داعش والنقطة صفر

كمال غبريال في الإثنين ٠١ - سبتمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 

   


داعش هي الصديد الذي تفرزه ما نتعاطاه منذ الطفولة من ميكروبات فكرية وسلوكية. تبدو شعوب الشرق الأوسط وكأنها تحقق الآن انتصارات هي الأعظم، على النظم المستبدة شبه الحداثية، وعلى العالم الغربي وأمريكا، وعلى الحضارة المعاصرة، وعلى سائر المفاهيم الإنسانية المتعارف عليها منذ بدء التاريخ البشري. فالدولة الإسلامية هي منتهى أمل هذه الشعوب، وقد تحقق لها أخيراً ما أرادت. وهذه الشعوب هي أيضاً التي ستحدد، إن كانت انتصارات داعش انتصاراً للبدائية الوحشية على الحضارة، أم أنها النيران التي ستحرق جذور التخلف المتغلغلة في حياتنا وعقولنا.
كانت البداية بقصة "يهوه" الإله الذئب، ثم تفاقمت بعدها الكارثة!!. . ليست داعش سوى تجل لعقلياتنا وثقافتنا القائمة على الخرافة، فالخرافة في حياتنا ليست أمراً عارضاً يمكن محاربته. فهي تستند لأساسات راسخة، فيما ننشأ منذ طفولتنا على تقديسه. الأمل ضئيل فيما يمكن أن يحدث من تغيير في الأجيال الحالية، والتي رضعت الخرافة والوحشية واللاإنسانية مع لبن الأم. وإن تبقى بصيص أمل، في الهامش الضئيل من شباب اليوم الرافض المارق، وفي الأجيال الجديدة التي لم تتخلق في الأرحام بعد، والتي ستخرج لترى دنيانا خراباً شاملاً، فربما لا تأخذ عنا إلا كل ما هو مضاد لما عشنا نحن في أدغاله. نقول ربما!!
الإنسان العادي لا يفكر أو يقيم الأمور بناء على أوليات بسيطة منطقية وعقلانية، لكنه في الأغلب يعتمد على مرجعيات مركبة، تشكلت لديه منذ الصغر، وأصبحت بالنسبة له ثوابت وبديهيات، نعد من يشكك فيها ما بين مجنون وخائن وعدو. لذا نجد صاحب العقلية الخرافية، يخلص من الأحداث والظواهر، إلى عكس ما يفترض أن يؤدي إليه الفكر المنطقي السليم والمستقيم. ثوابت ومعتقدات الشعوب المتخلفة وأبوية (بطريركية) الثقافة، أشبه بشبكة من خطوط لقضبان سكك حديدية، تسير عليها هذه الشعوب، ويعد الخارج عليها مارقاً ومداناً من الجميع. قد يمكن بدرجة أو بأخرى إدخال بعض التعديلات على هذه المسارات، تحت ضغط حقائق الواقع المعاصر. لكن حين يتطلب الأمر اقتلاع هذه الخطوط بكاملها والإطاحة بها، لتحرير الإنسان، ومغادرة تلك المسارات الأزلية، إلى آفاق مختلفة تماماً، فإن الفرد والمجتمع هنا يستشعر الضياع، كما لو كان سيلقى به في صحراء شاسعة مترامية الأطراف. بالإضافة إلى حقيقة أنه لم يتدرب على التفكير المستقل، الذي يمكن أن يسترشد به في مجاهل هذا الضياع. هنا يكون رفض مثل هذه الشعوب للجديد المفارق لواقع حياتها له ما يبرره، وتكون محاولات توعيتها أو زحزحتها، مجرد حرث في البحر.
ما تقوم به داعش الآن، ليس تخريباً لبنى حضارية عصرية حقيقية. هي تدمر مظاهر تلفيقية زائفة، تتخذ من مظاهر الحضارة شكلها الخارجي، مع بقاء الثقافة والروح الجمعية للشعوب، تنتمي لعصور بائدة سحيقة القدم. هي أبنية متناقضة متصدعة في ذاتها، وتنتظر أي هزة أو هَبَّة ريح لتتداعى، ليكون ما تفعله داعش هو توحيد مظاهر الحياة، مع الرؤى الفكرية والثقافية المستقرة للشعوب، وبهذا يزول التناقض الذاتي لحياتنا. أيضاً يمكن رؤية ما يحدث، على أن داعش تقوم من حيث لا تدري، بتقديم خدمة جليلة لهذه الشعوب، إذ تتولى هدم هذه الأبنية ذات التناقضات الهيكلية الجوهرية على رؤوس من أقاموها، وهم في حالة أشبه بالغيبوبة وأضغاث الأحلام. أليس هذا أيضاً ما يتمناه رسل الحداثة بالمنطقة، رغم اختلاف الدوافع أو تضادها؟!!
لا نستطيع بالطبع الجزم بما سيحدث، إذا صح ما نفترضه، من تدهور للحالة الراهنة، وشمول الخراب لكل ما هو قائم، فقد تستقر الشعوب في قاع الوحشية البدائية، وقد تهتبل فرصة السقوط، لتبدأ في إقامة حياتها على أسس جديدة، من نقطة الصفر. فسيظل دوماً يطاردنا سؤال يبحث طوال الوقت عن إجابة، لماذا تفشل شعوب منطقة الشرق الأوسط في مسايرة التطور الحضاري المعاصر، رغم أنها أقدم شعوب العالم في تكوين مجتمعات ودول، وبعضها مثل مصر ولبنان والعراق، يعد مهد الحضارة الإنسانية ومعلمها الأول؟!!. . أظن أن إشكالية الإجابة الحاسمة لهذا السؤال، تتأتي من بحث العقل الإنساني عن عنصر أو عامل واحد، أو حتى رئيسي لهذه الظاهرة، في حين أن هناك العديد من العوامل، تعمل بمنهج شبكي ودائري، على تأسيس وتعميق هذه الحالة.
منهج شبكي بمعنى تأثير العوامل العديدة على بعضها البعض، بما يؤدي لتعاظم فاعليتها. ودائري بمعنى أن العامل الواحد يعيد عبر تأثيره إنتاج ذاته، فالجهل مثلاً يولد وحشية بدائية، والوحشية البدائية تعيد تعظيم درجة الجهل. لدينا أيضاً العامل البيولوجي، الذي يحدد قدرات المستوى العام لذكاء الشعوب وقدراتها السيكولوجية والحيوية، كما أن لدينا توطن أفكار ومعتقدات مقدسة مانعة للتحضر، يتم توارثها عبر الأجيال، وهناك المستوى المادي وأساليب الإنتاج البدائية المتدنية في جانب، والثراء الفاحش الناجم عن الاقتصاد الريعي في جانب آخر، وأخيراً وليس الآخر، هناك صدمة الحداثة، التي تسببت فيها العولمة، والتي تأتي لدى هذه الشعوب بنتائج عكسية مضادة، رفضاً لكل ما هو خارجي مفارق لطبيعة وملامح حياتنا. هي عوامل عديدة، تحتاج لدراسات علمية جادة وجريئة لحصرها، وهذا تحديداً ما لا تسمح به البيئة الاجتماعية والثقافية لسائر الشعوب المبتلاة.
 
اجمالي القراءات 8332