كتاب الحج ب 2 ف 2 : التواتر .. وملة ابراهيم

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٠٨ - فبراير - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين

الباب الثانى : الدين السّنى وصناعة تشريع الحج .

الفصل الثانى  : التواتروملة ابراهيم   

أولا : ملة ابراهيم بين السلف والخلف

1 ـ  ملّة ابراهيم تعنى فى التعامل مع الله جل وعلا أن تعبد الله جل وعلا مُسلما له وحده نفسك ومخلصا له الدين (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3))،(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14)الزمر). وفى التعامل مع الناس هى التنافس فى الخيرات والمسالمة، وعدم الوقوع فى الفحشاء والمنكر .  

2 ـ وكل تواتر له بداية ، ثم يأتى التتابع والتواتر . والتواتر الحق فى دعوة ابراهيم عليه السلام بدأ حين كان يتذكر كيف ترك عند المسجد الحرام ابنه اسماعيل وذريته : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)ابراهيم ). وعند المسجد الحرام وفى أداء فريضة الحج تأتى الفرصة لتطبيق ملة ابراهيم .

ثم تتابع هذا التواتر الحق فى ذرية ابراهيم ؛ فى اسماعيل : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً (55)مريم ) ، وفى اسحاق ويعقوب:( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)الأنبياء ) .

3 ـ ومع هذا ظهر الانحراف فى ذرية ابراهيم من بنى اسماعيل وبنى يعقوب (أو اسرائيل) . ثم تواتر هذا الباطل ، متتبعا خطوات الشيطان، بجعل الصلاة مجرد طقوس شكلية مع تقديس البشر والحجر والوقوع  فى الفسوق والعصيان . يقول جل وعلا عن نوعى التواتر : التواتر الحق لدى الأنبياء والمؤمنين:( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58)ثم يقول جل وعلا فى الآية التالية عن التواتر الباطل لدى الخلف :(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59)) أى اضاعوا الصلاة باتباع الشهوات ولم يقيموها بالتقوى ، ومع هذا فلديهم فرصة التوبة باتباع التواتر الحق : ( إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60)مريم ).

4 ـ وهذه التوبة نوعان ، فى التعامل مع الله جل وعلا تكون بتنظيف القلب من تقديس البشر والحجر وبإخلاص العبادة لله جل وعلا وحده وعدم الفسوق. وهنا تكون الإقامة القلبية للصلاة وإيتاء الزكاة . وفى التعامل مع الناس تكون بكفّ الأذى وعدم الظلم وعدم الاعتداء، وهنا تكون الإقامة السلوكية للصلاة وإيتاء الزكاة  . والمؤمن الحقيقى هو الذى يجمع بين إسلام العقيدة ( الانقياد والتسليم لله جل وعلا ) وإسلام السلوكى ( المسالمة وعدم الظلم والاعتداء على الناس ) . والتائب الحق هو من يتوب من الكفر العقيدى القلبى والكفر السلوكى . وأعطى رب العزة للكافرين المعتدين سلوكيا فرصة التوبة إن إنتهوا عن الاعتداء والهجوم على المسلمين فى المدينة فلا مجال للحرب معهم : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (38) الأنفال ). وعندما قاموا بنقض العهود والهجوم على مكة بعد دخولها طوعا فى الاسلام نزلت سورة براءة ، تعطيهم مهلة للتوبة، فإن تابوا ظاهريا وكفّوا عن الاعتداء وإلتزموا السلم فقد أصبحوا أخوة للمؤمنين طبقا للاسلام السلوكى بمعنى السلام ، فقد حققوا الإقامة الظاهرية للصلاة  وإيتاء الزكاة :( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)،( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)التوبة ). والتوبة بابها مفتوح ليعود كل من يريد للصواب . والحج مناسبة مثالية للتوبة الحقيقية .

5 ـ  وفى ذرية يعقوب أو بنى اسرائيل تتابع الرسل والرسالات السماوية بالتواتر الحق ، كما تواتر وجود عصاة فاسقين وتواتر وجود مؤمنين منهم حتى عصر نزول القرآن الكريم ، فقل جل وعلا :( لَيْسُوا سَوَاءً ) أى ليس كل أهل الكتاب عصاة بل منهم من اتبع التواتر الحق فى ملة ابراهيم ( لَيْسُوا سَوَاءًمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) أى قائمة ومقيمة على التواتر الحق بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أو السمو الخلقى : (لَيْسُوا سَوَاءًمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌيَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ  وينْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)آل عمران ). هنا يبدو واضحا أنهم كانوا مثل أسلافهم يسارعون فى الخيرات ضمن ملامح التواتر الحق فى ملة ابراهيم . وكان الحج للبيت الحرام الذى بناه ابوهم ابراهيم هو الفرصة الحقيقية للمسارعة فى الخيرات.

6 ـ وعاش فى الجزيرة العربية العرب العاربة القحطانية والعرب المستعربة من ذرية اسماعيل ، بالاضافة الى سكان من اهل الكتاب من ذرية يعقوب أو بنى اسرائيل . الفارق بينهم أن العرب كانوا أميين لم يأتهم رسول قبل خاتم المرسلين بينما تواتر الأنبياء فى بنى اسرائيل وأهل الكتاب ، فكان مصطلح ( الأميين ) يقابل مصطلح ( أهل الكتاب ) : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) ) (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )(75) (آل عمران ). وكان العرب الأميون الذين هم بلا كتاب سماوى يتمنون مبعث رسول من بينهم أسوة بأهل الكتاب ليصيروا مثلهم ( أهل كتاب ) فلما أرسل الله جل وعلا لهم خاتم النبيين بالرسالة الخاتمة إستجابة لدعوة ابراهيم كفروا بها ، يقول جل وعلا لهم : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)الأنعام ) . هذا مع أن خاتم النبيين كان مأمورا باتباع ملة ابراهيم حنيفا ، طبقا لما جاء فى نفس السورة بعد ألايات السابقة : (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)( الأنعام ). والحج هو الفرصة المثالية لتطبيق ملة ابراهيم .

7 ـ نزل القرآن الكريم يؤكّد المعالم الحقيقية لملة ابراهيم فى العقيدة الايمانية وفى السلوك لدى المؤمنين الحقيقيين الذين يسارعون فى الخيرات :(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)  المؤمنون ). ويحثّ على المسارعة فى الخيرات :( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ )(148) البقرة ). وبدلا من وجود التعصّب بين ( أهل القرآن ) و ( أهل الكتاب ) فلا بد من التسابق فى الخيرات:( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (المائدة 48 ). والحج هو الفرصة المثالية للتسابق فى الخيرات .

8 ـ والتواتر الحق فى الرسالات السماوية وملة ابراهيم الحقيقية لا يلبث أن يتلاعب به الشيطان بخداعه ووحيه الضال . لذا كان أهل الكتاب ثلاث درجات ،منهم سابقون:(وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)( المائدة ). ومنهم مقتصدون ، وأغلبية ظالمة فاسقة (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) ( المائدة ) .

ونفس التقسيم الثلاثى لأهل القرآن ، يقول جل وعلا عن القرآن الكريم :( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)، ثم يقول عن ( أهل القرآن ): (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)فاطر). وبالتالى فاهل القرآن هم كأهل الكتاب ثلاث درجات: منهم السابقون ومنهم المقتصدون والعصاة الظالمون . وأولئك العصاة الظالمون يرفضون الاحتكام الى القرآن الكريم فيما وجدوا عليه آباءهم من الموروث والتواتر . هم يتبعون بالضبط ما كانت تفعله قريش فى رفضها القرآن الكريم وفى تفضيلها للمتواتر الباطل الذى يخالف القرآن الكريم .

9 ـ وهكذا ، قوبلت دعوة رب العزّة الى التحاكم الى القرآن برفض مستميت من قريش . قريش كانت قد توارثت ملة ابراهيم ، وقد لحقها التحريف ، والتحريف لايعنى  التغيير الكامل أوالتبديل التام ، ولكن وجود اباطيل تداخلت مع الحقائق . وهذا التحريف والتضليل يصاحب مسيرة البشر . لهذا حفظ الله جل وعلا الرسالة الخاتمة لتكون حجة على البشر الى قيام الساعة ، حتى يرجع اليها ويحتكم اليها كل من يبغى الهداية مخلصا لله جل وعلا الدين .

10 ـ وطلبا للإصلاح ولترسيخ الاجتهاد فإن قانون الأزهر يجعل مهمة المدرس فى جامعة الأزهر ( تجلية حقائق الاسلام ) أى يعترف القانون بأن هناك حقائق اسلامية تم إخفاؤها وتجاهلها والتعمية عليها ، وهناك أباطيل تحولت بالسكوت عليها وعدم مناقشتها الى حقائق مقدسة ، ووظيفة عالم الأزهر أن يجلّى حقائق الاسلام مستعينا بالقرآن الكريم ،وبالتالى يفضح بالقرآن أكاذيب الاديان الأرضية التى حلّت محل الحقائق الغائبة والمنسية . وقد قمنا بهذه الوظيفة تنفيذا لقانون الأزهر حين كنا فى جامعة الأزهر فكوفئنا من الشيوخ الجهلة بالعزل والسجن فى عصر مبارك. وهم الآن يدفعون الثمن.

ثانيا : التواتر الباطل من صنع الشيطان ـ حتى الآن وفى كل آن .

1 ـ ولأن التواتر الباطل من صنع الشيطان ومن وحيه ، ولأنه يتسلل بخطواته خداعا للناس حيث يخلط الحق بالباطل وينسب ذلك الباطل وحيا الاهيا لرب العزّة فقد حذّر ربّ العزة البشر جميعا من هذا التواتر المزخرف المغرى الذى يصغى اليه العوام ويرتضونه:( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116)(الأنعام).  

2 ـ ولأن التواتر الباطل من صنع الشيطان ومن وحيه  فقد حذّرهم رب العزّة من إتّباع خطوات الشيطان ووسوسته وخداعه فقال جل وعلا:( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)  البقرة ). وهذا الشيطان العدو المبين ينشر عن طريق أتباعه وأوليائه وحيا مزيفا ينسبونه لله جل وعلا ورسوله يحضّ على السوء والفحشاء بزعم الشفاعات ، ويشجع على التقوّل على الله وتأسيس ديانات أرضية، يقول جل وعلا فى الآية التالية عن الشيطان :( إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) البقرة ). كان هذا فى الأصل خطابا للعرب وللبشر جميعا ، وجاءت الآية التالية ، وفيها يأمرهم رب العزة بالاحتكام الى القرآن الكريم إتّباعا له ضد هذا التواتر الباطل المناقض للقرآن ، ولكنهم تمسكوا بالتواتر الباطل و ما وجدوا عليه آباءهم، يقول رب العزة :( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ(170)البقرة ).

3 ـ ولأن التواتر الباطل من صنع الشيطان ومن وحيه فإن الله جل وعلا يجعلها دعوة شيطانية ويجعل مصير أتباعها عذاب السعير:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)  لقمان ) . وهذا فى مقابل من يتمسك بملة ابراهيم الحقيقية ويُسلم لله جل وعلا وجهه :(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (22) لقمان ). فالبشر قسمان : قسم يسلم وجهه لله جل وعلا متبعا ملة ابراهيم ، وقسم يتبع التواتر الشيطانى الباطل.

4 ـ ولأن التواتر الباطل من صنع الشيطان ومن وحيه فقد تطرفوا بالتمسك به ، وبدلا من الاكتفاء بالقرآن الكريم :( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)( العنكبوت ) فقد إكتفوا بتواترهم الباطل رفضا للقرآن الكريم، أو الرسالة الالهية :( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) المائدة ) كانوا يقولون (حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) مع إن آباءهم كانوا مثلهم فى الجهل . بل كانوا يتعجبون من هذا ( التطاول ) على ما وجدوا عليه آباءهم ، ويقولون إنهم ما سمعوا بهذا التطاول من قبل من شيوخهم وآبائهم السابقين : (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7)ص ). أى يصفون القرآن بأنه إختلاق .

5 ـ ولأن التواتر الباطل من صنع الشيطان ومن وحيه، ولأن الشيطان يصاحب كل جيل من البشر يخدعه ويضله بنفس الطريقة فإن التمسك بما وجدنا عيه آباءنا ورفض الاحتكام فيه الى كتاب الله هو عادة سيئة تصاحب البشر فى سقوطهم وضلالهم حين يتحكم المترفون فى مجتمع ما ويتمسكون بالمتوارث الذى بنوا عليه مجدهم وتسلطهم ووضعهم المميز، يقول جل وعلا  عن قريش :( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) الزخرف) .هذا ما كانت قريش تقوله ، وهو نفس ما إعتادت الأمم الظالمة قوله:( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ )(23 ) ( الزخرف)  . وهذا ما يعتاد الوهابيون السلفيون قوله فى عصرنا البائس. هنا يتجلّى إعجاز القرآن حين يرفض السلفيون الاحتكام للقرآن الكريم تمسكا منهم بما ( أجمعت عليه الأمة ). مع إن هذه ( الأمّة ) لم تُجمع فى أديانها الأرضية وفى مذاهبها وطوائفها ومللها ونحلها إلّا على إتّخاذ القرآن مهجورا تمسكا بالمتواتر الباطل . وهم فى إتخاذهم القرآن مهجورا وفى إتخاذهم شعار السلف وفخرهم به لا يعلمون أن مصطلح  (السلف ) يأتى مذموما فى القرآن الكريم ، يقول جل وعلا عن فرعون وآله:( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ (56)الزخرف ). ولكنها خديعة الشيطان لهذا الجيل المعاصر كما خدع أجيالا من قبلهم وأضلهم ، ويوم القيامة سيقول رب العزة للخاسرين من أبناء آدم  يذكّرهم : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64)) ( يس ). الواقع المؤسف إنهم أتبعوا كالخراف أسلافهم بلا وعى وبلا عقل ، أو كما قال جل وعلا : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) الصافات ) . وفى الآيات السابقة يقول رب العزة عن عذابهم :( أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإٍلَى الْجَحِيمِ (68)( الصافات ). هل يستحق الشيطان وطاعة الشيطان كل هذا العذاب وكل هذا العناء ؟

6 ـ ولأن التواتر الباطل من صنع الشيطان ومن وحيه، ولأن الشيطان يأمر أتباعه بالسوء والفحشاء والتقول على الله جل وعلا : ( إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) البقرة )ولأنه يعدهم بالفقر ويأمرهم بالفحشاء ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) البقرة )ـ لذا فإن التواتر السىء الشرير حين يصبح دينا متسلطا فإنّه يجعل ممارسة الفحشاء فريضة دينية يأمر بها الله جل وعلا  ودينا متواترا وجدوا عليها آباءهم:( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) الاعراف ).

7 ـ وهذا ما كانت عليه قريش ، وما كانت تمارسه فى ( الاحرام ) فى الحج ، طبقا للتواتر السىء الذى تمسكوا به فى تحريفهم لمناسك الحج فى ملة ابراهيم . ومن أجل هذا التحريف رفضوا القرآن الكريم . 

اجمالي القراءات 11342