معجزة اختيار اللفظ في القرآن:مدخل لعلم قرآنى جديد :( الجزء الخامس )

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٩ - سبتمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الثانى عشر : غفران الشّرك أو عدم غفرانه :

( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) ( إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ):

1 ـ يبدو فى النظرة السطحية نوع من التناقض فى آيات تؤكد عدم غفران جريمة الشرك بالله جل وعلا ، وآية  تفيد الغفران .

الآيات الكريمة التى تؤكد عدم الغفران هى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48) النساء )، (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) النساء )، (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) المائدة  ) ، ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (65) الزمر ).

والآية التى تفيد الغفران هى : ( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) الزمر ) .

فهل يوجد فعلا ذلك التناقض بين الآيات المتشابهات ؟

نصل الى الاجابة بالبحث الموضوعى فى كل الآيات فى سياقها الخاص وفى السياق العام :

2 ـ الفيصل هنا هو التوبة . فالذى يتوب توبة نصوحا فى الدنيا وقبل الموت يغفر الله جل وعلا له .  وموعد الغفران للذنوب هو يوم الدين وليس الآن : ( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)(الشعراء )( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) ابراهيم ).

وهذا هو المستفاد من قوله جل وعلا : ( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) الزمر ) فالآيات بعدها فى السياق الخاص تتحدث عن التوبة المخلصة الصادقة فى الدنيا لمن أسرف على نفسه : ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55)( الزمر ).

وفى السياق العام فى كل الآيات التى تخص الموضوع ، يقول جل وعلا عن الشرك والقتل والزنا ؛ أكبر الكبائر التى يتنزّه عنها عباد الرحمن : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) الفرقان ). ثم يقول جل وعلا فى الآية التالية عن عذابهم يوم القيامة : ( يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) الفرقان ) ويستثنى منهم من تاب فى الدنيا توبة مقبولة : ( إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) الفرقان ). بالتوبة المقبولة يكون الغفران يوم الحساب ، فالتائب الحقيقى هو كما يقول جل وعلا: ( مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ) ، أى قام بتصحيح إيمانه وإلتزم العمل الصالح عوضا عن عصيانه السابق ، وبالايمان والعمل يتم تبديل أعماله السيئة لتكون أعمالا صالحة يصلح بها لدخول الجنة ، أو بالتعبير القرآنى :( إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) .

وهذا معنى الغفران الذى سيحدث يوم القيامة ، ففى يوم البعث يخرج الناس كجراد منتشر يحملون ذنوبهم يرونها رأى العين مهما بلغ صغرها وضآلتها  : (  يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه (8) الزلزلة ) . ثم يأتى الغفران أو التغطية لمن سبق له التوبة فى الدنيا وقبل الله جل وعلا توبته. وكلمة ( غفر ) و ( كفر ) بمعنى ( غطّى ) .  ومنه تكفير الذنوب وغفران الذنوب .

3 ـ وقلنا إن الشرك والكفر نوعان : ( قلبى عقيدى  ) :عملى بتقديس البشر ( كتقديس قبر النبى محمد والصحابة ) ، وشرك علمى بتقديس الكتب ( مثل كتاب البخارى ). ثم هناك الكفر السلوكى بالقتال المعتدى الآثم الذى يستعمل إسم الله جل وعلا ، أو الحرب الدينية كالجهاد السلفى الوهابى ، ومنه ما فعلته قريش فى الحرب العدوانية ضد المؤمنين . وفيه أيضا فرصة للتوبة . فقد أعطاهم رب العزة فرصة للتوبة بأن يكفّوا عن الاعتداء ، ووعدهم بالغفران لما سبق :( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ )(38)الأنفال) ، وكان هذا بعد موقعة بدر . أى إن إنتهوا عن الاعتداء غفر الله جل وعلا لهم .

وبعد فتح مكة سلميا ، وعقد معاهدة سلمية قام بعض أئمة الكفر بنقض العهد بالاعتداء على المؤمنين فى الحرم وانتهاك حُرمته ، فنزلت فيهم سورة ( التوبة ) بالبراءة منهم ، وإعطائهم مهلة الأشهر الحرم كى يتوبوا ويكفوا عن الاعتداء ، فإذا لم يتوبوا فيجب على المؤمنين حربهم بلا هوادة :( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) ، أما إن تابوا فيجب على المؤمنين غفران ما سلف منهم واعتبارهم أخوة :( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) التوبة ).

4 ـ أى أن التوبة الظاهرية تغفر الذنب فى الدنيا وتمنع العقوبة فى الدنيا ، ومنها العقوبات الشرعية فى جرائم الزنا والقذف والسرقة والشذوذ وقطع الطريق ( المائدة ـ 34  ، ـ 39  . النور ـ 5 ،  النساء 16 ) والتوبة القلبية الحقيقية المخلصة يتم بها الغفران فى الاخرة خصوصا لو كانت فى وقت مبكر ، قال جل وعلا : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) . أما العاصى الفاسق أو المشرك الذى يتذكر التوبة عند الاحتضار فلا تنفعه التوبة ، ولا يمكن أن يغفر الله جل وعلا له ( وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18) ( النساء ).

5 ـ أى إن المشرك إذا تاب فى الدنيا وأسرف فى الكبائر ثم تاب وأناب غفر الله جل وعلا له ، وهى دعوة من الله جل وعلا لكل العصاة والمشركين الكفار فى هذه الدنيا ليتوبوا ، وهذا معنى قول الله جل وعلا  : ( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55)( الزمر ).

 أما إذا ماتوا وهم على كفرهم وشركهم وظلمهم فلن يغفر الله جل وعلا لهم يوم القيامة . وهذا معنى قوله جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48) النساء )، (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) النساء )، (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) المائدة  ) ، ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (65) الزمر ).

6 ـ الموت ايضا هام أيضا هنا ؛ فالذى يظل سادرا فى كفره الى أن يموت على كفره وظلمه تحلّ به اللعنة فى الآخرة ، يقول جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ (162) البقرة ) ، والذى يظل سادرا فى كفره الى أن يموت على كفره وظلمه سيحلّ به فى الآخرة عذاب شديد يتمنى معه أن يفتدى نفسه بكنوز الأرض لو كان يملكها : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوْ افْتَدَى بِهِ ) (91) آل عمران ). وهناك من المنافقين فى المدينة من مات على كفره ، وأخبر بحاله رب العزّة فى القرآن ومنع النبى محمدا عليه السلام من الصلاة عليه : ( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) التوبة ).

7 ـ والعادة أن الذى يدمن الكفر ويتمسك به فلا فائدة من هدايته ، وكان النبى محمد عليه السلام يحزن بسبب تصميم هذا الصنف على الكفر فقال له ربه جل وعلا : ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) فاطر ) .

هذا الصنف الذى ( طُبع على قلبه ) وأصبح مريضا بالكفر يزداد بالأيام كفرا ، ويموت بهذا الكفر بلا توبة . وعن مقارنة المؤمن الذى يزداد بالقرآن إيمانا بالكافر الذى يزداد رجسا الى أن يموت بكفره يقول جل وعلا : (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) التوبة ). ولهذا يهتم المؤمن بأن يظل مؤمنا حتى موته ، أى يتوفاه الله جل وعلا على الاسلام ، وهذه هى دعوة يوسف عليه السلام :( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) يوسف ) ،ودعوة المؤمنين : ( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) الاعراف ) ،( رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) آل عمران ).

8 ـ وعند الموت تختلف المواقف مع ملائكة الموت ، فهى تبشر من يموت كافرا بجهنم : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) النحل ) وتبشر من يموت مؤمنا بالجنة ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32) النحل ) .

9 ـ ولكن ما هى فائدة أن يقول جل وعلا للناس : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48) النساء )، (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) النساء )، (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) المائدة  ) ؟ ؟

إن القرآن هو الرسالة الخاتمة للبشر من عهد النبى محمد والى قيام الساعة . وهو فى كل وقت يخاطب الأحياء الذين منحهم الله جل وعلا الحرية المطلقة فى الايمان أو الكفر ، فى الطاعة أو المعصية . الله جل وعلا يخاطبهم بالقرآن يعظهم ويحذّرهم وهم أحياء لديهم فرصة التوبة والصلاح قبل أن يأتى الموت . يحذرهم من الشرك الذى لو ماتوا به فلن يغفره الله لهم . وفى نفس الوقت يدعوهم الى التوبة والصلاح وهم أحياء ، والله جل وعلا يغفر الذنوب جميعا لمن تاب وأناب . فى عصرنا ـ ونحن الآن أحياء ـ يخاطبنا رب العزة يحذرنا نت تقديس البشر والحجر ، وعبادة ( محمد والصحابة والأولياء والأئمة ) وتقديس كتب البخارى وغيره . وسنموت ، ومنّا من ظلّ مشركا حتى لحظة الاحتضار فيصرخ بلا فائدة يطلب فرصة أخرى ليتوب ويصلح أعماله ، ولكن بلا فائدة : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)( المؤمنون ) . ومنّا من أسلم لله جلّ وعلا وجهه حنيفا بنفس ما كان الأنبياء وخاتم النبيين يفعلون عليهم السلام ، وعند الموت ينطبق عليهم قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) فصلت )

الثالث عشر :

ومن هنا نفهم الاعجاز فى إختيار اللفظ فى قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) الانفال )

كان السياق يقتضى أن يقال ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ( ثم هم ) إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ  ). ولكن من الإعجاز فى إختيار اللفظ أن يقول جل وعلا ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) لماذا ؟

الآية الكريمة تتحدث عن الكفر السلوكى ، أى بالاعتداء الآثم لاكراه المؤمنين فى دينهم ، وهذا ما كانت قريش تفعله ، وهى تطارد المؤمنين بالحروب الاعتدائية حتى يردوهم عن الاسلام ويرجعوهم للكفر ، يقول جل وعلا : (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)   البقرة ). وفى هذه الحرب كانوا ينفقون أموالهم ليصدواعن سبيل ، وكانت نتيجتها حسرة عليهم . وعرض عليهم رب العزة أن يكفّوا عن الاعتداء ليغفر لهم :( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ) (38) الأنفال ) ، ومنهم من مات على كفره ، ومنهم من ظل حيا وأسلم وحسُن إسلامه . وبالتالى فلو قال رب العزة :  ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ( ثم هم ) إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ  ) لأصبح المعنى أن جميع من كان ينفق أمواله فى الصّد عن سبيل الله سيُحشرُ الى جهنم حتى لو تاب وأناب . وهذا يتعارض مع القرآن الكريم ، ودعوته للتوبة . لذا قال جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) الانفال ) ليجعل جهنم مصير من يموت منهم على كفره بلا توبة .

الرابع عشر :

ومن الإعجاز فى إختيار اللفظ  قوله جل وعلا : ( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )  (212) البقرة )

 كان السياق يقتضى أن يقال :( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ ( آمنوا ) فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )(212). لم يقل ( الذين آمنوا ) ولكن قال (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) . لماذا ؟ لأن مجرد الايمان لا يكفى لدخول الجنة وأن يكون فى ( عليين ) ، بل لا بد أن يكون إيمانا مخلصا الدين لله جل وعلا ، ولا بد أن يصحبه عمل صالح . أى لا بد أن يكون (تقوى) يعلو بها المتقون فى الجنة على الكافرين . والجنة لا يدخلها إلا المتقون . (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً (63)،( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً (86)( مريم ) ، (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً )(71) ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً  (73)  الزمر ). لهذا جاء (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا ) فى مقابل الذين كفروا يوم القيامة ، حيث سيكون المتقون فى عليين فوق الذين كفروا.

ونقرأ هذه الآيات الكريمة التى توضّح الموضوع وتفصّله : (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) المطففين ) .

ودائما : صدق الله العظيم .!!

اجمالي القراءات 11940