كتاب الحج ب 4 ف 5 : صحابة الفتوحات صناعة قرشية فرعونية لا إسلامية

آحمد صبحي منصور في الخميس ٠٤ - أبريل - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين

الباب الرابع : إنتهاك المسلمين للبيت الحرام والشهر الحرام

الفصل الخامس  : صحابة الفتوحات صناعة قرشية فرعونية لا إسلامية

مقدمة : قريش الفرعونية

1 ـ حمل صحابة الفتوحات نفس التواتر الجاهلى القرشى والثقافة الجاهلية وثقافة العصور الوسطى فى الغزو والسلب والنهب والاسترقاق . كان العرب يمارسونها فى حروب مستمرة بين القبائل ، ثم أتيح لهم بزعامة قريش ممارستها عالميا تحت شعار الاسلام ، مع أن الاسلام هو دين السلام والعدل والحرية . أى إن صحابة الفتوحات آثروا إخفاء هذه الثقافة طيلة وجودهم الى جانب النبى ، ثم ما لبثوا أن أظهروها وطبقوها بعد موته بوصولهم إلى موقع السلطة . هاجروا من مكة وتركوا قريش ، ولكنهم حملوا ثقافة قريش فى داخلهم ، وانتظروا الوقت المناسب لتطبيق هذه الثقافة الجاهلية باسم الاسلام .

2 ـ  أمر كهذا لا يمكن أن يحدث عفويا . لا بد من وجود خطّة محكمة من خلفه ، خصوصا أنّ الطرف المستفيد هو قريش التى كانت العدو الأكبر للاسلام والتى تخصّصت فى التآمر على الاسلام وحرب النبى عليه السلام ، فإذا بها بعد موت النبى وانتهاء القرآن الكريم نزولا تصبح هى زعيمة الاسلام ، وتستخدم إسمه فى فتوحاتها التى تتناقض مع شريعة الاسلام .

3 ـ قريش فى خطتها هذه لا بد أن تقوم بزرع عملاء لها حول النبى ، وهذا منتظر فى حالات الحرب والصراع . وعن طريق هؤلاء العملاء نجحت قريش فى قيادة المسلمين الى حرب عالمية أقامت بها امبراطورية عاتية . وهذا يستلزم تحقيقا بحثيا ، كيف مكرت قريش ؟ وماهى خططها ؟ وما هى طبيعة تآمرها ؟  موضوع هذا التحقيق سيكون فى الفصل التالى ( رقم 6 ) . ولكن فى البداية نشرح فى هذا الفصل كيف أنّ صحابة الفتوحات هم إمتداد لقريش زرعتهم حول النبى ، هم صناعة قرشية وليسوا صناعة اسلامية . وحتى نتعرف على هذا المنتج الصناعى ( صحابة الفتوحات ) لا بد أن نتجول فى المصنع نفسه : ( قريش ) لنتعرف فى هذا الفصل على ملامح قريش من خلال القرآن الكريم ، وكيف أنها كانت تسير على سُنّة فرعون .

4 ـ لقد جاء فى القرآن الكريم وصف قريش ثلاث مرات بأنها فى حربها للنبى تسير على ( دأب آل فرعون ) والسابقين له ؛ فى التعقيب على معركة بدر قال جل وعلا عن قريش :( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) ( آل عمران )، أى إنهم ساروا على طريق آل فرعون وسيتعرضون مثلهم للعقاب بذنوبهم . ونفس التعقيب على معركة بدر جاء مرتين فى سورة الأنفال :( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54 ).  ولهذا فإن أوصاف فرعون وملئه تنطبق على الملأ القرشى . ونتعرض لملامح قريش من هذه الزاية على سبيل الاختصار.

أولا : آل فرعون أئمة للطغاة بعدهم  وكذلك قريش

1 ـ أتّبع آل فرعون سُنّة الطغاة من قبلهم ، ثم صاروا أئمة للطغاة والطغيان من بعدهم . يقول جل وعلا عن نهايتهم : (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ )(41)(القصص). وحتى الان فأى نظام مستبد يُقال عنه إنّه فرعونى ، وكل مستبد هو فى الحقيقة يسير على دأب فرعون وسُنّته ، وقد يصل به إستبداده وعلوه فى الأرض الى إدّعائه الألوهية صراحة ، أو يزعم أن الله جل وعلا إختاره ليحكم الناس ، ويؤسس دولة دينية ، وهذا ما فعله صحابة الفتوحات والخلفاء الراشدون وغير الراشدين. ولهذا تكرّر القصص القرآنى عن فرعون ونظامه وعدائه لرب العزّة ، تحذيرا مسبّقا للمسلمين ، ولتوضيح أن الاسلام يرفض هذا النهج فى الحكم الدينى ، وليكون هذا حُجّة على المسلمين من صحابة الفتوحات ومن جاء بعدهم متّبعا سُنّة فرعون فى الظلم والاستبداد والفساد والحكم الدينى .  ومع هذا فلا يزال العرب المسلمون فى اغلبهم خاضعا للحكم الدينى ( الدولة الدينية ) من الخليج الى المغرب . وحتى المستبد العلمانى يتّكىء على شيوخ دين أرضى ؛ يركبهم ويركب بهم الشعب . وأصبح حديث رب العزة عن فرعون آيات لا نفقهها، فقد أتّخذنا القرآن مهجورا ،إذ صار القرآن كقصائد للتغنّى بها فى سرادقات العزاء..!!

2 ـ ولقد وصف رب العزّة طغاة قريش الذين نقضوا العهد وإحتلّوا الحرم المكّى بأنهم أئمة الكفر : ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12) التوبة )، أى أنّ أولئك المعتدين هم أئمة لكل طاغية يسير على سنّة فرعون وسّنة الملأ القرشى. وهذا هو واقع المسلمين الذين يقتدون بصحابة الفتوحات والفتنة الكبرى حتى اليوم. أولئك الصحابة هم طبقا للقرآن الكريم أئمة الكفر ، ومع ذلك يزعم الدين السّنى أنهم كالنجوم من إقتدى بهم إهتدى . وفعلا ، اقتدى بهم المسلمون ، ولذلك لا يزالون يقتتلون فيما بينهم ، من مقتل عثمان وحتى الآن .  وليس هناك بين البشر أمّة تجعل الاقتتال بينها دينا وواقعا مستمرا 14 قرنا من الزمان سوى السّنة والشيعة .!!

ثانيا : الطغيان الفرعونى والقرشى :

1 ـ نكتفى فى طغيان فرعون بقوله جل وعلا لموسى :( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)(النازعات). والطغيان هو مجاوزة الحد فى الظلم والاعتداء والبغى . وهكذا كان فرعون ، وهكذا أيضا كانت قريش ، فتكرر وصفهم بأنهم فى طغيانهم يعمهون أى يسيرون فى طريق الطغيان عُميا يعمهون ، ويذرهم ربهم فى طريقهم يعمهون الى أن يلقوا جزءاهم فى الدنيا والآخرة كأى طاغية . ونقرأ قوله جل وعلا عن قريش :( وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) الأنعام )،( وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) الأعراف)( فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) يونس )

2 ـ ويقول جل وعلا يخاطب النبى عليه السلام عن التواتر القرشى الباطل الذى حرّف ملة ابراهيم :( فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ (109)( يونس). أى هم يعبدون وفق التراث الباطل الذى وجدوا عليه آباءهم ، وسينالون جزاءهم.

3 ـ المُلفت للنظر قوله جل وعلا فيما بعد يخاطب النبى آمرا وناهيا ومحذّرا بلهجة شديدة :( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) يونس ) ، فهنا أمر بالاستقامة ونهى عن الوقوع فى الطغيان الذى وقعت فيه قريش ، ثم تأتى الآية التالية تنهى وتحذّر من الوثوق بقريش الظالمة حتى لا يقع علي النبى والمؤمنين نفس العقاب :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (113) يونس ). أى لا يكفى فقط الابتعاد عن الطغيان بل لا بد أيضا من عدم الوثوق بالطغاة . وهى نصيحة غالية لكل إنسان يريد الاستقامة الفعلية . والمستفاد هنا من هذه الآيات المكّية أنها بادرت مقدما بالتحذير ؛ تحذير النبى ومن تاب معه من الوثوق فى طُغاة قريش . وهو تحذير قاله مسبقا رب العزّة جل وعلا الذى يعلم الحاضر والمستقبل . والمستفاد ايضا أن صدور هذا التحذير بهذه القوة جاء نتيجة تآمر فعلى من الطُغاة وقتها، فلا بد من الحذر منهم وعدم الركون اليهم .

ثالثا : مهابة فرعون ومهابة قريش

1 ـ الطاغية يُرعب ويُرهب قومه ويخيفهم . وهكذا كان فرعون . حتى لقد إرتعب موسى عندما قال له ربه جل وعلا : (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) طه ) فطلب موسى أن يكون معه أخوه هارون ( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) ) . وأصبح هارون رسولا مع أخيه الى فرعون ، وقال رب العزّة لهما :( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُطَغَى (43) طه )، وأمرهما ربهما أن يترفقا فى الكلام مع هذا الطاغية : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) ، ولكن خوف موسى وهارون إزداد من طغيان فرعون وغضبه ( قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) فطمأنهما رب العزة بحمايته لهما : ( قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) طه ). هنا طغيان متطرف إستلزم أن يتدخّل رب العزة القاهر الجبّار لكى يهدّىء روع رسولين من الرسل المكرّمين . وإذا كان هذا هو حال إثنين من الأنبياء فكيف ببقية أفراد الشعب تحت حُكم فرعون وقهره ، وهو القائل عن بنى اسرائيل (  قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) الاعراف  ).

2 ـ ونفس الحال فى طغيان قريش ومهابتها . ونتعرف على هذا من هلع المسلمين قبيل إشتباكهم مع جيش قريش فى موقعة بدر . عندما أفلتت منهم القافلة وتعين عليهم مواجهة جيش قريش كرهوا ذلك ، وأخذوا يجادلون النبى يريدون تفادى هذه المواجهة رُعبا وهلعا من قريش ، وعندما تحتّمت المواجهة كانوا كأنما يُساقون الى الموت وهم ينظرون .هذا مع إن الوعد الالهى جاء للنبى بأنّ لهم إمّا القافلة وإمّا النصر ، وطالما أفلتت القافلة فإن النصر من نصيبهم . كان المقصد الالهى من المواجهة أن يتخلّص المسلمون من عُقدة الرعب من قريش ومهابتها ، وهذا لا يمكن حدوثه إلّا بالانتصار الحربى على جيش قريش الذى يفوقهم ثلاث مرات فى العدد .  إستغاث المؤمنون بربهم جل وعلا فأنزل على قلوبهم ملائكة تقوّى عزائمهم وتزيل عنهم الرعب والمهابة من قريش . هذا التدخل الالهى بملائكة تثبّت المؤمنين فى المعركة يؤكّد لنا أن مهابة قريش كانت هائلة ، ولهذا كانت موقعة بدر فاصلة ، إذ حطّمت اسطورة قريش وطغيانها ، فأصبح يوم بدر إسمه ( يوم الفرقان ) دلالة على التحوّل الخطير بتحطيم اسطورة قريش ومهابتها : ( الأنفال 5 : 12 ، 41 ).

3 ـ وفى الوقت الذى كان فيه المؤمنون مرتعبين قبل المواجهة كان جيش قريش يتحرّك فى أبّهة وعظمة وخُيلاء يضمن النصر ، أو بالتعبير القرآنى :  (.. خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) الانفال ).

رابعا :  المكر الفرعونى والمكر القرشى

1 ـ ارتباط الاستكبار والعلوّ بالمكر : الطُغاة هم أكابر المجرمين فى أى مجتمع وأى دولة ، يتحكمون فيها ، مستكبرين مستعلين على الناس ، لذا فإن الدار الآخرة ليست لأصحاب الطموح السياسى الذين يريدون عُلوا فى الأرض و فسادا . فهم ينافسون رب العزّة فى العلوّ على  الناس ( سبحانه وتعالى ) فهو جلّ و علا  وحده صاحب ( العلو ) : (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43)( الاسراء ). أولئك يسيرون على سنّة فرعون الذى علا فى الأرض (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ ) القصص 4 ) وكان من العالين : (  مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنْ الْمُسْرِفِينَ (31) الدخان ) :(وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83)( يونس ) . وفرعون نفسه يسير على سّنّة ابليس الذى استكبر فقال له رب العزة : (  مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ (75) ) ص ). على النقيض من هؤلاء  يقول جل وعلا عن الفائزين بالأخرة : (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) القصص ) .

2 ـ أصحاب العلوّ  يحتاجون للمكر والخداع والتآمر والكيد كى يصلوا للحكم ، أو كى يحتفظوا بالحكم ، وليصبحوا ( أصحاب المعالى ) و ( أصحاب السّمو ) ويقال لهم ألفاظ التقديس التى لا تكون إلا لله جل وعلا مثل: ( صاحب الجلالة ) ( صاحب القداسة ) ( معاليك ) ( سُمُوّك ) . لكى يحتفظوا بمكانتهم ( العالية فوق  رءوس الناس ) أو لكى يصلوا اليها لا بد لهم من المكر ، وفى النهاية سيدفعون الثمن . يقول جل وعلا فى قاعدة قرآنية إجتماعية سياسية تسرى فى كل زمان ومكان قبل وبعد نزول القرآن :( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) ( الانعام ).

2 ـ معنى مكر الله  : والتعبير القرآنى هو أن يردّ الله جل وعلا مكرهم بمكر . ونسبة ( المكر ) لله جل وعلا هو فى الفصاحة العربية ضمن اسلوب ( المشاكلة ) . واللسان البشرى لا يمكنه التعبير عن ذات الله جل وعلا وصفاه وأفعاله لأنّ ذلك فوق التصوّرات والادراكات البشرية ، لذا يأتى التعبير باسلوب المشاكلة كى يفهم البشر ، فإذا كانوا يمكرون فإن الله جل وعلا ( أسرع مكرا ) (  وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلْ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) ( يونس ). لاسبيل آخر لوصف ردّ الفعل الالهى سوى ذلك ، فهذا هو ما يستطيع البشر فهمه . والواقع أن المكر السىء ينقلب على صاحبه ، فهذا قانون الاهى يسرى فى كل زمان ومكان ، أو كما قال جل وعلا : (  وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) ( الانعام ).

3 ـ لايحيق المكر السيء إلا بأهله سابقا ولاحقا : يصف ربّ العزة إستكبار قريش ومكرها بالنبى ويحذّرهم من عاقبة مكرهم ، ومؤكّدا أنّ المكر السىء لا يحيق إلّا بأهله : (اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) ( فاطر ). هنا يرتبط المكر القرشى بالاستكبار القرشى ، ويأتيهم التحذير الالهى ممّا حدث لأهل المكر والاستكبار من قبلهم .

4 ـ وتتوالى التحذيرات فى السّور المكية دليلا على إنهماك قريش فى مكة بالتخطيط  والتآمر على النبى والمسلمين والاسلام ، يقول جل وعلا عنهم:( وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)( الرعد )، ( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26)( النحل )، ويذكّرهم رب العزّة بما حدث لقوم نوح ومكرهم وبسببه تعرضوا للغرق بالطوفان: ( وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)،( مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً (25) ( نوح ). ويذكّرهم بما حدث لقوم ثمود حين مكروا بنبيهم صالح فانتهى الأمر بتدميرهم ، قال جل : ( وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50)النمل  ) وكى يعتبر القارىء يقول جل وعلا : ( فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)   النمل  )

5 ـ بين مكر فرعون ومكر قريش : وفرعون هو نموذج الاستكبار، يقول عنه جل وعلا وقومه وجنده :(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ )(39)(القصص ). وضجّ موسى عليه السلام من تكبّر فرعون فاستعاذ بالله جل وعلا منه كما يستعيذ المؤمن من الشيطان الرجيم : ( وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)( غافر). فرعون لم يكن محتاجا للمكر لأنّه كان متحكما فى الثرة والسلطة والقوة ، ويتخيّل أنّ خصومه مقهورون تحت سلطانه  . ولكن إضطرّ فرعون للمكر ليواجه ذلك الأمير الفرعونى المسالم الذى كان يكتم إيمانه ويعظ قومه. يقول جل وعلا :( فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)( غافر ). لم يستخدم فرعون ضده القوّة الصريحة العاتية كما كان يفعل مع بنى اسرائيل ، لأنّه يتعامل مع أمير ناصح خائف على قومه ، فحاول أن يمكر به خفية ، فوقى الله جل وعلا ذلك الأمير المؤمن من مكر فرعون .

إختلف الوضع فى قريش ، فأئمة الكفر فيها لا يتحكمون فى كل شىء ، وهناك خطوط حمراء لا يمكن أن يتخطّوها حرصا على مصالحهم وعلاقات العشائر ، والنبى عليه السلام ينتمى الى عشيرة ذات نفوذ ، وهناك له أتباع داخل مكة وخارجها ، وبالتالى فإن إستعمال القوة محكوم بمحاذير . ولهذا لا بد من المكر والكيد واساليب الخداع و ( السياسة ) وأهمها التجسّس وزرع العملاء حول النبى . المكر هو الذى يسدّ الفراغ بديلا عن القوة الصريحة .

ولهذا تفوقت قريش على فرعون فى المكر . يقول جلّ وعلا عن مكر قريش أنهم زّيّن لهم مكرهم : ( بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ  ) (33) الرعد ). ويصف مكرهم بأنه تزول منه الجبال : (  وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)( ابراهيم )، وهذا المكر القرشى الذى تزول منه الجبال  قام بزرع عملاء وجواسيس حول النبى صاروا من كبار الصحابة وزعماء المهاجرين . وهم الذين أصبحوا قادة الفتوحات . وفى الآية التالية يطمئن رب العزة رسوله الكريم باسلوب التأكيد بأن الانتقام منهم آت لا ريب فيه : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (47) ابراهيم ). وينهاه عن أن يضيق صدره من مكرهم : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) ( النمل ) بل عليه أن يصبر : (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)( النحل ). ويؤكّد رب العزة مرتين فى القرآن الكريم أنه سيستدرج أولئك الماكرين من حيث لا يعلمون : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) الأعراف )،( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) القلم ).وهذا الكيد الالهى هو الرد على المكر القرشى .

خامسا : الكيد والتآمر السابقون عموما

1 ـ الفرق بين الكيد والمكر : ( المكر ) هو التآمر الخفى ، ولهذا فعندما سجد سّحرة فرعون إعتقد أنها مؤامرة خفية ضده : (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)( الأعراف ). أمّا (الكيد) فقد يكون ظاهرا علنيا: ( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) طه )، وقد يكون خفيا (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ )(76) يوسف ) .

2 ـ وهذا الكيد الالهى يقف بالمرصاد للطغاة فى كل زمان ومكان ، يقول جل وعلا : ( أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) ( الفجر ).ولذلك إنتهى كيد فرعون الى وبال عليه :( وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ (37)( غافر )( فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25)( غافر ). رب العزة هو الذى جعل فرعون يتبنى موسى ليكون موسى له عدوا وحزنا ، وكل كيد لفرعون كان يرتد عليه فشلا ، وفى النهاية انتهى بالغرق هو وجنده ، وما أغنى عنه كيده شيئا ، وهو الذى كان يتخيل نفسه الرب الأعلى .

 3 ـ ونفس المصير ينتظر قريش وكيدها ، إذ سيحيط بهم كيدهم : ( أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ الْمَكِيدُونَ (42)(الطور  )، وسيستدرجهم رب العزة من حيث لا يعلمون ( الاعراف 183 ) ( القلم 45 ).   هو إمهال لهم ، فالله جل وعلا يُمهل ولا يُهمل : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) الطارق ).

أخيرا : كيف مكرت قريش ؟ وماهى خططها ؟ وما هى طبيعة تآمرها ؟ وكيف إختلفت عن مكر فرعون ولماذا ؟ وكيف إستغلت وضع المسلمين وتطوره لمصلحتها ..إنتظرونا .

اجمالي القراءات 12902