الفصل الثالث : انحلال المجتمع المصرى المملوكى بتأثير التصوف
ج3 / ف 3 :إنحلال القضاة فى العصر المملوكى بأثر التصوف:القضاة وظيفيا

آحمد صبحي منصور في الخميس ٠٩ - أبريل - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

  كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل الثالث : انحلال المجتمع المصرى المملوكى بتأثير التصوف .

انحلال القضاء فى العصر المملوكى بأثر التصوف : 

 القضاة وظيفيا:

          1 ــ القضاة فى أى عصر هم ضمير المجتمع وحراس الفضيلة والعدل فيه ، أو هذا ماينبغى أن يكون ، وإذا لحق التلوث بمجتمع القضاة والعلماء فمعناه أن الوباء قد أفنى الباقين .

          والقضاة فى عصرنا المملوكى كانوا يؤمنون بالتصوف ، بل كانوا الحراس له ضد الفقهاء الحنابلة السنيين المتمردين على شطحات الصوفية ، وقد عانى ابن تيمية وصحبه الكثير من قضاة عصرهم ، فهم كانوا حراس العقيدة الغالبة والدين المسيطر ، والعقيدة كانت عقيدة التصوف ، والدين كان دين الصوفية ، ومن الطبيعى بعدها أن يكون القضاة الصف التالى مباشرة للأولياء الصوفية ، وإذا طبق الصوفية انحلالهم الخلقى دينا وسلوكا فالقضاة هم أول الناس اقتداء بهم .

           ومن ناحية أخرى لم يعد المجال متاحا أمام الفقيه النابغ الذى لا تأخذه فى الحق لومة لائم ، فقد أخفق هذا النموذج بانهزام ابن تيمية الفقيه السنى أبرز فقهاء العصر المملوكى ، وقضى حياته بين حبس ونفى واضطهاد ومؤامرات . وفى نفس الوقت فإن التصوف ــ وهو الدين المسيطرــ يعطى النموذج للقاضى المناسب للحاكم والمحكوم ، إذ هو فقيه متواضع العلم خانع للسلطة يأتمر بأمرها ، ويستريح الجميع من قلاقل ابن تيمية وأشباهه ، والحاكم المملوكى يجد فى التصوف وقضاته مايريد ، فهو حاكم يتمسح بالإسلام ويريد فى نفس الوقت أن يمارس غرائزه الجسدية وأن يظلم الرعية ويدخل الجنة ، والتصوف يقدم له هذه العملة الصعبة ، فهو يرفع شعار الإسلام ويمارس كل مانهى عنه الإسلام ، ويطبق الشريعة بهذه النوعية ، وكان من القضاة الصوفية أولئك الذين يحرمون ماحرمه الحاكم ولو أحله الله ويحلون مايريده السلطان ولو أغضب الله .. والإفاضة فى هذا الموضوع يخرج عن موضوعنا .

           2 ــ ومقاييس اختيار القاضى المملوكى لم يكن منها عدالة القاضى وأمانته وعلمه ونزاهته ، بل على العكس كان اختيار القضاة يتم بالرشوة وتوارث المنصب ، وإذا تولى القاضى بالرشوة فلابد أن يطمع فى استرداد مادفع من أموال ، ولن يكون ذلك إلا على حساب العدالة . يقول المقريزى فى حوداث 830( خُلع على ابن حجى واستقر فى قضاء القضاة بدمشق عوضا عن أبيه ، وهو شاب صغير لم يستتر عذاريه بالشعر ( أى لم تنبت لحيته) لكن قام بمال كبير( أى قدم رشوة كبيرة )  ، فلم يلتفت مع ذلك لحداثة سنه ولا لكونه ماقرأ ولا درى ، وقديما قيل :

تعـد ذنوبـه والذنـب  جمُ             ولكن للغنـى رب غفـور [1] .

            فهذا الطفل أصبح قاضيا للقضاة فى مصر وورث منصب أبيه بالرشوة  مع كونه صبيا لا يعلم شيئا وما تعلم شيئا .

ولم تكن تلك هى الحالة الوحيدة التى ذكرها المقريزى ، فقد سبقتها حالة مماثلة سنة 825، والمقريزى المؤرخ كان قاضيا وتولى الحسبة ، وهى شهادة منه على عصره ، ومثله العينى قاضى القضاة ، وهو يقول عن زميله قاضى القضاة جمال الدين يوسف الحنفى ( أنه حصل جملة من الوظائف) أى بالرشوة ( وأعطى السلطان وظائفه جميعها لابنه الصغير)[2]. وكان ذلك سنة 829 أى كان أمرا عاديا يتكرر دون إنكار من داخل النظام الحاكم . ولكن جاء الإنكار من خارج السلطنة ، ففى حوادث سنة 838 هجرية أن السلطان شاه رخ ( أنكر على السلطان برسباى أخذ الرشوة من القضاة )[3]..

            لقد أصبح القضاء من جملة المناصب التى  يتقلب فيها شيوخ الخوانق الصوفية الرسميون ، وربما يحصل أحدهم على عدة مناصب من بينها القضاء والتدريس والتصوف والمؤسسات الصوفية ، وفى حوادث 823 تعيين الشيخ البساطى شيخ الخانقاه الناصرية فرج قاضيا للقضاة المالكية [4]. وكان القاضى ابن الديرى ت 867 شيخا للخانقاه المؤيدية للتصوف والتدريس[5]. أى كانت الدولة المملوكية تبيع المناصب للراغبين، ومنها منصب القضاء ، وتحدث حركة تنقلات من المؤسسات الصوفية ووظائفها التعليمية الى منصب القضاء ، أويرث المنصب ابن القاضى المتوفى إذا دفع ابنه الرشوة بغض النظر عن مقدار علمه أو عمره أو كفاءته .

            3 ــ ومن الطبيعى أن يفرز ذلك النظام طائفة من القضاة الجهلة والأميين، فيحكى أبو المحاسن عن القاضى ابن السفاح ت 835  أمورا تظهره مخبولا جاهلا [6].ويقول المقريزى عن قاضى القضاة الهروى أنه ( ظهر نقصه وعجزه مع طمع شديد وجهل بما أسند إليه بحيث كان لايحسن قراءة الشكاوى ولا الكتابات الواردة إليه، فتولى عن ذلك نائبه)[7]. وقيل فى القاضى ابن الكويز ت 816 أنه( كان عاريا من العلم يكثر الصمت بين الفقهاء خوفا  من اللحن فى كلامه ، وكان لايحفظ من القرآن إلا القليل) [8].

             4 ــ وماأسهل أن يتخاصم أولئك القضاة ويدعى بعضهم على بعض ، فيذكر ابن حجر أن بعضهم ادعى على شمس الدين الرازى الحنفى بأنه وقع فى حق النبى (ص) ، ثم ادعى عليه قاض آخر أنه قال له : أنت يهودى ، وحوكم وقامت عليه البينة فعُزر وحقن دمه[9]، وتكرر نفس الموضوع فى عصر الغورى سنة 619 ( وقع أحد نواب الحنفية فى حق النبى (ص) بكلمات ، فبلغ السلطان ، وعندما طلع السلطان للتهنئة بالشهر أمرهم بإحضار ابن الرومى الحنفى وقد اختفى)[10]. أى كان من السهل أن يقع أولئك القضاة فى سب الرسول (ص). وجاء فى حوادث 786 ( وقع بين القضاة فى حلب فتنة عظيمة ، وقذفوا أعراض بعضهم بعضا بالفسوق ، فعزلهم السلطان برقوق )[11]  

         5 ــ  ومن الجهل وسوء الأدب الذى يصل إلى درجة سب النبى ( ص) نصل لظاهرة غريبة فى قضاة العصر المملوكى، فتاريخ القضاة كان يتميز قبل العصر المملوكى بذلك التعصب للمذهب ، حتى كان لابد من تعيين قضاة أربعة للمذاهب، وقد ورث العصر المملوكى هذا التقليد ، إلا أن القضاة الصوفية فيه لم يكن بهم ذلك التعصب المقيت لأحد المذاهب بسبب جهلهم بالفروق بين المذاهب الأربعة والخلافات المذهبية بينها .وبسبب رغبتهم فى التكسب بأى طريق وعلى أى مذهب ، لذا كان من السهل أن يتحول القاضى عن مذهبه إلى مذهب آخر تبعا لمصلحته الشخصية .

ففى حوادث 768 أن الأمير يلبغا تعصب فى أواخر دولته للمذهب الحنفى فتركه كثير من القضاة والفقهاء الشافعية مذهبهم إلى المذهب الحنفى [12].

والقاضى شهاب الدين الأذرعى المالكى كان شافعى المذهب ثم انتقل إلى مذهب مالك لأجل الوظيفة ، ولكنه لم يهنأ بمنصبه فقد قتله نائب طرابلس التى ولى قضاءها سنة 802.

ومثله أيضا القاضى شمس الدين البحاصى الحنفى الذى كان شافعيا ثم انتقل إلى مذهب أبى حنيفة لأجل القضاء وكان خاليا من العلم ، وقتله أيضا نائب طرابلس سنة 802 [13].

وتحول القاضى ابن الشحنة ت830 من الحنفى إلى المالكى بعد الفتنة العظمى حسبما يقول ابن حجر [14].

 وفى سنة 802 قال أبوالمحاسن عن القاضى شمس الدين الصلتى (ت803) أنه عمل مالكيا ثم شافعيا ولم تحمد سيرته فى مباشرته القضاء ، ويعلق أبوالمحاسن عليه( وكيف تحمد سيرته وهو ينتقل فى كل قليل إلى مذهب من أجل المناصب ، فلو كان يرجع إلى دين مافعل ذلك ، ومن لم يحذر على دينه يفعل مايشاء)، ثم يستمر أبوالمحاسن ( قلت ــ والشىء بالشىء يذكرــ وهو إننى اجتمعت ذات مرة بالقاضى كمال الدين ابن البارزى كاتب السر الشريف فدفع إلى كتابا من بعض أهل غزة ممن هو فى هذه المقالة ، فوجدت الكتاب يتضمن السعى فى بعض وظائف غزة ، وهويقول فيه : يامولانا . المملوك ــ يقصد نفسه ــ منذ عزل من الوظيفة الفلانية خاطره مكسور والمسئول من صدقات المخدوم أن يوليه قضاء الشافعية بغزة، فإن لم يكن فقضاء الحنفية ، فإن لم يكن فقضاء المالكية ، وإلا فقضاء الحنابلة ، فكتبت على حاشيته الكتاب بخطى " فإن لم يكن فمشاعلى ملك الأمراء"[15].

أى يحمل مشعل ملك الأمراء جنديا خادما له .!

ومن الغريب أن أحدهم كان يلحق باسمه مذهبه الفقهى حتى لو لم يتقلد منصب القضاء ، فيقال فلان الشافعى أو الحنفى ،ويصير مذهب الحنفى أو الشافعى أو المالكى عنوانا على إسمه وشخصه ، ومع ذلك فقد كانوا سرعان مايتنازلون عن هذه الصفة فى سبيل المبدأ الأساسى وهو المنفعة الدنيوية .

 6 ــ وقد يكون أحدهم متمتعا بحب الناس واعتقادهم فى صلاحه وولايته حتى إذا تولى القضاء ظهر على حقيقته وعانى الناس من شره وجهله ، فالقاضى الصوفى ابن بنت ميلق الشاذلى ت 797 قاضى القضاء بمصر( كان فى بداية أمره يعظ الناس ولهم فيه محبة واعتقاد ، ثم سئل بالقضاء فوليه ، فلم تشكر ولايته ولا سيرته وعزل ، ووزن ــ أى دفع ــ مالا كثيرا أخذه ظلما )[16].

  وكان السلطان برسباى يعتقد فى صلاح القاضى الأرموى المالكى( ت 836) فلم يعزله عن القضاء ( ولم يسمع فيه كلاما لأحد ، مع شهرته بسوء السيرة ومزيد الجهل والتجاهر بالرشوة ، حتى حصل من ذلك مالا جزيلا)[17] .

وكان قاضى القضاه السنباطى ت 868 مشهورا بالفضيلة مع لين الجانب وتدين قبل أن يتولى القضاء وعندما تولى المنصب ( لم تشكرسيرته فى القضاة )[18]

لقد كانت عقيدة العصر زائفة تحمل شعار الإسلام وتمارس نقيضه وهو التصوف، والفقهاء الصوفية هم أبرز من يعبر عن هذا النفاق وإظهار عكس مافى القلب ، وكان منصب القضاة هو المحك العملى لتنفيذ الدين الواقعى العملى السائد ، وهكذا فعندما يتولى القضاء أحد أولئك الذين يتمتعون بالشهرة والصلاح حتى يظهر للناس معدنهم الحقيقى . وقد اشتهر زكريا الأنصارى بتزعم الفقهاء فى الربع الأخير من القرن التاسع وحمل لقب شيخ الإسلام ، ولكنه كان فى عقيدته مريدا صوفيا ، وعرضنا لدوره فى كائنة البقاعى مع ابن الفارض ، ويهمنا منه هنا أنه تولى القضاء للسلطان قايتباى سنة 886 وقد كان على صلة وثيقة بالسخاوى المؤرخ ، يقول عنه فى الضوء اللامع ( وبيننا أنسة زائدة ، ومحبة من الجانبين تامة) ومع ذلك فإن السخاوى يقول عن ولايته للقضاء ( كانت ولايته على المستحقين نقمة ، وجهالته فى تصرفاته على المستحقين المسلمين غمة ، بحيث عادت محبة الناس فيه عداوة ، وزادت الرغبة إلى الله بزواله عقب الصلاة والتلاوة) ( ولو التفت لجهة المستحقين لانكف عنه بيقين ولكن حب الدنيا رأس كل خطيئة )[19].

وزكريا الأنصارى اعترف فيما بعد للشعرانى فقال ( توليتى للقضاء صيرتنى وراء الناس ، مع أنى كنت مستورا أيام السلطان قايتباى) وحاول الشعرانى أن ينافقه ويسرى عنه ( فقلت له ياسيدى أنى سمعت بعض الأولياء يقول : كانت ولاية الشيخ للقضاء سترا لحاله كما شاع عند الناس من زهده وورعه ومكاشفاته فقال : الحمد لله خففت عنى ياولدى) [20].

 تلك كانت لمحة سريعة عن طبيعة قضاة العصر المملوكى فى الجانب العلمى الوظيفى ، فأين كانوا فى الجانب الخلقى ؟   



[1]
ـ السلوك 4/2/751، 619.

[2]ـ عقد الجمان وفيات 829، لوحة 198.

[3]ـ النجوم 15 /59.

[4]ـ النجوم 14 /95.

[5]ـ الضوء اللامع 4 /249.

[6]ـ النجوم 15/ 174 : 175.

[7]ـ السلوك 4 /2

[8]ـ تاريخ ابن اياس 2 / 8.

[9]ـ إنباء الغمر 3/401.

[10]ـ تاريخ ابن اياس 4/180 :181.

[11]ـ تاريخ ابن اياس 1/2/349

[12]ـ تاريخ ابن اياس 1 / 2 / 52  .

[13]ـ نزهة النفوس لابن الصيرفى 2/68.

[14]ـ إنباء الغمر 3/389.

[15]ـ النجوم 13 / 39: 40.

[16]ـ نزهة النفوس 1/419 .

[17]ـ الضوء اللامع 1/ 369: 370.

[18]ـ  النجوم 16: 187.

[19]ـ الضوء اللامع3/237، 238

[20]ـالطبقات الصغرى :41.

اجمالي القراءات 7604