أثر التهاون الصوفى فى ترك الصلاة فى وسوسة الفقهاء فى الطهارة والصلاة
ج 2 ف1 : التصوف جعل الفقهاء يضيعون الصلاة بالوسوسة ( طرائف الوسوسة الفقهية فى الوضوء والصلاة )

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ١١ - فبراير - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

  كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

 الجزء الثانى :  العبادات فى مصر المملوكية  بين الإسلام والتصوف               

 الفصل الأول :أثر التصوف فى شعيرة الصلاة  فى مصر المملوكية

أثر التهاون الصوفى فى ترك الصلاة  فى وسوسة الفقهاء فى الطهارة والصلاة

  1- تراضي الفقهاء على قبول التصوف مبدءاً بعد الغزالى الذى تفوق عليهم علماً وفلسفة وفقهاً .. وبعد أن كان الفقهاء فى القرن الخامس يستنكفون من الدخول للمؤسسات الصوفية أجبرتهم الظروف على غشيانها ، ويحكى إبن الجوزى عن فقيه مخضرم عاصر الإنقلاب الذى أحدثه الغزالى ومات بعده وهو الشيخ أبو الخطاب الكلوذانى وقد دخل رباطاً صوفيا وهو يتوكأ على ذراع بعض تلاميذه للعزاء فى فقيه مات فكان يقول (يعز على لو رآنى بعض أصحابنا ومشايخنا القدماء وأنا أدخل هذا الرباط) يقول ابن الجوزى (قلت وعلى هذا كان أشياخنا ، فإنا فى زماننا هذا اصطلح الذئب والغنم)[1].

2- وبعد تقرير دين التصوف كان إعلان الصوفية عن عقائدهم المخالفة وتهاونهم بالصلاة وشعائر الاسلام . وفى الجانب المقابل عانى الفقهاء السنيون من التخلف العلمى والعقم العقلى وأسهم التصوف فى ذلك الجمود .. فاكتفى الفقهاء بمقابلة انحلال الصوفية العقائدى بتطرف فى الجانب المقابل . وقد رأينا أن الشطحات الصوفية قوبلت من الفقهاء بإعلان التكفير لأى شى ْوكانت المغالاة فى التكفير طابع العصر وتتم فى أى حديث عادى. أما من حيث الصلاة والتهاون الصوفى بشأنها أو تركها كان الفقهاء فى المقابل يتطرفون فى تحرى الطهارة والنية والألفاظ إلى درجة الوسوسة والتشكيك فيما يفعلون ويقولون ، وتصل المبالغة فى الوسوسة لدى الفقهاء الى نفس النتيجة وهى ترك الصلاة .

3- بيد أن الوسوسة عند الفقهاء لها أصل فى التاريخ الفقهى . فقد عرفت مسيرة علم الفقه فى القرن الرابع مبالغة فى استقراء الحركات والصور الفقهيه دون إهتمام بالعوامل الباطنية كالنية والإخلاص والرياء وغيرها من أمور القلب والضمير . ففى الصلاة مثلاً انصب جهد الفقهاء على تحرى شرائط الصحة فى التلفظ بالنية وفى قراءة القرآن ومقدار الركوع والسجود إلخ ، مع التأكيد على إسباغ الماء عند الوضوء،   ونسوا اشتراط الخشوع وأهمية التضرع وخطر الغفلة أثناء الصلاة . وكان ذلك أهم مأخذ للغزالى عليهم ، وإستغل هذا فى أن أبعدهم عن التكلم فيما اسماه بالأمور القلبية ثم أخذ يقرر عقائد التصوف المخالفة للاسلام على أساس أنها امور خارجة عن ولاية الفقيه واختصاصه.، ولا يجوز له أن يناقشها أو يتعرض لها .

4- وشعور الفقهاء بالعجز عن مجاراة الغزالى فى علمه وإحساسهم بتفوقه عليهم فى الفقه الذى به يُعرفون ـ مع تدهورهم العلمى ـ كل ذلك أورث الفقهاء شعوراً بالذنب إذ خسروا المعركة بتقصيرهم ، فعولوا على المبالغة فيما أهمله أعداؤهم الصوفية ، فأضحى اهتماهم بالحركات فى الصلاة وسوسة فى أدائها ،  وتطرفا ًفى القيام بها .

وفى العصر المملوكى ازداد الأمر فقد وقع الفقهاء ــ ممثلو دين السّنة ــ فى تقديس الأولياء الصوفية ،  مما عمق شعورهم بالشك والإضطراب والوقوع فى الإثم ، فكانت الوسوسة فى الطهارة والصلاة مظهراً لذلك كله.

5- والوسوسة مرض نفسى يعرف (بالحصر القهرى)(وهو أحد أمراض العصاب الذى يصور لنا بوضوح تأثير الشعور بالإثم وعلاقة ذلك بالطقوس .. وتتلخص الأعراض بأن المريض تراوده افكار تسلطية غريبة وسيئة وشاذة رغماً عنه كأن يغسل يديه كلما لمس كتاباً أو صافح يداً غريبة ، وقد يغسلها ثلاثة أو خمسة أو عشرة أو عشرين مرة من قبل أن يطمئن ويشعر بالراحة . والمهم فى هذا أن التفسير النفسى الديناميكى لمثل هذه الأعراض أنها ردود أفعال احترازية دفاعية يقوم بها المريض ليشعر بالأمن والراحة ضد شعور دفين مكبوت بالخطر أو الإثم ، وقد يتولد هذا الشعور بالذنب منذ الطفولة لا شعورياً الى العقل الباطن)[2].

6- وقد بدأت أعراض الوسوسة تظهر على الفقهاء فى القرن السادس التالى للغزالى مباشرة ، وقد أنكر ابن الجوزى على فقهاء عصره مبالغتهم فى الطهارة (فترى  أحدهم يغسل الثوب الطاهر مراراً، وربما لمسه مسلم فيغسله، ومنهم من يغسل ثيابه فى دجلة ولا يرى غسلها فى البيت يجزىء ( أى يكفى ) .. ومن الموسوسين من يقطر عليه قطرة ماء فيغسل الثوب كله . وربما تأخر لذلك عن صلاة الجماعة )[3]

وقال عن الوسوسة فى النية ( ومن ذلك تلبيسه عليهم فى نية الصلاة ، فمنهم من يقول : أصلى صلاة كذا ، ثم يعيد هذا ، ظناً منه أنه قد نقض النية )[4]. وفى التكبير ( ومنهم من يكبر ثم ينقض ثم يكبر ثم ينقض ، فإذا ركع الإمام كبر الموسوس وركع معهم )[5]. ( ومن الموسوسين من تصحٌّ له التكبيرة خلف الإمام، وقد بقي من الركعة يسير فيستفتح ( أى يقرأ الفاتحة ) ويستعيذ ، فيركع الإمام )[6].( ومن الموسوسين من إذا صحت له النية وكبر ذهل عن باقى صلاته، كأن المقصود من الصلاة التكبير فقط )[7]. ويقول ابن الجوزى: (  وقد لبَس إبليس على بعض المصلين فى مخارج الحروف فتراه يقول: الحمد الحمد.. وتارة يلبَس عليه فى تحقيق التشديد وتارة فى إخراج ضاد " المغضوب عليهم" . )[8].

7- وفى بداية العصر المملوكى إشتهر بالوسوسة الشيخ شهاب الدين الصعيدي بالإسكندرية (ت659) الذى "كان شديد الوسواس" ، وابن الطحان( ت735) الذى كان يتوسوس فى الوضوء والغسل ، بل أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد (ت702) كانت له وقائع عجيبة فى الوسوسة فى الطهارة [9].

8 ــ وبتسيد التصوف للعصر المملوكى أصبح مرض الوسوسة وباءا بين الفقهاء السنيين ، به يعرفون ويتميزون ، بل واتخذوا الوسوسة  ديناً ، فكانت لهم حججهم فى الدفاع عنها ، الى درجة أن تصدى للرد عليهم  ابن القيم فى القرن الثامن حيث سجل أحوالهم والرد عليها بتفصيل واسع [10]. .

يقول يصف حركاتهم (وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غسلاً يشاهده ببصره ،ويكبر ويقرأ بلسانه بحيث تسمعه أذناه ويعلمه قلبه بل يعلمه غيره منه ويتيقنه ، ثم يشك : هل فعل ذلك أم لا)[11]. ( وحكى لى من أثق به عن موسوس عظيم رأيته أنه يكرر عقد النية مراراً عديدة فيشق على المأمومين مشقة كبيرة ، فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة فلم يدعه إبليس حتى زاد ، ففرق بينه وبين امرأته ، فأصابه لذلك غم شديد ، وأقاما متفرقين دهراً طويلاً)[12]. ( وبلغنى عن آخر أنه كان شديد التنطع فى التلفظ بالنية والتقعر فى ذلك فاشتد به التنطع والتقعر يوماً إلى أن قال : أصلى أصلى مراراً صلاة كذا وكذا وأراد أن يقول أداء فأعجم الدال وقال اذاء ، فقطع الرجل إلى جانبه الصلاة فقال : ولرسوله وملائكته وجماعة المصلين ، ومنهم من يتوسوس فى إخراج الحرف حتى يكرره مراراً ، فرأيت منهم من يقول الله أكككبر ، وقال لى إنسان منهم : قد عجزت عن قول " السلام عليكم " فقلت له : قل مثل ماقد قلت الآن وقد استرحت) [13].( ومن أصناف الوسواس ما يفسد الصلاة مثل تكرير بعض الكلمة كقوله فى التحيات  ات ات التحي التحي ، وفى السلام أس أس ، وقوله قى التكبير أكككبر ونحو ذلك ، فهذا الظاهر بطلان الصلاة به ، وربما كان إماماً فأفسده صلاة المأمومين )[14].

وكان ابن عطاء السكندرى فى بدايته فقيهاً مريضاً بالوسواس فلما تصوف على يد أبى العباس المرسى تركه الوسواس أو ترك الوسواس فقد قاله شيخه (إن كنت لا تترك الوسوسة فلا تعد تأتينا)،(قال ابن عطاء : فشق ذلك على، وقطع الوسواس عني)[15].

9-وفى القرن العاشر عمت البلوى بالوسوسة فى الصلاة إلى درجة منعت القيام بها ،يقول الشعرانى (وشهدت أنا بعينى موسوساً دخل ميضأة ليتوضأ قبل الفجر من ليلة الجمعة فلا زال يتوضأ للصبح حتى طلعت الشمس ،ثم جاء إلى باب المسجد فوقف ساعة يتفكر،ثم رجع إلى الميضأة فلا زال يتوضأ ويكرر غسل العضو إلى الغاية ،ثم يرجع وينسى الغسل الأولى ،حتى خطب الخطيب الخطبه الأولى ،ثم جاء إلى باب المسجد فوقف ساعة يتفكر ورجع ،فلا زال يتوضأ حتى سلم الإمام من صلاة الجمعة ،وأنا أنظر من شباك المسجد ، ففاته صلاة الصبح والجمعة )[16]. فإذا كان الصوفية قد وصلوا بالتفريط فى الصلاة إلى درجة الترك الكلى فإن خصومهم الفقهاء فى نفس القرن العاشر وصل بهم الإفراط فى الوسوسة إلى تضييع الصلاة .. ولكل فعل رد فعل مساوٍ له فى القوة مضاد له فى الاتجاه..

وقد عمت بلوىالوسوسة فأصابت عامة الفقهاء فى عصر الشعرانى فافتخر بعدم وسوسته (فى الوضوء والنية والقراءة وغير ذلك )، يقول (وهذه النعمة من أكبر نعم الله تعالى عليَ ، فإن الوسوسة قد عمت غالب الناس الآن ، حتى أن بعضهم ترك الوضوء والصلاة ،وقال لا يعجبنى وضوء أصلى به ولا قراءة أقرؤها)[17].

10 ــ ويستشف من الحوادث التى ذكرها الشعرانى أن التطرف فى الوسوسة وصل إلى ما يشبه الجنون والهذيان ،وبه أضحى الفقهاء السنيون المتوسوسون أشبه بالمجاذيب الصوفية . يكفى أن نقرأ ما يقوله الشعرانى هنا : ( وقد رأيت من استحمى بخمسة وخمسين أبريقاً ثم شك بعد ذلك فى أن الماء عمَ بدنه وكان ذلك لصلاة الظهر، فقال : روحوا بى إلى بحر النيل ، فجعل يغطس ويصعد برأسه إلى أن غربت الشمس وفاته الظهر والعصر ، وقد رأيت من ذهب أيام النيل إلى بركة الخازندار خارج القاهرة ليطهر ثيابه فما زال يغسلها ويجففها إلى آخر النهار ثم ضم ثيابه ولبس بعضها ، ثم شك فى بعضها ،ثم شك فى أنه هل غسلها أم لا ، وكان قد مر على صيادي السمك فى طريقه إلى البركة فلما رجع قال لهم : هل رأيتموني مررت عليكم بكرة النهار ومعي ثيابي فقالوا له : ما رأيناك ، فقال إذن أنا ما برحت البركة ، ثم ذهب من بكرة النهار إلى البركة ثانياً .. وقد رأيت من يقفز في الهواء إذا نوى الصلاة ثم يقبض بيده على صورة كأنه يخطف شيئاً كان هارباً منه ثم يقول : استغفر الله ، ثم يقول : الطلاق يلزمني ثلاث لا أزيد على نية واحدة ، ثم يزيد ، وكان ذلك فى صلاة الجمعة فما زال كذلك حتى فاتت الجمعة . ثم من جملة مفاسد الوسوسة أن الموسوس يصير يعذب نفسه باستعمال الماء البارد فى الشتاء ، وربما غاص فى الماء البارد، فنزل الماء البارد فى عينيه فعمي كما وقع للشيخ  محمد الجويني بالجامع الأزهر ، وربما فتح عينيه فى داخل الماء ليغسلها فيضر بصره ، وربما كشف عورته للإستنجاء فى الحمام وعلى إفريز الفساقي والناس ينظرون إليه وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزىء به من يراه ، وقد رأيت موسوساً من قضاة شبين الكوم وهو ذاهب إلى البحر وذكره مربوط بخيط فى عود جعله بين وركيه حتى لا يصدم ذكره وركيه ،وهو عريان ورأسه مكشوف ، وثيابه وعمامته فى يده مرفوعة خوفاً من أن تمس جسده فلا زال كذلك حتى نزل البحر فطهر ثيابه ، وإغتسل بعد تكدير الماء ، ثم وضع ثيابه على جرن قمح ليجففها ، فطلع له كلب من داخل القش فرجع بثيابه إلى البحر فغسلها ثم طلع بها،فمر كلب ووصل ظله إلى ثيابه،فرجع إلى البحر ثالثاً)[18].

وهذه الأفعال لا يقدم عليها إلا المجانين ، أى تضاءل الفارق فى عصر الشعراني بين المجاذيب الصوفية وموسوسي الفقهاء .. فكلاهما يأتي من الأفعال المضحكة مالا يتصوره عقل .. ويكفي أنهما إجتمعا على العري وترك الصلاة مع تناقض الأسباب ..

11 ــ على أن الوسوسة فى عصر الشعراني وصلت إلى نواحٍ أخرى غير الطهارة والصلاة.  يقول الشعراني : ( وقد رأيت بعضهم يأنف من مواكلة الصبيان أو من مواكلة العوام ، ويغسل يده إذا أكل معهم ، ويرى أنها تنجست بالأكل معهم ، وبعضهم يغسلها سبعاً أحداهن بتراب كلما يأكل أو يشرب من محل أكل الناس أو شربهم .. ورأيت بعضهم لا يصلي قط فى صف المسلمين حتى إضطره ذلك إلى أن لا يصلي إلا إماماً حتى لا يلاصقه أحد بثيابه ..ورأيت بعضهم كلما يجامع زوجته يفتق الطراحة واللحاف ويطهرهما ثم ينجدهما ، وإذا جامع فتق فى الملاءة فتقاً يخرج ذكره منه ،  حتى لا يلامس جسم المرأة..)[19].

إن لم يكن هذا جنونا فبماذا نسميه ؟



[1]
تلبيس إبليس 359.

[2]مجلة العربى العدد 262 شوال 1400سبتمبر 1980ص33.

[3]تلبيس إبليس 133: 136.

[4]تلبيس إبليس 132: 136.

[5]تلبيس إبايس133: 136.

[6]تلبيس إبليس 133: 136.

[7]تلبيس إبليس 133: 136.

[8]تلبيس إبليس 133: 136.

[9]الصفدى :الوافى بالوفيات :الطبعة الألمانية جـ7/12.جـ2/239،جـ4/194 على الترتيب.

[10]إغاثة اللهفان جـ1/126: 132.***

[11]إغاثة اللهفان جـ1/133: 134.

[12]إغاثة اللهفان جـ1/135.

[13]إغاثة اللهفان جـ1/135.

[14]إغاثة اللهفان جـ1/139.

[15]لطائف المنن لابن عطاء 118.

[16]لطائف المنن للشعرانى558.

[17]لطائف المنن للشعرانى 558.

[18]لطائف المنن 559: 560.

[19]لطائف المنن559.

اجمالي القراءات 14358