ج3 / ف 3 :المجتمع المملوكى المنحل خلقيا بالتصوف: بؤر الانحلال الشعبية

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٢٤ - أبريل - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

  كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل الثالث : انحلال المجتمع المصرى المملوكى بتأثير التصوف

المجتمع المملوكى المنحل خلقيا بالتصوف :  بؤر الانحلال الشعبية

مقدمة

اختاروا أروع الأماكن لممارسة الانحلال الخلقى ، يقول السخاوى عن النيل ( وأعلم أن النيل من النعم العظام والآيات الجسام اللائق مقابلتها بالشكر والخضوع والذكر ،لا بما يُفعل من الركوب فى الشخاتير ( أى المراكب) والتجاهر بالمناكير ، بحيث زيد فى ذلك على العهد وفاق على العدّ .  ولله در المظفر بيبرس (الجاشنكير) حيث منع من الركوب فى الخليج للنزهة ـ بل لمن تكون له حاجة ، لما ينشأ عن ذلك من الفساد وليته دام ، كما رام ما أبطله أيضا من موسم عيد الشهيد حيث كان يحدث فيه من الفسق والفجور والمجاهرة بالمعاصى أمر عظيم )[1].

أى كان يحدث أن يحاول بعضهم القضاء على الانحلال الخلقى فى هذه الأماكن ولكن سرعان ماتعود الأمور إلى ماكانت عليه ، ففى حوادث سنة 782 قيل للأمير بركة ( قد كثر الفسق والمعاصى فى الخلجان وبركة الرطلى وقد خرجوا فى ذلك على الحد) فأمر بركة بوضع سلاسل الحديد على أفواه القناطر لتمنع المراكب[2].  وفى سنة832 تتبع الأمير قرقماس صاحب الحجاب( مواضع الفساد فأراق الخمر وحرق الحشيشة المغيرة للعقل ، وهدم مواضع ، ومنع من الإجتماع فى مواضع الفساد)[3].

ونتوقف مع أهم تلك المواضع:

بولاق:

1 ــ  انحسر النيل بعد سنة 570 فأظهر جزيرة نيلية أسموها جزيرة الفيل ، وتقلص المياه عن سور القاهرة الذى ينتهى إلى المقس ، وصارت هناك رمال وجزائر كان يمر فيها النيل وقت الفيضان فقط ، ثم بدأت العمارة فى هذه المنطقة بتشجيع الناصر محمد سنة 713 فصار ساحل النيل حتى منية السيرج منتظما بالعمائر، وتنافس الناس فى الإقبال على اللذات والإنهماك فى المسرات ( مما لايمكن وصفه ولايتأتى شرحه) ثم حدث لها الخراب بعد سنة 806 فأصبحت على حد قول المقريزى ( كيمانا موحشة وخرائب مقفرة ، كأن لم تكن مغنى صبابات وموطن أفراح وملعب أتراب ومرتع غزلان، تفتن النساك هناك ، وتعيد الحليم سفيها .! )[4]

 2 ــ ويقول ابن اياس ( كان الفسق قد كثر ببولاق جدا حتى خرج الناس على الحد ، وقد أصابها حريق فتلاشى أمرها)[5]. واستعادت بولاق مكانتها فى عالم المجون بعد سنوات من موت المقريزى ، ففى حوادث سنة 865( خرج الناس عن الحد فى الفتك والقصف بسبب الفرجة فى بولاق ، ونصبوا هناك الخيام حتى سددوا رؤية البحر ، يقيمون فى الرمل ليلا من نساء ورجال ، وهم فى غاية التزخرف ، فهجم عليهم المنسر ( أى اللصوص ) على حين غفلة ونهبوهم فى منتصف الليل)[6]

3 ــ  وفى نفس العام حين توقف النيل وخشيت السلطة المملوكية من المجاعة و( غضب الله) فاعتقلوا كثيرا من الفساق فى بولاق وجرسوهم ( ومن جملتهم ابن قاض القضاة القاياتى ، فشُهر مع غيره)[7]

4 ــ  إذن لم تفلح الحرائق ولا غارات اللصوص أو هجمات السلطة المملوكية أو حتى توقف النيل من استمرار مسيرة الانحلال الخلقى فى بولاق النيل. ومن آثار بولاق كان الى عصر قريب ( روض الفرج ) وذكرياته الماجنة.

أرض الطبالة :

1 ــ وإلى جانب بولاق من ناحية الشرق تقع أرض الطبالة ( العباسية الآن ) .وسميت كذلك لأن الخليفة الفاطمى المستنصر كان قد أقطعها لإحدى المغنيات التى أشادت بالفاطميين وهى تدق له الطبلة ، فسميت ( أرض الطبالة ).

2 ــ  والمقريزى يقول عنها ( كانت من أحسن منتزهات القاهرة ) وكان يمر النيل إلى جانبها الغربى ، وكانت رؤيتها من العجائب بما فيها من مناظر وبساتين ، ثم خربت فى غلاء سنة 696 فى سلطنة كتبغا ، ثم بدأ الناس فى عمارتها ثانيا سنة 711، وازداد عمرانها بعد حفر الخليج الناصرى سنة 725 ومروره إلى جانبها ، ثم أصابها الغلاء بالخراب سنة 777 وبقى منها فى عهد المقريزى مايعرف بالجنينة( تصغير جنة) يقول عنها المقريزى ( من أخبث بقاع الأرض ، يعمل فيها بمعاصى الله عزوجل ، وتعرف ببيع الحشيشة التى يبتلعها أراذل الناس ، وقد فشت هذه الشجرة الخبيثة فى وقتنا هذا فشوا زائدا، وولع بها أهل الخلاعة والسخف ولوعا كثيرا ، وتظاهروا بها من غير احتشام،  بعد ما أدركنا تُعد من أرذل الخبائث وأقبح القاذروات ، وماشىء فى الحقيقة أفسد بطبائع البشر منها، ولاشتهارها فى وقتنا هذا عند الخاص والعام بمصر والشام والعراق تعين ذكرها.  والله أعلم. )[8]

3 ــ  إذن اشتهرت أرض الطبالة بتخصصها فى عصر المقريزى فى إدمان حشيشة الفقراء، ثم نافستها ( بركة الرطلى) فى كل شىء.

بركة الرطلى:

1 ــ  يقول عنها المقريزى ( هذه البركة من جملة أرض الطبالة. ) ، فقد ترتب على حفر الخليج الناصرى أن اتصل النيل ببركة الطوابين فامتلأت وسميت ببركة الرطلى ، نسبة إلى رجل يصنع الأرطال الحديد كان يعيش فى زاوية إلى جانبها.  وأقيم جسر بين البركة والخليج الناصرى ، وأقيمت البيوت على الجسر ، وصارت المراكب تعبر للبركة آتية من الخليج ، وهى تحمل أرباب الخلاعة والمجون ، يقول المقريزى ( وصارت المراكب تعبر إليها من الخليج الناصرى .. فتمر هنالك ، وللناس أحوال من اللهو يقصر عنه الوصف ، وتظاهر الناس فى المراكب بأنواع المنكرات ، من شرب المسكرات وتبرج النساء الفاجرات واختلاطهن بالرجال من غير إنكار ، فإذا نضب ماء النيل زرعت هذه البركة بالقرط وغيره ، فيجتمع فيها من الناس يومى الأحد والجمعة عالم لايحصى لهم عدد).

2 ــ  وقد تعرضت البركة للمحن فى المجاعات ولكن بقيت تؤدى دورها الماجن فى عصر المقريزى.  يقول: ( وأدركت بهذه البركة من بعد سبعين وسبعمائة إلى سنة ثمانمائة أوقاتا انكفت فيها عمن كان بها أيدى الغير.. ثم لما تكدر جو المسرات وتقلص ظل الرفاهية من سنة ست وثمانمائة تلاشى أمرها، وفيها إلى الآن بقية صبابة ومعالم أنس)[9]

  3 ــ ثم عادت لبركة الرطلى شهرتها بعد موت المقريزى فأعيد السماح للناس بالسكن فيها وفتح الجسر وعادت ليالى المجون الى بركة الرطلى كما كانت ، حتى أن الوزير العبادى لكى يوفر الأموال للسلطان خشقدم اصنطع طريقة جديدة للمصادرة سنة 868 هى أن يصادرالسكارى من الرؤساء فى بركة الرطلى ، فهجاه الناس هجاءا فاحشا[10].

4 ــ ثم تمت شهرة بركة الرطلى فى نهاية العصر المملوكى حين زرع الحشيش فيها سنة 915، يقول ابن اياس ( ومن النوادر اللطيفة أن بركة الرطلى زرعت فى هذه السنة حشيشا ،وهذا لم يتفق قط .  وكان الذى زرع الحشيشة كمال الدين بن قوسان ، وقد استأجر أرض بركة الرطلى ، فكان كل من دخل إليها يبتهج بذلك ، ولاسيما أصحاب الكتبة من الحشاشين.  فجاءت إليها الناس أفواجا يتفرجون على ذلك الحشيش ، وقد وضع من أهله محله ، حتى عُدّ ذلك من النوادر الغريبة ، وفيه يقول بعض الشعراء:

            تناهت بركـــة الرطلى حـسنا          وصارت جنة فـيها عروش

            وقد زرعوا الشوانق فى ثراهــا         يبدو نسيمها طلع الحشيش[11]

 والنص لايحتاج إلى تعليق ..                                              

5 ــ وبالتطور الجديد فى بركة الرطلى سكنها كثيرون من رجال الدولة والقضاة ، وأنفقوا أموالهم على الفسق والإدمان ،  مما حدا بالسلطان الغورى للتدخل حرصا على الأموال.  ففى حوادث سنة 917 أى بعد زرع الحشيش بعامين فقط ـ منع الغورى جماعة من المباشرين ــ أى كبار النوظفين المنفذين لأوامر الدولة ــ من أن يسكنوا بركة الرطلى ( وضيق عليهم فى ذلك) وقال لهم( أنتم تضيعوا مالى فى بركة الرطلى فلا يسكن أحد منكم بها ، فلم يسكن أحد من المباشرين فى هذه السنة حتى ولا القضاة ، فكانت بركة الرطلى فى هذه السنة فى غاية الإهمال وقلة البهجة)[12]. أى طالما هجرها كبار المفسدين من الأعيان والقضاة...

  6 ــ  ولم يستمر ذلك شهورا ، فقد عين السلطان الغورى الزينى بركات محتسبا ، وكان ساكنا ببركة الرطلى ، وحدث أن السلطان غضب عليه واعتقله ثم أفرج عنه ، فأقامت له بركة الرطلى مهرجانا ، ويقول ابن إياس عن الزينى بركات بعد الأفراج عنه : ( وكان ساكنا ببركة الرطلى فزينت له بيوتها وزغردت له النساء ولاقته الطبول والزمور ومغانى النساء)، ومفهوم أن هؤلاء النساء من المحترفات .

وأصبح لبركة الرطلى نفوذ بوجود المحتسب الزينى بركات ونفوذه الزائد ، وقد مرض السلطان الغورى وعندما عوفى السلطان أمر الزينى بركات سكان بركة الرطلى بالإحتفال بشفاء السلطان ، وقامت المغانى بالدور خير قيام فانطلقت " الزغاريدوالطبول والزمور فى المراكب " ثلاث جمع متوالية ، وصار يقع بالبركة من القصف والفرجة مالايحصى وصفه ولاسيما وصار أمر سلطانى .. وصار يقع فى البركة كل ليلة أمور غريبة من سماع .. وأشياء حافلة .."[13]

 7 ـ  وظلت بركة الرطلى تؤدى دورها الماجن حتى قيام الثورة المصرية سنة 1952م

 



[1]
. التبر المسبوك 12.

[2]ـ تاريخ ابن اياس جـ1/2/242.

[3]ـ السلوك جـ 4/2/790.

[4]ـ. خطط المقريزى جـ 2/ 524: 527

[5]ـ.تاريخ ابن اياس جـ2/347،373،374،394.

[6]ـ تاريخ ابن اياس جـ2/394، 374، 373، 347.

[7]ـ تاريخ ابن اياس جـ2/394، 374ـ 373ـ 347.

[8]ـ خطط المقريزى جـ2/514 : 516، 581.

[9]ـ خطط المقريزى جـ 2/ 514: 516، 581.

[10]ـ تاريخ ابن اياس جـ 2/ 264، 265، 416

[11]ـ.تاريخ ابن اياس جـ 4/156، 234، 274، 333، 334.

[12]ـ تاريخ ان اياس ـجـ ـ4/ 156، 234، 274، 333، 334. 

[13]ـ تاريخ ابن اياس  جـ4 /156، 234، 274، 333، 334.

اجمالي القراءات 7291