الحنابلة يستأصلون المعتزلة ب 5 ف 7

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٥ - ديسمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 النبى لا يشفع يوم الدين :( كتاب الشفاعة بين الاسلام والمسلمين )

الباب الخامس : الشفاعة وتطبيق الشريعة الحنبلية

الفصل السابع :  الحنابلة يستأصلون المعتزلة

أولا : رُقى العلم ، وجهل العلم ، وتعليم الجهل

1 ـ نبدأ بهذا ونؤكد عليه بلا ملل لأنها هى المشكلة التى زرعتها الحنبلية منذ العصر العباسى الثانى ، ثم أحيتها الحنبلية الوهابية فى عصرنا الحالى ، ونشهد ثمارها السّامة المريرة فى تدمير العراق وسوريا والصومال وأفغانستان ، وفى الطريق دول الخليج والسودان ومصر وباكستان أن لم يحدث إصلاح حقيقى وعاجل . هى أزمة شباب نشأ فى مجتمعات تسيطر عليها الحنبلية الوهابية ويتعلم فيها الشباب الجهل والأكاذيب المنسوبة لله تعالى ورسوله على أنها هى الاسلام ، ويتعلمون تغيير المنكر والقتل للأبرياء على انه الجهاد ، وأن الإكراه فى الدين هو شريعة الاسلام . هذا ما أسّسته الحنبلية فى العصر العباسى الثانى ، وكان المسلمون على وشك التحرر منه لولا ظهور الوهابية وانتشارها وتسيدها . ولا سبيل للخلاص من هذا الوباء إلا باصلاح دينى تشريعى قانونى يؤسس حرية الرأى والفكر والعقيدة والدين لكل فرد ، وإصلاح تعليمى يتحقق به أفضل تصنيع للإنسان المصرى والعربى .

2 ـ التعليم هو صناعة الترقى بالإنسان .وهو صناعة باهظة التكاليف ولكن عائدها الاقتصادى والحضارى لا يمكن تقديره بثمن . لنفترض أنه فى هذه اللحظة وُلد طفلان ، احدهما فى أمريكا والآخر فى بقعة مجهولة فى غابات الأمازون . الطفلان لهما نفس القابلية للتعليم ، الأمريكى يجد دولة تنفق بسخاء على تعليمه علما حقيقيا ، وتفتح له أبواب الترقى ليصبح عالما فى الذرة أو الفضاء أو فى الجيولوجيا أو الاقتصاد أو التنمية البشرية . الآخر فى غابات الأمازون يعيش على ما إعتاده أهله ، نفس الرمح والصيد ونمط المعيشة التى تعيشها قبيلته دون تغيير عبر آلاف السنين شأن حيوانات الغابة حولهم . هذا هو الفارق بين رُقى التعليم الذى يبنى بالتراكم على الأمس ، وتتطور فيه الاختراعات كل دقيقة وبين جهل العلم فى الحضيض فى القبائل البُدائية . ولكن تظل هذه القبائل البدائية أفضل بالحضيض الذى تعيش فيه من الدرجة الأسفل ، وهى ( اسفل سافلين ) حين يسيطر دين أرضى ويفرض تعليم جهله وأكاذيبه وإفتراءته المتوارثة على أنها دين . هنا نتخيل سيدة مصرية ولدت توأما ، أرسل الأب أحدهما ليتعلم فى أمريكا منذ نعومة أظفاره ، وأرسل الآخر ليتعلم فى الأزهر الشريف جدا ويتخرج فى كلية أصول الدين قسم الحديث والتفسير مثلا . أحدهما بتفوقه يكون مثل د زويل ، وألاخر بتخلفه يكون مثل القرضاوى . هنا يتجلى الأزهر بمناهجه التراثية عبئا على مصر وقنبلة زمنية تهدد بتفجيرها ومصنعا لتعليم الجهل ونشر الجهل ـ وأشهد أنه يقوم بهذه المهمة بكل نجاح بدليل ما يقوم به طلبة الأزهر الآن ( ديسمبر 2013 ) وقد تحولوا الى عصابات تخريب وتدمير ، وهم يحسبون انهم يحسنون صُنعا . هم فى الحقيقة ضحايا لتعليم فاسد ، شأنهم شأن الأغلبية الساحقة من المصريين ( المتدينين ) الذين يؤمنون بالسُّنة على أنها الاسلام .

3 ـ نحن لا نرهق أنفسنا فى كتابة أبحاث تاريخية لمجرد إشباع الرغبة فى إكتشاف المجهول والمسكوت عنه من تاريخنا الذى لم يُقرأ بعد ، ولكن السبب الأهم هو الإصلاح لأننا نعيش فى اسوأ حال ، نكرر فيه عصور الظلام الدينى والفكرى فى ظل الوهابية الحنبلية . لذا فهذه مقدمة لفهم أثر الحنابلة الفاحش فى إجهاض الحياة العقلية للمسلمين ، عندما إستأصلوا المعتزلة فكرا ومنهجا وعندما إستأصلوهم بشرا واشخاصا . بدءوا بالاغتيال المعنوى بالتكفير والتحقير للمعتزلة فكرا واشخاصا ، وبعد الاغتيال المعنوى يأتى الاغتيال المادى بالقتل بتهمة الردة وبسلاح تغيير المنكر وبزعم الجهاد . وحتى لا ننسى فالحنابلة هم أول وأفظع من أرسى الإغتيال المعنوى وجعله طريقا للأغتيال الجسدى . وحتى لا ننسى أيضا فالوهابية الحنبلية فى عصرنا البائس تمارس نفس الاغتيال المعنوى والمادى فى التخلص من خصومها ( فرج فودة  مثلا )، وفى تدمير الطوائف الأخرى ، كشيعة سوريا والعراق والخليج . وندخل على إستئصال المعتزلة على يد الحنابلة فى العصر العباسى الثانى :

المرحلة الأولى : الاغتيال المعنوى

1 ـ نعطى دليلا بالتشنيع الذى أشاعه الحنابلة عن شيخ المعتزلة بشر المريسى المتوفى عام 218 ، من خلال روايات كاذبة ومنامات نشروها فى مجالس القصص ، وتداولوها عبر الأجيال ، الى أن سجلها فى القرن الخامس المؤرخ الحنبلى الخطيب البغدادى فى موسوعته ( تاريخ بغداد : ج 7 ص 56 : 67 ) فى ترجمته لبشر المريسى ، وقد ذكرها الخطيب البغدادى باعتبارها حقائق تاريخية يسجلها بالسند معتقدا صدقها بسبب إنتمائه الحنبلى الذى نعرفه من بداية قول الخطيب فى البداية عن بشر : ( بشر من أصحاب الرأى ، أخذ الفقه عن ابى يوسف القاضى ، إلا إنه إشتغل بالكلام ، وجرّد القول بخلق القرآن ، وخُكى عنه أقوال شنيعة ، ومذاهب مستنكرة ، أساء أهل العلم قولهم فيه بسببها ، وكفّره أكثرهم لأجلها .)، الخطيب يسمى عوام الحنابلة وشيوخهم ( أهل العلم ) فالعلم عنده هو الحديث أو صناعة ونشر أكاذيب منسوبة للنبى عليه السلام ، أما الاتجاه العلمى النقدى فهو كما كان يقال عنه (علم الكلام ) ، وعيب بشر المريسى أنه ( إشتغل بالكلام ) وأنه ( جرّد القول بخلق القرآن ) وأن أقواله شنيعة ومستنكرة سببت فى أن ( أهل العلم ) اساءوا القول فيه بسببها ، وحكموا بتكفيره . ولا يصف الخطيب بذاءة الحنابلة بالشناعة لأنه يشاركهم الرأى فى بشر المريسى . ونعرض لبعض ما ذكره الخطيب البغدادى من مزاعمهم وأتهاماتهم لبشر المريسى لنتعرف على جريمة الاغتيال المعنوى لبشر المريسى ، والذى كان ميتا قبلها بقرنين وأكثر ، وبالتالى فالهدف ليس النيل منه وقتله ، ولكن تكفير والإغتيال المعنوى للمعتزلة تمهيدا لإستئصالهم جسديا ، وهذا ما حدث بالفعل ، فى أكبر جريمة بشرية وحضارية مسكوت عنعا فى تاريخنا .

2 ـ عن تكفيره وتكفير المعتزلة تتنوع رواياتهم الكاذبة : قال أحدهم يتهمه بإنكار الالوهية : ( كلمت بشرا المريسى وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم أنه ينتهى الى أن يقولوا ليس فى السماء شىء .). .!).ويزعم آخر :( سمعت هاتفا فى البحر يقول : لا اله إلا الله ، على ثمامة والمريسى لعنة الله . قال : وكان معنا فى المركب رجل من أصحاب بشر المريسى فخرّ ميتا . ) .

3 ـ  وعن الحكم بقتله وقتل أصحابه تتوالى رواياتهم : ( كنت عند ابن عيينة إذ أقبل بشر المريسى فتكلم بذلك الكلام الردىء ، فقال ابن عيينة : اقتلوه . قال ابن خلاد : فأنا فيمن ضربته بيدى.)( وكان أبو زرعة الرازي يقول‏:‏ بشر بن غياث زنديق ‏.) ( ‏وقال يزيد بن هارون‏:‏ هو كافر حلال الدم يقتل ‏.‏)( كنا عند يزيد بن هارون ، وذكروا المريسى فقال : ما يقول ؟ قالوا يقول القرآن مخلوق . فقال : هذا كافر ) ( كنا عند يزيد بن هارون وشاذ بن يحيى يناظره فى شىء من أمر المريسى ، وهو يدعو عليه ، فسمعنا يزيد وهو يقول : من قال القرآن مخلوق فهو كافر . ) ( يزيد بن هارون : حرضت أهل بغداد على قتل بشر المريسى غير مرة . ) ( اجتمع رأيى ورأى ابى النضر هاشم بن القاسم وجماعة من الفقهاء على أن المريسى كافر جاحد ، أرى أن يُستتاب ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه .)

4 ـ وفى تحريض السلطة العباسية على قتل أتباع بشر المريسى صاغوا هذه الرواية الكاذبة ، وقد صاغوا لها إسنادا ينتهى الى محمد بن نوح الذى زعموا أنه قال: ( سمعت هارون أمير المؤمنين يقول : بلغنى أن بشر المريسى يزعم أن القرآن مخلوق ، والله علىّ إن أظفرنى به لأقتلنّه قتلة ما قتلتها أحدا قط .! ). الكذب ينضح من هذه الرواية ، فقد كان بشر المريسى فى بغداد فى متناول يد الرشيد لو أراد قتله لقتله دون أن يُقسم بهذه الطريقة:(والله علىّ إن أظفرنى به لأقتلنّه قتلة ما قتلتها أحدا قط .). وبنفس الجرأة الهائلة على الكذب يذكر ابن الجوزى فى المنتظم نفس الرواية ولكن باسناد مختلف ،يقول ابن الجوزى : ( أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرنا حمد بن أحمد بن أبي طاهر أخبرنا أبو بكر النجاد حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي قال‏:‏ حدثني محمد بن نوح قال‏:‏ سمعت هارون أمير المؤمنين يقول‏:‏ بلغني أن بشر المريسي يزعم أن القرآن مخلوق لله علي إن أظفرني به لأقتلنه قتلة ما قتلها أحد قط ‏.‏). المهم هنا أن (  محمد بن نوح ) الذى يزعمون أنه سمع هارون أمير المؤمنين يقول كذا ، لم يسمع هارون الخليفة ، ولم يكن له أن يحضر مجلسا لهذا الهارون الخليفة سواء كان الخليفة هارون الرشيد أو  هارون الواثق حفيد الرشيد . موضوع ( خلق القرآن ) صار أزمة فى السنة الأخيرة من خلافة  المأمون . وقد أسفر فى النهاية على إصرار إثنين فقط على معارضة المأمون وهما ابن حنبل ورفيقه الشاب محمد بن نوح . ومات فى الطريق محمد بن نوح عام 218 . فى نفس العام الذى مات فيه بشر المريسى ، وترجم لهما ابن الجوزى فى وفيات نفس العام 218 . مات ابن نوح شابا . أى نفترض أن هذا الشاب عاش خمسا وعشرين عاما فإن مولده عام 193 ، أى ولد فى السنة التى مات فيها هارون الرشيد 193 فمتى التقى بالرشيد ؟. . وإذا كان المقصود أنه سمعه من الخليفة هارون الواثق ، فقد مات محمد بن نوح عام 218 ، وتولى هارون الواثق الخلافة عام 227 ،بعد موت ابن نوح بتسعة أعوام ، فمتى إجتمع ابن نوح بهارون الواثق ؟.!

5 ـ لم يتورعوا أيضا عن نسبة الروايات الكاذبة للشافعى فى التحريض غلى قتل مرسى .ومعلوم أن القول بخلق القرآن ظهر بعد موت الشافعى المتوفى عام 204 . والشافعى إنتقل من العراق وإستقر فى مصر من عام 199 ومات فيها قبل موضوع خلق القرآن ب15 عاما تقريبا ، وحتى لو حدث هذا الموضوع فى حياة الشافعى فقد كان وقتها فى مصر منشغلا بتملية كتابه ( الأم ) ، ولا شأن له بما يجرى فى بغداد . إلا أن الأكاذيب الحنبلية تجعل الشافعى عدوا لبشر المريسى بسبب موضوع خلق القرآن ، بل تجعل أم المريسى تحكم بكفر إبنها  بسبب خلق القرآن ، يقول أحدهم :( سمعت الشافعى يقول : دخلت بغداد فنزلت على بشر المريسى فأنزلنى فى غرفة له ، فقالت لى أمه : لم جئت الى هذا ؟ قلت أسمع منه العلم . فقالت : هذا زنديق .)، ويقول كاذب حنبلى آخر أن الشافعى قال له:( كلمتنى أم المريسى أن أكلم المريسى أن يكف عن الكلام ، فلما كلمته دعانى اليه فقال : إن هذا دين ، قال فقلت إن أمك كلمتنى أن أكلمك ). ويزعم كاذب حنبلى أن الشافعى دخل على الخليفة ( ولا نعرف من هو هذا الخليفة ) ، تقول الرواية : ( دخل الشافعى على أمير المؤمنين وعنده بشر المريسى ، فقال أمير المؤمنين للشافعى : ألا تدرى من هذا ؟ هذا بشر المريسى .! فقال له الشافعى : أدخلك الله فى أسفل سافلين مع فرعون ، وهامان وقارون . فقال المريسى : أدخلك الله أعلى عليين مع محمد وابراهيم وموسى . قال محمد بن اسحاق : فذكرت هذه الحكاية لبعض أصحابنا فقال لى : ألا تدرى أى شىء أراد المريسى بقوله ، كان منه طنزا ( أى سخرية ) لأنه يقول ليس ثمة جنة ونار . ).

6 ـ وفى مجال التحريض أيضا فهناك روايات أخرى تجعله يهودي الأصل أسلم ليدمر الاسلام .يقول حنبلى كاذب : ( مررت فى الطريق فإذا بشر المريسى والناس عليه مجتمعون، فمرّ يهودى فأنا فسمعته يقول : لا يفسد عليكم كتابكم كما أفسد أبوه علينا التوراة .! يعنى ان أباه كان يهوديا ). هنا نرى يهوديا مهموما بالاسلام والمسلمين يحذّر من خطر المريسى على الاسلام ، حتى لا يفعل بالاسلام مثلما فعل أبوه بالتوراة ، وطبعا لا نعرف بالضبط ما حدث للتوراة وقتها ، وماهو بالضبط الذى فعله والد المريسى ، ومن هو هذا ( الحبر ) اليهودى والد بشر المزعوم ، وأين هذا من نسب بشر الحقيقى الذى يذكره الخطيب نفسه فى مقدمة ترجمة بشر ،إذ يقول عنه : ( بشر بن غياث بن أبى كريمة ، أبو عبد الرحمن المريسى ، مولى زيد بن الخطاب .) . أى اسلم جده الأكبر على يد زيد بن الخطاب أخ عمر بن الخطاب، فأصبح طبقا لتقاليد العصر وقتها منتسبا له بالولاء . ولكن نفهم طبقا للرواية الكاذبة أن أباه كان من أحبار اليهود فى العصر العباسى.!. وتأتى الرواية التالية بكذبة متناقضة تجعل والد بشر المريسى يهوديا صبّاغا فى الكوفة وليس من أحبار اليهود فى العصر العباسى . ويأتى هذا ضمن قائمة من التحقير والتكفير والتفسيق تنم عن كراهية حنبلية هائلة لبشر المريسى ، يقول الكاذب الحنبلى : (  رأيت بشر المريسى ـ عليه لعنة الله ـ مرة واحدة ، شيخا قصيرا دميم المنظر ، وسخ الثياب وافر الشعر ، أشبه شىء باليهود . وكان أبوه يهوديا صباغا فى الكوفة . ثم قال : لا يرحمه الله ، وقد كان فاسقا . ).

7 ـ وفى مجال التحريض أيضا يقومون بشيطنة بشر المريسى وجعله من أتباع الشيطان ، وينسبون لابليس وحيا يقوله لهم عن بشر . وقد يكون هذا مضحكا للعقلاء فى عصرنا ، ولكنه كان مُقنعا للعوام وثقافة الحنبلية فى العصر العباسى وعصرنا . يقول حنبلى كاذب : ( رأيت ليلة جمعة ونحن فى طريق خراسان .. ابليس فى المنام ، قال : وإذا بدنه ملبس شعرا ، ورأسه الى أسفل ، ورجليه الى فوق ، وفى بدنه عيون مثل النار . قلت له : من أنت ؟ قال : أنا ابليس . قلت له : وأين تريد ؟ قال : بشر بن يحيى ، رجل عندنا بمرو يرى رأى المريسى ، وما من مدينة إلا ولى فيها خليفة . قلت : من خليفتك بالعراق ؟ قال : بشر المريسى . دعا الناس الى ما عجزت عنه ، قال : القرآن مخلوق . )، ويقول كاذب حنبلى آخر ( رأيت فى المنام إبليس رجلاه فى الأرض ورأسه فى السماء ، اسود مثل الليل ، وله عينان فى صدره ، فلما رأيته قلت : من أنت ؟ قال : هو ابليس . فجعلت اقرأ آية الكرسى . قال فقلت له : من أقدمك هذه البلاد ؟ قال : الى بشر بن يحيى ، رجل من الجهمية ( المعتزلة )، قلت : من إستخلفت بالعراق ؟ قال : ما من مدينة ولا قرية إلا ولى فيها خليفة . قلت : فمن خليفتك بالعراق ؟ فقال : بشر المريسى . دعا الناس الى أمر عجزت عنه . ) .

 ثانيا : ـ عصر الخليفة العباسى القادر بالله بين الإغتيال المعنوى وإبادة المعتزلة

 1 ـ تولى الخلافة عام  381 . وفيه راجت إشاعات الحنابلة عن المعتزلة بحيث أصبح تكفيرهم من أسس الدين السائد. وقد تأثر بهذا المؤرخ الحنبلى الخطيب البغدادى وسجلها فى ترجمته لبشر المريسى وغيره . كما تأثر بهذا المناخ الخليفة العباسى القادر بالله . وقد أدرك الخطيب البغدادى خلافة القادر بالله لأن الخطيب مات عام 436 ، ومات الخليفة القادر عام 422 . وقد ترجم له أيضا فى ( تاريخ بغداد ) وقال عنه : ( رأيت القادربالله دفعات ، وكان أبيض حسن الجسم كث اللحية طويلها يخضب. ) ومدحه الخطيب فقال عنه : ( وكان من أهل الستر والديانة وإدامة التهجد بالليل وكثرة البر والصدقات على صفة اشتهرت عنه وعرف بها عند كل أحد مع حسن المذهب وصحة الاعتقاد .) الوصف بحُسن المذهب وصحة الاعتقاد  يعنى عند الخطيب البغدادى : الالتزام بالدين الحنبلى ، وغير ذلك فهو ( البدعة ). وقد كتب القادر بالله يدافع عن مذهبه الحنبلى ، يقول عنه الخطيب: ( وكان صنف كتابًا فيه الأصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث ، وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز، أفكار المعتزلة والقائلين بخلق القرآن . وكان الكتاب يقرأ في كل جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي ويحضر الناس سماعه. ). وكوفىء هذا الخليفة على حنبليته يصناعة حديث يشير الى تزكيته ، ورواه الخطيب : ( لا تهلك هذه الأمة حتى يكون فيها إثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل بيت النبى ، يعيش أحدهما أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة . ) واستمرت خلافته  41 سنة وعشرة اشهر واحدى عشر يوما . ( تاريخ بغداد ج 4 ص 37 : 38 ) .

2 ـ وفي عام ‏ 408، يقول ابن الجوزى تحت عنوان :‏ ( استتاب القادر المبتدعة‏)‏: ( استتاب القادر بالله أمير المؤمنين فقهاء المعتزلة الحنفية، فأظهروا الرجوع ، وتبرأوا من الاعتزال . ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام .وأخذ خطوطهم بذلك ، وأنهم متى خالفوه حلّ بهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم.). وتم التطبيق فقام ولاته بقتل وصلب ولعن المعتزلة وسائر خصوم الحنبلية من الأحناف السنيين والشيعة وسائر طوائفهم  فى خراسان وغيرها ، وامتد ذلك الى طردهم من بلادهم . يقول ابن الجوزى : ( وامتثل يمين الدولة وأمين الملة أبو القاسم محمود أمر أمير المؤمنين ، واستن بسننه في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة ، وصلبهم ، وحبسهم ، ونفاهم ، وأمر بلعنهم على منابر المسلمين ، وإيعاد كل طائفة من أهل البدع وطردهم عن ديارهم. ) الأخطر من هذا كله أن صار تنفيذ هذا القتل والصلب والنفى واللعن للمعتزلة من أسس الديانة الحنبلية بزعم أن هذا سُنّة جديدة فى الاسلام . يقول ابن الجوزى هذه العبارة الخطيرة : ( وصار ذلك سنة في الإسلام‏.‏).

3 ـ وفى عام 409 : اصدر القادر بالله العباسى منشورا رسميا بقتل من يقول بأن القرآن مخلوق ، يقول ابن الجوزى : ( قرئ يوم الخميس السابع عشر من المحرم في الموكب بدار الخلافة كتاب بمذاهب السنة وقيل فيه‏:‏ من قال إن القرآن مخلوق فهو كافر حلال الدم‏.‏). ومعنى أنه ( حلال الدم ) أنه يجب على كل من يريد تغيير المنكلا بيده أن يبادر بفتل من يقول هذه المقالة ، او حتى يكون متهما بهذا.

4 ـ وشهد عام 420 أرسال جيش لإبادة المغتزلة وغيرهم من خصوم الحنبلية ، وورد إلى الخليفة كتاب من الأمير يمين الدولة أبي القاسم محمود، الذى قاد جيشا لإستئصال المعتزلة فى خراسان . ونجح فى مهمته ، وجاء فى رسالة هذا القائد للخليفة : ( سلام على سيدنا ومولانا الإمام القادر بالله أمير المؤمنين،  فإن كتاب العبد صدر من معسكره بظاهر الري غرة جمادى الآخر سنة عشرين . وقد أزال الله عن هذه البقعة أيدي الظلمة وطهرها من دعوة الباطنية الكفرة والمبتدعة الفجرة . وقد تناهت إلى الحضرة المقدسة حقيقة الحال .. من غزو أهل الكفر والضلال وقمع من نبغ ببلاد خراسان من الفئة الباطنية الفجار . وكانت مدينة الري مخصوصة بالتجائهم إليها وإعلانهم بالدعاء إلى كفرهم فيها ، يختلطون بالمعتزلة المتبدعة والغالية من الروافض المخالفة لكتاب الله والسنة، يتجاهرون بشتم الصحابة ، ويسرون اعتقاد الكفر ومذهب الإباحة.) .

5 ـ وشهد نفس العام 420 حربا فكرية بمنشورات وأجتماعات رسمية فى تحريم وتجريم المعتزلة وغيرهم لاستئصالهم فى العراق . فى أحداث  18 شعبان يقول ابن الجوزى : (  جُمع الأشراف والقضاة والشهود والفقهاء في دار الخلافة ، وقرئ عليهم كتاب طويل ، عمله الخليفة القادر بالله ، يتضمن الوعظ وتفضيل مذهب السنة والطعن على المعتزلة وإيراد الأخبار الكثيرة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة‏...) . ( وفي يوم الخميس لعشر بقين من شهر رمضان‏:‏ (جُمع الأشراف والقضاة والشهود والفقهاء والوعاظ والزهاد إلى دار الخلافة ، وقرأ عليهم أبو الحسن بن حاجب النعمان كتابًا طويلًا عمله الخليفة القادر بالله ، وذكر فيه أخبارًا من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته ، وما روي عنه في عدة أمور من الدين وشرائعه . وخرج من ذلك إلى الطعن على من يقول بخلق القرآن وتفسيقه ، وحكاية ما جرى بين عبد العزيز وبشر المريسي فيه ثم ختم القول بالوعظ والأمر .) ، وتكرر هذا فى شهر ذى القعدة :( وفي يوم الإثنين غرة ذي القعدة‏:‏ جمع القضاة والشهود والفقهاء والوعاظ والزهاد إلى دار الخلافة وقرئ عليهم كتاب طويل جدًا يتضمن ذكر أبي بكر وعمر وفضائلهما ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم والطعن على من يقول بخلق القرآن ، وأعيد فيه ما جرى بين بشر المريسي وعبد العزيز المكي في ذاك ويخرج من هذا الوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأقام الناس إلى بعد العتمة حتى استوفيت قراءته ، ثم أخذت خطوطهم في آخره بحضورهم وسماع ما سمعوه‏.‏.‏). هنا نرى تأثرهم بالروايات الى صنعها الحنابلة فى إغتيال شخصية بشر المريسى بعد قرنين من وفاته . أى أن هذه الحرب الفكرية نجحت أخيرا فى إستئصال المعتزلة .

5 ـ ومات الخليفة القادر عام 422 وتولى بعده إبنه الخليفة القائم ابن الخليفة القادر، الذى اصدر عام 433 منشورا رسميا بصياغة دين الدولة العباسية وقتها إشتهر باسم ( الإعتقاد القادرى ) . يقول ابن الجوزى : ( وفى هذه السنة‏:‏ قرئ الاعتقاد القادري في الديوان‏.‏) . ( ..أخرج الإمام القائـم بأمـر اللـه أميـر المؤمنين أبو جعفر ابن القادر بالله في سنة نيف وثلاثين وأربعمائة الاعتقاد القـادري الـذي ذكره القـادر. فقـُرئ فـي الديـوان وحضـر الزهاد والعلماء وممن حضر الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ، فكتب خطة تحته قبل أن يكتب الفقهاء ، وكتب الفقهاء خطوطهم فيه: أن هذا اعتقاد المسلمين ومن خالفه فقد فسق وكفر . ). وجاء فيه عن القرآن :( ومن قال أنه مخلوق على حال من الأحوال فهو كافر حلال الدم بعد الاستتابة منه . ).

ثالثا : بقايا المعتزلة بعد ( الاعتقاد القادرى )

1 ـ مات الخليفة القائم عام 467 ، وفى أواخر خلافته إنتهى نفوذ بنى بويه ، وتحكم الأتراك السلاجقة فى الخلافة ، وكان نظام الملك الوزير المشهور للسلاجقة واسع الأفق فتشجع فى بغداد بعض المعتزلة الساكتين فاعلنوا عن أنفسهم . وقتها كانت هناك فرقة حنبلية ارهابية فى بغداد يتزعمها أحد العوام واسمه عبد الصمد ، تقوم بتطبق تغيير المنكر بأن تطارد من تتهمه بالتشيع أو الاعتزال ، وتُجبرهم على الصلاة فى المسجد الجامع ( جامع المنصور ) الذى يسيطر عليه الحنابلة ، يقول ابن الجوزى فى أحداث عام  456 : ( وفـي يـوم الجمعـة الثانـي عشـر مـن شعبـان‏ هجـم قـوم مـن أصحـاب عبـد الصمد ،على أبي علي بن الوليد المدرس لمذهب المعتزلة فسبوه وشتموه لا متناعه من الصلاة في الجامع وتدرسيه لهذا المذهب.)  سمح نظام الملك ـ وكان أشعريا ـ بتدريس الاعتزال ، وكان قد زار بغداد . ) . فهجم عبد الصمد بأعوانه على المدرسة والمدرس لاجبارهم على الصلاة فى الجامع الحنبلى ، ولأنهم يتعلمون مذهب الاعتزال . وتشجع المدرس المعتزلى فلعنهم : ( فقال لهم‏:‏ لعن الله من لا يؤثر الصلاة ولعن الله من يمنعني منها ويخيفني فيها‏.) ويرى ابن الجوزى إن المدرس المعتزلى كان يقصد عوام الحنابلة الذين يستحلون دماء المعتزلة ، يقول عن المدرس المعتزلى : ( إيماء إليهـم وإلـى أمثالهـم من العوام ، لما يعتقدونه في أهل هذا المذهب من استحلال الدم ونسبتهم إلى الكفر. ) فهجم عليه رعاع الحنبلية فصرخ مستغيثا بأهل الحى فخاف الحنابلة فتركوه . يقول ابن الجوزى : ( وأوقعوا به وجرحوه وصاح صياحًا ، خافوا اجتماع أهل الموضع معه عليهمن فتركوه . ثم أغلق بابه . ) وقام الحنابلة بالتشنيع على المعتزلة فى الجامع الكبير فى بغداد ( جامع المنصور ) . يقول ابن الجوزى : ( واتصل اللعن للمعتزلة في جامع المنصور. وجلس أبو سعد بن أبي عمامة فلعن المعتزلة‏ . ). 

2 ـ ظهر الشيخ المعتزلى أبو يوسف القزوينى بعد خفوت مفعول الاعتقاد القادرى. وهو مولود عام 392 ، وتوفى عام 488 فى خلافة المسترشد العباسى ، أى عاش ستا وتسعين سنة ، وكان عمره 28 عاما وقت محنة المعتزلة فى خلافة القادر بالله العباسى عام 420 ، ولهذا هاجر الى مصر الفاطمية ، وظل فيها اربعين عاما ، ثم عاد الى بغداد متشجعا بالتغيير الذى أحدثه الوزير نظام الملك فى بغداد فأخذ يعلن مذهبه . يقول عنه ابن الجوزى : ( أحد شيوخ المعتزلة المجاهرين بالمذهب الدعاة . قرأ على عبد الجبار الهمذاني . ورحل إلى مصر ، وأقام بها أربعين سنة . وحصل أحمالًا من الكتب فحملها إلى بغداد. .. وفسّر القرآن فـي سبعمائـة مجلـد . ) هنا شيخ معتزلى يجاهر بأنه معتزلى  . يقول ابن الجوزى عنه :( وكان يفتخر ويقول‏:‏ "أنا معتزلي " ، وكان ذلك جهلًا منه لأنه يخاطر بدمه في مذهب لا يساوي . ) ابن الجوزى يعتبر إعلانه عن مذهبه مخاطرة بحياته فى سبيل مذهب لا يساوى .!. الطريف هى هذه الرواية التى تعكس سماحة الوزير نظام الملك وقد دخل عليه أبو يوسف القزوينى  فوجد عند شيخا حنبليا وآخر أشعريا . تقول الرواية :  (‏ دخـل أبـو يوسـف علـى نظام الملك ، وعنده أبو محمد التميمي ورجل آخر أشعري ، فقال له‏:‏ أيها الصدر قد اجتمع عندك رؤوس أهل النار‏. فقال‏:‏ كيف ؟ فقال‏:‏ أنا معتزلي وهذا مشبه وذاك أشعري ، وبعضنا يُكَفِّر بعضًا‏.) .

3 ـ كانت هذه الإنفراجة المعتزلية مرتبطة بعصر وشخص الوزير نظام الملك ، إنتهت بعد إغتياله فى رمضان عام 485 . شفاء الناس من التخلف الحنبلى إحتاج الى إستمرار لسياسة نظام الملك فى التسامح وفى إنشاء المدارس والانفناح على الإتجاهات العقلية ، نظام الملك هو الذى أنشأ المدرسة النظامية فى بغداد ، وهو الذى أعاد بعضا من حرية الفكر ، وهو الذى قام بتحجيم الحنابلة فاستحق نقمتهم . عادت الأمور الى ما كانت عليه بسبب عامل آخر هو إنتشار التصوف .  قام الحنابلة بتجهيز المناخ لانتشار التصوف ، وهو الأكثر من الحنبلية فى التعبير عن خرافات وعقليات العوام ، ولأن الحنبلية قامت بارهاب أصحاب الفكر من داخل دين السُّنة نفسه . أقاموا محنة للطبرى وللأشاعرة . نتوقف معهما فى المقال القادم .

اجمالي القراءات 15442