التمهيد لكتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الشطحات الصوفية والطرق الصوفية

آحمد صبحي منصور في الخميس ٢٧ - نوفمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

التمهيد : التصوف عقيدة وتاريخا

 الشطحات الصوفية والطرق الصوفية

 1 ــ واتصف أساطين التصوف بالمرونة الكافية التي مكنتهم من تحويل غضب الرأى العام ضدشطحات التصوف إلى غضب ضد أشخاص متفرقين من الصوفية المعاصرين لهم مع عدم المساس بمبدأالتصوف ذاته.

2 ـ فالقشيري مثلا انتقد صوفية عصره واتهمهم بكل نقيصة ليدافع عن مبدأالتصوف ذاته ، يقول في بداية رسالته (إن المحققين من هذه الطائفة - الصوفية ـ انقرضأكثرهم ولم يبق في زماننا من هذا من الطائفة إلا أثرهم .. مضى الشيوخ الذين كانوا بهماهتداء، وقل الشباب الذين كان لهم بسيرتهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع واشتد الطمع ..وأرتحل عن القلوب حرمة الشريعة ، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة ، ورفضوا التمييزبين الحرام والحلال ، واستخفوا بأداء العبادات ، واستهانوا بالصوم والصلاة ، وركضوا فيميدان الغفلات ، وركنوا إلي إتباع الشهوات ، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات ، والارتفاقبما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان ، ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوءهذه الفعال ، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحرروا  عن رقالأغلال ، وتحققوا بحقائق الوصال ، وأنهم قائمون بالحق ، تجرى عليهم أحكامه وهم محو،وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يزرونه عتب ولا لوم  وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية ،واختطفوا عنهم بالكلية ، وزالت عنهم أحكام البشرية ، وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوارالصمدية ، والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا .. الخ الخ ) .

3 ــ فالقشيري يرمى معاصريه في القرنالخامس بكل نقيصة بشرية ، مع إهمالهم الفرائض الإسلامية وادعائهم للإلوهية طبقالعقيدة الاتحاد الصوفية ، ثم يقول ( ولما طال الابتلاء فيما نحن فيه من الزمان ، بما لوحتببعضه من هذه القصة ، وما كنت  لأبسط إلى هذه الغاية لسان الإنكار غيرة على هذهالطريقة أن يذكر أهلها بسوء، أو يجد مخالف لسلبهم مساغاً، إذ البلوى في هذه الدياربالمخالفين لهذه الطريقة والمنكرين عليها شديدة .. ولما أبى الوقت إلا استصعابا، وأكثر أهل العصر بهذه الديار إلا تماديا فيما اعتادوا ، واغترارا بما ارتادوه ، أشفقت على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بني قواعده ، وعلى هذا النحو سار سلفه ،فعلقت هذه الرسالة إليكم .. وذكرت فيها بعض سير الشيوخ لهذه الطريقة في آدابها وأخلاقهم ومعاملاتهم وعقائدهم(53).

4 ــ  أي أن القشيري يعترف أنه لولا الإنكار علىالتصوف لما أطلق لسانه في صوفية زمانه الذين يعتبرهم خارجين علي مبدأ  التصوف ،ومع ذلك فإن الرسالة القشيرية تحوي من أقوال الشيوخ المعتدلين ما يهدم التصوف ويجعلهنقيضا للإسلام .

5 ــ وصارت عادة عند محققي الصوفية أن ينكروا على الصوفية المعاصرين لهم ويشيدوا بمنسبقهم، حفاظا على مبدأ التصوف وليواجهوا الإنكار عليهم من الفقهاء الأعداء التقليديينللصوفية.

وعلى نفس الطريق سار الغزالي ت : 505  فأنكر علي صوفية عصره ( 54)ولأنه أصبحرأسا للصوفية والعلماء والفقهاء فقد واجه اتهامه للباقين أسوة بالصوفية فهاجم الزهادوالعلماء والعباد عامة ، والفقهاء خاصة ، وأصحاب الحديث وعلماء الكلام والنحاة على وجهالخصوص (55).

ومع ذلك فالغزالي يقرر عقيدة الصوفية في الاتحاد والعشق الإلهي، ودليله الحديثالمكذوب وتأويل الآيات القرآنية وكلام من سبقه من الصوفية (56)وصار (إحياء علوم الدين ) قرآن الصوفية وحجتهم في تقرير مذهبهم في ( العالمالإسلامي) ، خاصة أن الغزالي عرض فيه لجانب من جوانب الفقه الممزوج بالعوامل الباطنية والروحية ، وهى الناحية التي تقاصر عنها فقهاء عصره  فدان له الفقهاء بالتبعية ، وانحصر إنكارهم على أشخاص الصوفية المتطرفين  الذين هاجمهم الغزالي في الأحياء.

6 ــ وبدخول العوام فى دين التصوف السنى حدث ما هو متوقع من الاختلاف والتشرذم ، ولكن التصوف مختلف عن الحنبلية التى لا تتسامح مع المختلفين معها وتعتبرهم كفرة تقتلهم بحد الردة وتغيير المنكر . للتصوف عقيدة مخالفة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهى عقيدة عدم الاعتراض ، كما إن التصوف يقوم على الاختلاف والتفرق ، لذا لا إتفاق بين أربابه على تعريف التصوف وإشتقاقاته ومصادره . وعندما تحول التصوف من الناحية النظرية الفلسفية وأصبح منتشرا بين العوام مؤثرا فى المجتمع فقد تحول الى ( طرق صوفية ) يُتاح فيها لأى شخص أن يكوّن له طريقة صوفية وأن يصبح وليا صوفيا طالما وجد من يؤمن به من الحمقى ، وهم بالملايين فى كل عصر .

7 ــ  وقد  بدأ إنشاء الطرق الصوفية في تاريخمبكر في القرنين الثالث والرابع الهجريين . إلا أن العصر الذهبي للطرق الصوفية بدأ بعد تقرير التصوف السنى كدين فى ( العالم الإسلامي). أي بعد الغزالي في القرن السادسالهجري، مما شجع أرباب ( التصوف الشيعى ) العاملين على إرجاع الدولة الشيعية الى إنشاء طرق صوفية يتخفّون خلفها فى تآمرهم السياسى ، وكان منها الطرق الرفاعية التابعة لأحمد الرفاعي ت: 570  في القرن السابع  و الشاذلية التابعة لأبى الحسنالشاذلي ت 656 ، والأحمدية لأحمد البدوى ، وقد عرضنا لهذه الحركة  بالتفصيل فى كتابنا ( السيد البدوى بين الحقيقة والخلاافة ).

ولجأ متطرفو الصوفية الى تكوين الطرق الصوفية للدعاية إلى مذهبهم كالطريقة الأكبرية نسبة لابن عربي الملقب  بالشيخ  الأكبر ، والطريقة السبعينية نسبة لابن سبعين المرسى .

8 ــ وفى العصر المملوكي تضاءل التصوف النظرى الفلسفى وتحول إلي مجرد ترديد لعقائد السابقين ووضعالشروح عليها وتطبيق تعاليمهم ، وانصرف أغلبية المتصوفة من العوام إلى إنشاء الطرقالصوفية وتفرعها بحسب شهرة الشيخ وكثرة أتباعه ، فتفرعت الطريقة الشاذلية والأحمديةوالسطوحية وغيرها إلى عدة طرق تفرعت بدورها وهكذا ، مع انعدام الفارق الحقيقي بين الطرق، اللهم إلا في طريقة الأذكار ولون المرقعات ونصوص الأوراد وأسماء الشيوخ، وبمضي الزمن كان يزداد انتشار التصوف ويتعاظم تقديس أشياخه. وتقل في نفس الوقتثقافتهم وعلمهم، ويزداد تسلطهم علي المنكرين عليهم من الفقهاء السنيين .

9 ـ ومقارنة صغيرة تظهر الفرق بين القرن الثالث والعصر المملوكي ..

9 / 1 : فالجنيد اضطرللتستر بالفقه والاختفاء في عقر داره لكي يقول لأتباعه المقربين:  (العارف هو من نطق عنسرك وأنت ساكت ) وأن علم التصوف جاءه من الله أسفل درج داره. أما في العصر المملوكي فقد كان إبراهيم الدسوقي يعلن على الملأ قوله بلا خوف :  ( أنا بيدي أبواب النار أغلقتها ، وبيدي جنةالفردوس فتحتها، ومن زارني أسكنته جنة الفردوس .. يا ولدى إن صح عهدك معي فأنا منك قريب غير بعيد، وأنا في ذهنك ، وأنا في سمعك ، وأنا في طرفك ، وأنا في جميعحواسك الظاهرة و الباطنة ) (57)، وكانوا يسجلون ذلك عنه افتخارا به ..

9 / 2 : وإذا كان الحلاج قد دفع حياته ثمنا لإحدى شطحاته وأوذي الآخرون ونفوا بسببالشطح ، فإن العصر المملوكي ودينه التصوف السنى  ـ قد جعل الشطح ـ أو إساءة الأدب معالله تعالى ـ من مستلزمات  الولاية الصوفية ، يقول الشعراني عن معاصره الشيخ أبيالسعود الجارحي ( وكان رضي الله عنه له شطحات عظيمة )(58).

اجمالي القراءات 17753