اليسار ولمحات من المشهد المصري

سامح عسكر في الخميس ٠٥ - ديسمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

قيل أن المحلية هي بوابة العالمية..بمعنى أنه لا يمكن بلوغ العالمية- والانخراط في الحضارة- دون الإبداع في تصور المحلية ضمن نطاق العالَم، وليس العكس تصور العالم بما فيه المحلية..بمعنى أوضح..أننا نرى أحوال الشعوب الأخرى، فيظهر من رؤيتنا صنفين من المصريين يمكن تصنيفهم كالتالي:

1-ليبرالي يساري مختلط ، جميعاً متطرفون.. أرادوا التقليد على أسس وقواعد وضعتها شعوب أخرى لأنفسهم، ولو كان هناك تغيير فهو طفيف لا يمس القواعد والمناهج ، يفعلون ذلك بأسلوب تقليدي لا إبداع فيه، وهذا الصنف هو الذي أراد كسر التقاليد والطقوس الشعبية بانقلاب ثقافي كامل...ويمكن القول أن هذه النسخة تسمى .."بالوجه المتطرف من العلمانية"...ومن رحم هؤلاء خرج الفوضويون المصريون الذين يثورون ضد كل سلطة بعد ثورة يناير.

2-قوميون أرادوا العالمية لكن بتصور محلي، وهم الذين أرادوا العالمية وسعوا إليها بمنظورهم الثقافي دون الحاجة لعقدة الخواجة التي بشرنا بها رفاعة الطهطاوي وجرى استعادتها في زمن الرئيس السادات، كذلك في رؤيتهم للتقاليد أنها جزءُ من الهوية، ثم يستعملونها في رفع مطالب ديمقراطية تتسم بالعداء للاستعمار وتاريخ الغرب، وهذا التوجه يشكل أغلبية من الجماهير لها نزعات قومية وعلاقة وطيدة بالدولة خاصةً مؤسسة الجيش.

ولكن هذا لا ينفي نزعة العداء للاستعمار عند الصنف الأول، ففي هذه الجزئية يعتبر هذا الصنف يساري بحت، ويظهر من مطالبهم أنهم يهتمون بالجانب الاجتماعي دون الاقتصادي، لأنهم لا يذمون كثيراً في الرأسمالية واقتصاد السوق، ويهتمون أكثر بالتفاوت الطبقي بين الفقراء والأغنياء، وربما تكون هذه الحالة دلالة صُلح بين الليبرالية الفردية واليسار الجماعي.

اليسار المصري بالعموم كان له دور كبير في ثورتي يناير ويونيو ،والسبب أن نظام مبارك والسادات ألغيا النظام السياسي والحياة السياسية بالكامل، وشرعوا في استعادة صورة الحزب الواحد من الاتحاد الاشتراكي في زمن عبدالناصر، كذلك في الصراع الطبقي داخل المصانع، الأمر الذي أدى إلى استنفار عام داخل اليسار ضد الأنظمة السياسية بعد زمن عبدالناصر، ونظراً لإلغاء المتنفس الطبيعي المعروف"بالحياة السياسية" لم ينجحوا في الظهور وجعلوا كل طاقتهم محصورة في النقابات ومنظمات المجتمع المدني إلى أن انتفض الشباب في يناير فانتفضوا معهم..

وبعدها شكلوا كتلة ضغط كبيرة على خصومهم القُدامى وهم الإخوان، فالإخوان لم يُجهدهم في الثلاث سنوات الأخيرة أكثر من اليسار الذي ربما يكون له فضل كبير في الحشد التاريخي ل30-6، وقد ظهر ذلك في استعادة روح اليسار في ثورة يناير المتمثلة في تعبيرات كالعدالة الاجتماعية والمساواة، ونجحوا أيضاً في وضع بذور لما أسميها.."بالبرجوازية الوسطى"..المعني بها أفراد الطبقة الوسطى العاقلة، وهي التي كان ينادي بها الفيلسوف.."مراد وهبة"..كي تتصدى للبرجوازية الطفيلية التي يعاني منها المجتمع المصري بالخصوص والعربي بالعموم..

نعود للحديث عن الملمح الهام الذي عقدت هذا البحث من أجله ، وهو الصنف الأول المختلط لديه المعاني ...الذي وضع نفسه في مواجهة الدولة والشعب معاً، بل ربما كان يرى نفسه بوضوح ويلجأ لأساليب ضغط أملاً في أن ينجح في تحقيق أهدافه وحشد الطبقات الشعبية لصالحه، ولكن هذا أمر عسير ومكلف جداً، بل ربما لو نجحوا في ذلك قد يقضون على الدولة بالكامل، وأقرب مثال ما حدث في سوريا من كوارث وحروب أهلية وطائفية كان المسبب الرئيسي لها هو ذلك الفصيل الفوضوي المتطرف، الذي لولا حركته في الشارع السوري- وثقة العوام به -ما تمكن التيار الديني من الاستحواذ على مشهد الحرب في سوريا وتدمير الشعب بهذه الطريقة.

مبدأياً فجميع الدول الآسيوية المتقدمة..كالصين والهند واليابان لم تتقدم بما يريده الفوضويون من انقلاب حضاري وثقافي تام ،بل احتفظ أبناء هذه الشعوب بثقافتهم وتقاليدهم بعيداً عن سطوة الغرب والأفكار الليبرالية، رغم ما يجمعهم مع الليبراليين من مُشتركات ساعدتهم في إدارة دولتهم وتفسير ما يحدث في العالم..وهذا يُعزز من موقف الأغلبية الشعبية الصامتة التي أسميها.."بالضمير القومي الوطني".. أو ما يسميها البعض "بحزب الكنبة"، فمواقف هذه الفئة دائماً هي التي تنتصر في النهاية، ورؤيتها للأحداث تتسم بالواقعية المفرطة التي تخدم مواقف قادتها المفكرين بأسلوب القفزات الزمنية، وهي التي تعلم عمق الأزمة الفكرية لدى العوام فتعمل على استثارتهم بتحفيز طبائعهم في مواجهة الخصوم.

هذه النماذج الفكرية اطلعت جيداً على أحوال الشعوب الأخرى ورأت في الغالب أن الإصلاح الحقيقي سيأتي من الهوية المصرية وليس عن طريق استبدالها بقواعد وأركان غريبة، وسبب توصيفي لواقعية الأغلبية الصامتة بأنها واقعية مفرطة ...هي أنها تنطلق لتفسير الأحداث من اللحظة نفسها التي يظهر فيها الحدث، كتفسير الدعوة للاستفتاء على دستور الإخوان في السابق أنها دعوة وطنية لصالح الدولة، أو أنها استكمال للمشروع الديني الذي توهمته العامة من كثرة ترديده والاتجار به، كانت النتيجة أن عزلوا الحدث عن مقدماته وما رافقه من حراك فكري وشعبي وديني يرفض هذا العمل.

على الجانب الآخر فالفوضويون أيضاً ينطلقون لتفسير الأحداث بنفس الأسلوب، كاعتراضهم على قانون التظاهر أنه ضد الدولة المدنية الديمقراطية ، وبالتالي يعزلون القانون عن مقدماته وأبعاده التي ظهر فيها -شرط أن تعتد بحُسن النوايا لصوابية هذا التفسير - هذا الأسلوب في التفكير خاطئ تماماً، لأن البديل لتلك الواقعية المفرطة هو الواقعية.."الطبيعية"..أو ما يصفه بعض المفكرين بحُسن التعامل مع الواقع، فلا يمكن تفسير حدث هكذا دون دراسته من كافة جوانبه، كالذي يريد تفسير شكل الكوب فيُفرط في الواقعية وتخدعه حواسه فيراه كأسا، لكن لو تأمل قليلاً وحاول التأكد سواء بالاقتراب أو اللمس سيراه كوبا.

وقد أدت هذه الواقعية المفرطة لدى الفوضويين أن اعتادوا على خطأ الحواس، فيعجزون عن تجريد الأحداث ونزعها من سياقها فيُخطئون في وضعها في سياقات أخرى غير التي ظهرت لها ومن أجلها، وأقرب مثال عندي هو قانون التظاهر، فلو لم يكن عند هؤلاء رغبة التمرد على الدولة لما تسرعوا في الحُكم عليها وعلى القوانين الصادرة منها، وهذا يُعزز من رؤيتي بأن الحالة العلمانية في مصر قاصرة إلى حد بعيد، وهي غير ناضجة حتى تتعامل مع الدولة والشعب بتمييز الذات والانطلاق منها، لا تمييز الآخر والانطلاق منه على الذات كما اعتادوا في الآونة الأخيرة، والمشكلة أنهم لا يتحدثون عن نماذج أخرى مشابهة قد تضع فرضياتهم أو تفسيراتهم للأحداث موضع الشُبهة.

خُلاصة هذه الجزئية أن من يرى في الجيش المصري خصماً له من المصريين يُفكر بالطريقة الأولى المعتمدة على التقليد واستنساخ التجارب دون تعديل، وهؤلاء هم الفوضويون، أو أصحاب المشاريع الدينية والأيدلوجية، ولو وقفت معهم على ماهية أفكارهم ستجدهم خصوماً للدولة بالكامل..فهذه الدولة هي التي تقف في طريق أحلامهم وطموحاتهم على تنوعها، وهم يرونها عقبة لن يقبلون سوى إما برفضها ورفع شعارات الاستبدال بالكلية كشعارات التطهير للقضاء والإعلام والشرطة والجيش، أو شن الحرب عليها بكافة الأسلحة..فهم يرفضون الدولة بشكلها الحالي ولن يقبلوا بأي تغييرات تنسف هذا الوضع مهما حدث.

ما يجعلني أطمئن لروح اليسار في مصر هو هؤلاء القوميون اليسار الذين ساندوا الدولة والجيش في حربهم على الإرهاب، ورفضوا-رغم الضغوط-أي تنازل عن هذا المبدأ، كذلك في نجاحهم في صناعة البرجوازية المثقفة العقلانية ،حتى لو انحرف العديد منهم تجاه الفوضى، لأن الأصل في صناعة البرجوازية هو توفير البديل للمجتمع الشيوعي الواحد الذي من الصعب تحقيقه في مصر، ولكن لا أن تخرج هذه البرجوازية بصورة طفيلية تساهم في تعميق الأزمة الاقتصادية واتساع الهوة بين الطبقات، كذلك في مرونتهم في تقبل العولمة بأسلوب محلي عبر استخدامهم لمقومات الحضارة في توفير حياة ديمقراطية.

حتى لو فشلوا يكفي أنهم حاولوا هذه الفترة، وأظن أن أكبر إنجاز حدث بفضل اليسار هو زيادة الروح القومية لدى الأغنياء، وأظن أن هذه الروح كانت مخزونة في الماضي من جراء السياسات المبتذلة وقهر الأفكار وحرب الإبداع من بعد ثورة يوليو إلى ثورة يناير، بل أرى أن الفترة الحالية ليست أفضل مما سبق ثورة يناير، والمكسب الوحيد هو في كشف الإخوان وتعرية شيوخ وتجار الدين أمام الشعب، غير ذلك فلا يوجد تغيير يُذكر ، ولو وُجِد فربما لا نشعر به الآن شرط أن تستمر الحياة على ظهر الكوكب المصري.

اجمالي القراءات 7919