..

8 ـ وفى سنة 460هـ فى شهر جمادى الأولى عاد الزلزال يضرب منطقة الرملة . وامتد إلى وادى الصفراء وخيبر جنوب الشام فى الجزيرة العربية . وعلى هامشه كانت مفاجأة سارة ، إذ انشقت الأرض وأظهرت كنوزاً من الآثار والأموال . ووصلت أصداء الزلزال قوية إلى الكوفة والحبة. وهذا الزلزال دمر مدينة الرملة كلها حتى لم يسلم منها إلا شارعان فقط ومات فيه (15) ألف نسمة،  وتشققت الصخرة فى بيت المقدس ،  وانحسر البحر المتوسط فى تلك النواحى مسافة طويلة (مسيرة يوم سيراً) ، ودخل الناس فى الأرض التى انحسرت عنها المياه يلتقطون ما فى القاع فرجع إليهم الموج فأغرق منهم خلقاً عظيماً ..!!

9 ـ وفى يوم الثلاثاء ـ 11 من جمادى الأولى سنة 462هـ عاد الزلزال يدمر مدينة الرملة وما حولها , وقد استمر عدة ساعات , فهدم سورها ومعظم مبانيها , ووصل إلى بيت المقدس وتنيس فى مصر , وانخسفت مدينة أيلة بأكملها , وانحسر البحر وانكشف قاعه ومشى الناس فيه ثم أسرعوا بالهرب قبل أن يعود الموج , وقد أثر هذا الزلزال على بعض مساجد القاهرة .  وقد جاءت توابع لهذا الزلزال ورصد الناس منها اثنتين ..

10 ـ وجاء زلزال رجب سنة 552هـ وكان الصليبيون قد أقاموا لهم ولايات فى الشام , فلم يفرق الزلزال بين البلاد المحتلة وغيرها , وقد دمر الزلزال 13 بلداً من بلاد المسلمين وخمسة بلاد من التى احتلها الصليبيون , فمن بلاد المسلمين أصاب الزلزال حلب وحماة وشراز وكفر طاب وقامية وحمص والمعرة وتل حران , وفى المناطق المحتلة الصليبية أصاب الزلزال حصن الأكراد وعرقة واللاذقية وطرابلس وانطاكية .. وقد مات فى حلب مائة نفس , وهلك معظم حماة وأما شيراز فما نجا منها إلا امرأة وخادم لها وهلك جميع من فيها ، ولم ينج أحد فى كفر طاب , وانخسفت قلعة قامية وهلك أهلها ،  ومات من حمص خلق كثيرون , ومات بعض أهل المعرة , وانشطرت تل حران إلى قسمين وظهر من تحت الأرض آثار ومدافن قديمة ، وأبيدت عرقه وحصن الأكراد , ولم ينج من اللاذقية إلا قليلون ، وبرز فيها من بين الأنقاض بركة فيها صنم وآثار وهلك أكثر طرابلس , ونجا بعض انطاكية ...

فى مصر وشمال أفريقيا

1 ـ كانت تنيس مدينة مصرية عامرة , وكانت تقع على الساحل الشمالى الشرقى فى سيناء , وكانت تتأثر بالزلازل التى تحدث فى فلسطين , وفى عام 328هـ الذى شهد زلزال الشام سمع أهل تنيس ضجة عالية هائلة فمات كثير من اهلها ,

2 ـ وفى جمادى الآخرة سنة 272هـ حدث زلزال آخر بمصر أخرب البيوت والمسجد الجامع فى الفسطاط , وكانت ضحاياه فى يوم واحد ألف شخص ..

3 ـ وفى سنة 608هـ حدث زلزال هائل فى مصر هدم دوراً كثيرة وامتد أثره إلى الأردن ( الكرك والشوابك ) وهدم أبراجاً من قلعتها , ومات كثيرون تحت الهدم , ورؤى دخان نازل من السماء بين المغرب والعشاء عند قبر عاتكه غربى دمشق حسبما يقول المؤرخ السورى ابن كثير ..

شمال افريقيا

 وكانت منطقة شمال أفريقيا موطناً للزلازل , وان لم تحظ باهتمام المؤرخين العباسيين ، ولكن أشد الزلازل وصلت أنباؤه الى بغداد ، وتم تسجيله:..

1 ـ ففى سنة 240هـ استمر الزلزال ثلاثة أيام ـ بتوابعه ـ وخسف ثلاث عشرة قرية من قرى القيروان , فأخرجوا أهلها وقالوا أنتم مسخوط عليكم ،  فبنى لهم الوالى حظيرة خارج المدينة فأقاموا فيها .. !!

2 ــ وكان عام 328هـ موسم الزلازل , إذ حدث فى الشام وفى شمال أفريقيا أيضاً , وقد هدم الزلزال فيها الحصون والمنازل والقناطر , فأمر الخليفة المتوكل بتفرقة ( 3 مليون ) درهم على ضحايا الزلزال الذين فقدوا بيوتهم ..

اليمن .

1 ـ  , وقد حدث فيها سنة 242هـ أن زلزالاً جعل جبلاً تحرك بما عليه من مزارع فانتقل إلى مكان آخر , فأرسلوا بهذه الواقعة إلى الخليفة المتوكل .

أخيرا .

وفى نفس العام حدثت كائنة غريبة أخرى إذ سقطت أحجار من السماء على قرية مصرية اسمها السويداء , وكان عدد الأحجار خمسة , وقد سقط حجر منها على خيمة أعرابى فاحترقت , وكان وزن الحجر خمسة أرطال , وحملت أربعة أحجار إلى الفسطاط , وحملوا حجراً آخر إلى تنيس ...    

 

    

 الفصل الثالث  : الفشل فى الابتلاء

  فشل المحمديين فى ابتلاء هذه الحياة الدنيا

 

 أولا : العالم حين نزل القرآن الكريم

1 ـ فى عصر نزول القرآن كان العالم المعروف فى الشرق والغرب تحكمه الديانات الأرضية ، وتشتعل فيه الحروب الدينية والمذهبية ومحاكم التفتيش ، ويسود فيه التعصب الدينى والإكراه فى الدين جنبا الى جنب مع الاستبداد والاسترقاق والظلم والفساد بكل أعوانه .

2 ـ نزل الاسلام قرآنا يتناقض مع هذه الثقافة الدينية السياسية الاجتماعية السائدة . وقلنا سابقا : (  الحرب فى سبيل الله جل وعلا الاسلام لا مثيل لها فى حروب البشر . حرب البشر فى الصراع الدنيوى تصل بالانسان الى مرتبة أحطّ من الحيوان ، وتتمثل فيها الهمجية بأبشع ما فيها ، ويدفع الثمن فيها المستضعفون ، ويفوز فيها وينجو ويكسب المستكبرون المترفون . الحرب فى سبيل الله يتجلى فيها أروع ما فى البشرية من نُبل ورقى حضارى . العدو المقاتل فى الجيش المعتدى يتم حقن دمه فى أرض المعركة لو نطق بكلمة السلام ، أو إستجار بالمسلمين ، ثم تتوقف الحرب ضد المعتدين بمجرد توقفهم عن الاعتداء ، وبمجرد توقفهم عن الاعتداء يصبح أخوة  فى الدين ( الاسلام السلوكى القائم على السلام) ، بل يغفر الله جل وعلا للمشركين المعتدين إذا إنتهوا عما هم فيه . وفى كل الأحوال فعلى المؤمنين رد الاعتداء بمثله دون زيادة ، وأن يكون إستعداهم الحربى ليس للإعتداء بل لردع المعتدى حتى لا يعتدى ، أى إستعداد حربى لتأكيد السلام ، لأن الاسلام هو دين السلام.  ) .

ثانيا : دخول العرب فى الاسلام ( الظاهرى ) أفواجا

1 ــ إن الدعوة للإسلام كانت تعنى السلام بديلا عن الحرب و التسليم لله جل وعلا وحده قلبيا وتعبديا. وقلنا إن للإسلام والايمان معنيان : فى التعامل القلبى مع الله جل وعلا هو التسليم له جل وعلا وحده والانقياد له وحده إلاها لاشريك له ولا تقديس لغيره . ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) الأنعام ).

والإيمان فى معناه القلبى هو الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله دون تفريق بين الرسل (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) البقرة  ).وهذا الاسلام القلبى والايمان القلبى مرجعه لله جل وعلا وحده يحكم فيه بين الناس يوم القيامة فيما هم فيه مختلفون : ( قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)) الزمر ).

أمّا فى التعامل مع الناس ، فالاسلام هو السلام ، والمسلم هو المُسالم مهما كان دينه وعقيدته . والمؤمن هو من يأمنه الناس من الأمن والأمان . والمنافقون فى عصر النبى كان ينزل القرآن بكفرهم وتآمرهم ، ومع ذلك فهم مسلمون ظاهريا لأنهم لا يرفعون السلاح ، وكان التزواج بينهم وبين المسلمين المؤمنين قائما لأن الفريقين إشتركا فى السلام ، أى الاسلام بمعناه السلوكى الظاهرى . والايمان فى معناه الظاهرى هو التمسك بالأمن والأمان .

2 ــ المؤمنون حول النبى كانوا ـ فى الأغلب ــ مؤمنين بالظاهر بمعنى الأمن والأمان ، ومعظمهم لم يحقق الايمان القلبى ، أى كان كافرا بقلبه  مع إلتزامه بالأمن ، لذا دعاهم رب العزة الى تحقيق الايمان القلبى بأن يؤمنوا بالله ورسله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) النساء ).

أولئك المؤمنون حول النبى كان منهم من يأكل الربا فهددهم رب العزة قائلا : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275))، ثم يقول لهم رب العزة جل وعلا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) البقرة ).  يخاطبهم رب العزة بالذين آمنوا ، ليس بالايمان القلبى الذى ليس لديهم ، ولكن الايمان السلوكى بمعنى الأمن والأمان .

وكان أولئك ( المؤمنون ) الصحابة يعبدون الأوثان فى المدينة متمتعين بالحرية الدينية المطلقة التى أرسها الاسلام فى دولة الاسلام فى المدينة فى عهد خاتم النبيين عليه وعليهم السلام . قال الله جل وعلا لهم : ( وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) الحج ) فلم يسمعوا ولم يطيعوا ، وظلوا على عبادة الرجس عاكفين ، ثم فى أواخر ما نزل قال لهم جل وعلا يخاطبهم بالذين آمنوا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) المائدة ) قال لهم جل وعلا (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ) ثم تأتى الآية التالية تحملهم المسئولية وأن ما على الرسول سوى البلاغ المبين دون إكراه فى الدين : (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) المائدة ).

3 ــ ولأن الاسلام دين السلام فإن الله جل وعلا إعتبر دخول العرب فى السلام دخولا فى دين الله جل وعلا فقال لخاتم النبيين : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2)  النصر). الذى رآه النبى هو الاسلام الظاهرى ، أى السلام وتوقف الحروب . ليس بوسع النبى أن يعلم غيب القلوب ، ليس بوسعه معرفة الاسلام القلبى والايمان القلبى بالله جل وعلا وحده الاها ، فالله جل وعلا قال له عن بعض أصحابه الملازمين له إنهم مردوا على النفاق ، وهم أسوأ المنافقين وسيعذبهم الله جل وعلا مرتين فى الدنيا ـ بعد موت النبى ، ثم ينتظرهم عذاب عظيم فى الآخرة . هؤلاء الصحابة المجرمون الملازمون للنبى لم يكن النبى يعرف ما فى قلوبهم : (  وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) التوبة )  . هؤلاء الصحابة الذين مردوا على النفاق وتوعدهم رب العزة بالعذاب مرتين فى الدنيا وعذاب عظيم فى الآخرة كانوا مؤمنين مسالمين حسب الظاهر ، شأنهم شأن الذين دخلوا فى السلام ـ دين الله جل وعلا ـ أفواجا .  ثم إرتكبوا فيما بعد خطيئة الفتوحات والفتنة الكبرى.

4 ـ  الكفر و الشرك سواء. هما قرينان فى مصطلح القرآن لذلك يأتيان مترادفين فى النسق القرآنى. ( 9 / 1 ، 2 ، 17) ( 40/42 2)ـ الكفر فى الغة العربية يعنى التغطية, أى كفر بمعنى غطى , والكفر العقيدى يعنى التغطية على الفطرة النقية بتقديس آلهة وأولياء مع الله جل وعلا .و فى نفس الوقت فان ذلك هو أيضا شرك لأنه حول الألوهية الى شركة وجعل لله تعالى شركاء فى ملكه ودينه   وعليه فكما للاسلام معنيان (الايمان بالله وحده الاها والانقياد والاستسلام لله وحده) حسب العقيدة القلبية فى التعامل مع الله، و( الأمن والثقة والسلام ) فى التعامل مع كل الناس ، فان الشرك والكفر معا يعنيان النقيض ؛ الظلم والاعتداء، اى الظلم لله تعالى والاعتداء على ذاته بالاعتقاد فى آلهة أخرى معه ، وتقديس غيره ، فيما يخص العقيدة ، والظلم والاعتداء على البشر بالقتل للابرياء وسلب حقوقهم وقهرهم، في التعامل مع الناس، كما فعل الصحابة فى الفتوحات.  

ونجح القرآن فى إقناع العرب  بالسلام ، وكانوا وقتها يتقاتلون بسبب وبدون سبب . دخل العرب فى الاسلام الظاهرى بمعنى السلام وحرية الدين المطلقة. بموته عليه السلام تسيّد منافقو قريش فى عصر الخلفاء الراشدين ، فارتكب العرب جريمتى الفتوحات والفتنة الكبرى ، وحكمت قريش خلال الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والفاطميين ، وفى حكمهم تم عقد الصلح مع ثقافة العصور الوسطى السائدة ، من الحروب الدينية والمذهبية والدولة الدينية والاستبداد الدينى والسياسى ، وتأسّست وترعرعت وتحكمت فى ( المسلمين ) الأديان الأرضية التى تنسب نفسها الى الاسلام زورا ، وهى السنّة والتشيع والتصوف .

 5 ــ  هذه الأديان الأرضية لكى تنتشر وتسود وتسيطر لا بد من تغييب العقل تماما ، والتعقل أساس فى الاسلام .وتكرر فى القرآن الكريم الدعوة للتعقل والتبصر والتفكر والفقه ، وكلها بمعنى واحد ، بل جاء تعليل نزول القرآن باللسان العربى لعلهم يعقلون :( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) يوسف ) ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) الزخرف ). وبإنكار التعقل وبخصومتهم مع القرآن الكريم وإتخاذه مهجورا تأسست للمحمديين شرائع غير إسلامية تمارس الارهاب على أنه جهاد وتقتل الاسير وتأكل حق اليتيم وتغتال قيم الحرية والعدل والمساواة وحقوق الانسان والحرية الدينية المطلقة والعلمانية الشريفة . وهذا ما ترتكبه الوهابية الآن ، وتنسبه للاسلام .

ثالثا : إنكارهم نعمة القرآن الكريم

1 ـ  فشل المحمديون فى الاختبار بإنكارهم نعمة القرآن ، وهى أعظم نعمة منّ بها الله جل وعلا عليهم .

2 ــ لقد وصف الله جل وعلا القرآن بالنعمة . فى البداية أمر الله جل وعلا رسوله بالدعوة الى الاسلام بالتحديث بحديث الله جل وعلا فى القرآن ، فقال له جل وعلا :(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)الضحى ) . كان قبل أن ينزل عليه القرآن الكريم يلقبونه بالصادق الأمين ، فلما بدأ يدعوهم بالقرآن أصبحوا يتهمونه بالضلال والغواية فقال لهم رب العزة مدافعا عنه : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) النجم ) . إتهموه بالجنون والكهانة بسبب ( نعمة القرآن ) ، فقال له جل وعلا :( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) القلم ) (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29)) الطور ). وتعهّد رب العزة بإتمام القرآن أو نعمة القرآن ، فقال جل وعلا مؤكدا :( وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) البقرة). وبإنتهاء القرآن الكريم نزولا فقد أتمّ رب العزة نعمته و إكتمل الاسلام دينا : (  الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً )(3) المائدة ).

3 ــ إختلف موقف قريش التى كانت تصدُّ عن سبيل الله وتجعل رزقها فى التجارة بالدين ، لذا كانوا كما وصفهم رب العزة يؤمنون بالباطلويكفرون بالقرآن الذى هو نعمة إلاهية ، يقول جل وعلا لهم : ( أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) النحل )، ولأن الاسلام مؤسس على الحرية الدينية وأنه ما على الرسول سوى البلاغ فقد قال جل وعلا لهم فى نفس السورة عن إستمرارهم فى إنكار نعمة الله مع أنهم يعرفونها : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ (83)) النحل ).

وقد كانوا ينكرونها مع معرفتهم أن القرآن ( هدى ) ولكنهم إعتقدوا أنهم لو إتّبعوا ذلك الهدى فستنتهى تجارتهم بالبيت الحرام الذى جعله الله جل وعلا للناس عامة وليس لأن تتحكم فيه قريش ( أو السعودية ) ، قالوا فى تعليل كفرهم بالهدى القرآنى أو النعمة القرآنية : ( إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) (57)  القصص ). كان لتكذيبهم بنعمة القرآن سبب إقتصادى بحت ، قال لهم رب العزة جل وعلا :( أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) الواقعة ). لذا يقول جل وعلا عن القرشيين :(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ  أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) العنكبوت ) آمنوا بالباطل وكفروا بنعمة الله ، وإشتروا لهو الحديث ليضلوا الناس عن أحسن الحديث ( لقمان 6 ) لذا قال جل وعلا فى قاعدة عامة :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) العنكبوت ).

4 ــ لقد توعّد الله جل وعلا بنى إسرائيل بالعقاب الشديد لو ( بدّلوا نعمة الله ) أى آياته البينات : ( سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) البقرة ).

وقريش بعد موت النبى بدّلوا نعمة الله جل وعلا القرآنية كفرا سلوكيا  بالفتوحات ، فحق عليهم العقاب سريعا بالفتنة الكبرى. وبالفتوحات والفتنة الكبرى تأسست أديان أرضية تبدل نعمة القرآن بمزاعم النسخ والتأويل والتفسير وإفتراء أحاديث شيطانية ، وهذا لا يزال ساريا وسائدا ، وبه تتنزل العقوبات الالهية على المحمديين . أى ينطبق عليهم قوله جل وعلا : ( وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) البقرة ).

أخيرا

1 ــ نعمة القرآن الكريم محفوظة من لدن الله جل وعلا ، ولولا حفظها لقام أئمة المحمديون بمحو كل الآيات التى تنفى شفاعة النبى وشفاعة البشر والآيات التى تنفى عصمة النبى وتؤكد بشريته ، والآيات التى تنهى عن التفريق بين الرسل ، ولوضعوا مكانها أحاديثهم المسماة بالنبوية والقدسية . جعلوا تلك  الأكاذيب التى صنعوها بعد موت النبى بقرنين وأكثر ـ وحيا ، وأسموها (سُنّة ) وزعموا انها تنسخ أى تُلغى القرآن وتعلو عليه . ولم يستطيعوا تحريف النّصّ القرآنى فاسسوا ما يعرف بعلوم القرآن التى تطعن فى القرآن ــ ولنا مقال بهذا العنوان منشور هنا ـ وزعموا النسخ بمعى إلغاء الأحكام التشريعية القرآنية ، وإفتروا أن النبى كان أميا بمعنى انه لا يعرف القراءة والكتابة ، وأنه أوكل لأصحابة كتابة القرآن ، وأنهم نسوا آيات كذا وكذا ، وفندنا هذه الافتراءات فى أبحاث منشورة هنا أيضا .

2 ــ الخلاصة : أنهم إبتلاهم الله جل وعلا بنعمة القرآن فكفروا بالقرآن .

3 ــ هم الآن أضحوكة العالم ، ومن لم يتب منهم فهو خالد فى جهنم .

4 ـ خسروا الدنيا وخسروا الآخرة .

5 ــ لقد قال جل وعلا عمّن يخسر الآخرة فقط (  إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) ) الزمر )( إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)  الشورى ).

6 ــ فما بال الذى يخسر الدنيا والآخرة معا ؟

 

 

  الفشل الجزئى للغربيين فى ابتلاء الحياة الدنيا

 مقدمة :

تكرر فى القرآن الكريم الدعوة للتعقل والتبصر والتفكر والفقه والسمع ، وكلها بمعنى واحد. ولكن يلفت النظر قوله جل وعلا فى خطاب خاص للعرب بأن  نزول القرآن باللسان العربى لعلهم يعقلون :( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) يوسف )( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) الزخرف ). أى لم يكونوا يعقلون فنزل القرآن الكريم باللسان العربى لعلهم يعقلون . ولم يعقل العرب فخسروا الدنيا والآخرة كما سبق بيانه . فما هو حال ( الغرب ) فى التعقل ، وهم الذين لم ينزل القرآن الكريم بلسان من ألسنتهم ؟ .

 بعون الله جل وعلا وتوفيقه نقول :

أولا : ماهية التعقل

 لم يرد فى القرآن الكريم مصطلح (العقل )، ولكن جاء إستعماله ( يعقلون ) ومرادفاتها من التبصر والتفكر والتفقه والسمع . أى إن المهم هو إستعمال ذلك العقل ، وبدون إستعماله لا يكون العقل موجودا أى عديم الفائدة. بل يكون الانسان ( الحيوان العاقل ) بدون التعقل أحطّ من الحيوان العادى : ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) الفرقان ). ومصيرهم الى جهنم ، يقول جل وعلا : (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (179) الأعراف ). الغفلة عن الحق من مظاهر عدم التعقل ، فما هو التعقل ؟

فما هو التعقل ؟

1 ـ الذكاء ليس تعقلا ، قد يتضمنه ( العقل ) ولكن التعقل شىء مختلف عن الذكاء أو إستعمال الذكاء. النصّاب ذكى وبذكائه يخدع البسطاء . هذا النصاب الذكى يشمل ليس فقط النصاب العادى البسيط الذى يبيع الترام للفلاح القادم للقاهرة ويخدع عشرات الأشخاص فى الطريق والأسواق ووسائل المواصلات ، هناك نصّابون أخطر وأضل سبيلا ، من السياسيين والذين يخلطون السياسة بالدين يخدعون الملايين، وبهذا النصب صاروا زعماء وأسسّوا دولا ودخلوا التاريخ ، منهم معاوية وآل العباس ( محمد بن على بن عبد الله بن عباس ، وذريته السفاح والمنصور ) ، ومنهم فى عصرنا آل سعود وخاتمتهم عبد العزيز مؤسس الدولة السعودية الثالثة الحالية . وهناك الشيخ الدجّال البسيط الذى يخدع النساء والبسطاء ، ولكن هناك شيوخ الدجل الكبار من أئمة الأديان الأرضية المسيحية والمحمدية والبوذية والهندوسية . الدجال العادى والنصاب العادى مصيره الى السجن ، اما النصابون الكبار فهم من عظماء التاريخ. هؤلاء النصّابون ـ جميعا ـ غاية فى الذكاء . ولكنهم ليسوا عقلاء ، لو كانوا عقلاء لأدركوا أن كل نعيم الدنيا فهو لا يساوى لحظة نعيم فى الجنة أو لحظة عذاب فى النار .

وهناك عباقرة فى العلوم الطبيعية ، بإختراعاتهم وإكتشافاتهم تتقدم البشرية . أحدهم يستعمل اقصى ما لديه من ذكاء ونبوغ وهو فى المعمل باحثا مُنقّبا ، ولكنه يترك عقله وهو يقف خاشعا أمام صنم بوذا ( فى اليابان ) أو صنم للمسيح والعذراء فى الغرب .

 2 ـ  التعقل هو أن يُدرك الانسان عاقبة ما يفعل مؤمنا أن الله جل وعلا خلقه ليختبره ويبتليه وأنه جل وعلا أعطاه الحرية والفطرة السليمة لكى يتساءل من طفولته تلك الأسئلة الفلسفية الكبرى عن معنى الوجود وهدفه .  المعنى الأساس للتعقل هو نقيض إستعمال الهوى ، وهذا ما جاء فى قوله جل وعلا : (أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) الفرقان ).

إن من يتحكم فيه هواه يستحيل أن يهتدى خصوصا علماء الدين  الأرضى، إذ يستخدم أحدهم علمه وذكاءه فى إضلال الناس ، وهذا ما كانوا ـ ولا يزالون ـ يفعلونه . ولقد قال جل وعلا عنهم مقدما :( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية 23 )، بل وضرب لهم مثلا بالكلب اللاهث : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) الأعراف ). وينطبق هذا على أئمة المحمديين المقدسين من مالك والشافعى وابن حنبل والغزالى الى ابن تيمية وابن عبد الوهاب وابن باز والشعراوى والقرضاوى . وفى كل الأحوال ، فالهوى يسلب التعقل والهداية من الانسان ويجعله أضل من الحيوان .

ثانيا : الغرب والتعقل فى الدنيا دون الدين

1 ـ و( تعقلت ) أوربا والغرب وتخلصت من  سيطرة أديانها الأرضية ، وإنطلقت تسير فى الأرض وتكتشف وتخترع ، وتؤسس نُظُما سياسية ديمقراطية ، وتعقلت أكثر فإنحازت الى قيمة ( العدل ) وحقوق الانسان وكرامته وحرية الدين التى أكدها القرآن قبلهم بأكثر من عشرة قرون ، بينما لا يزال المحمديون  بأديان مختلفة يتصارعون ، يقتلون أنفسهم بأيديهم بالجهاد المزعوم ، ويهتفون بلا خجل : الله أكبر .!!.

2 ــ بالتعقل والفطرة السليمة وصلت أوربا والغرب الى القيم الاسلامية العليا التى بشّر بها القرآن من قبل . تلك الفطرة التى نسميها ( الضمير ) ، والتى تنحاز الى العدل والحرية والخير والسلام .

3 ــ ولكن الغرب الأوربى والأمريكى ( واليابانى ) توقف بهذا التعقل عند حدود الدنيا بتطبيقه الديمقراطية وحرية الدين وحقوق الانسان وحقوق الأقليات والمرأة بل حتى حقوق الحيوان مع شعار ( العدل للجميع ) أو (  Justice for all)،كما أن الغرب قد توقف بهذا التعقل الاصلاحى فى داخل حدوده الاقليمية ، دون جهد حقيقى للتبشير بهذه القيم داخل مجتمعات المحمديين ، خصوصا وأن نشر هذه القيم ( الاسلامية القرآنية الأصل ) يرفضها أغلب المحمديين من السادة والغوغاء معا ، ثم لا ننسى إن تقاتل المحمديين يزيد من مبيعات السلاح الغربى ..

4 ــ وصلت أوربا والغرب بالتعقل الى تطبيق القيم الاسلامية ( الفطرية ) فى الحياة الدنيا ، ولكن تركت الايمان العقلى بالله وحده لا شريك له والايمان الحق باليوم الآخر ضحية للفساد الكنسى وخرافاته عن المسيح .

5 ــ ومن عجب أن يصل الغرب بذكائه الى فهم بعض أسرار ومعجزات الخالق جل وعلا فى الكون من الذرّة الى المجرّة  دون أن يؤثر هذا على تغيير رؤيته للخالق جل وعلا . العالم الغربى المتخصص فى الفضاء ينبهر وهو يكتشف آلاء الله جل وعلا ، وكلما تعمق إزداد إنبهارا ، وارتد اليه بصره و(هو حسير ).! ولا يدرك أن الله جل وعلا خلق الموت والحياة ليختبرنا :  ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) الملك ).

لا يزال الغرب العلمى يكتشف آلاء الله منبهرا بما فى داخل الخلية والذرة والمجرة ، دون أن يؤمن بالخالق جل وعلا ؛ ينبهر بمخلوقات ( الخالق ) دون تقديس ( للخالق )، ودون إدراك للإبتلاء الالهى للبشر ، وأنه  جل وعلا خلق السموات والأرض ليختبرنا أينا أحسن عملا : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً  (7 ) هود ).

6 ــ إن هذا الإعجاز المُبهر فى خلق السماوات والأرض كفيل لأولى الألباب ( العُقلاء ) لكى يخشعوا ، ويتحول إنبهارهم بالخلق الى تقديس للخالق وحده وإنكار لتقديس أى مخلوق كمحمد أو عيسى أو بوذا. إن الله جل وعلا يقول عن المتعقلين أولى الألباب : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)آل عمران )

7 ــ الذكاء الغربى لم يصل الى هذه الدرجة من التعقل.  إقتصر التعقل الغربى على التعامل البشرى ، أو الاسلام السلوكى ، ولكنه أهمل التقوى القلبية وإسلام القلب لله جل وعلا وحده . لو سلّط تعقله على خرافات الكنيسة لأنهى خرافاتها عن تأليه المسيح. ولهذا تجد عجبا ؛ العالم الغربى فى معمله يكتشف مستعملا أقصى ما لديه من ذكاء فى علوم ( الطبيعة ) والكون المادى ( فيزيقا ) ، ولكنه يترك عقله حين يستمع مستسلما لخرافات القسيس حول الاله الذي كان جنينا فى بطن العذراء ، ثم وُلد ، ثم سمح لمخلوقاته أن تقتله وأن تهينه وأن تصلبه تكفيرا عن ذنوبهم ، ثم يقوم قيامته من قبره ، ثم يرجع آخر الزمان ومعه ملائكته .! هذه الخرافات يرفضها الطفل الصغير لو إستعمل عقله ، ولكن العالم الغربى بكل ما أوتى من ذكاء وعبقرية لا يستعمل عقله فيها، لأنه إعتاد عادة سيئة هى أن مجاله هو الفيزيقا والعالم المادى ، أما تلك ( الميتافيزيقا ) فلا مجال للعقل فى نقدها . نجح الغرب فى الدنيا ولكنه يخسر الآخرة . ونحن نتكلم عن الأغلبية وليس على العموم .

ثالثا : فساد المحمديين وصل الى الغرب

 1 ــ اللعنة التى تحيق بالمحمديين حتى الآن سببها رفضهم القرآن وحده مرجعية للإسلام وتكذيبهم به وكفرهم به تعصبا للبخارى وغيرة من أئمة الٍسُّوء ، وإضطهادهم لدُعاة الحق القرآنى الداعين الى الاصلاح السلمى بالاحتكام الى القرآن ، وهو فريضة منسية مُستنكرة . وتتأكّد هذه اللعنة فى أن المحمديين يرتكبون هذا الظلم لله جل وعلا ودينه ورسوله ، وهم معهم القرآن باللسان العربى . أى معهم الهداية فإزدادوا بها طغيانا وكفرا ، والنتيجة أنهم خسروا الدنيا وخسروا الآخرة . وما يحدث الآن فى مقارنة الغرب والمحمديين يؤكد هذا .

2 ــ أوصل المحمديون الوهابيون لعنتهم الى الغرب فشوّهوا صورة الإسلام أكثر فى الغرب . هرب ملايين المحمديين الى الغرب ، لأسباب شتّى ، من أهمها الاضطهاد الدينى والسياسى فى بلادهم الأصلية . جاءوا للغرب يحملون أوزارأديانهم الأرضية فى قلوبهم ، ومنها الكراهية الدينية للغرب الذى يستضيفهم ـ وهى كراهية دينية وتعصب بعثته الوهابية من مرقده . ومن تلك الأوزار إعتبار الوهابيين أن دينهم ( الأرضى ) الشرّير المنتسب زورا للإسلام والمتناقض معه ـ هو أعلى من الأديان الأرضية المسيحية، مع أن الوهابية شرُّ وأضل سبيلا .

3 ــ بالمال السعودى والنفوذ السعودى تسللت الوهابية للغرب وتشعبت منذ عهد الملك فيصل ــ ولا تزال ـ حيث أنفقت السعودية وحدها حوالى مائة مليار دولار فى نشر الوهابية وإفساد العالم وتخريبه وتشويه صورة الاسلام ، ولتفسد مجتمعات ( المحمديين ) فى الغرب . سيطرت الوهابية على المراكز العلمية فى الجامعات الأمريكية المتخصصة فى الاسلام والشرق الأوسط واللغة العربية ، لتمنعها من دراسات علمية تناقش وتنقد الوهابية ، وسيطرت على أغلبية المساجد والمراكز ( الاسلامية ) فى الغرب .

4 ــ وبهذا أفلحت الوهابية السعودية فى تحقيق كارثتين :

4 / 1 :  إفساد الجاليات المحمدية فى الغرب بالوهابية ، ونشأة أرهابيين من داخل تلك الجاليات ترتكب  أعمالا إرهابية فى وطنهم الأمريكى والأوربى ، وخارجه بزعم الجهاد. والان أصبح معروفا إستقطاب ( داعش ) للجيل الثانى من المهاجرين المحمديين .

4 / 2 : المفترض فى المحمديين الأمريكيين والأوربيين ـ الذين نشأوا فى الغرب وتعلموا فيه قيم الحرية الدينية والتسامح والحرية والعدل ـ أن يكتشفوا أصول هذه القيم فى القرآن الكريم فيصبحوا مسلمين حقيقيين ، وأن يقوموا بدور إصلاحى فى بلادهم الأصلية التى لا تزال تحمل أوزار أديانها الأرضية وتحكمها فى تلك البلاد ، ومنتظر أن يكون هؤلاء المسلمون الغربيون الأقدر على إستخدام وسائل الاتصال الحديثة فى نشر ذلك الاصلاح . ولكن الذى حدث هو العكس . إنتقلت الوهابية لتفسد ( مسلمى ) الغرب .

5 ــ ومن المُضحك أن ( المحمدى ) الأمريكى والغربى يستطيع أن يشترى كنيسة أو معبدا يهوديا ويحوّله الى مسجد ، وتُتيح له الثقافة الغربية أن ينشر دينه بين الغربيين ، وفى نفس الوقت فإن هذا ( المحمدى الغربى ) يرفض مجىء بعثات تبشيرية للدعوة لدينها فى بلاد المحمديين ، ولا يتصور ــ مجرد تصوّر ــ ان يتم تحويل مسجد فى مصر أو غيرها الى كنيسة ، والسعودية تمنع بناء كنيسة فى مملكتها ، وتطارد المسيحيين المغتربين فيها لو حدث وأقاموا صلاة مسيحية فى بيوتهم . بل إنه بالنفوذ السعودى تتم مطاردة أهل القرآن المصريين لو صلوا الجمعة أو الجماعة داخل بيوتهم . وهذا ينال الرضى والاستحسان من المحمدى الوهابى الأمريكى ، بل إنه يبذل جهده فى إكراه غير المحمدى على إعتناق دينه المحمدى ، ويبذل جهده وجهاده لمنع المسيحيين المصريين من بناء كنائس جديدة أو إصلاح مرافق كنائسهم القديمة ، ثم يهُلل لداعش وهى تذبح المسيحيين وغيرهم ممن يخالفون دينه ومذهبه . ولا يشعر بالعار والخجل ، بل يتطوع أفراده للقتال مع داعش ..

أخيرا

1 ــ بهذا يتأكد أن المحمديين خسروا الابتلاء ، وخسروا الدنيا والآخرة ، بينما خسر الغرب الآخرة  فقط و كسب الدنيا . بلاد الغرب هى الأكثر رخاءا وثراءا وأمنا ، والغربيون هم الأكثر سعادة وتمتعا بالحياة . أما فى بلاد المحمديين فتجدها تحتكر الضنك والأزمات والشقاء والخوف ( خوف الحاكم من المحكوم وخوف المحكوم من الحاكم ) والارهاب ( إرهاب السُّلطة وارهاب الوهابيين الثائرين ) والقلق والأمراض والمذابح وتجاور الثراء الفاحش للمترفين مع الفقر المُدقع للمحرومين. 

2 ــ يقول جل وعلا عمّن أعرض عن ذكره جل وعلا وعن كتابه : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)  طه ).

3 ــ تدبر هذه الآيات الكريمة التى تنطبق على المحمديين وأئمتهم .

تدبرها وقل معى: 

ودائما ..صدق الله العظيم .!!

 

 

  لماذا يفشل أغلب البشر فى ابتلاء الحياة الدنيا

 

أولا : ملمح نستفيده من قصة ابراهيم عليه السلام

1 ــ مبكرا بدأ الفتى ابراهيم  راشدا يحتج على ابيه وقومه : (  وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) الأنبياء ). كانوايعبدون الله جل وعلا ، ويعبدون معه أوثانا ينحتونها  تمثل الكواكب والشمس والقمر. قبلها دخل الفتى ابراهيم فى حوار مع نفسه عن القمر والشمس والكواكب التى يعبدها قومه : ( الأنعام 74 : 78  )، وتوصل بعقله الى عبادة الخالق وحده، وأعلن لقومه: ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (79) الأنعام ). ودخل فى صراع مع أبيه وقومه والملك الذى زعم الألوهية وأنه يحيى ويميت ، فناقشه ابراهيم عليه السلام وتحداه أن يأتى بالشمس من المغرب ، فبُهت الذى كفر ( البقرة 258 ). واجههم ابراهيم بالحجة العقلية المنطقية بأن يعبدوا الخالق وحده ، وليس مخلوقاته معه ، أن يعبدوا الله جل وعلا وحده لا أن يعبدوا ما ينحتون من أصنام وقبور مقدسة ، فألقوه فى النار ، فأنجاه الله جل وعلا منها : (  قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَسْفَلِينَ (98) الصافات ).  

 2 ـ محور الهداية فى قصة ابراهيم هى خلق السماوات والأرض . إن الله جل وعلا هو وحده خالق السماوات والأرض وبالتالى فلا يصح أن يكون معه إله آخر لم يخلق شيئا ، بل هو من مخلوقات الله. ومن حُمق البشر ــ من محمديين ومسيحيين وبوذيين وهندوسيين ــ أنهم يعبدون مخلوقات خلقها الله جل وعلا ، ويرفعونها الى مرتبة الخالق جل وعلا : ( أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) الأعراف )، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) النحل ) ( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ )( 3) الفرقان ). يصل الخبل العقلى الى الحضيض حين يأخذون مواد الأرض التى سخرها الله جل وعلا لهم ، والتى يدوسون عليها بأقدامهم من تراب وأحجار وحصى وخشب ، والتى  يستعملونها فى بناء البيوت والحظائر ودورات المياه ، ويقيمون بها قبورا يجعلونها مقدسة بدعوى أن تحتها رفات من يقدسونه ويعبدونه . وكانت حجة ابراهيم عليه السلام موجهة الى أولئك المغفلين الذين يعبدون ما ينحتون . ويعبدون الأجرام السماوية التى سخرها الله جل وعلا لنا . هى الحجة التى قال عنها رب العزة : (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) الانعام ) .

3 ـ حين كان الفتى ابراهيم يفكر وحيدا فى خلق السماوات والأرض فى ليلة ونهارها (الأنعام 74 : 78) لم يكن معه سوى عينيه وعقله الواعى . لم يكن مُتاحا له تليسكوبات فضائية تتجول فى الفضاء الخارجى تغوص فى هذه المجرة ، ولم يكن متاحا له ميكروسكوبات تتيح له الغوص فى الفضاء الداخلى للذرة ونواة الذرة . ولو كانت متاحة له ما تغير فى الأمرشىء لأن العقل الواعى  يدرك بسهولة أن الله جل وعلا لم يخلق السماوات والأرض باطلا . يكفى أن تغمض عينيك وتفكر فى خلق السماوات والأرض متعقلا لتكون من أولى الألباب :( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) آل عمران )

4 ـ من قصة ابراهيم عليه السلام نفهم أنه من الخبل أن تجعل بشرا من الأنبياء شريكا لله جل وعلا ، وهذا النبى لم يخلق شيئا ، بل هو مخلوق ، وهو فى حياته لا يستطيع أن يلمس أقرب جُرم سماوى وهو القمر ، فكيف ببلايين المجرات وما بينها من بلايين السنوات الضوئية ؟ وما قيمة النبى المخلوق والبشر كلهم بالنسبة لخلق السماوات والأرض ، وخلقها أكبر من خلق البشر جميعا : ( لَخَلْقُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) غافر )؟

ثانيا : تقديس الأنبياء والرسل يعنى أن البشر لا يقدرون الله جل وعلا حق قدره

1 ــ يرسل الله جل وعلا الرسل والأنبياء يدعون الناس الى أنه لا إله إلا الله . ثم لا يلبث هؤلاء الناس أن يقدسوا نفس الأنبياء ويجعلوهم شركاء لله جل وعلا فى ألوهيته وربوبيته . ينسون أن :

1/ 1 :  النبى هو بشر محتاج للطعام كى يعيش ، محتاج للحصول عليه ، ومحتاج الى إبتلاعه ومحتاج الى هضمه ، ثم هو محتاج الى إخراجه بولا وريحا و فضلات قذرة . ولو تعطل حصوله على الطعام أو بلعه للطعام أو تعطل هضمه أو تعطل إخراجه للبول أو البراز لأصبح فى أزمة هائلة . ولهذا فإنه جل وعلا يستخدم موضوع الطعام ردا على من يقدس المسيح وأمه لأنهما كانا يأكلان الطعام : ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَانظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) المائدة ) وكذا كل رسل الله : (وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)الفرقان ). هل تضع هذا النبى المحتاج الى الطعام الى جانب الخالق جل وعلا ؟ .

1/ 2 : أن البشر فى حياته كان يمارس الجنس مع زوجته . يقول المثل البريطانى : ( لو تكلم السرير ( الفراش ) لإحمرت وجوه كثيرة ) يعنى أن السرير لو نطق بما يتم فوقه من لقاء جنسى لأصيب الناس بالخجل . لماذا ؟ لأن الفرد من البشر ـ ذكرا كان أو إنثى ـ عندما يُمارس الجنس فإنه يفقد إحترامه لنفسه ويتحول الى حيوان جنسى يفعل ما يستحى منه فى أوقاته العادية ويقول ما يخجل منه فى الأوقات العادية، ويستحى أو تستحى من حكاية ما يحدث على ملأ من الناس أو للأهل والأولاد . الأنبياء تزوجوا وأنجبوا ، أى مارسوا الجنس مثل أى بشر آخر . تخيل النبى محمدا وهو يمارس الجنس مع إحدى أزواجه .! . هل يوضع هذا النبى الى جانب الخلّاق العظيم ؟!

1 / 3 : ــ كل الأنبياء جاءوا من أب وأم ، وكانوا نطفة من ماء مهين شأن كل مخلوق من البشر: (السجدة 8 )، هل يوضع هذا النبى المخلوق من نطفة مهينة الى جانب الخلاق العظيم ؟ !.

1 / 4 : ــ كل نبى مات شأن كل نفس بشرية ماتت او تموت او ستموت.  والموت يعنى رجوع النفس الى البرزخ الذى أتت منه ، ورجوع جسدها بالتحلل الى تربة الأرض.وهذا التحلل يعنى تعفن وترمُّم الجسد بحيث يكون جيفة نتنة الى ان ينتهى الى تراب وعظام نخرة. والله جل وعلا قال لخاتم النبيين فى خطاب مباشر له وعن خصومه يؤكد له وقت أن كان حيا :( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) الزمر ) موت النبى مساو لموت خصومه ، لا فارق بين النبى محمد وأبى جهل وابى لهب وعقبة بن أبى معيط. كل منهم تحول جسده الى جيفة نتنة شأن كل بشر يموت . هل يوضع هذا النبى الى جانب الخلّاق العظيم ؟! .

2 ـ ليس هذا إقلالا من شخص النبى محمد عليه السلام ، بل هو إثبات لحقيقة بشريته ، فهو بشر مثلنا ولكن يوحى اليه : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ )(110) الكهف) هو رجل منهم : من قريش : (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ) (2) يونس ) هو رجل من العرب الأميين : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ  )(2) الجمعة ).

3 ـ الذى يعتبر هذه الحقائق القرآنية إقلالا من شخص النبى محمد يقع فى جريمة وخطيئة عُظمى : أنه لم يقدّر الله جل وعلا حق قدره . إن تقديس البشر والأنبياء يعنى عدم تقدير الله جل وعلا حق قدره . لأن التقديس هو حق لله جل وعلا وحده لأنه الخالق وحده . هناك مساحة فى النفس البشرية ( أو القلب ) للتقديس يجب أن تكون خالصة لرب العزة . إذا جعلت نسبة منها لتقديس النبى فأنت لا تقدر الله جل وعلا حق قدره . وهذا هو السبب الرئيس فى فشل البشر فى إختبار وإبتلاء الحياة الدنيا . 

 ثالثا : الحسابات الخاطئة للبشر

1 ـ البشر الأذكياء عندما يفكرون فى مشروع ما يبدأون بعمل ( دراسة جدوى ). البشر العقلاء الذين يقدرون الله جل وعلا حق قدره يتحسبون للآخرة القادمة الباقية الخالدة ، ليفوزوا فى إبتلاء الدنيا وليفوزوا بالخلود فى الجنة ولينقذوا أنفسهم من الخلود فى النار. دراسة الجدوى لمشروع تجارى أو صناعى فى هذه الحياة الدنيا لا تعنى حتمية نجاح المشروع ، وحتى لو نجح المشروع فصاحبه لا بد أن يتركه بالموت . أما دراسة الجدوى التى يسير عليها المؤمن الصادق الذى يؤمن باليوم الآخر والذى يقدّر الله جل وعلا حق قدره ـ فهى مضمونة النجاح ، والذى يضمن نجاحها هو الله جل وعلا الذى لا يُضيع أجر من أحسن عملا ، والذى لا يُخلف الوعد ولا يُخلف الميعاد ، والذى لا تبديل لكلماته ، جل وعلا. هنا يكون المؤمن الصادق ناجحا فى إبتلاء الآخرة ، ولذا فإنه فى أواخر حياته يرجو لقاء ربه متشوقا وآملا وطامعا فى رحمة ربه جل وعلا .

2 ـ يختلف الحال مع أغلبية البشر الذين لا يقدرون الله جل وعلا حق قدره ، لذا تكون حساباتهم خاطئة ، وخطرها يعنى فشلهم فى إختبار الحياة الدنيا ، وخلودهم فى الجحيم . والله جل وعلا يتوعدهم بسبب ظنهم هذا الظّن السّيىء به جل وعلا : ( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً (6) الفتح )

2 / 1 : لأنهم لا يقدرون الله جل وعلا حق قدره ، فهم يقدسون معه أولياء وأربابا . وهذه الأولياء والأرباب لا تستطيع أن تخلق ذبابا ولو إجتمعوا له ، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا ستنقذوه منه ، يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)) ثم يقول بعدها : ( مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) الحج )

هنا تتجلى الحسابات الخاطئة فى إتخاذ عباد الله أولياء من دون الله ، يتخذونها وهم ( يحسبون أنهم يحسنون صُنعا ) ، يقول جل وعلا لهم : ( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) الكهف )

2 / 2 : الحسابات الخاطئة فى  الظن السىء بالله جل وعلا بأنه جل وعلا غافل عن العالمين ، أى خلق العالم وتركه غير مهتمّ به . وتكرر نفى هذا مرارا وتكرارا فى القرآن الكريم بأساليب شتى .

وفى سورة البقرة وحدها قوله جل وعلا ( وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) ( 85)( 140 )( 149 ) البقرة ).

ويقول جل وعلا عن ملائكته التى تسجل أعمال كل فرد : ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) الزخرف ). ويقول جل وعلا عن علمه الشامل بنا : ( أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) المجادلة )( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) الحديد ). وتكرر أنه جل وعلا على كل شىء شهيد : ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) النساء ) الاحزاب (55) ).

لذا يقول جل وعلا عن بعض الصحابة الخائنين المتآمرين الذين كانوا يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله جل وعلا وهو بهم محيط : ( يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) النساء )، ويقول عن بعض مشركى قريش : ( أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) العلق ). هذه الآيات تنطبق على أغلبية البشر .

إن الله جل وعلا يرانا ويسمعنا وهو الشهيد علينا . هذا هو ما يؤمن به الذى يريد النجاح فى إختبار الحياة الدنيا ، والذى يقدر الله جل وعلا حق قدره . أما أغلبية البشر الذين يخسرون فى إبتلاء الدنيا أصحاب الظن السىء بالله جل وعلا فستشهد عليهم يوم القيامة سمعهم وبصرهم وجلودهم ، ويقال لهم : ( وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ (23)فصلت ).

2/ 3 : الحسابات الخاطئة فى الابتلاء بنعيم الدنيا . سبق أن قلنا أنهم يحسبون ( خطأ ) أنهم بالنعيم الدنيوى سابقون ، يقول جل وعلا لهم : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) الانفال ). هم لا يدركون أن هذا النعيم إبتلاء ، وهم بعدم تقديرهم لله جل وعلا سيزدادون بهذه النعمة إثما ، أى هى حسابات خاطئة ، قال عنها جل وعلا : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) آل عمران ). ومنهم هذا الذى وهب حياته لجمع المال السُّحت يحسب أن ماله أخلده ، ثم تكون عاقبته الخلود فى النار : ( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) الهمزة )

2 / 4 : وتأتى النهاية لأولئك الذين لم يقدروا الله جل وعلا حق قدره . تأتى لهم نتيجة الحسابات الخاطئة يوم القيامة . يقول جل وعلا عن ذاته جل وعلا وتمام هيمنته يوم القيامة وتمام تحكمه فى يوم الدين : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(67) الزمر ) (  وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) الزمر )

عندها وهم فى الجحيم يتمنون الافتداء بما فى الأرض جميعا لو كانوا يملكونه ، وبدا لهم من الله جل وعلا ما لم يكونوا يحتسبون فى حساباتهم الخاطئة :( وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (48) الزمر )

كانوا ـ فى عدم تقديرهم لرب العزة حق قدره ـ يحسبون أنه لا بعث لعظام نخرة ، مع ان الله جل وعلا قادر على ذلك لو شاء ، بل هو جل وعلا قادر لو شاء أن يعيد البصمة لكل أصبع بشرية :( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) القيامة )

كانوا ـ فى عدم تقديرهم لرب العزة حق قدره ـ ينكرون البعث ، فقال جل وعلا لهم :( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) القيامة )

كانوا ـ فى عدم تقديرهم لرب العزة حق قدره ـ يطنون ان الله جل وعلا خلقهم عبثا وأنه لا بعث ولا نشور . وسيقال لهم فى النهاية نفس الأسئلة الكبرى التى كانت من قبل فى طفولتهم وفطرتهم تُلحُّ عليهم :  ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) المؤمنون )

أخيرا

ماذا لو تدبرنا قوله جل وعلا لنا :( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ )؟؟!!

ودائما : صدق الله العظيم .!!

 

   الخلود فى النار وعدل الله جل وعلا ورحمته

مقدمة

الابتلاء الأكبر هو فى الحرية المطلقة للبشر فى الايمان او الكفر ، فى الطاعة أو المعصية ، وما يترتب على هذه الحرية المطلقة من جزاء مطلق بالخلود فى الجنة أو الخلود فى النار. إدراك عاقبة هذه الحرية المطلقة للإنسان فى هذه الدنيا وأنه الخلود فى نعيم دائم أو عذاب دائم يجعل الحرية التى نتمتع بها أفدح إبتلاء لنا. والعادة أن أغلب البشر يخسرون فى هذا الابتلاء لأنهم يتمتعون بحريتهم ولا يدركون مسئوليتهم ، مع إن البشر يعرفون فى حياتهم الدنيا أن الحرية تقابلها المسئولية . يطبقون هذا فى تعاملهم فى الدنيا ولا يطبقونه فى الدين . إذا قيل له عن الخلود فى النار إستكثره ورآه ظلما دون أن يلوم نفسه . ولقد جاءتنى أسئلة من نوعية : (هل من العدل الخلود فى النار على عصيان استمر طيلة حياة الانسان وهى قصيرة  ؟) ونجيب هنا على هذا السؤال .

أولا : عدل الله جل وعلا فى الخلود فى الجنة أو الخلود فى النار :

 السائل يرى فقط الخلود فى النار ويستبشعه ، ولا يرى المُعادل له وهو الخلود فى الجنة ، أى هو العدل بين هذا وذاك . أكثر من ذلك لا يرى الحقائق القرآنية التالية :

  حرية البشر فى الاختيار بين هذا وذاك

1 ـ إن قرار دخول الجنة أو دخول النار يكون بمشيئة الفرد . هناك حتميات لا إختيار لنا فيها ، ولسنا مُحاسبين عليها . وهى : ما يتعلق بالميلاد ، والموت و الرزق والمصائب . بعدها فنحن أحرار فيما نختاره لأنفسنا .

2 ـ  لقد سألتنى أمريكية من أصل أفريقى عن العدل الالهى فى أن تكون سوداء بينما غيرها أبيض . وقلت لها : ما يخص الميلاد ولون الانسان وملامحه هو من الحتميات المُقدرة سلفا ، ولا نملك تغييرها ، ولسنا مؤاخذين عليها ، ثم هى مرتبطة بحياة دنيوية قصيرة زائلة ستنتهى سريعا بالموت . الأهم هو الخلود فى الآخرة فى الجنة أو فى النار . وهذا الخلود فى الجنة أو النار يقرره الفرد بمشيئته وإختياره ، إذا شاء أن يؤمن ويعمل صالحا يرجو الآخرة ورحمة ربه فإن الله جل وعلا ــ الذى لايُخلفُ الوعد والميعاد ــ سيدخله الجنة خالدا فيها. إذا غفل عن الآخرة وغرته الحياة الدنيا ولم يقدر الله جل وعلا حق قدره وعصى وطغى وبغى فقد إختار بمشيئته وعمله الخلود فى النار. وقلت لها إن اللون الأسود الذى تبغضينه فى هذه الدنيا يمكنك بإيمانك وعملك الصالح أن تبدليه بوجه أبيض وبنور دائم خالد فى الجنة ، بينما ذلك الأبيض العاصى فى الدنيا سيكون أسود الوجه خالدا فى النار . يقول جل وعلا : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) آل عمران ) .ويقول جل وعلا : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) عبس ) ويقول جل وعلا عن أئمة الأديان الأرضية وسواد وجوههم يوم القيامة ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) الزمر )

 العدل المطلق أساس يوم الحساب

1 ـ العدل المطلق لا وجود له فى هذه الدنيا ، ولكن يقيمه يوم الحساب الرحمن جل وعلا الذى يملك التحكم يوم الدين ويعلم خائنة الأعين وما تخُفى الصدور. هو عدل مُطلق يقول عنه رب العزة جل وعلا : ( الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) غافر ) فلا ظلم يوم الحساب ، وهو على حسب ما فعلته كل نفس ، ويقيمه الذى ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ (20) غافر).

2 ـ  ثم التوفية فى يوم الحساب تعنى الحكم العادل الذى لا مجال فيه للظلم ، ولهذا تكرر فى القرآن الكريم توفية كل نفس بشرية حقها بلا ذرة من الظلم : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) البقرة )، وبما يشمل الأنبياء : ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) آل عمران ). 

3 ـ ومن ملامح المحكمة الالهية العادلة يوم الحساب وزن العمل بميزان يقيس العمل بالذرة وأجزاء الذرة ، يقول جل وعلا : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) الانبياء ). 

4 ـ ومنها تنوع الشهادات . إذ يُتاح لكل نفس بشرية أن تٌجادل وتدافع عن نفسها أثناء توفية عملها يوم الحساب: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)النحل ) . وتشهد عليها جوارحها :( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) النور )، ( حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) فصلت ).

ثم هناك شاهد أو شهيد على كل قوم من داخلهم : (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً (41) النساء )، ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء )  (89) النحل ).

والشاهد الهام هو كتاب الأعمال الفردى لكل فرد ، وكتاب الأعمال الجماعى للفرد مع مجتمعه . إن كل ما يطير من الانسان من عمل هو طاقة لا تتبد ، بل يتم حفظها وتسجيلها من صوت وحركة ومشاعر . يتم تسجيلها وتخزينها وحفظها فى كتاب أعماله ليتعلق بعنقه يوم القيامة ، يراه ليقرأه بنفسه ليكون بنفسه حسيبا على نفسه . ولهذا فإن من يهتدى فهو يهتدى لنفسه ومن يضل فإنما يضل على نفسه ، ولا يتحمل أحد وزر أحد ، ، ثم إنه جل وعلا لا يُعذّب من لم يبعث له رسولا . وهذه قمة العدل. يقول جل وعلا عن كتاب الأعمال الفردى : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) الاسراء ).  يوم القيامة يرى المجرمون بأنفسهم ( فيديو ) الاهى يُجسّمُ تاريخ حياتهم فى خلواتهم وأسرارهم وعلانيتهم وما كانت تكُنُّه قلوبهم. يُصابون بالذهول من هذا الكتاب الذى لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وجاء بعملهم ( الماضى ) حاضرا. ولا يظلم ربك أحدا . عن كتاب الأعمال الجماعى يقول ربى جل وعلا : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) الكهف ).

 أصحاب النار يتعذبون بعملهم ، وأصحاب الجنة يتنعمون بعملهم

1 ـ فى مقارنة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار يقول جل وعلا : ( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ (76) الزخرف ). أصحاب الجنة ورثوها بعملهم ، وأصحاب النار خالدون فيها بلا تخفيف ، وما ظلمهم الله ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم ، فبعلمهم السىء يتعذبون .

2 ـ وفى مقالات بعنوان ( لكل نفس جسدان ) ناقشنا قرآنيا آلية النعيم فى الجنة بالعمل الصالح وآلية التعذيب فى جهنم. بالعمل السىء. الانسان يُولد ومعه وعاءان ؛ أحدهما للعمر المحدد الذى سيعيشه فى هذه الحياة الدنيا ، ويبدا العدُّ التنازلى لعمره بأول ثانية ودقيقة حين يولد ، ويستمر الى أن ينتهى أجله بالموت ، وكل ثانية أو دقيقة تمر من وعاء العمر المحدد له تنزلق الى الوعاء الآخر وهو وعاء العمل ، تنزلق مُحمّلة بعمله ، حيث يتم تسجيل أعماله بالصوت والصورة والمشاعر ، وبإنتهاء ( أو توفية ) وعاء العمر يمتلىء ( أو تتم توفية ) وعاء العمل ، أو كتاب العمل ، ويموت الانسان أو ( يتوفى ) أى تتم وفاة وتوفية عمله وعمره ، وتعود نفسه الى البرزخ الذى أتت منه ، وهى تحمل جسدا آخر بدلا من الجسد الأرضى المادى الذى كانت ترتديه فى الدنيا ثم غادرته وتركته ليبلى فى الأرض . وفى البعث تأتى النفس تحمل عملها . إن كان عملها سوءا يكون حملها وزرا ، يقول جل وعلا عن القرآن الكريم ومن يُعرض عنه فيأتى يوم القيامة يحمل وزرا : (وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً (101) طه ) ويقول جل وعلا عن الخاسرين يوم القيامة وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم : (  قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) ويقول جل وعلا بعدها ناصحا واعظا:( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) الأنعام ). أئمة الأديان الأرضية وشيوخها ووُعّاظها سيحملون أوزار أنفسهم كاملة ومعها (بعض ) أوزار أتباعهم : ( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)  النحل ) . وفى كل الأحوال : ألا ساء ما يزرون . لن هذا الحمل السىء به سيُعذّبون .! وهنا لا ظلم من رب العزة ، بل هم الذين كانوا أنفسهم يظلمون . يقول جل وعلا عن الجميع عند البعث: ( إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (54) يس ) . ويقول جل وعلا عنهم قبيل الحساب ، وكل أمة جاثية ترى كتاب أعماله وتنتظر دورها حيث يتم جزاؤها بعملها : ( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29) الجاثية )

3 ـ آيات كثيرة فى تنعم أهل الجنة بعملهم ؛ يقول جل وعلا  : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32) النحل )( وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) الاعراف )( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (72) الزخرف )( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) الرحمن )

4 ـ وآيات أكثر فى تعذيب أهل النار بعملهم ؛ نذكربعضها أملا فى ان يتدبرها القارىء الكريم . يقول جل وعلا : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) القصص )( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) يونس )( إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (39) الصافات)( اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (16) الطور )( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (7) التحريم )( يَوْمَ يَغْشَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) العنكبوت )( فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) السجدة ).

وعن تعذيبهم بأموالهم التى بخلوا بها فى دنياهم يقول ربى جل وعلا بأسلوب التأكيد الثقيل :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )(180) آل عمران )، وعن تعذيب أئمة الأديان الأرضية بما يجمعونه من مال السُّحت وبما يكنزونه من ذهب وفضة يقول ربى جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) التوبة ). هل يتعظ أصحاب البلايين من المحمديين ؟ ألا يقرأون هذا القرآن العظيم ؟ هم بلا شك به عارفون ، وبه يكذّبون ، لذا فهم فى العذاب خالدون .

وأملا فى العظة : نتوقف بالتدبر مع قوله جل وعلا عن تعذيبهم : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)  فاطر ). هم فى خلودهم فى النار أحياء خالدون ، حياة فظيعة ، لايتمتعون براحة الموت ولا براحة التخفيف من العذاب . وهم من شدة العذاب يصطرخون ـ وليس فقط يصرخون ، يرجون رب العزة الخروج لفرصة أخرى : ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ). لم يقولوا : ربنا أخرجنا نؤمن ، فقد آمنوا فعلا ـ ولكن بعد فوات الأوان . الذى ينقصهم وهم فى النار هو العمل الصالح ، إذ أنهم يتم تعذيبهم فيها بعملهم السىء ، وحتى يتم تخليصهم من هذا العذاب لا بد من تبديله بعمل صالح غير الذى كانوا يعملونه ، لذا يطلبون الخروج ليعملوا عملا صالحا غير الذى كانوا يعملون . ويأتيهم الرد الذى يجب أن نعتبره جيدا لننجو : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) . أى أعطاهم الله جل وعلا عمرا فى الدنيا أتاح لهم أن يتذكروا وأنزل لهم النذير  فأعرضوا ، وإكتسبوا لهم جسدا من أعمالهم السيئة يتم به تعذيبهم . لذا يقول جل وعلا : ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) النحل ).

هذا هو العدل المطلق يوم القيامة ، وتلك أيضا هى مسئولية الحرية المطلقة التى يستخدمها الانسان فى الضلال والإضلال والعصيان والطغيان ، ثم يتعجب من عقابه بالخلود فى الجحيم جزاءا عادلا ، مع أنه يستطيع بسهولة جدا أن يكون من الخالدين فى الجنة، لو أراد .

 ثانيا : بين العدل والرحمة

  تشريعات الخير فى الاسلام :

 من يريد الخلود فى الجنة يساعده على هذا أن تشريعات الاسلام قائمة على

1 ــ الخير والاصلاح  للفرد والمجتمع ، كما جاء فى سور الأنعام ( 151 : 153 ) والإسراء ( 22 : 39 ) والفرقان ( 63 ــ ) والنحل ( 90 : 97 ) والنساء ( 36 : 39 ).

2 ــ التخفيف .

2/ 1 : فلا حرج ولا مشقة فى الشريعة الاسلامية :( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )( 6) المائدة ) ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(78) الحج )( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ) (28) النساء )( ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ (178) البقرة )

2/ 2 ــ والله جل وعلا لايكلف نفسا إلا وسعها ( البقرة 286 ) (الأنعام 152 )(الأعراف 42 ) ( المؤمنون 62 ) ( الطلاق 7 ) . 

2/ 3 ـــ والله جل وعلا لا يؤاخذ على الخطأ غير المقصود والنسيان : (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) ) البقرة )، بل الخطأ المتعمد : ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) الاحزاب ).

2 / 4 :ويعفو عمّن يقع عليه إكراه فى العقيدة : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) النحل )، أو فعل الفاحشة ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) النور ). ويؤسس الاسلام على أنه لا إكراه فى الدين : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ (256) البقرة ) ، ويمنع النبى منه :( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) يونس )، ويجعل من أهداف القتاال الدفاعى منع الإكراه فى الدين أو الإضطهاد الدينى أو الفتنة فى الدين ( البقرة  193 ، الأنفال 38 ) ، حتى يكون مجال الدين حرا ليتحمل البشر مسئوليتهم على إختيارهم الدينى يوم الحساب أو يوم الدين ، وبهذا يكون الدين لله ، فى الحرية المطلقة التى أعطاها لنا فى الدنيا وفى  مسئوليتنا المطلقة عليها أمامه جل وعلا يوم الدين .

 3 ـ والتوبة ، التى تعطى المذنب فرصة أخرى : ( فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) البقرة )، ويترتب على التوبة المقبولة غفران يوم القيامة : ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) النحل )

4 ـ والابتلاءات ، كما سبق ، هى جرس إنذار لينتبه الغافل ويتوب العاصى .

 5 ـ يبقى بعد هذا من رحمته حل وعلا أن الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) الانعام ) ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (90) النمل )

خلاصة ما سبق : إن الله جل وعلا لا يظلم مثقال ذرة ، بل يضاعف الحسنة ، ويجازى السيئة بمثلها ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) النساء ).

 سبحانه جل وعلا رب العالمين .!!                            

 

 

الفصل الختامى

الخاتمة من الموت الى البعث

  إبتلاء الموت بين النعمة والنقمة 

 

1  ـ كل شيء يحدث في هذه الحياة الدنيا نسبي ، الذي تحسبه فيه نعمة نجد فيه بعض الآثار الجانبية الضارة ، والذي نظنه مصيبة وشر لا يخلو من فوائد ومزايا .. المهم هو موقفك منها ، هل تصبر وتشكر أم تشكو وتكفر . وعليه يتوقف وضعك الأبدى في الآخرة ، فأحوالها مطلقة ومحددة وثابتة وأبدية ،إما نعيم في الجنة وإما عذاب في النار ، ولا مجال هناك للتوسط أو النسبية ..الموت هى نقطة المفصل بين الدنيا والآخرة . وحين تلج بوابة الموت تعرف مصيرك مقدما ، هل نجحت فى إختبار الحياة أو خسرت . وفى لحظة الاحتضار تفقد حريتك ، وتصبح اسيرا لا تملك إختيارا ، ويتعين عليك أن تواجه ما فعلته بنفسك حين كنت حرا تسعى فى الأرض بالخير أو بالشر. وبهذا يكون الموت فى حدّ ذاته إبتلاءا ، ولكن يختلف عن الابتلاءات السابقة فى أنك تعرف لحظتها النتيجة صاعقة صارمة مؤلمة إن خسرت ، ومُفرحة مُبهجة إن نجحت.

  2 ـ إن أكبر ما نخشاه في حياتنا الدنيا هو الموت ، وأكثر ما نحرص عليه في هذه الدنيا أن يطول بقاؤنا  فيها ، وكلما أوغل الإنسان في عمره أزداد حرصه على الحياة، حتى مع جفاف الشيخوخة وآلامها وبرودتها وأحزانها .. ونحن نعبر عن حرصنا على الحياة في مناسبات العزاء بأقوال شتى تدور كلها حول أن الفقيد الراحل قد مات وترك لنا أو لأهله بقية من عمره نستمتع بها من دونه فنقول"البقية في حياتك" "خلف لك طول العمر" . هذا ، مع أننا نؤمن في قرارة أنفسنا بما يقره دين الله تعالى من أن الأعمار محددة ، ومع أننا نقول في أمثالنا الشعبية أنه ما من أحد يترك من عمره شيئاً، مع أننا نعقل ذلك كله إلا أننا نفر من هذه الحقيقة ونتخيل أن الموت الذي يحصد أحبابنا وأعداءنا لن يقترب منا ، ونظل نتجاهل زيارة الموت ونطرد وساوسه ونتشبث بالحياة حتى في ظروف المرض والشيخوخة وعلى فراش الاحتضار، فإذا حضر الموت ورأينا ملائكة الموت تقبض النفس " صرخ الميت ـ حيث لا يسمعه أحد ـ يرجو فرصة أخرى يصلح فيها من أحواله ويعمل فيها للموت الذي تجاهله وهرب منه ، يقول تعالى " حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)  المؤمنون )  .

3  ـ إن الموت حقيقة حتمية تجري حولنا وتجري في داخلنا.

 تخيل نفسك حين كنت طفلا رضيعاً ، أين ذهب ذلك الجسد الرقيق.؟. مات في داخلك  وأبدلك الله جسداً شاباً قويا .  ثم إذا وصلت إلى مرحلة الشيخوخة الواهنة ، أين ذهب جسدك الشاب القوى الفتي؟ مات في داخلك ، إن خلايا الجسد تتبدل وتتغير وتتجدد ، أى تموت ، أى أن هناك عمليات حياة وموت في داخلك ، في النهاية سيأتيك موت النفس، بموت كامل للجسد ، ولن تستطيع الفرار من الموت . الموت أمامك وستلاقيه : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) الجمعة ) ، والموت خلفك يطاردك : ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ   (78)   ) النساء ) . ما معنى أن يكون الموت خلفك وأمامك فى نفس الوقت ؟ الجواب : المعنى أنه مخلوق فى داخلك ، إختبارا لك .أى إن الموت والحياة دورات تحملها وأنت حىّ بجسدك ، الموت مخلوق داخلك : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)  الملك ) .

4 ـ بالتالى فعليك أن تنظر إلى الموت على أنه حقيقة حتمية ، داخلك ـ موقتا ـ ثم آتية حتما اليك فى النهاية. وإذا ضبطت إيقاع حياتك على أنك ستموت وستقابل الله تعالى يوم القيامة ليحاسبك على ما كسبت يداك ،إذا عايشت هذه الحقائق في سلوكك وتصرفاتك أصبحت أقوى رجل في العالم . لن تخشى إلا الله تعالى ، لأنه وحده  الذي حدد موعد موتك ومكان موتك ولأنه لن تستطيع قوة في العالم أن تؤجل موعد موتك أو أن تقتلك قبل الأوان. وستنجح فى إختبار الحياة .

  ثم إن كل زخارف الدنيا ومباهجها وكل مصائبها وأحزانها لن تؤثر فيك. ستعمل في الدنيا وستسعى فيها وستكدح ، ولكن لن تبالي كثيراً بالنتائج ، إذا احترق مصنعك فلن تصاب بأزمة قلبية ، وإذا كسبت مليون جنيه فلن تنهار من الفرح ، ستقابل كل محنة وكل منحة بالاعتدال وبالحياد في مشاعرك  ،لأن متاع الدنيا ومتاعبها إلى زوال ، وإلى موت .

إن الموت يعنى صفراً، فإذا كسبت فيها جنيهاً واحدا فالحاصل أن 1× صفر يساوى صفراً ، وإذا كسبت أيضاً مليوناً من الجنيهات فهو أيضاً صفر.. أما  في الآخرة حيث الأبدية فإن النتيجة لانهائية ، لأن واحد على صفر تساوى اللا نهائية، أو الخلود..وهو إما خلود فى الجنة أو خلود فى النار .  وهذا ما ينبغي أن تتحسّب له وتعمل له ، لتفوز بالنعيم الأبدي ولتنجو من العذاب الأبدي..

  والموت هو بوابة الدخول للآخرة . ولابد أن تدخل هذه البوابة ، ولابد بالتالي أن تعمل لهذا الخلود فى الجنة بعمل الصالحات النافعات وبالابتعاد عن الشرور ، وأفظع الشرور أن تظلم الله تعالى فتكذب على الناس باسمه، أو أن تكذب بآياته ، وتشتري بها ثمناً قليلاً في هذه الحياة الدنيا الفانية. وإذا عايشت حقيقة الموت في حياتك ، وتصرفت على أساسها بالتقوى والايمان الخالص بالله جل وعلا وبالعمل الصالح تبتغى به وجه الله جل وعلا ــ صرت في هذه الحياة أقوى الناس وأصبحت أسعد الناس ،  وتمتعت بصحة جيدة وبنفس مطمئنة مستقرة وأفلحت في الدنيا والآخرة ، وحينئذ تعرف أن الموت نعمة وستحمد الله تعالى على نعمة الموت.

5 ـ وتبقى كلمة : تأمل نعمة الموت على البشرية وهذا الكوكب :

 لولا أن كتب الله تعالى الموت على أبناء آدم لأصبحت الحياة لا تطاق . تخيل أن السابقين لم يموتوا ، وأن الجميع يزدحمون على هذه الأرض وفي تزايد مستمر دون موت ، كيف ستكون الحياة عندئذ ؟ عندها سيظل الظالم الفاجر مستمراً في فجوره أبداً، ولن يستريح الناس بموته ،وسيظل المظلوم مقهوراً دائماً ولن يستريح بالموت. أى ستكون الحياة عذاباً قائماً مستمراً .. عندها سيتمنى الناس نعمة الموت..

إن الموت يتكفل بحل مشاكل كثيرة للأحياء ، خصوصا فى العالم الثالث ؛ حيث يحكم المستبد الشرقى تلتصق مؤخرته بالكرسى ، لا يفارقه إلا بالموت ، الذى يحلّ به رحمة للغلابة من شعبه . يتمنى الغلابة موته ولا يستطيعون إلا فى أحلامهم ، ثم يموت المستبد فيستريحون بعض الوقت حين يأتى حاكم جديد يُخفى أنيابه خلف إبتسامته ، الى أن يتمكن ، فيُعيد إنتاج الاستبداد . هذه الدورة الشريرة يقطعها مؤقتا موت كل مستبد ، أى يلعب الموت دورا سياسيا إيجابيا  ، يضاف الى نعم الموت الكثيرة ـ لو كنتم تعلمون .

 

 

قيام الساعة والبعث

بقى على يوم القيامة : ما تبقى من عمرك + يوم أو أقل من يوم 

عن موعد النهاية التى نعرف فيها نتيجة الابتلاء

مقدمة : خذها حقيقة قرآنية (بقى على يوم القيامة : ما تبقى من عمرك + يوم أو أقل من يوم  ) ( بقى على موعد معرفتك بنتيجة إبتلائك وإختبارك فى الدنيا : ما تبقى من عمرك + يوم أو بعض  يوم ).

 لنفرض أنك فى الثلاثين الآن ، وموعد موتك ــ المحدد سلفا ــ هو بعد عشرين عاما ، إذن بقى على يوم الحساب بالنسبة لك عشرون عاما زائد يوم أو بعض يوم . لنفرض أنك الآن فى الستين وبقى على موعد يومك المحدد سلفا عشرة أيام فقط ، إذن بقى على يوم الحساب عشرة أيام زائد يوم أو أقل من يوم . لماذا ؟ لأنك حين تموت تدخل البرزخ ولا تشعر بالزمن ، ولا بمرور الزمن ، وحين تستيقظ عند البعث تظن أنك قد مُتّ بالأمس فقط ، أى أنك مُتّ منذ يوم أو بعض يوم . لا فارق فى ذلك بين أبيك آدم الذى مات من عشرات الألوف من السنين ، ولافارق بين من سيموت بعدك من أبناء آدم فى السنين القادمة . كلنا من آدم الى آخر فرد من ذريته مات أو يموت الآن أو سيموت يكون البرزخ الذى يدخل فيه بلا زمن . وعندما يستيقظ سيشعر أنه مات ليلة أمس أو بالأمس ، ويتذكر آخر ما حدث له فىفى آخر حياته الدنيا مثلما يتذكر ذلك الحى الذى يستيقظ من النوم بذاكرته التى نام بها . هذا هو موجز هذا المقال . واليكم التفصيل

أولا : ( إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا )

عن موعد العذاب القريب جدا : 

 يقول جل وعلا ينذر الكافرين : ( إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40) النبأ ). العذاب هو يوم القيامة  لأن سياق الآية الكريمة الموضعى هو عن يوم القيامة ، يقول جل وعلا : (  رَبِّ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40) النبأ ).

  هل المقصود هنا هو إقتراب الساعة   :

1 ــ لقد إقترب موعد الساعة وتدمير العالم . بدأت الإشارة لذلك فى حديث رب العزة مع موسى عليه السلام : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) طه ). وبعد موسى بألفى سنة تقريبا إقترب الموعد أكثر  بنزول القرآن خاتم الرسالات السماوية وآخر وحى الاهى للبشرية . وفيه إشارة لأشراط أو علامات الساعة المذكورة فى القرآن ، يقول جل وعلا : ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)  محمد ). بل إن الأمر الالهى صدر فعلا بقيامها ، ولكن سيحل وقت قيامها بزمننا الأرضى ، والله جل وعلا يقول : (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1 ) النحل ) ، وهو جل وعلا يستعمل الفعل الماضى (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ) بالنسبة لصدور الأمر الالهى ، ويستعمل الفعل المضارع بالنسبة لنا : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) . والله جل وعلا يستعما الفعل الماضى عن إقتراب الساعة وعلاماتها مثل شق وتدمير القمر فيقول : (اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)  القمر ). ويقول أيضا عن إقتراب موعد الساعة وتدمير العالم ويوم الحساب وغفلة الناس عن هذا الموضوع الخطير : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1 )( الأنبياء ). وبالمناسبة نزل القرآن الكريم بهذا منذ أكثر من الف واربعمائة سنة . فماذا بقى على قيامها ؟!

2 ــ السؤال : هل أقتراب الساعة هذا هو المقصود بقوله جل وعلا :( إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا ) ؟ الجواب بالنفى . لأن الساعة لم تقم حتى الان بعد أكثر من الف واربعمائة سنة من نزول هذه الآية الكريمة . ربما بقى على قيامها عدة قرون أو عدة عقود من الزمن . الله جل وعلا هو الأعلم بالوقت المحدد لقيامها . ولم نصله حتى كتابة هذا المقال .

3 ــ لقد نزلت الآية الكريمة فى مكة ، والرسول عليه السلام يواجه أعداءه ، ومنهم أبوجهل وأبو لهب . وأنذرهم رب العزة  بعذاب قريب ـ ونعرف من التاريخ أن أبا جهل قُتل فى موقعة بدر ، وأن أبا لهب هلك كمدا عندما علم بهزيمة قريش فى معركة بدر . أى إن كلا منهما عاش بضع سنوات بعد نزول قوله جل وعلا : ( إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا ). وعندما ماتا دخلا فى برزخ لا زمن ولا إحساس فيه ، وبالتالى فعند البعث سيتخيلون أنهما ماتا فقط بالأمس القريب . ويكون المعنى أنه مرت عليهما بضع سنوات و أقل من يوم بعد نزول قوله جل وعلا (إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا ).

4 ــ ورب العزة جل وعلا ينذر أيضا كل كافر سيأتى بعد كفار قريش بعذاب قريب. أى يتساوى كل الكافرين بعذاب قريب ، مهما إختلف موعد موتهم ، لأن الجميع يتساوون بدخول البرزخ ، كل منهم يفقد الاحساس بالزمن ، وكل منّا عند البعث سيظن أنه مات بالأمس القريب فقط ، سواء مات من آلاف السنين أو من آلاف الشهور أو من آلاف الأيام . والكافر سيعرف عندها معنى قوله جل وعلا : ( إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا ) .! محور الفهم هنا فى ( البرزخ ) 

ثانيا : البرزخ

1 ـ البرزخ يعنى الحاجز بين شيئين مختلفين . وبهذا المعنى جاء ( البرزخ ) مرتين فى القرآن الكريم .

2 ــ فى إشارة علمية قرآنية لعدم إختلاط الماء العذب ( فى الأنهار ) بالماء المالح فى البحار يقول جل وعلا : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) ) الفرقان ) . هناك أنهار تنبع داخل المحيطات والبحار ، ولكن لا يختلط ماؤها العذب بالماء المالح  المحيط بها ، يظل بينهما برزح وحجر محجور . وتصب الأنهار فى البحار ولا يختلط الماء العذب بالماء المالح لأن بينهما برزخا وحجرا محجورا .

3 ــ وجاءت كلمة ( البرزخ ) مرة أخرى تعنى الحاجز بين زمنين مختلفين ( الزمن الدنيوى والزمن الأخروى الخالد الأبدى ) . الزمن الدنيوى المتحرك  هو الذى نعيشه فى قطار الحياة الذى نصعد فيه لحظة الميلاد ويسير بنا وبغيرنا الى الأمام دون توقف ، وكل منا يهبط بالموت فى موعد أو ( محطة ) موته . (الزمن الخالد الأبدى ) الذى يحل بالبعث بعد قيام الساعة وتدمير هذا العالم ، أو تدمير قطار الحياة الدنيا ونهاية الحياة الدنيا بزمنها المتحرك الى الأمام دائما دون توقف.

البرزخ هو حاجز بين هذا وذاك. هذا البرزخ هو مستوى من الوجود يتوقف فيه الاحساس بالزمن . والموت هو إنعدام الاحساس بالزمن ، لذا عندما تستيقظ النفس البشرية بالبعث تتذكر آخر ذكرياتها على أنها حدثت منذ يوم أو أقل من يوم حتى لو كان قد فات على موتها آلاف السنين . يقول جل وعلا عن هذا البرزخ  الذى تدخل فيه النفس بالموت : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) المؤمنون ). إذن هو برزخ حاجز بين الموت والبعث .

4 ــ والطريف أن وصف ( حجرا محجورا ) جاء أيضا مرتين فقط فى القرآن الكريم وفى سورة الفرقان بالتحديد. عن البرزخ المادى الفاصل بين ماء البحر وماء النهر يقول جل وعلا : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) ) وعن موقف الكافرين يوم القيامة عندما يرون الملائكة : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) )

 برزخ النوم وبرزخ الموت :

1 ـ يجمع بين الموت والنوم أن كليهما ( وفاة ) أى فى النوم تعود النفس الى برزخها الذى أتت منه ، وقد وفّت عملها لهذا اليوم والمقسوم لها من الحتميات ـ بالنوم تعود الى البرزخ عودة مؤقتة ثم ترجع ثانيا الى جسدها باليقظة .، أما عند الموت فتعود النفس الى البرزخ الذى أتت منه ، ولا تعود لجسدها البشرى المادى مطلقا ، تعود يوم البعث فى خلق جديد تحمل عملها . يقول جل وعلا : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) الزمر ) . لو كنا من الذين يتفكرون وفكرنا وتدبرنا معنى الآية الكريمة لأدركنا التشابه بين ( النوم والموت ). فالنوم وفاة أو موت جزئى ، ونحن تدخل أنفسنا البرزخ كلما إستغرقنا فى النوم . ولنا كتاب منشور هنا عن حقائق الموت فى القرآن الكريم : ( كتاب الموت ).

2 ــ وربنا جل وعلا يقول  : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60)) الأنعام ). ونتوقف مع كل جملة فى الآية الكريمة : قوله جل وعلا : (يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ )  يعنى النوم . قوله جل وعلا (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ) يعنى ( توفية وتسجيل ) ما نفعله فى يقظتنا بجوارحنا . قوله جل وعلا : (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ) أى إستيقاظنا بالنهار . فالنوم وفاة ( مؤقتة )والاستيقاظ بعث ( مؤقت ) . ويقول جل وعلا : (لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ) ، والأجل المُسمّى هنا هو الموت .  أى يستمر النوم واليقظة الى أن يحين الأجل المسمى وينقضى العُمر المحدد المكتوب سلفا ، نفهم هذا من قوله جل وعلا عن ( اجل الموت المحدد المكتوب سلفا ): (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً  ) (145) آل عمران )،( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)) المنافقون ) . ونستمر مع الآية الكريمة : يقول جل وعلا : (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ) أى يوم البعث . ويقول جل وعلا : (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ، اى يوم الحساب . أى فى آية واحدة معدودة الكلمات جاء تلخيص الحياة والموت والبرزخ والبعث و الحساب .

3 ــ والانسان فى كل ذلك لا يستطيع الفرار من ربه جل وعلا ، يقول جل وعلا فى الآية التالية عن قهره لنا بالنوم ( هل تستطيع الحياة بدون نوم ؟ ) وتسجيل أعمالنا وحفظها والموت والبعث والحساب : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61)) الأنعام )

  إنعدام الاحساس برزخ النوم والموت:

1 ــ فى النوم لا يُحسُّ الانسان بما حوله وبمن حوله . يُحسُّ فقط عندما يوقظه أحد أو حين يستيقظ بنفسه. وكذلك الحال فى برزخ الموت . لا إحساس مطلقا داخل البرزخ للميت أو للنائم .

2 ـ ولأنه لا إحساس فى الموت وبرزخه فإن الله جل وعلا يتجاوز مرحلة البرزخ عند الإشارة الى آخر إحساس للميت قبيل دخوله البرزخ وأول إحساس له عند البعث وخروجه من البرزخ ، لأن فترة أو مرحلة البرزخ عديمة الإحساس . يقول جل وعلا عن موت البشر من أعدائه جل وعلا الذين يزعمون الوحى الالهى ويفترون على الله جل وعلا كذبا وما تقوله لهم ملائكة الموت تأنيبا : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) الأنعام ) . آخر ما يسمعونه قبيل دخولهم البرزخ هو قول ملائكة الموت (  أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ  ). أما أول ما سيسمعونه عند خروجهم من البرزخ عند البعث فيأتى مباشرة فى الآية التالية حيث يُقال لهم :( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94) الأنعام ). بين آخر ما سمعوه من ملائكة الموت وأول ما سيسمعونه يوم البعث مستوى برزخى لا إحساس فيه ، ولا كلام ولا سماع ، لذا تمّ تجاوزه ، بالانتقال مباشرة من الموت الى البعث.

ويقول جل وعلا أيضا فى تأكيد نفس الحقيقة : (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) ق ) هذا عن الموت، ثم سكون وسكوت ، ويتبدد هذا الموات والسكون والسكوت بنفخ الصور ، وهو التعبير القرآنى المجازى عن الانفجار الثانى الذى يتم به البعث ، يقول جل وعلا فى الآية التالية : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)  ق ). هنا إنتقال مباشر من الموت الى البعث، لأن ما بينهما موات لا إحساس فيه .

الأحياء فى البرزخ

1 ــ  لا يوجد إحساس فى البرزخ ، والموت يعنى إنعدام الإحساس وإنعدام الشعور بالزمن . هذا لأغلبية البشر . ولكن هناك أقلية مستثناة .

2 ــ منها من يتعرض لتعذيب مستمر فى إحدى مستويات البرزخ ، مثل قوم نوح ، قال عنهم جل وعلا : (  مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً (25)) نوح ) ومنهم فرعون وقومه ، يقول جل وعلا عنهم : ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)) غافر ).

3 ــ من هذه الأقلية المٌستثناة من يتنعم فى البرزخ ، وهم الذين يُقتلون فى سبيل الله جل وعلا ــ جعلنا رب العزة منهم ــ . وهؤلاء ينهى رب العزة عن وصفهم بالموتى ، أو أن نقول عنهم موتى لأنهم أحياء فى ضيافة ربهم أو عند ربهم يُرزقون ، وإن كنا لا نشعر بحياتهم لأنهم فى مستوى برزخى أرضى يروننا ولا نراهم ، يقول جل وعلا : (  وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)) البقرة ). هم فى مستواهم البرزحى يحسّون بأهاليهم وهم فرحون بفضل الله جل وعلا ويتمنون أن يلحق بهم أحبّتهم ، يقول جل وعلا بأسلوب التأكيد الثقيل ينهانا عن إعتبارهم موتى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) آل عمران  ). التفاصيل فى كتابنا عن ( عذاب القبر والثعبان الأقرع ) وهو منشور هنا. 

برزخ النوم  بلا إحساس : يوم أو بعض يوم

1 ـ أمات الله رجلا أو جعله ينام مائة عام ثم أيقظه أو بعثه ، فتخيل أنه نام يوما أو بعض يوم : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ )(259) البقرة ). مرّ عليه فى البرزخ فى النوم مائة عام ، وعندما إستيقظ حسب أنه لبث نائما يوما أو بعض يوم . 

2 ــ أهل الكهف ناموا 309 عاما : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25)) الكهف ). وعندما إستيقظوا طنزا أنهم ناموا يوما أو أقل ، اى مجرد ليلة واحدة ، وإستيقظوا يحملون آخر ذكريات لهم حين هربوا من قومهم فإعتقدوا ان قومهم لا يزالون يطاردونهم بيما مات قومهم من حوالى 300 عام ، يقول جل وعلا عنهم : (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) ) الكهف ).

3 ــ أى لا فارق بين نوم برزخى يستمر ليلة أو يستمر مائة عام أو 309 عاما . فى كل الأحوال يحسبه المستيقظ مجرد ليلة ، لأن نفسه كانت فى البرزخ ، حيث لا زمن ولا إحساس ولا شعور فى البرزخ .

برزخ الموت بلا إحساس

1 ــ نفس الحال بعدالاستيقاظ من برزخ الموت ، أى عند البعث ، كانوا يسألون النبى عن موعد الساعة وينزل الرد بأنه لا علم له عليه السلام بموعدها ، وتكرر هذا فى القرآن الكريم كثيرا ، ومنه قوله جل وعلا :  (يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) النازعات ). الشاهد هنا قوله جل وعلا:(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا )، أى يظنون انهم ماتوا أو ناموا ثم إستيقظوا بعد عشية أو ضحاها .

2 ــ ويقول جل وعلا عن البعث وقيام الساعة : (  وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) الروم ).يقسم المجرمون أنه مرّت عليهم ساعة فقط من الزمن .ويرد عليهم أولو العلم الايمانى : ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) الروم ) 

3 ــ ويقول جل وعلا عن الحشر : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ )(45) يونس ) . أى عند الحشر يتصورون حياتهم الدنيا ومدة بقائهم فيها كما لو كانت ساعة تعارف بينهم مرّت وانقضت .!

4 ـ ويقول جل وعلا عنهم فى الحشر وهم يتساءلون فى خفية ويختلفون فى المدة التى قضوها فى البرزخ : (يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) طه   ) 

وفى النهاية

1 ــ نقولها مرة ثانية :

خذها حقيقة قرآنية (بقى على يوم القيامة : ما تبقى من عمرك + يوم أو أقل من يوم  ) ( بقى على موعد معرفتك بنتيجة إبتلائك وإختبارك فى الدنيا : ما تبقى من عمرك + يوم أو بعض يوم ).  لنفرض أنك فى الثلاثين الآن ، وموعد موتك ــ المحدد سلفا ــ هو بعد عشرين عاما ، إذن بقى على يوم الحساب بالنسبة لك عشرون عاما زائد يوم أو بعض يوم . لنفرض أنك الآن فى الستين وبقى على موعد يومك المحدد سلفا عشرة أيام فقط ، إذن بقى على يوم الحساب عشرة أيام زائد يوم أو أقل من يوم .

أغمض عينيك وتخيل ما سبق .!!

2 ــ ونقول لمن يكفر بحديث الله جل وعلا فى القرآن الكريم ويؤمن بحديث غيره:

يجب أن تتذكر أنك سائر نحو الموت فى قطار سرعته  60 دقيقة ، وفى كل دقيقة تمر تقترب من أجلك المحدد ، تذكر قوله جل وعلا :  ( أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)  الأعراف ).

ودائما : صدق الله العظيم .!!

 انتهى كتاب ( إلابتلاء ) 

اجمالي القراءات 11746