مشروع الحوار القروي (1:6)

سامح عسكر في الجمعة ١٣ - سبتمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

منذ أيام كنت في زيارة لقريتي ومسقط رأسي في محافظة الغربية،وقفت فيها على العديد من الشواهد الدالة على تغير مجتمعي وفكري جديد، أول هذه الشواهد هو اختفاء أعضاء الإسلام السياسي من المشهد الاجتماعي، بمعنى أنني حضرت حفلاً للزفاف كان الحاضرين في مجملهم ليسوا حزبيين، ولا علاقة لهم بالسياسة سوى حُبّهم الواضح للفريق أول عبدالفتاح السيسي باعتباره بطلاً شعبياً نجح في تخليصهم من الإخوان وتجار الدين..هي حالة فكرية جديدة نجمت عن فشل الإخوان في حُكم مصر وخروجهم بطريقة مهينة وعنيفة، وقد أثر ذلك على المشهد الاجتماعي للقرية.

فالإخوان كانوا -في السنوات الأخيرة-في مقدمة المشهد الاجتماعي والخَدَمي ..وكانوا لا يتركون حفلاً للزفاف أو سرادقاً للعزاء أو مطلب خدمي أو اجتماعي لأبناء القرية إلا ويكون للإخوان حضور رسمي فيه، لكن اختلف الوضع هذه المرة، فلم أرَ الإخوان في مقدمة المشهد كما تعودت، في مقابل ذلك كان المشهد يدل على أن أي تجمع بشري للأصدقاء أو للأقرباء لا يخلو من الحديث في السياسة واجتماع الحضور على ذم الإخوان والشيوخ بالمجمل وتورطهم في السياسة..

في القهوة في الشارع في زيارات الأحباب لبعضهم..الجميع في حالة وِفاق سياسي لم أعهدها من قبل، ومع ذلك كنت من توقع حدوث هذا الأمر كنتيجة طبيعية لفقر الإخوان السياسي، والذي هو نتيجة لفقرهم المعرفي وضيق أفقهم عن توسيع معارفهم في علوم العقل والمنطق والفلسفة، تلك المعارف التي إن اختفت من المشهد حل محلّها التعصب والجهل والخلط والقياسات الفاسدة والطاعة العمياء وما إلى ذلك من أمراض نهشت في عِظام الأحزاب الدينية وتابعيها.

لكن مع ذلك بقي أبناء القرية -بفقرهم وجهلهم- عُرضةً للاستغلال مرة أخرى ، وهو تحدٍ جديد للدولة أن تملأ هذا الفراغ بقوة بعد أن ملأته تلك الجماعات في الماضي ، لابد للدولة أن يكون لها دور واضح وقوي في ثقافة أهل القرية، وأن لا تتركهم عُرضة لتجار الدين وأصحاب المنافع، فالدولة في مقام الراعي والقائد كونها تملك كافة الإمكانيات في التواصل بين أهل القرية وتثقيفهم، وإليها تسكن مشاعر الفلاحين باعتبارها مصدر المواد الزراعية لديه، وهي الكيان الاعتباري الذي يتحكم في طريقة ومعيشة الفلاح.

لابد وأن تتنوع مصادر الثقافة في القرية، لأن الواقع يحكي عن مصدر واحد ووحيد في التثقيف...هذا المصدر هو شيخ المسجد، فهو أبو العلوم وأهل الثقة والأمن معاً، وكلماته ورنين أصواته في الأذن تُشبه كلمات القرآن وأصوات الأنبياء، فالشيخ يقبع في مكان الوعظ والعلم معاً.. كمكانٍ لا يخالجه أحداً سواه، وباجتماع الوعظ والعلم يكون التصديق.

لقد حاولت الدولة أن تُعالِج هذا الجانب باتباع سياسة أكثر صرامة في السيطرة على المساجد، ولكن هذه السياسة فشلت لسببين اثنين:

1-أن أكثر من 40% من مساجد مصر هي خارج سيطرة الدولة، وهي رافد من روافد المال والتكافل والدعم من جهات معينة لها مصلحة لنشر أفكارها ومذاهبها الدينية، وأخص بالذكر المذهب السلفي الحنبلي، أي أن اتجاه الدولة للسيطرة على تلك المساجد سيُقابله إنشاء مساجد أخرى تتجدد بالفكرة الأصلية القابعة من ورائها، هذا بافتراض نجاح الدولة في السيطرة، وأشك في ذلك لأسباب مالية وقانونية، حتى النسبة الأخرى التي تعادل 60% هي رهينة لاختراق تلك الجماعات للأزهر، فلو نجح الأزهر في التصدي لهذا الاختراق وحصار تلك الأفكار سينجح في السيطرة على المساجد.

2-أن الأزهر الشريف لا زال عاجزاً عن إجراء أي مراجعة للتراث ، والعجز ربما يكون هو نتيجة للخوف من الدخول في هذا المسلك، فالبعض يعتبره شائكاً لأسباب تتعلق بالهوية، فلو نجحوا في علاج الهوية -وبالأخص الهوية الدينية-ربما يمتلكون الشجاعة في الإعلان عن أول مراجعة للتراث وتضمينها في مناهج التعليم وتعميمها لنشرها في المساجد.

نعم هو طريق طويل وصعب ولكنه مفعم بالأمل في علاج أحد مصائبنا الفكرية التي تُغذّي جماعات الإرهاب والإسلام السياسي ، فمهما فعلت الدولة ومهما فعل الأزهر -في علاج تلك الأفكار المنحرفة- فلن ينجح إلا بعد إجراء تلك المراجعات التراثية، لابد من رؤية جديدة لعلم الحديث والفقه معاً، لابد من رؤية موحدة للآخر وتكون قوية وقائمة على أساس عقدي ومنطقي صلب، يسهل بعد ذلك مخاطبة الناس به، لابد من رؤية جديدة لقضايا غيبية لا تدخل في صلب العقيدة كالمسيخ الدجال والمهدي المنتظر ونزول السيد المسيح وعذاب القبر وما إلى ذلك من عقائد كانت محل شك للأولين والآخرين معاً، فهي عقائد انعزالية تُعطي صورة لليوم الآخر مخالفة تماماً للقرآن وللعقل وللمدنية وللحضارة بالعموم.

علاوة على ذلك لابد من الخوض في مسألة الحدود بجُرأة ومناقشة القضايا محل الخلاف في هذا الجانب، وأهم تلك القضايا على الإطلاق هما الحدين الأشهر بين طلاب العلم والمعروفين.."بقتل المرتد ورجم الزاني المحصن"..فهما حدين يُمثلان لدى الجماعات أسطورة سياسية للسيطرة على الجريمة والفاحشة معاً..ولكن برداء ديني بدعوى حفظ الدين،رغم أن هناك دولاً كانت ولا زالت تطبق تلك الحدود، إلا أنها شهدت ارتفاعاً في معدلات الجريمة والفاحشة عكس المرغوب.. بما يُعطي التساؤل حول صحة وجودهم في الدين أساساً.

هي دعوة للعلم وللدين لن تنجح في الحشد دون الدعوة للحوار المجتمعي الواسع، وأول هذه المجتمعات هو مجتمع القرية، فتقريباً هذا المجتمع هو أصل الثقافة للمجتمع المصري، وهو المؤثر الدائم على الدولة واستقرارها.

وما كانت ثقافة الحَضَر إلا معلماً من معالم عدم الثقة بين المدينة والقرية في الوعي المصري، فقديماً شاع بين المصريين أن الأثرياء هم أهل الحَضَر والسلطة معاً، بينما الفقراء هم أهل القرية وعوام الشعب المطحونين،علاوة على الرؤية الدينية الصوفية لأهل القرية ..في مقابل الرؤية الدينية المدنية لأهل الحضر، فكان الخلل بين المصريين ذو معالم اجتماعية ودينية وسياسية ممتزجة يصعب معها أن تتقدم المدينة في تثقيف وتأهيل القرية.

لكن في تقديري أن معالم ومظاهر المدنية الحديثة للقرية المصرية -والتي تتمثل في بعض العادات والمظاهر والسلوكيات التي ظهرت مؤخراً على القرويين وجعلتهم أقرب من حيث الشكل والسلوك للمدنيين -هي مظاهر تسبب فيها الإعلام وسرعة التواصل في المقام الأول، لكنها أصابت الشكل ولم تُصِب الجوهر الذي لا زال أسيراً لثقافة وأعراف أهل القرية، وهي حالة جديرة بالبحث والدراسة ربما لا يتسنى لنا بحثها الآن باستفاضة، وسنكتفي بالإشارة إلى أن الأزمة ما بين الريف والحَضَر في مصر- والتي ناقشنا بعض جوانبها في السطور الماضية-ستكون هي العائق أمام أي تواصل جدي بينهم يدفع باتجاه ديني وثقافي متمدن، لكن وفي تقديري أن الاتجاهات المتفق عليها- والتي يمكن البناء عليها مستقبلاً- هو أن يكون الدين هو الضابط الاجتماعي الأول في المجتمع المصري.

وبالحوار حول هذا الضابط يمكن الاتفاق على أن الفكرة الدينية هي أخلاقية في المقام الأول، والسبب أنها مسّت جانب الاجتماع، أما الفكرة العقائدية فهي لا يمكن لها أن تُوجد دون فكرة أخلاقية ضابطة للإنسان وللمجتمع سواء، بمعنى أن الأخلاق في الدين يمكن لها أن تكون دون عقيدة، ولكن العكس غير صحيح، فلا يجوز أن تكون هناك عقيدة بلا أخلاق، وأظن أن الأخيرة ماثلة لدى الجماعات بقوة، وهي موطن الداء الجالب للإرهاب والظلم، إضافة إلى أنه ليس المقصود بالفكرة الأخلاقية هو اعتبار الأخلاق دين منفصل ومستقل، بل هي حالة متجددة ومتغيرة مرهونة بالظاهرة الثقافية التي يُنتجها الدين، فالأخلاق بدون دين ستكون نسبية لخضوعها للإنسان وأهواءه، وبالتالي سنكون في حاجة ماسة للتعريف والفصل بين الدين –بعمومه وشموله-وبين العقيدة النسبية التي يتفاوت عقل الإنسان في تصورها.

الإسلام -على سبيل المثال -هو دين عام وشامل، ولكن المسلمين في تصورهم لعقيدته اختلفوا ما بين أشاعرة ومجسمة وماتوريدية ومعتزلة، علاوة على العديد من الخلافات العقائدية بين السنة والشيعة، وبين الشيعة وأنفسهم وبين السنة وأنفسهم.. فنحن أمام .."دين وعقيدة".. ولسنا أمام.."عقيدة واحدة"..وإلا أصبح جميع المسلمون كُفّاراً عند بعضهم البعض.

هنا تكون مادة الحوار بين أهل القرية وأهل المدينة، وهي أن الدين بعمومه هو أخلاق كمبدأ أول يتفرع تحته بعض العناوين والنماذج التي نعتقدها جميعاً، ثم نختلف كثيراً حولها ونظن أنها الدين-المبدأ الأول-وهذا غير صحيح-نخلص بعد ذلك إلى نتيجة مُرضية للحوار نؤهل فيها أهل القرية للحوار مع أنفسهم، وألا نتركهم فريسة لتجار الدين الذين جعلوا أنفسهم حراساً للعقيدة ،فخلطوا الدين بالعقيدة وبالأخلاق حتى انهارت أخلاق الجماعة ومعها انهارت أخلاق المجتمع نفسه..والسبب أنه لا يمكن تدريس الأخلاق وخلطها بالعقيدة إلا وظهرت في الناس معالم الوصاية والتكفير، فتدريس العقيدة يعني اعتقاد الحق المطلق في مسألة، وبعد دمجها بالأخلاق يتعين على الطالب-حينها-أن يكون حارساً لتلك العقيدة كمسألة أخلاقية.

اجمالي القراءات 7370