قبل أن تحاكم الأفكار

كمال غبريال في الأحد ٠١ - مارس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

قصة قيام بعض الشباب المصري بذبح كلب، التي انتشرت بالفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات التليفزيونية، مثيرة للحزن والأسى، ليس فقط على الحيوان المسكين، بل أيضاً على الحالة التي وصل إليها، بعض ليس بقليل من أبناء المجتمع المصري. نرصد هذا رغم أن الأمر قد يبدو للبعض غير ذي شأن، في ظل ما نشهد من مذابح ومحارق مروعة للبشر، لأنه حقيقية أن الأمور التي قد تبدو صغيرة وتافهة، هي الأساس في إنتاج الكبيرة واقتراف الكبائر. أرصد أيضاً استمتاعاً لاريب فيه لأهالي الفيسبوك، بمشاهدة فيديوهات وصور الذبح. بما يشي بأن جرائم الذبح الوحشية، ليست هوى مرتكبيها فقط، بل أيضاً جموع من يدينونها إعلامياً. . المأساة أكبر وأوسع مما نتصور. ما يظهر جلياً هو التجريف، الذي حدث لكل ما سبق وأن تحصل لشعوب منطقة الشرق الأوسط من حضارة، والعودة إلى بدائية وحشية، أدني من تلك التي للكلاب الضالة المصابة بالسعار!!
ذهب بي هذا إلى الظن، أنه يجب التركيز بداية على مسئولية معتنق الفكر الشخصية، ليتلو ذلك النظر إلى نوعية الفكر المدمر الذي يعتنقه. من هنا معارضتي لكل من يتصورون الحل لكل ما تشهد المنطقة الآن من مآس إنسانية وحضارية، هو في إنتاج خطاب ديني تنويري عقلاني. فأفكار التنوير كانت دائماً موجودة، لكنها تتوارى خجلاً، أمام رواج واستشراء الفكر الظلامي. المفترض أن يقول أصحاب الفضيلة والقداسة ما يشاءون، وأن يختار الناس لأنفسهم أن يتبعوهم منقادين، أو أن يفكروا لأنفسهم بأنفسهم. ومن العبث تقبيل أياد وأرجل أصحاب الفضيلة والقداسة، ليترفقوا بنا، مادمنا نرفض ونعجز عن الترفق بأنفسنا. قاعدة تفريخ الإرهاب، ليست بالدرجة الأولى الفكر الديني البدائي الوحشي، ولا هي أيضاً الحالة الاقتصادية المتردية، فهذه رغم أهميتها، عوامل مساعدة وثانوية. أظن أن الأساس هو الافتقاد التدريجي الذي حدث، للتهذيب والرقي الإنساني، حتى في أبسط وأولى درجاته. أما لماذا حدث هذا السقوط المروع، فيحتاج وضع اليد عليه لدراسات علمية جادة.
حالة الإعلام المصري مثلاً، واحدة من أهم ملامح ما نشير إليه من انهيار حضاري وأخلاقي. فرغم أنني لم أكن يوماً حسن الظن بالإعلاميين والصحفيين، إلا أنني مندهش من كيفية تحول الإعلام والصحافة المصرية إلى مزبلة بهذه السهولة. عندما لا تسمع في الإعلام سوي أصوات النباح، بتلك الموجة من السباب والألفاظ البذيئة، التي تجتاح قاموس القنوات الفضائية المصرية ومواقع التواصل الاجتماعي، والتي بالتأكيد لن تصيب بأذى إلا صاحبها، عندها قد يدرك البعض، أن الشعب المصري يفضح نفسه بنفسه. فقائمة أبطال الشتيمة والابتذال تضم نجوماً إعلامية، لا ينقصها التعليم، ولا المستوى الاقتصادي، الذي يجعل بمكنتها تذوق الحياة الراقية، والتفرقة بينها وبين تلك الحياة المنحطة، ذات أساليب التعبير المتبذلة.
في معرض تأملي في أسباب انتشار الميول الداعشية، وفي طبيعة البيئة أو التربة التي تنبت فيها مثل تلك الأفكار، وطبيعة البشر التي تؤهلهم لهذا القدر من الانحدار الإنساني والحضاري، ذهبت بعيداً إلى قصة حدثت معي، منذ أكثر من ثلاثين عاماً. كنت قد ذهبت إلى الموصل، بصحبة عدد من الزملاء المصريين، وذهبنا إلى موقع أثري، يسمونه هناك "نمرود". هناك رأيت أطلال قصر الملك "ناصر بال"، والذي يعود إلى عام 900 قبل الميلاد. وقفت مبهوراً أمام لوحة جدارية لثور مجنح، منحوتة في الجرانيت الأزرق، آية في الروعة الفنية. لكن أكثر ما تملكني حينئذ، هو أنني أقف أمام عمل فني يرجع إلى ثلاثين قرناً مضت. أخذت أتلمسه بيدي، التي لم تلمس من قبل شيئاً بمثل هذا القدم الموغل في التاريخ. وأنا في غمرة نشوتي أو غيبوبتي هذه، فوجئت بأحد زملائي، ترك الصحراء المترامية حول أطلال القصر، ووقف بالقرب مني، يتبول ساخراً فرحاً بنفسه، على الجدارية التاريخية الرائعة، التي كنت أقف أنا أمامها في حالة خشوع!!. . نسمع الآن عن تحطيم الدواعش للآثار والمعابد، وعن حرقهم للمكتبات والوثائق التاريخية، وأتأمل أنا في المنابع التي خرج منها هؤلاء الدواعش. أتأمل في شعوب غير قادرة إلا على السقوط من عربة الزمن والحضارة.
قبل أن تحاكم الأفكار، عليك أن تسأل عمن يعتنقها، ولماذا اختارها دون غيرها، في ساحة مفتوحة للتواصل وتبادل الأفكار، بدرجة غير مسبوقة في تاريخ البشرية. ليس صحيحاً أنك تتبنى أفكاراً لأنك تعتقد فيها القدسية والصحة المطلقة. فبعد عامل التوريث في الفكر والعقيدة، يأتي هامش الاختيار، والذي يختلف حجمه بين شخص وآخر، وبين بيئة وأخرى. الاختيار هنا لا يكون عقلياً إلا بدرجة يسيرة، إذ يعتمد أساساً على معادلة الإنسان البيولوجية، وتركيبته السيكولوجية. فهو يختار من بين المطروح، على ما يتفق مع هذه التركيبة. لذا لم تجد الليبرالية مكاناً في الشرق الأوسط، فيما تفشت النزعات الفاشية الوهابية الداعشية. . ربما ستأتي نهاية الوهابية والداعشية، ليس بالتصحيح الديني لخطابهم، وإنما بتماديهم فيما هم فيه من وحشية، يفرضونها على الأرض والشعوب داعشية النشأة، حتى يتجرعوا ثمارها ما شاء لهم الهوي، وعندما يكتفون، ستأتي النهاية، ربما بأروع مما نتوقع!!
أردت من هذه الكلمات أن نكف عن المعارك الكلامية الوهمية، وننتبه إلى أولية وأولوية بناء الإنسان الراقي المتحضر. كما أريدها أن تكون دعوة، لكل إنسان في منطقتنا، لأن يتحمل مسئولية نفسه، ويقلع عن الحكمة المعروفة السائدة: "علقها في رقبة عالم واطلع سالم"، فقد يكون هذا جائزاً في حساب الحياة الآخرة، أما فيما يتعلق بدنيانا، فلا صاحب الفضيلة أو القداسة، بقادر على دفع ما تجلبه أفكاره الشوهاء علينا من بلايا ومصائب.
kghobrial@yahoo.com

 المصدر ايلاف  

اجمالي القراءات 6290