نحن وأمريكا .. وفصام الشخصية العربية

عمرو اسماعيل في الخميس ٠٨ - فبراير - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

لعل اهم صفة نتصف بها فيما يسمي العالم العربي أننا نقول مالا نفعل و نفعل ما لا نقول ونظهر غير ما نبطن .. والأدلة علي ذلك كثيرة .. ولعل أهمها ما تعلنه حكومتنا ويعلنه رئيسنا يوميا علي صفحات الجرائد و شاشة التليفزيون ... فلو كان يفعل ما يقول لكانت مصر اقوي و اغني دولة ليس في الشرق الأوسط فقط بل في العالم كله .. ولكانت اكثرها ديمقراطية ولوجد الغلابة لقمة العيش والشباب فرص العمل بدلا من التسكع علي المقاهي..
دعنا من الحكومة والرئيس فلسنا ندا لهما.. حتي لا تحرمنا من هامش الحرية الذي تعايرنا به الحكومة ليل نهار.. ولنناقش قضية أخري في نفس النطاق و هي قضية علاقتنا بأمريكا نحن الشعب و ليس الحكومة, فالحكومة حرة فيمن تحب و تكره والحقيقة أنه ليس لنا سلطان عليها فنحن مجرد رعايا لها. دعنا نناقش علاقتنا نحن الغلابة من عامة الشعب و مثقفيه بأمريكا التي اعتقد اننا نحبها في السر ونلعن سنسفيل أبوها في العلن حتي لا يتهمنا أحد بالعمالة والعياذ بالله ....

ولنرجع قليلا الي الوراء عندما كان من الوطنية أيام جمال عبد الناصر ان يظهر الفرد منا عدائه لأمريكا ولم تمضي سنوات قليلة بعد حرب 73 التي انقذت فيها امريكا اسرائيل من الدمار كما ندعي ... زار نيكسون مصر فكانت المفاجأه له ولنا ان الشعب المصري استقبله افضل من الشعب الأمريكى نفسه.. و أرجو ألا يدعي أحد ان هذا الأستقبال كان موجها لأنه في الحقيقة كان استقبالا عفويا يعبر عن المشاعر العفوية للشعب مثلما كان تأييد الشعب للسادات في زيارته للقدس و مثلما كان خروجه لتأييد جمال عبد الناصر بعد هزيمة 67 النكراء , مشاعر عفوية شكلها متناقض و لكنها حقيقية.

فغالبيتنا نحب أمريكا في السر ونتسابق للهجرة اليها والدراسة فيها بل ويضع أثرياء أمتنا حساباتهم بها .. ثم نعلن كراهيتنا لها في العلن لإثبات وطنيتنا وشجاعتنا وتديننا .. و حتي لا نتهم بالعمالة والزندقة الي غير قائمة الاتهامات المعتادة ..

ويجب هنا ان نفرق بين أمريكا كحكومة و امريكا كشعب و نظام و طريقة في الحياة ودولارات .... هل يستطيع ان ينكر عاقل أن الشعب المصري خاصة والشعب العربي عامة يثق في الدولار أكثر من عملته الوطنية وأننا نتكالب علي اكتنازه ... ثقة في النظام الاقتصادي الأمريكي مهما حذرنا جهابذة الأقتصاد عندنا واكدوا العكس.

ولهذا يا سادة ساقول لنفسي و لكم الحقيقة بصوت عالي في محاولة مني للشفاء من حالة فصام الشخصية التي أعاني منها كفرد ينتمي الي هذا المجتمع .. أنا لا أخفي إعجابي بالدستور الأمريكي الذي قام علي أفكار فلاسفة التنوير في أوروبا وكفاح الأباء في أمريكا .. علي رأس هؤلاء الفلاسفة الفيلسوف الإنجليزي الشهير جون لوك ... ذلك الدستور الذي حول مجموعة من المهاجرين المضطهدين والمغامرين و اللصوص الي اقوي شعب في العالم ... و لا أخفي إعجابي بمارتن لوثر كينج زعيم الحقوق المدنية للسود و خطبته الشهيرة إني أحلم.. فهل أعجابي هذا يجعلني عميلا لأمريكا؟
هل إيماني أن كتاب جون لوك القيم و الصغير في نفس الوقت رسائل في التسامح لابد أن يدرس في مدارسنا يجعلني عميلا لأمريكا.
هل اقتناعي ان نظام التعليم و الامتحانات و التدريب في أمريكا (وأنا أتكلم من منطلق مهنة الطب التي أنتمي أليها) هو أفضل نظام في العالم ... أفضل حتي مما هو في بريطانيا التي تدربت بها و احمل شهاداتها, يجعلني عميلا لأمريكا؟
هل اقتناعي أن العلمانية المطبقة في أمريكا والتي تحترم حرية العقيدة فعلا و التي قدرنا موقفها عن فرنسا في قضية الحجاب ... هي علمانية متنورة و صنوان للديمقراطية... يجعلني عميلا لأمريكا؟

لا يسعني الا أن أسأل نفسي هذا السؤال كلما و جدتني أنادي بالديمقراطية و الحرية و حقوق الإنسان.. فأنا أومن أن القضاء علي بذور التطرف و الإرهاب البدني و المعنوي هو في اصلاح مناهج التعليم و منابع الثقافة في مجتمعاتنا لكي يصبح التفكير الحر الخلاق هو الأساس وليس التلقين و الحفظ والنقل من التراث الذي لابد أن يؤدي الى الجمود و التطرف و في النهاية العنصرية.

أليس هذا ما تنادي به أمريكا .. فهل إذا تطابقت وجهات النظر مع أمريكا في وقت ما وفي مرحلة ما يعتبر هذا عمالة لأمريكا ..

نعم أنا مثل الكثير من مواطني مصر و العالم العربي بل والعالم أجمع بل وداخل أمريكا نفسها .. أستنكر السياسة الخارجية لأمريكا و أكره انحيازها لإسرائيل و لا أعتقد ان مطالبتها لحكوماتنا بمزيد من الديمقراطية و احترام حقوق الأنسان هو حبا في سواد عيوننا أو عطفا علي شعوبنا المقهورة ولكنها مصلحة امريكا .. هي التي املت عليها هذا الموقف , فأمريكا بعد 11 سبتمبر أدركت بعد فوات الأوان ان منابع الإرهاب هي في الأساس نقص الديمقراطية و التنمية الاجتماعية و سيطرة السلفية الدينية علي الساحة التعليمية و الثقافية في بلادنا ... وأنا و غيري ممن يؤمنون بضرورة الإصلاح يتفقون مع أمريكا في هذا التشخيص رغم أنهم يؤكدون في نفس الوقت أنه تشخيص ناقص لأن أمريكا تتجاهل واحدا من أهم منابع الإرهاب في منطقتنا ألا و هو عدم الوصول الي حل دائم و عادل للقضية الفلسطينية... فهل يعني اتفاقي و غيري مع أمريكا في ضرورة تبني حكوماتنا للديمقراطية ومفاهيم العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان ليس فقط لقطع الطريق علي الإرهاب و تجفيف ينابيعه ولكن و هو الأهم لأن شعوبنا قد عانت الكثير من النظم الشمولية . فهل اتفاق البعض مع أمريكا في هذه النقطة يجعلهم عملاء لها.

نعم إني أتفق مع أمريكا أن ثقافتنا الناتجة أساسا من مناهجنا التعليمية هي ثقافة ترفض الآخر و لا تقبل التعايش معه بل و تبيح دمه عند المغالين أمثال بن لادن وغيره من السلفيين المتشددين ولننظر الي العلاقة السيئة بين السنه و الشيعة وهما أبناء عقيدة واحدة فما بالك بالآخرين .. فهل مطالبتنا بأصلاح هذه المناهج وتنقيتها مما يثير الضغينة بين أبناء الوطن الواحد يجعلنا عملاء لأمريكا.

قد أكون مخطئا في كثير مما أومن به فلست الا بشرا .. ولكنني متأكدا أنني و غيري ممن يطالبون بالأصلاح لسنا عملاء لأمريكا او غيرها فأنا وغيري كثيرون مجرد مواطنين مطحونين يبحثون عن العدل و الحرية ويريدون ان يتخلصوا من القهر الذي كتب عليهم .... قهر الحكومات الديكتاتورية وقهر فقهاء السلطة ولا نريد ان نستبدل ديكتاتورا بآخر ... لا نريد أن نستبدل صدام حسين ببن لادن .... أو جمال عبد الناصر بالظواهري او كمال الشاذلي بالمرشد العام للأخوان.

نعم إني أريد الحرية داخل وطنى مثلما يستمتع المواطن الأمريكي بها داخل وطنه, أريد أن يكون لي رأيا فى اختيار من يحكمنى و أن أستطيع أن أغيره سلميا من خلال صناديق الأنتخاب دون أن أضطر لنسفه وسحله ... اريد أن أكون حرا في أن أعبد الله كما أريد ... أن أكون شيعيا او سنيا او درزيا دون ان يتهمني احد أني خارج من الملة ويحل دمي أو يرهبني معنويا ... نعم اني أومن أن مفهوم الولاء و البراء كما يفهمه البعض هو مفهوم لابد ان يفرز متطرفين و إرهابيين وقنابل بشرية و هو مفهوم عنصري لا بد ان يستعدي علينا العالم ليقضوا علينا تماما مثلما فعلوا مع هتلر.

نعم إني أومن أننا لابد ان نحترم الأعلان العالمي لحقوق الأنسان الذي وقعت جميع دولنا عليه أو ننسحب من الامم المتحدة لكي نحتفظ بمصداقيتنا .

نعم إني أومن بالديمقراطية.. وبالطريقة التي تطبق بها في أمريكا .. وكلنا رأينا بأم أعيننا كيف كان يستجدي أقوي رجل في العالم من الشعب الامريكي إعادة انتخابه .. رغم أن مجرد مكالمة تليفونية لهذا الرئيس لأي حاكم من حكامنا تجعله يصاب بنزلة معوية حادة ..

نعم اني اومن ان الدين لله و الوطن للجميع.. فهل في هذا عمالة لأمريكا
نعم أني أحب امريكا كدستور و نظام ديمقراطي يحفظ للمواطن داخل امريكا حقوقه الأساسية حتي لو كان مسلما او حتي بوذيا

نعم اني معجب بنظام التعليم والتدريب و البحث العلمي الأمريكي وبيل جيتس و ميكرو سوفت رغم تنكيتنا عليه أنه ميكرو و سوفت.

نعم اني أومن أن الكثير من الإصلاحات التي تطالبنا بها أمريكا تصب في مصلحة شعوبنا فلماذا نرفضها لمجرد أنها اقتراحات امريكية و نعتبر رفضنا لها وطنية.

أما ما لا يستطيع أن يفهمه عقلي القاصر .. كيف ولماذا يتسابق سلفيون الي الهجرة الي أمريكا ليتمتعوا بكل ما يتيحه لهم نظامها الكافر من حرية ورخاء اقتصادي .. ليمارسون هناك لعن أمريكا وشعبها بل والتنظير لليوم الذي سنفتح فيه تلك البلاد الكافرة الملعونه .. أليس هذا أكبر دليل يصب في مصلحة النظام الديمقراطي الامريكي .. وما لا يستطيع عقلي أن يفهمه لماذا ذهب عمر عبد الرحمن الي أمريكا ليمارس هناك هوايته في التحريض علي العنف .. ليجد نفسه في غياهب السجن لأنه نسي كما يتناسي البعض منا أن التحريض علي العنف مجرم قانونا مثل العنف نفسه في كل الدول المحترمة التي تتمتع بسيادة القانون ..
ومن مفارقات القدر .. أن الكثير من أكثر متشددي المسلمين يتقدمون بطلبات الهجرة الي أمريكا أو اللجوء السياسي وغيرها من الدول الغربية لمعرفتهم أنها المكان الوحيد الذي سيحافظون فيه علي حياتهم .. ومعهم الكثير من أثرياء الخليج .. مثلما فعل سعد الفقية في اللجوء الي بريطانيا .. لأنه يعرف أنها المكان الوحيد الذي يستطيع فيه أن يحافظ علي راسة فوق كتفيه دون أن تطير ..

لكل هذا قررت أن أعلن إعجابي علنا بالكثير مما هو امريكي .. نظامهم السياسي الداخلي وحرية الاعتقاد التي يتمتع بها المواطن الامريكي .. علنا وإن اعترض البعض .. أعبر عن أعجابي علي قدرة ميل جيبسون ان ينتج فيلما عن آلام المسيح و هو بالمناسبة لا يستطيع ان يفعل ذلك الا في امريكا.. وعن إعجابي علي قدرة مايكل مور علي انتاج وأخراج افلام ضد بوش وسياسته .. دون أن يستطيع بوش ولا غيره مصادرة فيلمه وعن إعجابي أن مور متأكد أنه سينام في منزله وليس في سجن لا يعرف أحد مكانه مثلما يحدث في عالمنا ..وعن إعجابي أن أمريكا لم تمنع عرض فيلم شفرة دافنشي فيها وغيرها من الدول الغربية رغم اعتراض الكنيسة عليها وإن لم تطالب بمنعه .. ومنع في مصر وغيرها من الدول العربية ..

لكن هذا لا يمنع ان اعلن استنكاري للسياسة الخارجية الأمريكية و انحيازها الغبي لأسرائيل و ان أدعو الشعب الأمريكي الي أجبار حكومته علي عدم التدخل عسكريا في الشئون الداخليه للشعوب الاخري وعلي الانسحاب في أسرع وقت من العراق وترك الشعب العراقي يقرر مصيره بنفسه.. فكم اتمني ان يمنحني الله القوة أن أظهر ما أبطن و أن أفعل ما أقول..

وكم أتمني ألا يهاجمني من يعيشون في أمريكا ويستمتعون بكل مميزاتها ورغم ذلك يعلنون كراهيتهم لها .. ليس للحكومة ولكن للشعب والنظام .. فالكثيرون من الأمريكيين يعلنون كراهيتهم لحكومتهم ورئيسهم دون خوف .. ولكن لا يطالبون أبدا بممارسة العنف ضد هذه الحكومة وضد الرئيس .. لأنهم يعرفون جيدا أن هذا يضعهم تحت طائلة القانون .. وهذا ما لا تستطيع عقولنا أن تفهمه في العالم العربي أن التحريض علي العنف هو مثل العنف تماما ضد القانون ويضع صاحبه تحت طائلة هذا القانون ....

لنا الله في العالم العربي .. فنحن نعاني من حالة فصام ثقافي وحضاري حادة ..

عمرو اسماعيل

اجمالي القراءات 10140