‏ ‏ الحنابلة وإضطهاد أهل الكتاب ب 5 ف 11

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠١ - يناير - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 النبى لا يشفع يوم الدين :( كتاب الشفاعة بين الاسلام والمسلمين )

الباب الخامس : الشفاعة وتطبيق الشريعة الحنبلية

الفصل العاشر  : الحنابلة وإضطهاد أهل الكتاب 

مقدمة

1 ـ : سبقت الاشارة الى حُسن معاملة الخلفاء العباسيين لأهل الكتاب فى العصر العباسى الأول ، خصوصا المأمون والمعتصم ، وأنّ الخليفة المتوكل الذى بدأ به العصر العباسى الثانى هو الذى ارسى دين الحنابلة وبدأ نشره وتطبيق معالمه، وكان منها إضطهاد أهل الذمة وإلزامهم بلبس معين للتحقير ، مما أدى الى إسلام الكثيرين ( أو دخولهم فى الدين الحنبلى الذى يرفع شعار الاسلام ) ، هربا من الاضطهاد وأملا فى الاحنفاظ بوظائفهم ، وأصبح أولئك ومن جاء بعدهم ( حنابلة ) يمارسون إضطهاد أهل الكتاب على أنه شعيرة دينية . وقلنا إن العوام من المسلمين دخلوا فى الحنبلية افواجا ، وتبوءوا بها موقع الصدارة والتاثير ، سواء من أصبح منهم من أهل الفقه والحديث ( بمجرد تأليف وتدوين وحفظ وإستظهار الأكاذيب المنسوبة للنبى عليه السلام ) أو بقيادة الغوغاء والرعاع فى الشارع باسم الحنبلية ، حيث تضاءلت الفوارق بين قطاع الطرق ( العيارين ) وجماعات الحنابلة .

2 ـ ونعطى نماذج لما تعرض له أهل الكتاب من إضطهاد فى العصر العباسى الثانى ، من عوام الحنابلة ومن السلطة العباسية .

 أولا : فى عصر تحكم القادة الأتراك : ( 232 : 320 )

1 ـ فى خلافة المعتمد ، وفى عام 271 ( وثب العامة على النصارى ، وخربوا الدير العتيق الذي وراء نهر عيسى ، وانتهبوا كل ما كان فيه من متاع ، وقلعوا الأبواب والخشب ، وهدموا بعض حيطانه وسقوفه ، ونبشوا الموتى. ) هنا سلب ونهب إمتد الى نبش قبور الموتى . وتدخلت السلطة العباسية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه : ( فصار إليهم الحسين بن إسماعيل صاحب شرطة بغداد من قبل محمد بن طاهر ، فمنعهم من هدم ما بقي منه . ..والعامة تجتمع في تلك الأيام حتى كاد يكون بينهم قتال . ثم بنى ما كانت العامة هدمته . ) هنا نرى سطوة عوام الحنابلة فى عصر تسلط القواد الأتراك على الخلفاء العباسيين .

 2ـ وأشتعل غضب الحنابلة فى العام التالى 272 عندما رأوا بعض أهل الكتاب يركبون الدواب خلافا للسُّنة الحنبلية التى أرساهل المتوكل ، فاستأنفوا هدم وسلب نفس البيعة ، يقول ابن الجوزى باسلوب التبرير : ( .. أن العامة تجمعوا في ربيع الأخر، فهدموا ما كان بني من البيعة التي ذكرنا خرابهم إياها في السنة الخالية ، وانتهبوا مالًا عظيمًا منها ، لأنهم أنكروا عليهم ركوب الدواب ‏.‏) . ابن الجوزى هنا ـ كالعهد به ـ يذكر ( أن العامة ) ولا يقول الحنابلة ..ويبرر الجريمة بأن العوام أنكروا على الضحايا ركوب الدواب ، وهو مُحرّم عليهم فى الدين السُّنى الحنبلى .

3ـ وإسترد الخليفة المعتضد العباسى بعض النفوذ واستخدمه فى فرض هيبته على القادة الأتراك ، ولكن غضب العوام الحنابلة كان فوق هيبة المعتضد المشهور بقسوته المفرطة . وحدث عام 284 أنه (  أخذ نصراني فشهد عليه أنه قد شتم النبي صلى الله عليه وسلم ) أى تم إتهامه بشهادة بعض الحنابلة بهذه التهمة فحبسوه ، وثار العوام الحنابلة يطالبون بقتله بلا محاكمة ، يقول ابن الجوزى عن هذا المتهم : ( فحُبس،) وتجمعت مظاهرات الحنابلة تطالب بقتل المتهم : ( ثم اجتمع من الغد العوام بسبب النصراني، فصاحوا بالقاسم بن عبيد الله ، وطالبوه بإقامة الحد على النصراني .) ولم تستجب لهم السلطة العباسية ، فنظّم الحنابلة مظاهرة شعبية إتّجهت مباشرة الى قصر الخلافة ، يصف ابن الجوزى وقائع ما حدث ، يقول : ( فلما كان يوم الأحد لثلاث عشرة بقيت من الشهر اجتمع أهل باب الطاق وما يليها من الأسواق ن ومضوا إلى دار السلطان ن فلقيهم أبو الحسين بن الوزير ، فصاحوا به ، فأعلمهم أنه قد أنهى خبره إلى المعتضد ، فكذّبوه ، وأسمعوه ما كره ، ووثبوا بأعوانه حتى هربوا منهم،  ومضوا إلى دار المعتضد ، فدخلوا من الباب الأول والثاني فمُنعوا ، فوثبوا على من منعهم ، فخرج إليهم من سألهم عن خبرهم فأخبروه ، فكتب به إلى المعتضد ، فأدخل إليه جماعة منهم ، وسألهم عن الخبر ، فذكر له ، فأرسل إلى يوسف القاضي ، لينظر في الأمور ، فمضى معهم الرسول إلى القاضي، فكادوا يقتلونه ويقتلون القاضي من كثرة الزحام ، حتى دخل القاضي بابًا وأغلق دونهم ‏. ) . لا يمكن أن يقوم العوام الحنابلة بهذه المظاهرات بلا قيادة وتدبير ، ولا يمكن أن يكونوا بهذه الجُرأة على المعتصد بكل هيبته وعنفوانه إلا لأنهم يقومون بالمزايدة عليه فى الدين الحنبلى ، الدين الرسمى للدولة ، والذى أصبح للعوام فيه حق المشاركة فى السُّلطة بمجرد المزايدة على السلطان . وهو درس ـ لو تعلمون ـ عظيم .!

4ـ وتعلم هذا الدرس إبن الخليفة المعتضد الذى تولى الخلافة طفلا تحت رعاية وسيطرة أمّه ( شغب ) ، وهو الخليفة المقتدر العباسى . كان أهم طبيبين له هما سنان بن ثابت وبختيشوع بن يحيى‏ ، ولكنه فى مواجهة العوام الحنابلة كان يُزايد عليهم فى التعصب ضد أهل الكتاب ، لذا أصدر عام 296 ، مرسوما منعهم من التوظيف وألزمهم بلبس زى التحقير ، يقول ابن الجوزى : ( وفي هذه السنة أمر المقتدر أن لا يستعان بأحد من اليهود والنصارى فألزموا بيوتهم وأخذوا بلبس العسلي والرقاع من خلف ومن قدام وأن تكون ركبهم خشبًا ‏.‏) . هذا ، مع أنه كان يستعين بطبيبين نصرانيين فى قصره.

ثانيا : فى عصر تحكم بنى بويه ( 334 : 447 )

1 ـ يتميز هنا عصر الخليفة القادر ( 381 : 422 ) الذى أحيا التعصب الحنبلى وإستخدمه فى القضاء على المعتزلة ومحاربة التشيع ، وكان طبيعيا أن يشمل أهل الكتاب بنقمته .  يقول ابن الجوزى فى أحداث عام  392 : ( فمن الحوادث فيها‏:‏ أن العوام ثاروا في يوم الإثنين سابع ربيع الآخر بالنصارى ، فنهبوا البيعة بقطيعة الدقيق ، وأحرقوها ، فسقطت على جماعة من المسلمين رجالًا وصبيانًا ونساء فهلكوا‏.‏.). هنا مظاهرة حنبلية قامت بنهب وإحراق ( بيعة ) أى كنيسة . وقد تجمعوا حولها بينما هرب المسيحيون للنجاة بأنفسهم من أسلحة الغوغاء . وبسبب الهرج والمرج وتقاطر الرعاع من كل حدب وصوب والتنافس فى النهب والسلب وسط الحرائق سقطت حيطان الكنيسة وسقفها ( على جماعة من المسلمين رجالًا وصبيانًا ونساء فهلكوا‏.‏.).  هذا ما يقوله ابن الجوزى ، ولو أنصف لقال إنها سقطت على جماعة من الحنابلة القائمين بالسلب والنهب رجالا ونساءا .  

2 ـ وفى خلافة القادر أيضا وفي شوال عام 403 ثارت فتنة أخرى . كان لأحد المتنفذين الأتراك وهو ( المناصح أبو الهيجاء ) كاتب مسيحى وهو أبو نصر بن اسرائيل ، وصارت له مكانة بسبب عمله مع سيده أبى الهيجاء . وقد توفيت زوجة هذا الكاتب ، فأقيم لها مشهد عزاء طبقا للتقاليد المرعية لدى الطائفة المسيحية ، وسارت الجنازة فى حراسة وحماية (غلمان ) أو جنود ومماليك أبى الهيجاء ، فإعترض عليها أحد الحنابلة ممّن ينتمى للهاشميين فاشتبك فى عراك مع من يحرس الجنازة ويحميها من غلمان المناصح أبى الهيجاء . ولأن هذا ( الغلام ) جندى عسكرى لا يعرف التفاهم ، وربما لا يعرف اللغة العربية أصلا ، فقد ضرب الشريف الحنبلى المعترض واسال دمه ، فكانت الثورة والفتنة التى دفع ثمنها المسيحيون الآخرون بلا ذنب إقترفوه . يقول ابن الجوزى يحكى الموضوع من وجهة نظره : ( توفيت بنت أبي نوح الأهوازي الطبيب زوجة أبي نصر بن إسرائيل كاتب المناصح أبي الهيجاء، فأخرجت جنازتها نهارًا ، ومعها النوائح والطبول والزمور والرهبان والصلبان والشموع )، هنا يضع ابن الجوزى بين السطور مبررات الثورة على الجنازة ، وهى أنهم أخرجوها ( نهارا ) أى كان يجب إخراجها ليلا ، كما لو كانت جريمة أو عارا يجب إخفاؤه ، ومعها ( ومعها النوائح والطبول والزمور والرهبان والصلبان والشموع ) . وبهذا يكون طبيعيا أن يعترض عليها الحنابلة ،وأن يرجم الجنازة : ( فقام رجل من الهاشميين فأنكر ذلك ، ورجم الجنازة ، ) ، أى بدأ بالهجوم ورجم الجنازة والمشيعين لها دون ان يأبه بالحراس الذين تسير الجنازة فى حمايتهم ، لذا قام جندى من الغلمان بواجبه :( فوثب أحد غلمان المناصح بالهاشمي فضربه بدبوس على رأسه فشجه، فسال دمه . ). لا شأن للنصارى بما حدث ، ولكنهم يعرفون أنهم الذين سيدفعون الثمن ، فكان لا بد أن يفروا بها خوفا على حياتهم . ولكن هذا الفرار خوفا وهلعا ليس مسموحا به ، فلا بد من الاستسلام للعقاب ، يقول ابن الجوزى : ( وهرب النصارى بالجنازة إلى بيعة دار الروم ، فتبعهم المسلمون، ونهبوا البيعة وأكثر دور النصارى المجاورة لها . ) وهرب صاحب الجنازة الى بيته فطاردوه، فهرب منهم مستخفيا الى قصر سيده التركى يحتمى به : ( وعاد ابن إسرائيل إلى داره فهجموا عليه ، فهرب منهم ، وأخرج ابن إسرائيل مستخفيًا حتى أوصل إلى دار المناصح . ) . نسى العوام الجندى أو ( الغلام ) الذى ضرب الشريف وشجّ رأسه ، وتعلقت همتهم بصاحب الجنازة يريدون تسليمه ، وإشتعلت المظاهرات ، وتصدى لها الغلمان أو الحراس المسلحون التابعون للأمير التركى ، وزايدوا علي جنود الخلافة ـ كالعادة ـ برفع المصاحف وغلق أباب المساجد ، ووصلت مظاهراتهم للخليفة القادر الحنبلى يزايدون عليه ، فزايد عليهم ، وأمر القائد التركى بتسليم النصرانى المظلوم الذى إستجار به خوف القتل ، ورفض القائد التركى ، فهدّد الخليفة القادر بمغادرة بغداد ، وقام باصلاح اليخت أو المركب الخاص به ، أو ( الطيار كما كان يُطلق عليه وقتئذ ) . وتفاقم الأمر وتدخل العسكر التركى لحفظ الأمن ، فقتلوا رجلا حنبليا فانتقم الحنابلة ـ كالعادة ـ بقتل قوم من النصارى ، ثم انتهى بتسليم النصرانى ابن اسرائيل الى دار الخلافة لتهدئة الحنابلة ، وبفرض نفس العقوبة على أهل الكتاب . يقول ابن الجوزى :( وثارت الفتنة بين العامة وغلمان المناصح ، وزادت ،ورفعت المصاحف في الأسواق ، وغلقت أبواب المساجد. وقصد الناس دار الخليفة على سبيل الاستنفار. وركب ذو النجادين أبو غالب إلى دار المناصح فأقام بها‏. ووردت رسالة الخليفة إلى المناصح بإنكار ما جرى وتعظيم الأمر فيه وبالتماس ابن إسرائيل وتسليمه . فامتنع المناصح من ذلك ، فغاظ الخليفة امتناعه ، وتقدم بإصلاح الطيار للخروج عن البلد وجمع الهاشميين إلى داره‏. واجتمعت العوام في يوم الجمعة وقصدوا دار المناصح ودفع غلمانه فقتل رجل ذكر أنه علوي ، فزادت الشناعة ، وامتنع الناس من صلاة الجمعة . وظفرت العامة بقوم من النصارى فقتلوهم ، وترددت الرسائل إلى المناصح إلى أن بذل حمل ابن إسرائيل إلى دار الخلافة ، فكف العامة عن ذلك ، وألزم أهل الذمة الغيار . ثم أفرج عن ابن إسرائيل في ذي القعدة‏.‏ ).

3 ـ وقبيل موت الخليفة القادر ، وفي يوم الجمعة لثمان بقين من ربيع الأول‏ عام 422 ، يقول ابن الجوزى عن الصراع بين الحنابلة والشيعة : ( تجددت الفتنة بين السنة والروافض واشتدت ، وكان سبب ذلك الخزلجي الصوفي الملقب بالمذكور . أظهر العزم على الغزو واستأذن السلطان فكتب له منشور من دار الخلافة ...) وينتهى الخبر بهجوم الحنابلة على الشيعة فى الكرخ . وانتهزها الحنابلة فرصة لنهب دور اليهود بزعم أنهم يساعدون الشيعة ، يقول ابن الجوزى : (  .. فنافرهم أهل الكرخ ورموهم وثارت الفتنة ومنعت الصلاة .. ونهبت دور اليهود وخانتاراتهم وطلبوا لأنه قيل عنهم أنهم أعانوا أهل الكرخ. ).

4 ـ وتولى القائم العباسى بعد أبيه القادر عام 422 ، وسار على سُنّة أبيه الحنبلية . وعن آخر رجب‏ عام 429 ، يقول ابن الجوزى إن الخليفة القائم :‏ ( جمع الأشراف والقضاة والشهود والفقهاء والوجوه إلى بيت النوبة ، واستدعى جاثليق النصاري ورأس جالوت اليهود ، وخرج توقيع الخليفة في أمر الغيار (أى لبس أهل الذمة ) وإلزام أهل الذمة إياه . وكـان فـي التوقيـع‏:‏ ‏"‏ بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم،  أمـا بعـد فإن الله تعالى بعزته التي لا تحاول وقدرته التي لا تطاول اختار الإسلام دينًا وارتضاه وشرفه وأعلاه وبعث به محمدًا واجتباه وأذل من ناواه...وقد كان الخلفاء الراشدون فرضوا على أهـل الذمـة المعاهديـن حدودًا معقودة على الاستشعار والأخبات والاستكانة والتفرد عن المسلمين ، إعظامًا للإسلام وأهله . ولما تطرق على هذه السنة الإغفال واستمر فيها الإهمال اطرحت هذه الطائفة دواعي الاحتراس وتشبهت بالمسلمين في زيهم ، فرأى أمير المؤمنين الإيعاز إلى جميع أهل الذمة بتغيير اللباس الظاهر مما يعرفون به عند المشاهدة .فليعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين ‏"‏ . فقالوا‏:‏ السمع والطاعة‏.‏).! .

5 ـ وفى عام 437 ( ونفر العامة على اليهود ، وأحرقوا الكنيسة العتيقة ونهبوا دور اليهود‏.‏ ). وفى خلافة القائم إشتهر وزيره ابن المسلمة بحنبليته المتطرفة ، وقد عرضنا له من قبل . وبتوجيهاته يقول ابن الجوزى عن المحتسب أبى منصور السيارى: (  احتسب أبو منصور بن ناصر السياري على أهل الذمة ، وألزمهم لبس الغيارات والعمائم المصبوغات ، وذلك عن أمـر السلطـان ) وتدخلت محظية الخليفة فأنقذتهم : ( فصرفـت ذلـك عنهـم خاتون ومنعت المحتسب‏.‏). وبتدبير ابن المسلمة تكوّن تنظيم شعبى حنبلى من العوام يقوده أحد العوام مجهول النسب ، معروف باسمه الأول فقط ، وهو عبد الصمد . وخطّط ابن المسلمة ليعيد أهل الكتاب الى نفس زى التحقير بالضغط على الخليفة القائم ومحظيته . نفهم هذا من خلال ما يقوله ابن الجوزى فـي أحداث شهـر رمضـان‏ 450 :‏( تجـدد للعـوام المتدينيـن المتسميـن بأصحـاب عبد الصمد إلزام أهل الذمة بلبس الغيار. ) هنا يطلق ابن الجوزى على رعاع وعوام الحنابلة التابعين لعبد الصمد إسم ( العوام المتدينين ) وهم عوام متدينون لأنهم يدينون بدين الحنبلية وتعصبها ، ومن تعصبهم الضغط على السلطة لاتخاذ إجرتءات ضد اهل الكتاب : يقول ابن الجوزى : ( تجـدد للعـوام المتدينيـن المتسميـن بأصحـاب عبد الصمد إلزام أهل الذمة بلبس الغيار.  وحضر الديوان رجل هاشمي منهم يعرف بابن سكرة ، فخاطـب رئيـس الرؤسـاء ابـن المسلمـة فـي ذكر ما عليه أهل الذمة من الانبساط . وكلّمه بكلام فيه غلطـة فأغاظـه ، فكتـب إلـى الخليفـة بذلـك، فخـرج مـا قـوى أمـر ابن سكرة . ) .

ثالثا : فى عصر تحكم السلاجقة

1 ـ كانت العادة ـ ولا تزال فى مجتمعات الحنابلة ـ بناء المساجد بالقرب من دور العبادة لأهل الكتاب ، للتشويش عليهم فى تأدية عبادتهم والتحرش بهم . كما كان من السّنة الحنبلية منع أهل الكتاب من تعلية بيوتهم فوق بيوت المسلمين . و فى عام  478 ( خرج توقيع من المقتدي بأمر الله ينقض ما علا من دور بني الحرر اليهود ، وسد أبواب لهم كانت تقابل الجامع ، وأخذ عليهم غض الصوت بقراءة التوراة في منازلهم ، وإظهار الغيار على رؤوسهم . ) 

2 ـ وواضح أنّ إلزام أهل الكتاب بلباس التحقير كان يتم نسيانه ، ويجرى التذكير به وتنشيطه حسب الظروف ، لذا إتخذه بعض الخلفاء سبيلا لابتزاز أثرياء أهل الكتاب ، نفهم هذا مما يقوله ابن الأثير فى أحداث عام 515 : ( وفيها ألزم السلطان أهل الذمة ببغداد بالغيار، فجرى فيه مراجعات انتهت إلى أن قرر عليهم للسلطان عشرين ألف دينار، وللخليفة أربعة آلاف دينار.)

3 ـ وفى عام 573  ، تعرض أهل الكتاب فى بغداد لمأساة ، بسبب يهود مدينة المدائن . فقد كان هناك مسجد حنبلى داخل حىّ اليهود ، يعلو فيه صوت الأذان والتسبيح على عادة الحنابلة فى طقوسهم المظهرية . وبسبب وجود المسجد بجانب كنيس لليهود وفى وسط تجمع سكنى لليهود كان واضحا قصد الحنابلة التحرش باليهود بتحويل الأذان والتسبيح الى وسائل إزعاج للجيران اليهود وتشويش عليهم فى صلاتهم فى كنيسهم ، فاشتكى بعضهم ، وجاء الرد غليظا من الحنابلة المسيطرين على المسجد ، فحدثت مشادة إستغلها الحنابلة فى المدائن للمجىء الى بغداد لاثارة السلطات ضد يهود المدائن . ويحكى ابن الجوزى الموضوع من وجهة نظره : ( وجاء قوم من أهل المدائن بعد العيد فشكوا من يهود بالمدائن ، وإنه كان لهم مسجد يصلي فيه الجماعة ، ويكثر فيه التأذين ، وهو إلى جانب كنيسة اليهود . فقال بعض اليهود : قد آذيتمونا بكثرة الأذان . فقـال المـؤذن : " مـا نبالـي تأذيتـم أم لا.!. فتناوشـوا ، وجـرت بينهـم خصومة استظهر فيها اليهود ، فجاء المسلمـون يستنفـرون ويستغيثـون ممـا جـرى عليهـم مـن اليهـود إلـى صاحـب المخـزن ( المسئول فى قصر الخلافة فى بغداد ) فأمر بحبس بعضهم، ثـم أطلقهـم . ) وثار الحنابلة ، وكالعادة نظموا مظاهرة يوم الجمعة تزايد فيها على الخليفة وتشوش على صلاة الجمعة فى مسجده حيث الحراسة المشددة : ( فخرجوا يوم الجمعة إلى جامع الخليفة فاستغاثوا قبل الصلاة فخفف الخطيب الخطبة والصلاة فلما فرغ قاموا يستغيثون ) وتدخل جنود الحراسة فضربوا المشاغبين الحنابلة ، فتطورت المظاهرة ودخلت فى طور التدمير لمسجد الخليفة والهتاف ضده والمظايدة عليه بنصرة الاسلام ـ كالعادة ـ ثم كالعادة هاجموا اليهود فى المنطقة ونهبوا دكاكينهم . يحكى ابن الجوزى : ( فخرج جماعة من الجند فضربوهم ومنعوهم من الإستغاثة ، فانهزموا ، فلما رأى العوام ما فُعل بهم غضبوا نصرة للإسلام ، واستغاثوا ، وتكلموا بالكلام السيئ ، وقلعـوا طوابيـق الجامـع ، وضربـوا بهـا الجنـد ، فوقـع الآجـر علـى المنبـر والشبـاك ، ثم خرجوا فنهبوا دكاكين المخلصين لأن أكثرهم يهود . ووقف حاجب الباب بيده سيف مجذوب ليرد العوام ، وحمل عليهم نائبـه ، فرجمـوه. ) ، واشتعلت بغداد ( بفتنة طائفية ) وفيها تم نهب كنائس النصارى ومزقوا التوراة ، فاختفى اليهود هلعا :( وانقلـب البلـد مـن ذلـك وجـاء قـوم إلـى الكنيسـة التـي بدار البساسيري فنهبوها ونقضوا شبابيكهـا وقطعـوا التـوراة وأخرجوها مقطعة الأوراق وما تجاسر يهودي يظهر . ). وكالعادة قام الخليفة القائم يزايد على عوام الحنابلة ، فأمر بهدم كنيس اليهود بالمدائن وتحويله الى مسجد ، ونصب بالقرب منها منصة لتعليق المصلوبين : ( وتقدم أمير المؤمنين بنقـض الكنيسـة التـي بالمدائـن ، وأمـر أن تجعل مسجدًا. ونصب بالرحبة أخشاب ليصلب عليها أقوام مـن العياريـن..‏.) .

هذا تقريبا ما قاله ابن الأثير : ( وفيها كانت فتنة ببغداد، وسببها أنه حضر قوم من مسلمي المدائن إلى بغداد، فشكوا من يهودها، وقالوا: إنا مسجد نؤذن فيه ونصلي، وهم مجاور الكنيسة، فقال لنا اليهود: قد آذيتمونا بكثرة الآذان، فقال المؤذن: ما نبالي بذلك، فاختصموا، وكانت فتنة استظهر فيها اليهود، فجاء المسلمون يشكون منهم، فأمر ابن العطار، وهو صاحب المخزن، بحبسهم، ثم أخرجوا، فقصدوا جامع القصر، واستغاثوا قبل صلاة الجمعة، فخفف الخطيب الخطبة والصلاة، فعادوا يستغيثون، فأتاهم جماعة من الجند ومنعوهم، فلما رأى العامة ما فعل بهم غضبوا نصرة للإسلام، فاستغاثوا، وقالوا أشياء قبيحة، وقلعوا طوابيق الجامع، ورجموا الجند فهربوا، ثم قصد العامة دكاكين المخلطين، لأن أكثرهم يهود، فنهبوها، وأراد حاجب الباب منعهم، فرجموه فهرب منهم، وانقلب البلد وخربوا الكنيسة التي عند دار البساسيري، وأحرقوا التوراة فاختفى اليهود، وأمر الخليفة أن تنقض الكنيسة التي بالمدائن وتجعل مسجداً ونصب بالرحبة أخشاب ليصلب عليها قوم من المفسدين، فظنها العامة نصبت تخويفاً لهم لأجل ما فعلوا، فعلقوا عليها في الليل جرذاناً ميتة، وأخرج جماعة من الحبس لصوص فصُلبوا عليها.).

أخيرا

هى نفس ملامح ما يُسمى بالفتنة الطائفية التى عرفتها مصر من عهد السادات ، وحتى الآن .

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ..!!

اجمالي القراءات 13593