ابن شهاب الزهري في الميزان (4)

سامح عسكر في الجمعة ٢٧ - يونيو - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

لقد عشنا في الأجزاء الثلاثة الأولى مع روعة القرآن والعقل مقابل الرواية والحديث،وأبحرنا في معاني الجهاد الأخلاقية الداعية إلى الصبر ومقاومة الشهوات والغرائز والحض على فعل الخيرات، والآن سنُكمل هذه السلسلة مع حديث رابع من أحاديث الراوي.."ابن شهاب الزهري"..في الصحيحين، وكيف أن هذا الراوي كان حلقة مهمة في تحريف معنى الجهاد القرآني إلى معنىً آخر يدعو إلى القتال والغزو والحرب، وكيف أن هذا الراوي -لمكانته السياسية في بلاط الأمويين- لن يكون شخصاً عادياً أو دارساً سلبياً لا يخدم مليكه بأقل ما تجود به نفسه..! 

إن الإسلام أول ما راعى هو بناء الفرد المسلم..شخصيته أخلاقه وضميره، فالمجتمع الذي لا أخلاق له ولا ضمير هو مجتمع فاشل تكثر فيه الحروب والنزاعات، وتسود بين أبنائه معاني الحسد والبغضاء والكراهية، لذلك عمل القرآن على وضع البناء السليم لشخصية الإنسان وقد عرضها الله في سياقٍ متجانس حيث يقول.."واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"..(آل عمران 103)..وقال تعالى .."وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"..(الحجرات 13)..أي المقصود من الدعوة هو الألفة والوحدة وغض الطرف عن الخصومات والنزاعات وحلها بطُرق تكفل تجانس ووحدة المجتمع.

وقد ظهر ذلك في معاني العبادات، فالصلاة ليست مجرد صلاة ولكنها اجتماع على المحبة والود في طاعة الله والتحريض على البناء، وكذلك الحج وسائر العبادات شرع فيها الله العمل جماعة تحت لواءٍ واحد ونفسٍ واحدة تضمن التعاون، حتى الزكاة فالمقصود منها خُلقُ اجتماعيُ رائع ينشر معاني الألفة والتكامل بين أبناء المجتمع، لذلك جاءت دعوة الإسلام وهي معانٍ أصولية مستفادة من القرآن والسنة الصحيحة، يعضض ذلك ما روي في الحديث عن النبي أنه قال.."إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"..وهو قولُ فصل يتسق مع القرآن ومقررات العقل السليم، أن الأديان جاءت لمنفعة الإنسان ولوحدته وصون كرامته من العدوان.

ولكن هذا الكلام لم يُعجب ابن شهاب الزهري وسائر رواة الحديث، فكانوا يحضون على القتال والحرب والغزو، تنفيذاً لتعليمات سلطانهم الأموي المتجبر والطاغية على عقول وقلوب العباد، فنشروا الكذب تحت دعاوى الإسلام، وكما سقنا في السابق ما يُثبت ذلك ورددنا عليه قرآنياً وعقلياً سنُكمل هذه السلسلة لنرى أين يذهب بنا الزهري وأمثاله:

روى البخاري في صحيحه:

حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل»..(صحيح البخاري 4/17).

دروس أولية:

1-في الحديثين الثاني والثالث جاء هذا السند عن الزهري ثابتاً.."أبو اليمان عن شعيب عن الزهري"..وهذا يعني أن أبا اليمان كان نشطاً في نقل دعاوى الحرب عن الزهري للبخاري، هذا لو فرضنا صحة ادعاء البخاري تحديثه، فلسنا كأهل الحديث يُنزلون هؤلاء مراتب العصمة لأسباب مذهبية وأيدلوجية.

2-الحديث كالعادة عن أبي هريرة وهو في البخاري بأربع روايات..اثنان منها من طريق الزهري ، وهذا يعني شهرة الرواية في زمن البخاري، ودليل أن الحديث في حُكم.."الآحاد المشهور"..

3-الرواية تُعلي من شأن القتال وتجعله مقدماً على أي فضيلة بما يوهم السامع أن الإسلام لم يأتِ سوى للغزو وسلب الغنائم، ولعل تلك الدلالة هي ما أثرت على الفقه السني بشكلٍ عام.

4-ولكن هل ذلك الإعلاء- لشأن القتال والغزو لدرجة أن يتمنى الرسول الهلاك ثم يحيا ثم يهلك..وهكذا..-هل ذلك له صلة بالإسلام ؟..هذا ما سنراه لاحقاً..

يقول الله تعالى في سورة الأنعام:

" قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون، ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ، وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون"..(الأنعام 151،153)

السؤال: أين القعود أو التخلف عن الغزوات من تلك المحرمات ؟!!

هذه الآية هي مفصلية في تعيين أطر الإسلام ومعاييره، فبها تتحقق كل معاني الإسلام الدينية والدنيوية، وقوله.." هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل:..يعني أن معاني الإسلام متأصلة في تلك القواعد والأوامر، ومن يزيغ عنها فقد تحقق فيه وعد الله.."فتفرق بكم عن سبيله"..أي ضللتم أنفسكم بأنفسكم، وأن أطماعكم الدنيوية حالت بينكم وبين التقوى نهاية الآية.

وفي السنة ما يعضد تلك الرؤية..والسنة كما هي نراها تجمع ما بين النص الصحيح(قرآن وحديث) والعقل الصريح، لذلك لو رأينا ما قاله الصحابي جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة سنرى أن ما قاله يتفق مع السنة الصحيحة ليست المزيفة التي رواها ابن شهاب الزهري والبخاري.

يقول جعفر بن أبي طالب للنجاشي:

" أيها الملك ! كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، يأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله عز وجل إلينا نبيا ورسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم ، والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام والحج من استطاع إليه سبيلا قالت : فعدد عليه أمور الإسلام ، فصدقناه ، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به ، فعبدنا الله وحده"..(سيرة ابن هشام 1/336)

هذه هي الشريعة الصحيحة بإيجاز..ليست شريعة الزهري الداعية للغزو والقتل..ليست شريعة القطع والرجم، ليست شريعة الغدر والتكفير، إن قول جعفر يتسق مع قوله تعالى في سورة الأنعام، بما يعني صحة الاستدلال به على منهج الشريعة في الدعوة، هذا المنهج الذي يحض على حُسن الخلق وما تفرع منه من بر الوالدين وحُسن الجوار والأمانة والصدق والعدل والكف عن المحارم والدماء والفواحش..

إن منهجية الإسلام هي اجتماعية بالدرجة الأولى، وليست كما يدعي خصومه أنها استعمارية حربية، فذلك ما علق بذهن المسلمين من غزوات وحروب الأمويين في صدر الإسلام، تلك الغزوات التي كان ورائها مصالح دنيوية ضيقة وفهوم خاطئة والتكبّر على عباد الله، رغم أن الله لا يحب كل مختالٍ فخور، ولو كان هؤلاء يفخرون بدينهم فيجب أن يظهر ذلك من سلوكم لا بمجرد الاعتقاد، والأخير كان سبباً في حرف منهجية الإسلام عن روحها التعايشية ودعوتها للسلام والتآلف بين الأمم.

إن النفس القائمة على الغزو -مهما كانت صالحة- فهي مليئة بالبُغض والحسد، وهي عُرضة أكثر من غيرها لآفات النفس من الكذب والنفاق والجريمة، لقد كَثُرت الأوامر الصريحة في القرآن التي تحض على الصدق والتواضع وحُسن الخُلق وعدم الغيبة وصلة الأرحام والنهي عن العصبية والتشدد بمجرد الانتساب، بل جعل الله معياراً واحداً يقيس به الأمم وهو.."التقوى"..هل يوجد حديث بعد ذلك يزعم أن الإسلام قائم على الغزو؟!..وما مصير ابن شهاب الزهري والبخاري وسعيد بن المسيب وشعبة وغيرهم من رواة الحديث..ما مصيرهم يوم أن يلقون الله وفي رقبتهم ملايين الدماء التي ذهبت ظلماً وحماقة لأجل منافع دنيوية رخيصة.!

 

 

اجمالي القراءات 8854