ج3 / ف 1 : تشريع الانحلال الخلقى فى عقيدة التصوف: 1 ـالتخويف من الاعتراض على الولى الفاسق

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٢٤ - مارس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل  الأول: جذور الإنحلال الخلقى الجسدى وتشريعه فى دين التصوف.

تشريع الانحلال الخلقى فى عقيدة التصوف: 1 ـالتخويف من الاعتراض على الولى الفاسق 

  الولى الصوفى يعلن فسقه ليخفى ولايته

1 ـ يرى الشاذلى ( إن الولى يكون مستورا إما بالأسباب وإما بالعزة والسطوة والقهر ، على حسب مايتجلى الحق تعالى لقلبه)( وإما بنواحى أخرى كالخمول أو المزاحمة على حب الدنيا أو غيرها)[1] . فأضيفت أسباب كثيرة يمكن للولى الصوفى أن يمارس بها المعصية بدعوى أنه يستر كونه وليا بالانحلال الخلقى  .  

2 ــ تستر الولى الصوفى ولايته بإلفسق العلنى وإظهار المعصية مقالة اشتهرت بها طائفة القلندرية الصوفية ، وهم من أشهر المُنحلّين خلقيا فى العصر المملوكى، وقد بدأ انحلالهم الخلقى تحت عناوين عدم الإهتمام باعتراض الناس ، يقول المقريزى عن بدايتهم فى مصر : ( القلندرية طائفة تنتسب إلى الصوفية وتارة تسمى نفسها ملامتية ، وحقيقة القلندرية أنهم قوم طرحوا التقيد بآداب المجالسات والمخاطبات، وقلت أعمالهم من الصوم والصلاة والفرائض ولم يبالوا بتناول شىء من اللذات المباحة .. والفرق بين الملامتى  والقلندرىأن الملامتى يعمل فى كتم العبادات والقلندرى يعمل فى تخريب العادات)[2]. ولم يجد المقريزى مطعنا فى ظاهر القلندرية أو الملامتية فى عهده، ولو وجد فيهم مطعنا لهاجمهم كما هاجم بقية الصوفية فى عصره .

3 ــ وسرعان ماتحول شعار الملامتية أو القلندرية إلى ستار للتظاهر بالعصيان على أساس عدم التقيد بالآداب فى المخاطبات والأفعال ، ويبدو ذلك من دراسة النص الذى يترجم فيه الشعرانى لأحد شيوخه من الملامتية وهو الشيخ على أبوخودة ، ونحن ننقل النص بحذافيره مع تقديم الاعتذار الكافى عما يحويه، لكى ينطق النص بوضوح عن سلوك الأولياء فى عصر الشعرانى وتقدير العصر وتقديسه لهم بالغا مابلغ عصيانهم يقول الشعرانى فى ترجمة الشيخ( على أبوخودة): ( كان رضى الله عنه من أرباب الأحوال ومن الملامتية، وكان رضى الله عنه يتعاطى أسباب الإنكار عليه قصدا، فإذا أنكر عليه أحد عطبه.. وكان رضى الله عنه يهوى العبيد السود والحبش لم يزل عنده نحو العشرة .. وكان رضى الله عنه إذا راى امرأة أو أمرد راوده عن نفسه وحسّس على مقعدته سواء أكان ابن وزير ولو كان بحضرة والده أو غيره ، ولايلتفت إلى الناس ولا عليه من أحد، واجتمعت به مرات عديدة وقال لى مرة : إحذرك أن(تنيكك) أمك . !! فقلت لعبد من عبيده : مامعنى كلام الشيخ؟ قال يحذرك أن يدخل حب الدنيا فى قلبك لأن الدنيا هى أمك ) [3].  هذا النص يوضح سلوك الأولياء الصوفية والحرية المطلقة التى يتمتعون بها ، دون إعتراض عليهم من أحد ، ونعرف أن الشيخ أباخودة كان يتستر  وراء شعار الملامتية فيمارس الفاحشة علنا، أو بتعبير الشعرانى( كان رضى الله عنه يتعاطى أسباب الإنكار عليه قصدا) أو قوله( ولايلتفت إلى الناس ، ولا عليه من أحد) أى لا يهتم بما يُقال عنه . وبعد ذلك يجد الشيخ أبوخودة من يشيع عنه الكرامات التى تخوف الآخرين من الاعتراض عليه بحيث يشيعون أن من أنكر عليه عاقبه الشيخ أو بتعبير الشعرانى( فإذا أنكر عليه أحد عطبه) أى أهلكه.  والشعرانى يكرر قوله عن هذا الشيخ المُنحلّ : ( رضى الله عنه ). ويذكر مراودته للنساء والصبيان وتحرشه الجنسى بهم علنا باللمس والكلام ، ويذكر كلامه الفاحش للشعرانى نفسه . الشعرانى يذكر مفتخرا على أن هذا من مناقب شيخه الذى كان يهوى الشذوذ بالعبيد السود ، ويحتفظ لنفسه نحو عشرة منهم .      

والشعرانى نفسه ردد فى كتبه التخويف من الأولياء ومن الاعتراض عليهم يقول( لاتقربوا من الأولياء إلا بالإذن ولوباسطوكم ، فإن قلوبهم مملوكة ، وأنفسهم مفقودة، وعقولهم غير معقولة، فيمقتون على أقل من القليل، وينفذ الله مرادهم فيكم، وأما المجاذيب فسلموا عليهم بترك السلام عليهم، ولاتسألوهم الدعاء فربما دعوا عليكم، وكشفوا عوراتكم)[4].

التخويف من الاعتراض على الولى الفاسق

1 ــ وندخل بذلك على تخويف الناس من الاعتراض على الولى.

وأول من أرسى هذه القاعدة فى تاريخ التصوف هو حمدون القصار رائد الملامتية(ت271 ) والذى نشرها فى نيسابور، وترجم له القشيرى فى رسالته ضمن أعيان الصوفية مع الجنيد ، وذكر مقالته التى صارت فيما بعد عنوانا لطريقته وشعارا للملامتة والصوفية فى عدم الاعتراض وهى :  )إذا رأيت سكرانا فتمايل لئلا تبغى عليه فتبتلى بمثل ذلك)[5].

والقشيرى عقد فصلا كاملا فى رسالته بعنوان( باب حفظ قلوب المشايخ وترك الخلاف عليهم) ملآه بالحكايات التى تحذر من الاعتراض على الأشياخ، واستدل باقوال الأشياخ فى هذا الشأن، ومنها: ( من صحب شيخا من الشيوخ ثم اعترض عليه بقلبه نقض عهد الصحبة، ووجبت عليه التوبة)[6]. وهى مساواة للشيخ بالله فى اعتقاد الصوفية. 

2 ــ ومن الرسالة القشيرية صاغ صوفية العصر المملوكى تشريع عدم الاعتراض على الشيوخ ولو فى الباطن، فإحدى مقامات الطريق عدم الاعتراض على المشايخ مع التسليم لهم، والمريد الصادق يترك الإعتراض على شيخه ولو فى الباطن فى غيبة أو حضور ، فكثرة الاعتراض ( بُعد عن حضرة الله )[7].

3 ـ  ثم التفتوا للآخرين يحذرونهم من الإنكار على معاصى الأولياء( خوف الهلاك أو المقت )[8]. ومن الطبيعى أن يستجيب المريدون لهذه الأوامر ، فالعصر كله تقريبا مريدون للأولياء الصوفية ومعتقدون فى كراماتهم وتصريفهم فى ملك الله .

4 ـ وبهذا أصبح عدم الاعتراض تشريعا مُطبقا فى العصور التى سيطر فيها التصوف ، بحيث كان فى مقدور الشيخ أن يجهر بانحلاله على قارعة الطريق وهو آمن من مجرد الاعتراض عليه من الناس، لأنهم يؤمنون بكراماته وتصريفه المزعوم فى الخلق.

5 ــ ونستشهد بنص آخر يؤكد هذه الحقيقة التاريخية، وكالعادة نقدم الاعتذار الكافى عن إثبات النص بلفظه، يقول الشعرانى فى ترجمته لشيخه على وحيش: ( ومنهم سيدى على وحيش من مجاذيب النحارية، كان رضى الله عنه من أعيان المجاذيب أرباب الأحوال وكان يأتى مصر والمحلة وغيرها من البلاد، وله كرامات وخوارق، واجتمعت به يوما بين القصرين.. وأخبرنى الشيخ محمد الطنيحى رحمه الله تعالى فقال:" .. كان الشيخ وحيش رضى الله عنه يقيم عندنا فى المحلة فى خان بنات الخطا، وكان كل من خرج يقول له.. قف حتى أشفع فيك عند الله قبل أن تخرج، فيشفع فيه ، وكان يحبس بعضهم اليوم واليومين ولا يمكنه أن يخرج حتى يُجاب فى شفاعته، وقال يوما لبنات الخطا:"اخرجوا فإن الخان رايح يطبق عليكم." ، فما سمع إلا واحدة ، فخرجت ووقع على الباقى فمتن كلهن . وكان إذا رأى شيخ بلد أو غيره ينزله من على الحمارة، ويقول له : " أمسك لى رأسها حتى أفعل فيها".!!، فإن أبى شيخ البلد تسمّر فى الأرض لايستطيع أن يمشى خطوة، وإن سمع حصل له خجل عظيم والناس يمرون عليه، وكان له أحوال غريبة . وقد أخبرت عنه سيدى محمد بن عنان رضى الله فقال .. هؤلاء يخيلون للناس هذه الأفعال وليس لها حقيقة .! )[9]

فالشعرانى يؤرّخ لشيخه وسيده المجذوب وحيش ويكرر قوله عنه :( رضى الله عنه ) ، وكيف أنه يقيم فى بيت مومسات ليشفع فى الزُّناة برغم أنوفهم ، ولو عصاه واحد منهم إستعمل الشيخ كراماته فيه فيجعل قدميه تتسمران بالأرض ، ثم إن هذا الشيخ مُدمن لفعل الفاحشة فى الحمير الاناث علنا على قارعة الطريق ، والويل لمن يراه راكبا حمارة ويمر بالشيخ ، عندها يأمره الشيخ بالنزول من على الحمارة ليفعل الشيخ بها الفحشاء . ولو رفض راكب الحمارة الاعتداء الجنسى على حمارته فالويل له من كرامات الشيخ ، ولو رضى وسكت فإنه يقف مكسوفا وهو يرى الشيخ ينتهك حُرمة حمارته علنا أمام الناس.!!. 

وبعد هذا فإن الصوفى يجد التأويل لانحلاله من أقرانه الفقراء الفقهاء الصوفية، ويجد الخوف من العامة من تصريفه الإلهى المزعوم فيهم إذا تجرأ أحد وأنكر عليهم ، ومؤرخو الصوفية كالشعرانى لايتحرجون من إثبات ذلك كله لأنهم يكتبون فى عصر يؤمن بكرامات التصوف وحصانة رجاله من أى اعتراض، بل يبدو تمجيدهم لأولئك الأشياخ بين ثنايا السطور، فكلما ازداد انحراف الشيخ خلقيا زادت نسبة الكرامات إليه وزاد الإعتقاد فى حظوته عند ربه، دلاله عليه ــ فى اعتقاد الناس، وبالتالى زاد خوفهم منه ، وهكذا فكتابات الشعرانى تعبر عن حقيقة اعتقاد الناس فيهم إلى درجة جعلته يجد المصدقين لكل ادعاءاته عن كراماته وكراماتهم.

6 ــ  واستغل الشعرانى ذلك فى التخويف من الاعتراض علي شيوخ الصوفية المُنحلين خُلُقيا ، فيقول عن نفسه إنه أنكر ( على مايفعله القلندرية فى زاويتهم) ( فإذا بشخص متربع فى الهواء يقول لى: تنكر على القلندرية وأنا منهم، فتركت  الإنكار)[10]

7 ــ ولأن عدم الاعتراض أصبح تشريعا  أساسا للدين الصوفي فإنهم نشروه فى العصر المملوكى حين سيطروا عليه فأصبح من سمات المصريين حسبما يذكر المؤرخ المصرى المقريزى: ( الانهماك فى الشهوات والإمعان من الملذات وكثرة الاستهتار( أى الفجور العلنى ) .. والفقير المجرد ـ( أى الصوفى المتفرّغ ) فيها مستريح من جهة رُخص الخبز وكثرته، ووجود السماعات والفُرج ( أى المتنزهات ) فى ظواهرها ودواخلها، وقلة الاعتراض عليه فيما تذهب  إليه نفسه، يحكم فيها كيف يشاء من رقص فى السوق أو تجريد ــ أى عرى ــ أو سُكر من حشيشة أو غيرها أو صحبة مردان ــ أى شذوذ ــ وماأشبه ، بخلاف غيرها من بلاد المغرب ، ولا يُنكر فيها إظهار أوانى الخمر ولا آلات الطرب ذات الأوتار ولاتبرج النساء العواهر ولا غير ذلك مما ينكر ببلاد المغرب )[11] .  فالمقريزى هنا شاهد على عصره يصف المصريين وقتها فى القرن التاسع بالانحلال الخلقى العلنى بكل مظاهره ، ويركز على الصوفية ، وخصوصا المريدين العوام منهم أى ( الفقراء ) وكل منهم يفعل ما يحلو له دون أى إعتراض على ما يفعله ، ونفس الحال مع ظهور المومسات فى الطرقات دون إعتراض أو إنكار .

8 ــ وبلاد المغرب جاء منها رحّالة زائرا لمصر وهو ابن ظهيرة فاندهش من حال المصريين فى عصرنا المملوكى من( عدم اعتراضهم على الناس فلا ينكرون عليهم ولايحسدونهم ، بل يسلمون لكل أحد حاله، العالم مشغول بعلمه ، والعابد عبادته ، والعاصى بمعصيته)[12].     وإذا كان عدم الاعتراض تشريعا لدين التصوف نشر الإنحلال الخلقى فى الشارع المصرى كما سيأتى تفصيله فيما بعد ــ فإن الشرع الإسلامى الحقيقى يتميز بفضيلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فالله تعالى يصف الدولة الإسلامية بأنها التى تقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41) الحج ). والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى القرآن الكريم يعنى التناصح والتواصى بالأخلاق الحسنة . وهذا خلافا للدين السٌّنى الذى يفرض تشريعه الأرضى بالإكراه فى الدين والتسلُّط على الناس . تشريع عدم الاعتراض فى دين التصوف نقيض لتشريع الاكراه فى الدين فى دين السّنة . وهما معا يتناقضان مع الاسلام العظيم الذى يزاوج بين الحرية الدينية والدعوة للفضيلة الأخلاقية بالتواصى بالحق والصبر كما جاء فى سورة ( العصر): (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)). كل الناس يتواصون بالتواصى بالحق بالحكمة والموعظة الحسنة ، دون أن تختص طائفة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتتخذ من ذلك وسيلة للعلو على الناس والاستطالة عليهم ، كما فى الوهابية السّنية الحنبلية .

 



[1]
ـ ـ لواقح الأنوار 98.

[2] ـ الطبقات الكبرى للشعرانى1/7.

[3] ـ خطط المقريزى جـ 3/ 431.

[4] الطبقات الكبرى للشعرانى جـ 2 / 122 صبيح .

[5] ـ درر الغواص 82، الطقات الكبرى جـ 2/151.

[6] ـ الرسالة القشيرية 31، 258.

[7] ـ الشعرانى البحر المورود 319، لطائف المنن 212،388، قواعد الصوفية جـ1 /174.

[8] ـ لواقح الأنوا رللشعرانى 102.

[9] ـ الطبقات الكبرى جـ 2/135 ط صبيح.

[10] ـ لطائف المنن 192، 315 ط قديمة

[11] ـ خط المقريزى جـ2 / 55.

[12] ابن ظهيرة محاسن مصر والقاهرة 204. 

اجمالي القراءات 9096