حصاد غياب المخلوع
رسالة إعتذار لسيدنا الرئيس حسني مبارك!

محمد عبد المجيد في الثلاثاء ١٠ - سبتمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

رسالة إعتذار لسيدنا الرئيس حسني مبارك!

لعلك انتظرت هذه الرسالة ردحا من الزمن كواحدة من نصوص العبيد الذين يزداد دائما شوقهم إلى السيد الأول فهو كالحب الأول مهما تنقــَّـل ظهرُ العبد من كرباج إلى آخر تظل اللسعات والضربات التي تحفر أخاديد في الظهر شاهدة على الحنين إلى العبودية المختارة.

أحسب أنك خـَـبـَـرتَ قلمي فقد وضعتُ أنا سِنـَّـه الحاد في عينيك لربع قرن أو يزيد، وفضحت طغيانك وجهلك وغباءك وقسوتك وساديتك في مساحة من الصمت في محمية من صفوة العلماء والفقهاء والقضاة والمحامين والإعلاميين والمثقفين، إلا من رحم ربي فألهمه الشجاعة مع الإيمان مع حب الوطن.
سنوات ثلث العُمر تقريبا قضيتها وأنا أكتب وأنشر وأربط كل معركة مع طغيانك وكلابك وحيتانك بأخرى تسبقها أو تلحق بها، لكن أملي كان أقرب إلى سدرة المنتهى من قوته ووهجه، وكل عام أستبشر بأنه عام سقوطك ثم أقوم بترحيل الحلم إلى العام التالي لعلي أراك كما وصفت بالتفصيل في مقالي ( وقائع محاكمة الرئيس حسني مبارك).
عندما حرمتني من زيارة بلدي وأهلي وأحبابي لأحد عشر عاما انتابني فضول في أول زيارة خلال شهر مايو 2011 لأقوم بتهنئة شباب الثورة، وسألت من عندهم علم بالأسرار والأمن ظنا مني أن مباحث أمن الدولة هي التي وضعت اسمي في المترقب وصولهم، فإذا بالمفاجأة غير المفاجـِـئة: الذي أمر بوضع اسمك في القائمة السوداء للمترقب وصولهم كان مبارك شخصياً، فقد أوجعته كتاباتك، وحملاتك للعصيان المدني، وموقعك الخاص بحشد المصريين للاطاحة بالرئيس، ومجلة طائر الشمال وغيرها ,, وغيرها.

سكن ميدان التحرير صدري، وسكنته أحلامي، فأصبحت سنواتك العجاف مداد قلمي، وتابعت عن كثب كل صور الإيلام والتعذيب والسرقة والنهب والظلم والبغي التي غطيت أنت وأسرتك بها وادي النيل حلايباً وشلاتينا وثغراً مروراً بقاهرتنا التي قهرتـَـها ثلاثين عاماً فلاذت بالصمت، ربما انتظاراً للخامس والعشرين من يناير.
لو اجتمع إبليس وذريته من الجن وتلاميذهم من الإنس للتخطيط لما بعد خلعك ما استطاعوا أن يحاكوا هذه الخطة الجهنمية، التي ظهر في هوامشها كأنهم من صلبها جنرالات، ومشير، وأحزاب، وقيادات، وقضاة، ومحكمة، وشهود، ومشفى فاخر، وبنوك عربية وأجنبية، وإعلاميون سلوليون صنعهم النفاق، وباعهم الجبن لكل من عمل معك ولو لوقت قصير.

لو رسمت المشهد الآن بتفاصيله لوجدت في كل حواشيه شيطانا يرقص عارياً، فكل الخطوط حمراء، وكل الحملان صامتة، وكل الذئاب جائعة، فلا أحد يقترب من مليارات نهبتها من جيوب أطفالهم، ولا أحد يقوم بتصوير حياتك وحياة كلابك في ( طره ) أو في المستشفيات الفاخرة، ولا ضمير واحد، واحد فقط، لقاض أو مستشار أو نائب عام أو رئيس محكمة دستورية أو مسؤول كبير أو جنرال في الجيش أو الشرطة أو أعلى رجل دين كان بامكانه أن يطالب بمحاكمتك عن ثلاثين عاما قضيتها وأنت تجهنم مصر وتجـْـحـِـمها وتقبـْـرها وتقـزِّمها.
كل الناس، أو أكثرهم، ختم الله على عيونهم غشاوة أن ترى أبعد من أرنبة أنفها، فأنت كنت الأول والآخر، والظاهر والباطن، والأكبر والأبهى حتى وأنت تجيب على المستشار، سيء اللغة، أحمد رفعت، بعدما قرأ ستين ألف صفحة فبرَّأ جمالك وعلاءك، وقبل ذلك اتفقت سوزانُك، أم الوريث ومحرضته، مع السلطة في كل عصورها المشيرية والمرسية والحاضرة أنْ لا يقترب أحد منكم.

المهيمنون على المسرح يعلقون بين أصابعهم خيوط العرائس، والمشاهدون، أذكياؤهم وحمقاهم، لا يبحثون عن الخيط ويظنون أن العرائس تتحرك من نفسها.
ولعب تلميذك المشير دوره بمهارة فائقة فغطى على جرائمك، ومنحك الفرصة عدة أشهر في شرم الشيخ لكي تدبر أمر برائتك، وتخفي أموال شعبك المنهوبة، ثم قام بتسليمك لأسوأ قضاة العصر في جريمة القرن، فأغمض عينيه، وجاء المبررون، اخوان الشياطين، يتحدثون عن القضاء الشامخ والنزيه، وعن أن الرجل يقرأ ما أمامه من أدلة تدينك رغم أن كل حبة رمل في مصر تلعنك، وتبصق في وجهك.
سيدي الرئيس،
وكنت أنت محقاً في أن من تأمر باغتصابه سيعود إليك متوسلا أن تغتصبه مرة أخرى، ومن تدس أنفه في التراب سيأتيك راكعا وساجداً تحت اسم ( أبناء مبارك ) أو ( إحنا آسفين يا ريس )، فلما جاء عهد أحفاد البنا وتعلق في ذيولهم المتطرفون والارهابيون والقاعديون ومن تحصن في سيناء المحررة، وحكم مصر متخلف عقليا، ومعاق ذهنيا، ومتطرف طائفيا جعل البلهاء في خلال عام يتحسرون ويندمون ويتشوقون لكفك فوق أقفيتهم، وأسدل الستار على أخبث واسخف وأحط وأبلس مشاهد مصر منذ بناة الأهرام.

هل تصدق، وأظن أنك تعرف، أن العبيد يرسلون إليَّ مستفسرين عن سبب كراهيتي لك وهل هو ثأر شخصي بيني وبينك، وليس بين المصرين وبين مخلوعهم اللعين.
هل سمعت عن شاة بعدما مزقها الذئب، وافترسها، وغرز كل أنيابه في جسدها الرقيق، تعود إليه باكية، وادعة، حزينة، وتطلب منه أن يعيد إليها الحياة ثم يفترسها مرة أخرى؟
إنه الحال الآن، ورجالك وكلابك ( أحيانا لا استطيع التفرقة بين الرجل والكلب) قفزوا من جديد وكلما فتحت صحيفة ورقية أو الكترونية أو أطل عليَّ وجه من الشاشة الصغيرة وجدت أحدهم أو بعضهم في خطاب مستتر أو مفضوح، يمهد الطريق لك، ويلـَّـمعك، ويؤهلك لاستعراض حرس الشرف من جديد، فطعم الأحذية بعد لعقها ثلاثين عاماً يظل عالقا في شعيرات اللسان كأنه منها.
سيدي الرئيس،
أعترف لك رغم كراهيتي لاسمك وعهدك وجرائمك وشيطانيتك وكل يوم من حُكمك اللعين أنك كنت أذكي وأحنك من الدولة كلها، وقضيت فترة محبسك طليقا في مشفاك الفاخر، ودفعنا ثمن علاجك، والتزمنا الصمت حيال ملياراتك التي نهبتها منا، واشتريت الضمير المصري بثمن بخس أو بخوف رخيص أو بذاكرة مثقوبة، أو ببلادة لا يفرق معها أن يتم اغتصابها جهرا أو سرا، تتلذذ أنت وكلابك بفضلات أمعاء أطفالها الجائعين خفية أو علانية.
إذا مت، لعنك الله دنيا وآخرة، فستخرج جنازتك في استعراض عسكري مهيب، ولن يفهم طفل واحد في أي مدرسة في القرون القادمة شيئا وهم يحدثونه عن أخبار مصر في عهدك الجائر.

سيدي الرئيس،
لم أكن أعرف انك ستضحك في النهاية، وأنني سأعتذر إليك رغم أن كراهيتي لك تضاعفت، ولكن الأمة كلها صفحت عنك، والضمير الذي اشتريته ارتشفناه مع مياه النيل، والذاكرة المثقوبة بمليون مظاهرة مليونية، والصلاة لرب العالمين لم تحرك بين جوانحنا ذرة يقين بأنه، عز وجل، الأكبر.
منذ خلعك الظاهري نشرت عشرات المقالات والاستجداءات والتوسلات لمحاكمتك عن ثلاثين عاما، ولاسترداد أموالنا، وللقصاص عن ربع مليون مصري مروا على زنزانات سجونك السوداء، ورجال اغتصبهم رجالك في أقسام الشرطة بأمرك، وفساد نخر في عظام الأمة، وبيع لأراض وسرطنة طعام وتسميم مياه وأفكار وثقافة وإعلام، وشهداء بالمئات، لكن مصر ومصرييها ضجروا، وأصابهم الملل من تكرار حديثي، وكرهوا تذكيري إياهم بأن ظهورهم ما تزال ملتهبة من لسعات سوطك.

سيدي الرئيس،
المصريون منشغلون بالتكفير والتكفير المضاد، وبالرابعيين، وبضحكات مجلجة من( الجزيرة) وبشهداء من جنودنا الغلابة في العريش وسيناء وغيرها، لذا فهم لا يقتربون من لعنتك الفرعونية غير المحنطة، فالاقتراب يحتاج إلى ضمير، والضمير غائب، ورجالك في الإعلام، والأسماء التي كانت تعبدك عادت إليها أعمدة الصحف، وبعض الناس تتمنى أن تعود إليها لتتبول فوق رؤوسها كما فعلت طوال ثلاثة عقود.
أصحاب النار في الآخرة يبررون في الدنيا كل أفعال الشياطين، وقد خرجوا من كهوفهم ولم يعد يخلو مكان من أحدهم.
رجالك يحصدون جوائز في التمثيل فمنهم من أعتلى منصة لجنة تعديل الدستور، ومنهم من أصبح وجهه أكبر من الشاشة الصغيرة، ومنهم من يقهقه تهكميا على من يتحدث عن الضمير اليقظ.

عندما زرت مصر لأول مرة بعد حرمانك إياي سنوات طويلة واستقبلني شباب الثورة وهم في عمر أولادي ظننت أنك انتهيت، وأن الرسالة السماوية نزلت من جديد على ميدان التحرير، فاختطفها المشير، ثم سلمها لجماعة إرهابية كانت محظورة فأصبحت محظوظة، وخرج الشعب كله، تقريبا، باستثناء مراسليي الجزيرة، يلعن مرسيهم وبديعهم وشاطرهم وعريانهم، ومع ذلك فجنرال لا يشبه المشير في شيء استجاب للشعب، لكنه لم يحرك ساكنا بعد في اعادة خلعك وضم المشير إليك والحاق مرسي بكما في زنزانة واحدة.

سيدي الرئيس،
قل لي بربك، إن كنت تؤمن بالله، كيف استطعت أن تشتري ضمائرنا كلها دفعة واحدة، حتى أقدم إليك اعتذاري الشديد عن ربع قرن من عمري قضيته في تعريتك فإذا بي أكتشف أننا نحن العراة.؟
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 10 سبتمبر 2013

اجمالي القراءات 8721