الفصل الثالث : انحلال المجتمع المصرى المملوكى بتأثير التصوف
ج3 / ف 3 انحلال القضاة خلقيا فى العصر المملوكى بأثر التصوف

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٠ - أبريل - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل الثالث : انحلال المجتمع المصرى المملوكى بتأثير التصوف .

انحلال القضاء خلقيا فى العصر المملوكى بأثر التصوف

 تمتع قضاة العصر بمفردات الانحلال الخلقى كلها وفق تشريع التصوف الذى به يدينون .

1 ــ فقد كان لهم مشاركة فى الشذوذ الجنسى سجلتها عليهم المصادر التاريخية ، يقول ابن طولون فى حوادث سنة 886 ( وفى هذه الأيام أشيع بدمشق عن قاضيين من الأربعة إشاعة فاحشة ، ولعلها تكون كذبا فلا حول ولا قوة إلا بالله )[1].

وحضر إلى المحتسب ابن سليمان أحد نواب القاضى ابن خير ، وقد قبض عليه جمع كبير من الناس متلبسا مع صبى صغير يفعل به الفاحشة نهارا، فضربه المحتسب وحبسه [2].

وفى سنة 825 حدثت فضيحة فى ( الوسط القضائى) أثبتها ابن حجر ـ فقد ادعى على شيخ شمس الدين بن عبدالمعطى الكوم ريشى الحنفى أنه قذف الشيخ شمس الدين محمد بن حسن الحنفى بالبغاء ، وأنه هو الفاعل به وإن ذلك كان بواسطة الشيخ شهاب الدين الكوم ريشى أحد قراء الكتب ، وكانت الدعوة عليه عند قاضى القضاة الحنفى زين الدين الأقفهسى ، وكان الذى قام عليه بالدعوة شهاب الدين بن عبدالله أحد نواب القاضى الحنفى ،وقد قال له الأمير برسباى: أنت الذى كان أخى فلان يتعشقك وغرم عليك مالا كثيرا، وأمر بالتوكيل به وعزله من نيابة القضاء فاعتقل ثم شفع فيه، فأطلقوه ، وأعيد للقضاء[3]. أى عاد قاضيا مع هذا السجل الحافل بالشذوذ السلبى .

وذلك القاضى شمس الدين بن عبدالمعطى الكوم ريشى كان أبوه أيضا يعمل قاضيا حنفيا ، وهو الشيخ زين الدين عبدالمعطى الحنفى ( ت 810) وقد أتوا إليه بشاب متهما باغتصاب صبى صغير ، وكان ذلك القاضى وقتها يعمل فى الإشراف على بناءعمارة للأمير أقباى الحاجب ، فما كان من ذلك القاضى إلا أن أمر فى الحال العمال الذين فى العمارة بأن يفسقوا بالشاب المتهم قصاصا بزعمه [4]، وذلك تجديد فى التفكير الصوفى ، ثم جاء ابنه القاضى شمس الدين يدعى على زميله أنه اغتصبه ، وحقيقة هى ذرية بعضها من بعض. والمضحك أن أولئك الذين كانوا منوطين بتطبيق الشريعة كانوا يحملون أسماء دينية مثل شمس الدين وشهاب الدين ، وكانت أعمالهم عكس مايأمر به الدين الذى يحملون اسمه ، وينفذون شرعه بزعمهم ، إلا إنّ التصوف دينهم العملى الواقعى يعتبر الشذوذ من طقوسه الدينية ، وذلك لم يكن عيبا أو لم يعد عيبا .

 2 ــ وبعضهم وقع فى جملة انحرافات خلقية ومالية ، ففى سنة 803 ولى السلطان برقوق الشيخ يوسف المالطى قضاء الحنفية ، يقول عنه ابن حجر ( فباشرها مباشرة عجيبة ، فإنه قرب الفساق ، واستكثر من استبدال الألقاب ، وقتل مسلما بنصرانى ، ولما مات الكلستانى استقر بعده فى تدريس الصرغتمشية ، ووقع فى ولايته أمور منكرة منها ما قدم من الأنجاس فى الاستبدال ، واشتهر أنه كان يفتى بأكل الحشيش ، ووجوه من الحيل فى أكل الربا وأنه كان يقول : من نظر فى كتاب البخارى تزندق )[5].

 وننقل من المقريزى رأيه فى بعض قضاة عصره : ( القاضى ابن حجى: قاضى قضاة دمشق وكاتب السر فى مصر ت 830 : كان يسير غير سيرة القضاة  ، وُيرمى بعظائم ، ولم يوصف بدين قط ) ( الشيخ بدر الدين البردينى ت 831 قاض شافعى بالقاهرة : لم يوصف بعلم ، ولا دين ، ومستراح منه) ( قاضى القضاه المالكى بمصر شهاب الدين أحمد ت 836 : لم يشتهر بعلم ولا دين )[6] .

وقيل نحو ذلك على بعض المشهورين من قضاة القضاء فابن خلكان ( كان يهوى بعض أولاد الملوك ، واتهم بحب الصبيان، وأكل الحشيش )[7].

وقيل فى الهروى ( جرت منه أمورفاحشة، السكوت عنها أجمل) [8] .  

وقيل فى سراج الدين البلقينى ( كان له ذكاء مفرط ، لكنه سىء المزاج ، مستغرقا فى اللهو واللذات التى تميل إليها النفوس ، ممتعا بالجاه والمال ، مثابرا على بلوغ الآمال [9].

وقيل فى ترجمة الشيخ ابن النقيب قاضى القضاة الشافعى ( كان غير مشكور السيرة، رث الهيئة ، يزدريه كل من يراه ، وقال فيه شاعر :

             ياأيهــا الناس قـفـوا واسـمـعـوا            صــفــات قـاضــينا التى تطرب

             يلـوط ، يزنـى، ينتشـى، يرتشـــى            ينمُ ، يقضـى بالهــوى ، يكــذب [10]

ولولا أن شأن القضاة قد هان على الناس ماجرؤ شاعر على مثل هذا القول .

 3 ــ وفى هذا الجو الفاسد كان بعض القضاة لايخجل من المجاهرة بالمعصية.

يقال عن قاضى القضاة ابن الأدمى ( كان لايحترز عن الحرام ، ويتهم باستعمال المنكر من الأشربة وغيرها)[11] .

 وتولى الشيخ السفطى القضاء ( فظهرت منه أمور مستقبحة مما لايعبر عنها ، وضج منه الفقهاء) ( وقد عزله السلطان وقد ثبت لديه قبح فعاله ، وإظهار معايبه ، وكان يتباهى فى قبح الأفعال فى تلك الأيام جدا)[12] .

وقال السخاوى عن الشيخ بكير أنه افتقر وباع كتبه بسبب تعاطى المغيبات ، ومع ذلك ساعده الأمير ططر ( حتى استقر فى قضاء الحنفية فى حلب ، وكان عريا عن الفقه ، يفتى بغير علم ، وربما أفحش فى الخطأ) ، وقال السخاوى عن شهاب الدين الكتانى قاضى القضاة الحنبلى ت 850 ( كان مدمنا المجاهرة بالفسق) [13].

4 ــ وأحيانا كان فساد القضاء أشد من فساد باقى طوائف المجتمع ، فيحدث أن  يضج الرأى العام من انحلال القضاة الخلقى ، وتلك ظاهرة غريبة وفريدة فى تاريخ القضاء على مستوى العالم ، حسبما نعلم .

 يقول المقريزى فى حوادث 825( أخذ الناس فى تتبع عورات القضاة والفقهاء لميل ولاة الشوكة إلى معرفة ذلك ، فإن الأحدوثة عنهم قبحت والمقالة فيهم شنعت .

وكنــا نستـطب إذا مرضنـــا            فجاء الداء من قبل الطبيب [14]  

 وقال المقريزى عنهم فى العام التالى 826 ( ساءت قالة العامة فيهم ، وأكثروا من التشنيع بما يغرمه المتداعيان فى أبوابهم ، حتى اتضعت نواب القضاة فى أعين الكافة ، وانحطت أقدارهم عند أهل الدولة ، وجهروا بالسوء من القول فيهم )[15].

ويقول أبو المحاسن فى حوادث 828 أن السلطان برسباى عين تاج الدين الخطيرى الأسلمانى بالقضاء ، وكان قريب عهد بالإسلام ، وله قدم فى دين النصرانية ، فصار لقبه القاضى ،وقد احتج أبو المحاسن على ذلك ثم قال معلقا ( وقد عيب هذا على مصر قديما وحديثا ، فقال بعضهم : قاضيها مسلمانى ، وشيخها نصرانى ، وحجها غوانى ، قلت فإن كانت ألفاظ هذه الحكاية خالية من البلاغة فهى قريبة مما نحن فيه )[16] .

وفى سنة 871 قال السلطان قايتباى للمحتسب يصف الفقهاء القضاة( فإن الفقهاء لادين لهم ، وهم أنجس الناس ، إن تولوا شيئا اخربوه ، وإن حكموا فى أمر جازفوا فيه وإن أفتوا فى شىء لهم فيه غرض أفتوا بالباطل ، ولا أعلم طائفة شرا منهم)[17]. وقد صدق قايتباى فى وصفه لأشياخ عصره .. وعصرنا المملوكى.

 ويقول العينى عن قاضى القضاة ابن الصالحى (ت806) كان عاريا من العلوم ومن الفقه أيضا ، بلغ المنصب بجاه الخليفة وبالبذل ـ أى الرشوة ـ ولقد كانت القضاة من قبله مايرضون به بالنيابة فضلا عن القضاء المستقل ، ولكن هذا الزمان لايقدم إلا غير أهله) .

وينقل الصيرفى هذا القول عن شيخه العينى ثم يقول معلقا( فلعمرى إذا كان هذا من مدة ستين عاما وشيخنا يذكرك ذلك ، فما حالنا هذا الزمان المنطوى على أمور لانحتاج إلى تفصيلها فى هذا المحل ، ولقد أجاد من قال:

 زمـــــاننـا كـــــــأهله                وأهــلـه كــمـــــا تــرى

وســــيــــرنا كـســـيرهم               وســـــــيرهم إلــــى ورا

وأصدق من ذلك كلام الصادق المصدوق (ص) كل عام ترذلون [18]. ). أى أن العصر المملوكى وضع حديثا منسوبا للنبى يعبر عن إستمرار الفساد وتطوره ، وهو ( كل عام تُرذلون ) . والصيرفى يتحدث عن سوء الأحوال فى قضاة عصره، ولكن السلطان قايتباى كان أبلغ تعبيرا حين قال: ( إن الفقهاء لادين لهم ، وهم أنجس الناس..)

وازداد فساد القضاة بمرور الزمن ، وفى عصر الغورى اهتز ( الوسط القضائى) بفضيحة نسائية تماثل تلك التى حدثت قبلها بقرن من الزمان تقريبا ، فقد كان القاضى الحنفى غرس الدين خليل متزوجا بامرأة حسناء ولكن عشقها الشيخ المشالى القاضى الشافعى ، فنَم عليهما ابن أخت القاضى نور الدين الدمياطى ، وكان يهوى المرأة هو الآخر ، فأعلم زوجها ، فضبط الزوجة وعشيقها ، يقول ابن اياس ( وهما تحت اللحاف متعانقين) وعوقبا بالضرب والتشهير ، وفى أعقاب الحادثة أرسل السلطان الغورى للقضاه الأربعة ووبخهم ( بالكلام القبيح) وقال لهم ( والله افتخرتم ياقضاة الشرع ، نوابكم شىء يشرب الخمر ، وشىء يزنى ، وشىء يبيع الأوقاف ) وضغط الغورى على مجلس القضاة فحكم برجم الشيخ المشالى والمرأة ، إلا أن المشالى رجع عن إقراره بالزنا فاختلف القضاه فى الحكم وطردهم السلطان ، واشتد غضبه على القاضى ابن الشحنة الحنفى ، لأنه وافق السلطان أولا على الرجم ثم رجع فوافق القضاه على اسقاط الرجم ، وعزل السلطان القضاة الأربعة ، فأقامت السلطنة شاغرة من القضاء خمسة أيام لم يعقد فيها نكاح وأغلق الشهود دكاكينهم وتعطلت الأحوال ، وأمر السلطان واليه على القاهرة بالقبض على أى فقيه يجده سكرانا ، وجعل له مكافاة على ذلك ، ومنع من دخول أحد من المباشرين عليه وهو لابس عمامة من بغضه فى الفقهاء ، ثم شفع الأمراء فى القضاة الأربعة فازداد حنق السلطان ، وأمر السلطان بشنق الشيخ المشالى والمراة [19].

5 ــ وفى هذا المستوى المتدنى لقضاة العصر كان نادرا مانجد قاضيا على مستوى لائق، وكان إذا وجد فيهم من يستحق المدح فكان يمدح بعدم وقوعه فى خطايا  القضاة الآخرين ، فالمؤرخ أبوالمحاسن يمدح القاضى ابن التنسى المالكى ت 853 بأنه ( كان بريا عما يرمى به قضاة السوء ) ويمدح بدر الدين البغدادى ت 857( بالعفة عما يرمى به قضاة السوء)[20] . والمقريزى يمدح البلقينى ت 824(بالنزاهة عما يرمى به قضاة السوء ) [21]. أى كانت القاعدة هى السوء والأصل أن القضاة هم قضاة سوء.

 6 ــ وفى حين تكالب القضاة على الوظائف فقد تفرد الشيخ برهان الدين بن جماعة بإعلان عزل نفسه من القضاء الشافعى ــ مجددا وحده سيرة القضاة العظام السابقين ، ففى حوادث سنة 779 ( وعزل برهان الدين ابن جماعة نفسه عن القضاء الشافعى لما رأى تغيرأحوال أرباب الدولة بالأمور الفاحشة، وسافر لبيت المقدس) وقد سبق لهذا القاضى أن سعى فى إبطال ضمان المغانى[22] .أو إباحة البغاء رسميا، وموقف ابن جماعة أكبر اتهام لعصره ورفاقه فى القرن الثامن ، وازدادت الأمور سوءا بعد ذلك ..

 وحدثت نادرة غريبة فى القرن التاسع ، وهى أن الشيخ عبادة (ت846) رفض تولى منصب القضاء ، وعلق المؤرخ أبو المحاسن على هذا الحدث بقوله ( وهذا شىء لم يقع لغيره فى عصرنا هذا ، فإننا لانعلم من سئل بالقضاة ، وامتنع غيره ، وأما سواه فهم على أقسام: قسم يتنزه عن الولاية ويظهر ذلك حيلة حتى يشاع عنه ذلك ، فإذا طلب بعد ذلك يأخذ فى التمنع ، وفى ضمن تمنعه يشترط على السلطان شروطا يعلم هو وكل أحد أنها لاتتم له ، وإنما لايقصد ذكرها إلا نوعا من الإجابة ، لكونه امتنع أولا فلا يمكنه القبول إلا بهذه الدورة ، فلم يكن بمجرد ذكره للشروط إلا وقد صار فى الحال قاضيا ، ووقع ذلك  لجماعة كبيرة فى عصرنا ، وقسم آخر هم الذين يسعون فى الولاية سعيا زائدا ويبذلون الأموال ويتضرعون لأرباب الدولة ويخضعون لهم ، وهيهات ، هل يسمح لهم بذلك أم لا )[23].

 7 ــ والصيرفى المؤرخ القاضى ألف كتابه ( إنباء الهصر فى أنباء العصر ) يسجل فيه تاريخ الحياة المصرية مابين(873 ــ 886 ) ، وهى فترة شهدت غياب المؤرخين الكبار بالموت كالمقريزى وابن حجر والعينى ، وقد كانوا نمطا من المؤرخين الفقهاء أصحاب الرأى ، وقد حاول الصيرفى فى (الهصر) أن يحذو حذوهم ، فأورد صورة لعصره فى هذه الفترة من واقع معاصرته للأحداث ومشاركته فيها بحكم كونه قاضيا يشارك فى تهنئة السلطان بحلول أول كل شهر عربى ، ومتصلا بمجتمع القضاة وخفاياه ، ومتصلا أيضا بالشارع بحكم عمله قاضيا يحكم بين الناس . إذن فهو شاهد على عصره والوسط القضائى الذى عايشه والمجتمع الذى تعايش معه .  والصورة التى نقلها الصيرفى  عن زملاء المهنة تلخص الأوضاع السابقة وتعكس سخط المؤرخ على أحوال علماءالعصر وقضاته ، وقد سبق أن نقلنا تعليقا له فى ذلك الشأن . وبدراسة سريعة لأحوال القضاة من خلال ( تاريخ الهصر) يتضح لنا الآتى :

   بعض القضاة كان يحكم بغير ما أنزل الله ، فالقاضى ابن جنة (خلف ثلاثة أخوة امرأة ورجلين ، وحرم أخويه المذكورين ) وخصص للأخت دارا ،أى لم ينفذ حكم الله فى المواريث ، يقول الصيرفى معلقا( والله يجمع بينهم ويحكم فيهم بعدله) .

 ونزاع القضاة فيما بينهم مستمر على أهون الأسباب ، وقد يصل إلى قذف الزوجات ، كما حدث بين ابن العيسى وشمس الدين الجوهرى.

والفساد المالى منتشر بينهم ، فقاضى الإسكندرية حاول التحايل لأخذ تركة أحد التجار الأثرياء فاشتكى ابنه الوارث ، وتنازع القضاة حول الأوقاف إذا مات القائم عليها ، فقد توفيت بنت الخازن وكانت عمرت أوقافا كثيرة ( ويؤول النظر بعدها إلى القاضى الحنفى ، وأراد القاضى الشافعى الوثوب والتكلم فى الأوقاف فبلغ السلطان ذلك فقال : أنا أحق من الإثنين ولكنى أعمل فيهم بالشروط وأحميهم من الغاصبين ) فالسلطان اعتبر قضاته غاصبين، وتدخل لحماية الأوقاف منهم.

وبعضهم استخدم نفوذه القضائى ليكون به بلطجيا مجرما ، فالشيخ محيى الدين الحنفى سعى عند قاضى الحنفية محب الدين الشحنة حتى قرره قاضيا، يقول عنه الصيرفى ( فصار يصول ويطول ويعزر ، وعمل له سوقا فصار نافقا ، ولقبه أهل مصر بكبش العجم ، وسكن القاضى المذكور فى حارة ، واجتمع عليه أرباب المصالح والمفاسد فصار ينفذ أغراضهم (  وسكن بالحارة يضرب ويرشى ويكشف الرءوس ويسجن)، وحاول ابن الشحنة قاضى القضاة حمايته ، ولكن تدخل السلطان فأصدر ابن الشحنة مرسوما بألا يحكم قضاته فى بيوتهم ، ولايعزرون أحدا إذا وجب عليه تعزير إلا بالباب العالى أى فى المحكمة الرسمية ، ويعلق الصيرفى على ذلك بقوله( وكم يقع مثل هذا فى الوجود وإلا اعتبار له فيه ) أى أن القضاة لم ينفذوا الأوامر.

وبعضهم جمع بين الفساد المالى والفساد الخلقى ، مثل القاضى هانى الذى ( مد يده وبلص أى سرق ــ من الخولية والمشايخ نحو خمسمائة دينار). وكان فى بدايته فلاحا أتى للأزهر وجاور فيه ثم لزم باب خونه فاطمة بنت الظاهر ططر وكانت مشهورة بفسادها فجعلته كاتبا لها وبنفوذها ( استمر حاله ينمو ويزيد) إلى أن تولى القضاء فظهر فساده .

وبعضهم جمع أنواع الفساد كلها من عقيدة وسلوك ، فالقاضى ابن الهيصم ( كان عريا عن الإسلام ، كثيرا الميل إلى دين النصرانية ، مدمنا على السكر ، لايكاد يوجد صاحيا لحظة) وضربه الوزير ثلاث علقات ،لأنه لم يشهد صلاة الجمعة ،إذن يستحق ميدالية الشرف فى الوسط القضائى وقتها.

وبعضهم تميز بالنذالة ، فقاضى القضاة الشافعى أبو السعادات البلقينى شكته زوجته أنها استدانت له مائتى دينار وأنها كلما طالبته بالسداد ( يأسى عليها ولا يدفع لها شيئا).فصارت قضية تدخلت فيها السلطة المملوكية ، ويعلق الصيرفى على ذلك( فانظر إلى إهانة القضاة والعلماء والأصلاء ، وانظر إلى النساء وكيدهن ،وانظر إلى حقارته ودناءة نفسه) يقصد القاضى زوجها.

وواضح أن النذالة ظهرت فيما يخص المال ، إذ سيطر على هذه النوعية من القضاة عبادة المال إلى درجة تثير الاشمئزاز ، وبرزت النذالة فى صراعهم حول المناصب ، وما تعنيه من مخصصات مالية ، وقد وصل الصراع بينهم إلى درجة لاتوصف ، من ذلك أن القاضى نور الدين البرقى ــ وكان أبوه قاضيا أيضا ــ كان من أتباع قاضى القضاة السفطى فأودع السفطى عنده أمانه عشرة آلاف دينار ، وحدث أن الظاهر جقمق غضب على السفطى واستولى على أمواله كلها ماعدا تلك الأمانة التى حفظها عند البرقى (للزمن)، ولكن البرقى بادر بتسليم تلك الأمانة للسلطان كى يحظى عنده ، ومات السفطى فى نكبته مقهورا مما فعله تلميذه معه.  

ومن ذلك مافعله قاضى القضاة الحنفى ابن الشحنة وولده عبدالبر ، إذ قاما بزيارة الشيخ الأردبيلى وهو يحتضر على فراش الموت ، وكانت له وظائف كثيرة فاستكتبوه وهو يموت تنازلا عن وظائفه ، ووصل الخبر للسلطان فغضب واعتقلهم وشتمهم قائلا( تشهدوا على شخص غايب عن الوجود، ومصداق ذلك أنه مات من ليلته وأخرتوه إلى يوم السبت ) وتوسط كاتب السر بشأنهم للسلطان ، ويعلق الصيرفى على مافعله ابن الشحنة يقول ( قضاة الشرع لو عظموا أوامر الله وحقوقه لعظمهم ، ولكنهم خافوا على وظائفهم ، فأهانوا أنفسهم ، والأمر لله ) وبالمناسبة فالصيرفى كان من قضاة التابعين لابن الشحنة . والقاضى برهان الديرى كان قاضيا للقضاة مثل أبيه وكان أخوه كذلك ، وقد دفع رشوة خمسة آلاف ليتولى كتابة السر ، ثم تسبب فى عزل أخيه عن القضاء ، إذ صعد للداودار والسلطان وأخبرها أن أخاه عجز عن القضاء وأنه ذهل ، ووعد برشوة ثمانية آلاف دينار إن عزلوا أخاه وتولى منصبه بدلا منه( فحصل لأخيه منه حصر زائد). 

وبسبب هذا الإنحدار الخلقى والإنسانى فى أولئك القضاه فقد هان أمرهم على الحكام المماليك وعلى العوام ، وقد حكى ابن الصيرفى قضية طويلة وأحدثت بعض المشاكل واحتد فيها السلطان على القضاة ووبخهم مما دعا بعض العلماء إلى التشفع فيهم للسلطان ، فقال له قايتباى ( أنا مابهدلت الشرع والقضاء وإنما أريد أن يكونوا على الأوضاع ) وقال له ذلك العالم ( يامولانا السلطان .. إن الناس من باب المدرج إلى آخر باب النصر اجتمعوا لينظروا مايفعل  بالقضاة ، ومن ينزل منهم مجبور ، ومن ينزل منهم مكسور ) أى توسل للسلطان بغضب العامة ، ولكن العامة كانوا يكرهون القضاة أيضا ، ذلك أن السلطان وقد انعدمت ثقته فى أولئك القضاة قام بنفسه بالحكم بين الناس واستدعى القضاة إليه فجاءوا ومروا بالقاهرة ، يقول الصيرفى ( والخلق والعوام والأوباش ينظرون إليهم ، ويقولون ماشاءوا، وصار بعضهم ينسبهم إلى خراب الأوقاف ، وبعضهم ينسبهم إلى بيعها) وأمل الناس خيرا فى عدل السلطان بعد أن يئسوا من العدل على يد العلماء والقضاء ، لذا انهالت الشكاوى على السلطان حين تصدر للقضاء ، يقول الصيرفى ( وكثرت الشكاوى حتى أن بياع الفجل : اشتكى للسلطان ) . وبعدها قام السلطان باستعراض القضاة ونوابهم وناقش رؤساء القضاة . وقد أورد الصيرفى جانبا من مناقشات السلطان مع القضاة وكان الصيرفى حاضرا ، وقد كان السلطان حين يعرض عليه القضاة النواب يقول مستنكرا( من عمل هذا قاضى) وفى إحدى المناقشات اشتد غضبه وقال ( قضاة القضاة يدلسوا علىَ ويغطوا؟).

 وهوان القضاة على الحكام ظهر فى نوعية التعامل معهم حين يخطئون ، فقاضى القضاة الشافعى صلاح الدين المكينى استبدل بعض الأوقاف ( فأغلظ له الداودار الثانى) وهى عقوبة خفيفة لاتقارن بما فعله السلطان مع ابن الصابونى قاضى قضاة دمشق حين أمر بضربه بين يديه، وحدث أن قاضى البرلس باع ولدا صغيرا حرا لبعض العربان فعرفه أبواه وشكياه للسلطان فأمر السلطان بضرب القاضى بالمقارع .

وهان أمرهم على الأمراء المماليك فعاقبوهم لأتفه الأسباب ، فالأمير جانبك ضرب القاضى عز الدين البلقينى ( علقة على مقاعده .. ( أى مؤخرته) لأنه كلمه بكلام مزعج ) ، ويعلق الصيرفى ( ولم ينتطح فيها عنزان ، والقتل مايهدى ، وآخر الأمر الرضى وكل مفعول مضى ، وهذه الحادثة من أقبح مايكون فى حق الفقهاء ، فلا قوة إلا بالله)[24].

 إن هذه النوعية من القضاء هم صوفية الفقهاء أو الفقهاء الذين خضعوا للتصوف خصوصا فى أواخر العصر المملوكى . وفى عصر البقاعى المعاصر للصيرفى كان أولئك القضاة الفقهاء أشد الناس خصومة للبقاعى حين هاجم ابن الفارض فى عصر الصيرفى  وكان الصيرفى من القضاة المؤرخين المتحاملين على البقاعى فى تاريخه . والفساد يبدأ بالعقيدة .

 8 ــ والصيرفى متأثر بشيخه المقريزى الذى ملأ( السلوك) بنقمته على أحوال عصره ، يقول المقريزى فى حوادث 820( وأهل هذا الشهر ــ ربيع الآخر ــ وفى جميع أرض مصر .. من أنواع الظلم مالا يمكن وصفه بقلم ولا حكايته بقول ، من كثرته وشناعته . فجملته أن الحكام بالقاهرة وأعمالها مابين محتسب ووالى وحجاب وقضاة ونائب الغيبة والأمير فخر الدين الاستادار ، فالمحتسب بالقاهرة والمحتسب بمصر يأكل مايكسبه الباعة .. يجبى منهم بضرائب مقررة لمحتسبى القاهرة ومصر وأعوانهما ، فيصرفون مايصير إليهم من هذا السحت فى ملاذهم المنهى عنها، ويؤديان منه مااستداناه من المال الذى دفع رشوة عند ولاياتهما . ويؤخران منه بقية لمهاداة أتباع السلطان ليكونوا عونا لهما فى بقائهما، وأما القضاة فإن نوابهم يبلغ عددهم نحو المائتين مامنهم إلا من لايحتشم من أخذ الرشوة على الحكم ، مع مايأتون ــ هم وكُتَابهم وأعوانهم ــ من المنكرات بما لم يسمع بمثله فيما سلف ، وينفقون مايجمعونه من ذلك فيما تهوى أنفسهم ، ولايغرم أحد منهم شيئا للسلطنة ، بل يتوفر عليهم فلا يتخولون فى مال الله بغير حق ويحسبون أنهم على شىء ، بل يصرحون بأنهم أهل الله وخاصته افتراء على الله سبحانه) [25]. فالقضاه يظلمون ويفسقون ويأكلون الأموال بالسحت ويعتبرون أنفسهم مع ذلك ( أهل الله وخاصته ، افتراء على الله سبحانه) ، وهنا يشير المقريزى إلى المؤثر الصوفى الذى جعل القضاة ينهمكون فى الانحلال دون أمل فى التوبة .

 وإذا كان هذا حال القضاة والعلماء وهم القدوة فى الدين والأئمة فى الصلاة والسلوك فالطبقة العسكرية الحاكمة لا أمل فيها .



[1]
ـ تاريخ ابن طولون 1/39.

[2]ـ إنباء الغمر 3 /242.

[3]ـ إنباء الغمر 3/268: 269.

[4]ـ نفس المرجع 2/387 ، ذيل الدرر الكامنة 222 مخطوط .

[5]ـ نفس المرجع 2 / 196 ، 197.

[6]ـ السلوك 4 / 2 / 76، 788، 899.

[7]ـ  فوات الوفيات 1 /101.

[8]ـ تاريخ ابن اياس 2 /24 تحقيق محمد مصطفى .

[9]ـ نزهة النفوس 1 / 279.

[10]ـ تاريخ ابن اياس 4/92

[11]ـا العينى عقد الجمان ورقة 387.

[12]ـ تاريخ ابن اياس 2/ 258.

[13]ـ التبر المسبوك 78، 170.

[14]ـ السلوك 4/ 2/ 616 ،638.

[15]ـ السلوك 4/2/616، 638.

[16]ـ  النجوم 14 /274: 275.

[17]ـ  تاريخ البقاعى 12ب .

[18]ـ نزهة النفوس والأبدان 2/190.

[19]ـ تاريخ ابن اياس 4 / 340 ، 345، 18 ، 349.

[20]ـ النجوم الزاهرة 15/538، 16/ 164.

[21]ـ السلوك  4 /2/ 600.

[22]ـ  تاريخ ابن اياس 1/2/ 216.

[23]ـ النجوم 15 /492 : 493.

[24]ـ إنباء الهصر تحقيق حسن حبشى 1970

       351، 331، 266، 225، 153، 323، 129، 132، 151، 365، 366، 232، 248، 446، 374: 391، 235، 22 ، 344،

       238 على الترتيب .

[25]ـ السلوك 4 /1/ 388: 389.

اجمالي القراءات 9042