ق1 ب 3 : التحالف بين العلماء والاخوان ضد عبد العزيز

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٣ - يونيو - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

انعكاس فكر ابن عبد الوهاب علي الخلافات بين الاخوان وعبد العزيز

كتاب ( المعارضة الوهابية فى الدولة السعودية فى القرن العشرين )

القسم الأول :  المعارضة في عهد عبد العزيز آل سعود : الإخوان وعبد العزيز

الفصل الثالث : التكوين الأيديولوجي للإخوان أساس المعارضة السعودية في عهد عبد العزيز

انعكاس فكر ابن عبد الوهاب علي الخلافات بين الاخوان وعبد العزيز :

التحالف بين العلماء والاخوان ضد عبد العزيز :

لمحة

1 ـ الدولة الاسلامية الحقيقية التى أقامها خاتم المرسلين عليهم جميعا السلام ــــ والتى لا تزال أسُسُها فى القرآن الكريم ـــ هى دولة الديمقراطية المباشرة ، أو الدولة العلمانية التى يكون مصدر السلطة فيها هم الناس ، ويكون أولى الأمر هم أصحاب التخصص فى الأمر المعروض ، ويكون كل مسئول معرّضا للمساءلة لأن الله جل وعلا وحده هو الذى لا يُسألُ عما يفعل ، وقد فصلنا هذا فى بحث منشور عن ( الشورى الاسلامية ) عام 1990. وفى بحث آخر لاحق صدر عن مركز ابن خلدون عن ( القضاء والمجتمع المدنى ) أوضحت أن دور الدولة فى الاسلام ليس هداية الناس وإدخالهم الجنة لأن الهداية مسئولية شخصية ، ولكن دور الدولة الاسلامية هو توفير الحقوق الفردية فى الحرية المطلقة فى الدين وفى المشاركة السياسية وفى العدل وفى الأمن للجميع والتكافل الاجتماعى للمحتاجين .

2 ـ  لقد نزل القرآن حربا للكهنوت الدينى الذى يحتكر لنفسه زورا وبهتانا الحديث باسم رب العزة ، ويقتنص لنفسه وأربابه التقديس الذى يجب أن يكون لله جل وعلا وحده . المستبد العلمانى يستعين بالكهنوت الدينى يركبه ، ويركب به الناس . وقد يصل الكهنوت للحكم منفردا ويطيح بالسلطان المستبد ، حدث هذا فى تاريخ مصر الفرعونية قديما ، وحدث مؤخرا فى ايران حين حكمها الخومينى . وبوصول الكهنوت للحكم تتأسس الدولة الدينية ، وهى أفظع نظام يظلم الناس ويظلم رب الناس ، لأنه يمارس الظلم والقتل والاغتصاب والاكراه فى الدين مستخدما إسم الله جل وعلا ، ورافعا شعار الدين ، وهو فى الحقيقة يمارس آراء بشرية تنسب نفسها زورا لدين الله جل وعلا .  وكل الدول الدينية  ــــ حسب علمى ـــ تأسست على أساس مذهبى أو طائفى ، شيعى ، سُنّى ، كاثوليكى بروتستانتى . وهى تضطهد مخالفيها فى المذهب ومخالفيها فى الدين . ثم تنقلب على نفسها وتتصدّع   ولا يمكن حلّ الخلافات إلا باللجوء للسلاح . أى تحمل عوامل فنائها فى داخلها .

3 ـ  أساس هذا الشقاق فى الدولة الدينية يتمثل فى كونها ( دولة دينية ) ، أى فى علاقة الدولة بالدين ؛ هل تكون الدولة فى خدمة دينها ؟ أم يكون دينها فى خدمة دولتها ؟ . الدين هنا هو شعارات يسهل الصراخ بها ، ولكن يصعب تطبيقها بحذافيرها فى الداخل والخارج . الذى يكون فى السلطة يدرك هذا ، ولكن فقهاء الدين وأعوانهم يريدون التطبيق لتعاليم دينهم مهما كانت العواقب .والمثل الشعبى المصرى يقول ( اللى إيده فى النار مش زى اللى إيده فى الميّة ) ويقول ( اللى على البرّ خيّال ) ، اى من السهل أن تُزايد بالأقوال والشعارات ، ولكن الذى يقوم بالتطبيق فى أرض الواقع هو الذى يُعانى .

4 ـ  ولو كان الحاكم فقيها متخصصا فى دينه كالخمينى يؤمن بولاية الفقيه أى تحكم رجال الدين فى الدولة وتطبيق آرائهم ــــ فإن تطبيق دينه بالكامل يوقع دولته فى كوارث . الخمينى رفع بدون مبرر سياسى العداء لأمريكا وأسماها ( الشيطان الأكبر ) ، وبكل المخالفة للعهود والمواثيق الدولية ـــ ولتعاليم الاسلام الحقيقية ـــ بادر باحتلال  السفارة الأمريكية فى 4 نوفمبر 1979 واتخاذ من فيها رهائن . وتم  تحرير الرهائن فى 20 يناير 1981 ، وبسبب هذا الاعتداء أدخلت أمريكا ايران فى حرب مع العراق فى سبتمبر 1980 : واستمرت الى اغسطس 1988 . طالت مدة الحرب بسبب طول الحدود المشتركة بين العراق وايران ، وكسبت أمريكا وانتقمت من ايران الخومينى . تعلم خلفاء الخومينى الدرس فاحتفظوا بصورة الخومينى مقدسة بعد وفاته 3 يونية 1989 ولكن خالفوا سياسته ، فجعلوا الدين الشيعى فى خدمة دولتهم وليس فى إثارة المشاكل لها .

5 ـ نفس المشكلة واجهت عبد العزيز آل سعود ( الوهابى ) . لم يكن بوسعه تنفيذ كل آراء ابن عبد الوهاب التى علّمها للإخوان على أنها دين الاسلام . ولكن كان بوسع الاخوان ــ وهم القوة الحربية ـ وعلمائهم  الوهابيين المزايدة على عبد العزيز ، وإحراجه . عبد العزيز يريد للوهابية أن تكون فى خدمة الدولة ، وفقهاء الوهابية والاخوان يريدون الدولة أن تكون فى خدمة الوهابية .

6 ـ وفى كل المعارضات الوهابية القادمة بعد عبد العزيز سنشهد نفس المشكلة : المعارضون يريدون ان تكون الدولة فى خدمة الوهابية ، وخلفاء عبد العزيز من أبنائه يريدون ان تكون الوهابية فى خدمة الدولة . هدف المعارضين ليس خدمة دينهم ولكن فى تدعيم سلطتهم وأن يشاركوا الملك فى سلطاته ، أما الملك السعودى فهو يريدهم ويريد وهابيتهم فى خدمة سلطانه .

7 ـ  الهدف النهائى هو الثروة والسُّلطة . هذا هو هدف الكهنوت داخل أو خارج السلطة ، وهو هدف السلطان سواء كان علمانيا أو يحكم بشعار دينى . هذه هى الحقيقة التى لا يفهمها العوام المخدوعون بالشعارات ، والذين يدفعون حياتهم ثمنا للمتاجرين بالدين ، والذين يخسرون الدنيا والآخرة . ويوم القيامة سيكونون فى النار مع سادتهم ، يلعنون سادتهم . يقول جل وعلا عنهم : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) ( الأحزاب )

8 ـ وبعدُ : نسترجع بعض القضايا الاساسية التي تحولت الي مشاكل بينه وبين الاخوان ،وفيها نري فكر ابن عبد الوهاب حاضرا ينطق به الاخوان

أولا : في مؤتمر العلماء

 في مؤتمر العلماء الذي ناقش بأمر عبد العزيز خمسة قضايا او مشكلات، كلها تعبر عن العقلية السائدة ،ونسترجع تلك المشكلات الخمس:

هل يطلق الكفر علي البدو والمسلمين الثابتين علي دينهم القائمين بأوامر الله ونواهيه؟

والواضح هنا ان الاخوان يحكمون بكفر الوهابيين الاخرين الذين يؤيدون عبد العزيز ودولته ولكن لم يقوموا بالهجرة الي الهجر او المستوطنات الجديدة- ومعني هذا ان محنة التكفير امتدت لتشمل حتي الاخوة في المذهب وفي الخندق الدفاعي ذاته ،بسبب انهم لم يهاجروا مثل الاخوان الي القري الجديدة .ومن الطبيعي ان الاخوان اختاروا في فهم ادلة محمد بن عبد الوهاب الذي يستخدم ايات القرآن وفق نظريته في التكفير والاستحلال.

وايات القرآن تتحدث عن مؤمنين يعانون الاضطهاد في بلد ظالم يقولون تحت وطأة العذاب (ربنا اخرجنا من هذه القرية الظالم اهلها :النساء 75) . هنا تكون الهجرة واجبة علي المستطيع، والله تعالي يعفو عن العاجزين عن الهجرة (النساء 98) . أما ان يهاجر بعض الناس دون ان يظلمهم احد ولكن لكي يتدربوا علي القتال والغزو وكراهية الاخرين والاستعداد لحربهم بعد تكفيرهم، فلا شأن لهم بالهجرة الاسلامية ،ومنها هجرة المسلمين الذين كانوا مضطهدين في مكة .لقد دعا ابن عبد الوهاب للهجرة وفهم منها المطوعة او فقهاء الهجر ان من لم يهاجر فهو كافر حتي لو كان من الوهابيين فاصبحت مشكلة .

واضيفت لها مشكلة اخري وهي خاصة بارتداء الزي المعتاد للاخوان ،وهو زي الامام محمد بن عبد الوهاب وهو العمامة دون العقال المعتاد ،ولأنهم اعتبروا انفسهم وحدهم المسلمين فقد اصبح سهلا اتهام غيرهم ممن لا يرتدي العمامة الوهابية بأنه كافر حتي لو كان يعتقد مثل اعتقاد الاخوان .وبالتالي فاذا كان الوهابيون الاخرون خارج نطاق الاخوان متهمين بالكفر مرشحين للاعتداء عليهم وعدم اكل ذبائحهم.. فكيف بالاخرين ؟ ولخطورة هذا التساؤل في التأسيس لحرب اهلية بين الاخوان وبقية الوهابيين فان مؤتمر العلماء ــ الذى ضم كبار العلماء ــ واجه القضية بكل حسم، خصوصا وان اولئك العلماء  الكبار كان معظمهم من الحضر وممن لا يقيمون في الهجر، ولذلك افتي العلماء بما يقرب التكفير لمن يكفر الاخوة الوهابيين ،وجعلت للمعاداة والموالاة مرجعية موحدة هي الولاية السياسية ، أى  ترجع لعبد العزيز  وعلمائه الكبار فقط ؛ هم الذين يحددو‍‍‍ن الكفار المرشحين للاعتداء عليهم في الدنيا والمرشحين ايضا عندهم للدخول في النار في الاخرة ‍‍‍‍..‍‍‍‍ طالما ان بأيديهم مقياس الشريعة الالهية ..وهنا وقف العلماء في صف ابن سعود ،وكان حججهم سياسية اكثر منها فقهية مع ان ظاهر المشاكل كان فقهيا اكثر منه سياسيا .وبالتالي اسفر مؤتمر العلماء عن منع الاحتكاك بين الاخوان وبقية الوهابيين ،ولم يعد للاخوان استطالة علي الاخرين من الوهابيين.

ثانيا :

وبعد عودتهم محبطين الي نجد بعد نجاحهم في ضم الحجاز الي املاك عبد العزيز هدد زعيمهم الدويش باستعمال السيف ضد عبد العزيز اذا سار في نفس طريق الشريف حسين ،وفي العام التالي 1927 وجهوا ثمانية انتقادات اخري موجهه له شخصيا .وايضا نجد فيها ملامح الفقه الوهابي الذي تعلموه في الهجر ونستعرض تلك الانتقادات :

نقموا عليه ارسال ولده سعود الي مصر وهي بلاد الشرك وارسال ولده فيصل الي لندن وهي بلاد الكفر. أي لابد من مقاطعة المشركين والكفار واظهار العداوة والبغضاء لهم طبقا لما نادي به عبد الوهاب، وبالتالي فلا يصح ان يأتي المحمل المصري من بلد الشرك بلد المقوقس كما يقولون الي الحرم وهو مسلح ومصحوب بآلات اللهو والمجون . ولا يصح استيراد المخترعات الحديثة الاتية من بلاد الشرك مثل السيارات والتلغرافات والتليفونات لأنها من السحر المحرم. وطلب لتفسير منع التجارة مع الكويت ،(فان كانوا مسلمين تعاملنا معهم وان كانوا مشركين حاربناهم) أي اما واما ..وليس هناك حل وسط ان كانوا مسلمين ( أى وهابيين )  تعاملنا معهم وان كانوا مشركين حاربناهم .اما ابيض واما غير ابيض ،اما وهابى علي نفس عقيدتنا ومذهبنا وملبسنا فيكون مثلنا ،واما ان يكون غير ذلك فنقاتله .وهي المعادلة الطبيعية لفكر التكفير والاستحلال .وجاءالانتقاد الخامس يستنكر القوانين الوضعية الخاصة بالمكوس والضرائب التي لم يعرفها العصر العباسي وما بعده،  اذن فهي ليست من الشريعة، وكان الانتقاد السادس يستنكر السكوت علي الشيعة (الكفرة )وعدم ادخالهم (بالقوة والاكراه )في دين الجماعة ،أي فالدين الوهابي النجدى هو دين الجماعة. ويستنكر الانتقاد السابع السماح للبدو في العراق وشرق الاردن بالرعي في مراعي المسلمين (أي الوهابيين ) مع ان هذه المراعي كلأ مباح علي جانبي الحدود ترعاه إبل الأعراب منذ قرون .وجاء التساؤل الاخير عن هدم القبور... والاتهامات هنا تخص عبد العزيز وحده وسياسته ولا شأن للعلماء بها مثل الاتهامات السابقة التي كانت تطول الوهابيين خارج نطاق الاخوان .ولذلك وجد العلماء فرصتهم لاستنطاق الشيخ ابن عبد الوهاب بعد وفاته ، خصوصا وقد كان من بين هؤلاء العلماء الخمسة عشر مجموعة لا بأس بها من آل الشيخ ، وبالتالي لابد لفكر الشيخ ان يكون حاضرا بحذافيره ،وهم ورثة ذلك العلم والقائمون علي حفظه .

وتستعرض فتاويهم ورودهم :-

فقد توقفوا عن الافتاء في موضوع التلغراف ،ولم يقولوا بأنه مباح او انه محرم لأنه ما قرءوا عنه حكما في فقه ابن حنبل وابن تيمية وابن عبد الوهاب ولأنهم ايضا لم يقفوا علي حقيقته ..وذلك اقرار صريح بالعجز عن الاجتهاد في ابسط المسائل .وافتوا لابن سعود بهدم القبور المقدسة موافقين لرأي الاخوان، ووافقوهم ايضا في وقف القوانين الحديثة ولا حكم الا للشرع المطهر (الحنبلي ) أي التطرف في تقديس اراء ابن حنبل ومنع الاراء الاخري المخالفة ووافقوهم ايضا في منع الحجاج المصريين من الدخول بالسلاح ومنع المحمل ومنع اظهار الشرك وجميع المنكرات، وأيّد العلماء  الاخوان في هذه المسألة مما يعد موافقة من العلماء علي موقف الاخوان من الاعتداء على المحمل المصري قبلها.

ويبدو الامر كما لو ان ثمة اتفاق بين العلماء والاخوان علي اثارة هذه المشاكل فالاخوان، يتساءلون عن معني السكوت عن الشيعة في الاحساء والقطيف والتغاضي عن ادخالهم في دين الجماعة ،وتأتي اجابة العلماء غاية في التطرف كأنما كانت تنتظر وترجو مثل هذا التساؤل لتوضح ( للامام ابن سعود ) ما يجب عمله ،تقول الفتوي (واما الرافضة أي الشيعة-فافتينا الامام ان يلزمهم البيعة علي الاسلام أي يجبرهم علي اعتناق الوهابية (ويمنعهم من اظهار شعائر دينهم الباطل ) . أي اكراه لهم علي ترك معتقدهم ،ووصف له بالبطلان وهم أي الشيعة يحتفظون للوهابية بنفس الوصف ولكن صاحب القوة هو الاعلي صوت ونفوذا .ثم تستطرد الفتوي لتزيد وتؤكد بصيغة الإلزام ليس للشيعة وحدهم بل  الالزام للامام ابن سعود ايضا (وعلي الامام ان يلزم نائبه عن الاحساء ان يحضرهم عند الشيخ ابن بشر ويبايعوه علي دين الله ورسوله،وترك دعاء الصالحين من اهل البيت وغيرهم وعلي ترك سائر البدع ،من اجتماعهم علي مآتمهم  ( يوم عاشوراء ،ذكري استشهاد الحسين ) وغيرها مما يقيمون به شعائر مذهبهم الباطل ).. ونلاحظ هنا الحرص علي ان تكون مكانة  ابن بشر الفقيه اعلي من مكانة امير الاحساء ،وهو عبد الله بن جلوي  ابن عم الملك واهم من أقام معه دعائم دولته  الوليدة، ومبعث هذا الحرص هو الايحاء بتكاسل ابن جلوي عن اكراه واضطهاد الشيعة في الاحساء. وقد كان ابن جلوي مشهورا بقسوته مع قبائل العجمان المتحفزة للثورة  ، كما كان حازما مع الاخوان، ولم يكن يمكّن احدا منهم ان يمارس نفوذا في الاحساء ، وبالتالي عاش الشيعة في امن تحت ولايته عليهم ، ومن هنا تمتع ابن جلوي بكراهية العلماء والاخوان معا، واظهر موقفهم منه مدي الوحدة الفكرية والسياسية بين العلماء والاخوان  ، حيث يجتمعون معا حول فكر ابن عبد الوهاب الذي افتي بتكفير الشيعة لأنهم رفضوا دعوة ابن عبد الوهاب حين وفد الى البصرة والعراق . ودفع الشيعة الثمن فى الدولة السعودية الأولى الكثير ، سواء من كان منهم في الجزيرة العربية وفي العراق .وجاءت قصة المعارضة الاخوانية لتعيد فصلا من فصول الاضطهاد الديني في العصور الوسطي . ولا تكتفي فتاوي العلماء بما قالته عن الشيعة ،بل تضيف إليه برنامجا كاملا لمحو التشيع واحلال الوهابية محله ،تقول الفتوي (ويمنعون من زيارة المشاهد أي القبور المقدسة كذلك يلزمون بالاجتماع علي الصلوات الخمس هم وغيرهم في المساجد) أي منعهم من دخول مساجدهم ،والزامهم بدخول المساجد السنية الحنبلية الوهابية ،(ويرتب فيهم ائمة ومؤذنون ونواب من اهل السنة )أي وبالتالي منع شيوخهم من الصلاة معهم ،او الاجتماع بهم ،وتقول الفتوي بتعليمهم كتب ابن عبد الوهاب( ويلزمون بتعليم ثلاثة الاصول ،وكذلك ان كان لهم محال مبنية لاقامة البدع تهدم )أي هدم مساجدهم ومقدساتهم لأنها بدعة لدي التدين الوهابي، فماذا اذا مارسوا نفس البدع في المساجد السنية والوهابية ،وكأن الفتوي تتحفز للرد علي هذا السؤال فتقول مباشرة (ويمنعون من اقامة البدع في المساجد وغيرها ) أي حتي في البيوت حتي لو اضطروا لممارسة طقوسهم خفية ( في دار الارقم ابن الارقم ‍!! . فما الحكم اذا رفض بعض الشيعة ذلك الاكراه في الدين ،تسرع الفتوي بالاجابة وتقول (ومن ابي قبول ذلك ينفي من بلاد المسلمين ) . أي ان الاحساء اصبحت بلادا للمسلمين أي الوهابيين ،  واهل الاحساء وسكانها الاصليون اذا لم يقبلوا ان يكونوا وهابيين فليتركوا بلادهم التي لم تعد بلادهم .

وتنظر الفتوي ( بعين الرعاية ايضا ) الي شيعة القطيف ،ويوجب العلماء علي الامام عبد العزيز ان ينفذ نفس الاوامر والنواهي الصادرة بحق الاحساء علي شيعة القطيف ،تقول الفتوي المباركة (واما الرافضة (الشيعة ) من اهل القطيف :فيلزم الامام ايده الله الشيخ ابن بشر ان يسافر اليهم ويلزمهم بما ذكرنا .) أي ان العلماء يلزمون عبد العزيز ،والشيخ ابن بشر يلزم شيعة القطيف .أي ان اولئك العلماء هم اصحاب الولاية الحقيقية حتي علي السلطان القائم ، تماما كما يقول الشيعة في ولاية الفقيه علي الحاكم السياسي .

وتتعرض الفتاوي الي نقطة اخري لم ترد في اسئلة الاخوان ،وان كان لا مانع من التكليف بها وهي (البوادي والقري )التي دخلت في ولاية المسلمين :فأفتينا الامام ان يبعث لهم دعاة ومعلمين ،ويلزم (الامام)نوابه أي الامراء في كل ناحية بمساعدة المذكورين علي الزامهم بشرائع الاسلام ، ومنعهم من المحرمات ). وهذه الناحية الجديدة التي افتي فيها العلماء دون ان يستفتيهم فيها احد تعطي للعلماء وظائف جديدة ،ونفوذا سياسيا في المناطق المفتوحة يزيد علي نفوذ الامراء فيها . وتقول الفتوي عن رافضة او شيعة العراق (واما رافضة العراق الذين انتشروا وخالطوا بادية المسلمين فافتينا الامام بكفهم عن الدخول في مراتع المسلمين أراضيهم )وعن المكوس قالوا (انها من المحرمات الظاهرة ،فان تركها فهو الواجب عليه ،وان امتنع فلا يجوز شق عصا طاعة المسلمين والخروج عن طاعته من اجلها ) (واما الجهاد فهو مخول الي نظر الامام .وعليه ان يراعي ما هو اصلح للاسلام و المسلمين علي حسب ما تقتضيه الشريعة الغراء ).

ويلاحظ ان الفتاوي تجاهلت احراج الملك عبد العزيز في الرد علي الانتقاد الموجه إليه بخصوص ارسال ابنه الي مصر وابنه الاخر الي لندن .كما تجاهلت الاجابة الصريحة علي الموقف من اهل الكويت ،اهم مسلمون تجوز التجارة معهم ام كفار يجب قتالهم ،واجابت الفتوي اجابة عامة عن تخويل الامام ابن سعود في موضوع الجهاد علي ان يعمل حسب الشريعة ،أي حسب رأي العلماء .وبالتالي يضعون انفسهم في موقع السلطة بقدر ما يستطيعون .معظم الفتاوي كانت في صالح الاخوان ضد الملك .وإزاء تحالف الاخوان مع العلماء ضد عبد العزيز فقد إضطر عبد العزيز للمسايرة  كسبا للوقت . يقول مستشار الملك عبد العزيز حافظ وهبة (ازاء هذه الفتوى اضطر الملك الي عدم قبول المحمل ، كما اضطر الي هدم مسجد حمزة وتعطيل التلغراف اللاسلكي ،فعمل بذلك علي تلافي الفتنة او تأجيل وقتها )[15]

ويلاحظ ان هناك بين كلمات حافظ وهبة كلاما مسكوتا عنه حمل الملك علي ان يضطر علي فعل اشياء لا يرضي عنها حتي يتلافي الفتنة او يؤجل وقتها .وربما كان ذلك الاضطرار بناء علي نصيحة من مستشاره المؤرخ حافظ وهبة ،ولكن المؤكد الذي سيظهر فيما بعد ان الملك عبد العزيز لم ينس هذا الموقف للعلماء ، وربما ادرك انهم يلعبون معا من خلف ظهره ، خصوصا وانه بعد المؤتمر هاجم فيصل الدويش قلعة بسية استنادا الي فتوي اولئك العلماء بمنع شيعة العراق من الدخول في مراعي المسلمين .

واستفحل تمرد الدويش حتي انه رفض استدعاء عبد العزيز له واشتدت دعاية الاخوان ضده ،ومحتمل جدا ان يكون قد شارك فيها المطوعة في الهجر ،لأن اتهاماتهم لعبد العزيز منذ ذلك الوقت كانت تقترب من تكفيره بحجة انه تحالف مع الانجليز علي حساب التزامه الاسلامي حسبما يعتقدون .

ثالثا :

 وفي المؤتمر العام للرياض في 5/11/1928 كان واضحا ان عبد العزيز قد حاول ما امكن السيطرة علي علمائه ليقفوا الي جانبه بعدما تبين خطورة الموقف .ولكونهم في قبضته وقد اصبحت المسألة حياة او موت فان موقف العلماء اصبح اقرب الي مهادنة عبد العزيز،ولذلك كان كلامهم بمثابة تبرير او اعتذار لما سبق منهم من التلويح باتهامه بالكفر اذ اقسموا انهم لم يكتشفوا قط أي فتور في غيرة ابن سعود علي الدين ، وان كان قد اخطأ فلا بأس اذ لا يعطي هذا الخطأ المبرر لأحد ان يدير ظهره للملك ،وحتي لا يتهمهم احد بالخوف من عبد العزيز ومن الواضح فعلا انهم كانوا خائفين فانهم اكدوا علي انهم لا يتحدثون خوفا من عبد العزيز ولكن للنصح والارشاد .

وادرك ممثلو الاخوان تراجع العلماء في المؤتمر فاصروا علي احراجهم بطرح نفس الاسئلة التي يعرفون مسبقا رأي العلماء فيها وانه مخالف لرأي عبد العزيز وموافق لرأي الاخوان حيث يؤمن الفريقان (العلماء والاخوان )بنفس الفكر الذي كتبه الشيخ ابن عبد الوهاب دون تجديد .وهكذا طرحوا اسئلة للعلماء واقسموا علي اتباع ما يقوله العلماء : وهي حكم الاسلام في التلغراف ،الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وتساهل عبد العزيز فيه ،موضوع القلاع ومنع الاخوان من الجهاد .والملاحظ ان كل تلك  القضايا قد تمت صياغتها باسلوب فقهي ديني لمزيد من احراج العلماء ،كقولهم" وقف الناس عن القيام بالجهاد ولماذا اوقف نشر كلمة الله ."

وهذه المسائل الاربعة هي تقريبا فحوى مؤتمر الارطاوية في ديسمبر 1926 ،والتي رد عليها العلماء في مؤتمر يناير 1927 بما يرضي الاخوان وبما يزايد علي عبد العزيز ومطالب الاخوان معه .فعلي سبيل المثال الزم العلماء عبد العزيز باتخاذ موقف حاسم ضد الشيعة في الاحساء وفصلوا فيما يجب عليه ان يفعله بما يعطي لهم سلطة تفوق السلطة السياسية لابن جلوي حاكم الاحساء وربما تفوق سلطة عبد العزيز نفسه .وجاء الاخوان في المؤتمر العام التالي ليذكروا العلماء بنفس الموضوع تحت مصطلح ديني لا يجادل فيه احد وهو "حض القرآن الكريم عن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر" ومدي تساهل عبد العزيز في هذا الموضوع الذي كان يشكل احد اهم بنود التحالف بين محمد بن عبد الوهاب والامير محمد بن سعود .والامر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني لديهم تنفيذ الاجراءات التي الزم بها العلماء عبد العزيز في المؤتمر الماضي ،ولم يتم تنفيذ شيئ منها نظرا لان ابن جلوي يحمي الشيعة في الاحساء بقدر ما يمنع الاخوان من التسلط في ولايته .وطلب عبد العزيز رأي العلماء في الرد علي تلك المشكلات ، فجاءت فتواهم اكثر تقدمية في موضوع التلغراف ، فبعد ان كانوا قد توقفوا في حكمهم بدون تحريم او اباحة ، نجدهم في المؤتمر العام يكررون نفس موقفهم مع اضافة موجهة للاخوان تقول "طالما لا يستطيع المعارض ان يقدم دليلا شرعيا علي حرمتها فانهم لا يرون حرجا في استعمالها) أي القوا بالكرة في ملعب الاخوان .

ورد عبد العزيز بالنيابة عن العلماء في موضوع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بانه ارسل الدعاة واذا كان هناك تقصير من المسئولين فعليهم ابلاغه به ، وقال ان القلاع انشئت بسبب غارات فيصل الدويش وخوفا من الاخوان وبمعني اخر انها حصون دفاعية وليست للهجوم علي الاخوان بل خوفا من هجوم الاخوان .واصر الاخوان علي رأيهم في القلاع ، وصمموا علي استفتاء العلماء فيها، فجاءت فتوي العلماء مؤيدة للاخوان، فاضطر عبد العزيز للموافقة. وفي موضوع الجهاد اوغزو البلاد المجاورة اجتمع عبد العزيز بخمسين منهم اجتماعا خاصا لاقناعهم، ورغم الاقتناع الظاهري فان المؤتمر كان في الحقيقة تميهدا لتحول المعارضة السياسية الي تمرد عسكري حسمته معركة السبلة .

وفي هذا التحول اسهمت الهجر وفقهاؤها بدور كبير في الدعاية المضادة لابن سعود وحشد انصار للاخوان، واكد الدويش علي موضوع الغزو والجهاد ليزيد في احراج عبد العزيز ،وليتهمه بالكفر تأسيسا علي اتهامه بالتحالف مع الانجليز، او انه باع نفسه اليهم ،ويقول له (ولكنك الان تعاملنا بالسيف وتتغاضي عن النصاري ودينهم ..)

رابعا

 ـ وبعد انتصار السبلة كشر عبد العزيز عن انيابه للعلماء وشيوخ القبائل معا،وهددهم بلهجة حاسمة بنفس مصير الاخوان اذا كرروا ما سبق . والملاحظ ان مؤتمري الدوادمي والشعراء قد اختفي فيهما صوت العلماء ،ولم يعد احد يستفتيهم او يجعلهم حكما بينهم وبين الملك .بل اصبح الملك هو الذي يتحدث عن الشرع ويهدد خصومه بلهجة حاسمة .وبانتهاء التمرد الثاني انتهت معه سطوة العلماء مما اعطي لعبد العزيز حرية الاجتهاد السياسي بعيدا عن الانغلاق الفقهي الذي كان يمثله الفقهاء ،وينفذه بسيوفهم الاخوان ، وبذلك انهي عبد العزيز نظاما انشأه بنفسه ،نظام الاخوان ، وجعل الوهابية فى خدمة سلطانه ودولته .

الهوامش

15 ـ - حافظ وهبة :الجزيرة العربية في القرن العشرين :293:291.

اجمالي القراءات 8116