( دراسة فى المقامات الزينية )
ستبقى مصر وسوريا والعراق رغم الطغاة والغزو الدفاع عن البنية تحت ظروف الغزو والاحتلال

أحمد سليم في الإثنين ١٥ - أكتوبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الدفاع عن البنية

تحت ظروف الغزو والاحتلال

( دراسة فى المقامات الزينية )

 

أحمد عزت سليم

عضواتحاد كتاب مصر وعضو آتيليه القاهرة

ahmadezatselim@hotmail.com

 

إضاءة :

    عرف الناثر العربى منذ قديم الزمان الطاقة اللغوية الهائلة التى تتميز بها اللغة وعرف أن لها طيفاً كما أن للشيطان طيفاً ، وأن لها سيفاً كما أن للسلطان سيفا ، وقال ابن الرومى فى أقلامها :

                   فالموت ، والموت لا شئ يغالبه               مازال يتبع ما يجرى به القلم

                   كذا قضى الله للأقلام مذ بريت                 أن السيف لها مذ أرهفت خدم ...

    وناهيك عن القداسة التى تتمتع بها اللغة العربية لكونها لغة القرآن والخطاب النبوى الشريف- كما وضحنا – والتى ازدادت بهما اللغة عزة وبهاء.

    وقد ظن البعض أن النثر العربى قد ارتبط بنظم الحكم وأصبح أكثر الكتاب يعملون فى دواوين الخلافة وسلطة الأمراء والملوك والسلاطين ولذا فقد ساهم النثر فى تغييب شعوب اللغة وخداعها، واخذ بقول العلامة أبى هلال العسكرى عن الكتابة والخطابة بأنهما "مختصان بأمرالدين والسلطان وعليهما مدار الدار ....."فى هذا الظن والاعتقاد ،وفى الحقيقة فقد ظل الناثر العربى يسمو فوق السلطة ويتحداها ،وفوق قوى القهر والبطش والتسلط ومظاهر الأبهة والبهرجة والفساد ومقاومة الغزو والاحتلال  ،وكان فى أكثر أساليبه تعقيدا وتكلفا،تعبيرا عن تشوق الذات المبدعة للسمو فوق الواقع وقواه الظاهرة وتحديا لها للوصول إلى أسرار الكتابة ودقائق اللغة لتكون سلطته التى لا سلطان للواقع عليها ، ولا أمر للسلطان عليها ، فهى ضد أشكال الكتابة المعتادة والسائدة.

   وحتى الصوفية التى كانت فى لباس الفقر المرقع والخرق البالية ، كانت فى أعظم صورها ، وفى أنقى صفائها وأشد جهادها وأقوى مكابداتها ، انتصارا للجمال اللغوى من أجل الوصول الى وحدة الشهود والتجلى والمعارف العليا وضد التسطيح والاهتراء، حتى صار الدخول الى إلحرف عند الصوفية دخولا الى العلم والحقيقة والمعرفة ، دخولا ضد ما هو سائد وظاهر من تفكير وتعبير وتكفير ،ودخول ابتكار وإبداع وصولا الى هتك حجاب الحرف من أجل العلم الذى يقف وراءه.

وبين هذا الطيف وهذا الهتك وهذا السيف لم يستطع الناثر العربى مهما بلغ به التعقيد مبلغه واشتد به التكلف وأخذته الغرابة واستغرقه الغلو والإيغال والمبالغة وذهب به التطريز والترصيع والتجنيس أينما ذهب ، أن يتخلى لهذه الأساليب عن رؤيته للواقع الاجتماعى الذى يعيشه وفكره الذى يسرى فى إبداعه أينما ذهبت به الكتابة ، فسرعان ما تكشف لنا هذه النصوص عن مكنونات الذات المبدعة وفكرها الذى يحركها للإبداع ومضامينها الاجتماعية التى يستهدفها المبدع من خلف هذه الأساليب التى قد تبدو للولهة الأولى أنها كتبت هكذا لذاتها وفى ذاتها مستقلة عن البعد الاجتماعى والأخلاقى أو كما يقول أصحاب مدرسة الفن للفن إنها غاية فى ذاتها . أو أنها كتبت لإبهار السلطان واستعراض فنون اللغة أمامه للارتزاق.

ولأن الأمر غير ذلك فقد شهد النثر العربى خروجا واسعا على التكرارية السلطوية التى حاولت أن تسم النثر بأهدافها وأغراضها وتحوله عن تيمته المؤثرة "يا معشر الناس" إلى نموذج الإله / الخليفة ،"فمن نموذج تقوى الله اتقاء الناس" الى من تقوى الله اتقاء الأمير والسلطان والجاه..........، وحتى فى داخل مؤسسة الوعظ والإرشاد كان هناك من يقف ضد السلطان وضد القهر..

    وفى هذا الإطار عبرت الطاقة الحيوية اللغوية التى فجرها عمالقة النصوص النثرية أمثال الجاحظ وأبو حيان التوحيدى والهمذانى والحريرى والمعرى والنفرى والحلاج وابن عربى والوهرانى وغيرهم من الأفذاذ حتى عمالقة العصر الحديث من أمثال الكواكبى ومحمد عبده ومحمد صادق الرافعى وطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ حتى أجيال عبد الحكيم قاسم وصنع الله إبراهيم وإدوار الخراط وغيرهم... عن التوق الى التحرر من أسر القيود التى كبلت الذات العربية ولم يكن دمج هؤلاء لظروفهم الموضوعية الاجتماعية والفكرية والسياسية فى فن أدبى فلسفى سوى تعبير عن توق الذات الى التحرر من الواقع والثورة عليه ورفض الاستلاب ،والسمو فوق السلطان والجاه ومقاومتهما.

    والدخول الى عالم النصوص النثرية المعقدة لا يمكن أن يسير فى دراسته بشكل متواز مع الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية المصاحبة لها آنذاك فهذا كان من خصائص الدراسات السابقة التى تناولت هذه النصوص على نحو لا يداخل بين فاعلية النص وبين الحياة من حوله على النحو الذى يكشف عن أسباب اللجوء الى هذا النوع من الكتابة وبالتالى يكشف عن البنى الكامنة التى تصطرع فى الذات الادبية والعربية وتؤثر عليهما.. ولا شك أن هذه المداخلة وإن كان من الصعب تحقيقها لأنها تحتاج الى جهد جماعى علمى موسوعى قد لا يتوفر فى كثير من الظروف إلا أنها لا تزال هى الطريقة الوحيدة نحو كشف الأسباب الكامنة وراء هذه الفنون وإلقاء الضوء على مزيد من تراثنا وإبداعنا والرد على الذين يحاولون وضع لغتنا الفياضة فى قيد التصنع والشكل وإبعادها عن الجوانب الاجتماعية والفكرية وتحويلها إلى إيقاعات صامتة فى شكل هندسى متكرر لا يعبر إلا عن ذات مغرقة فى أنانيتها.

تنوير :

    وفى هذا المقام فان دراسة المقامات الزينية (1) لأبى الندى معد بن نصر الله بن رجب البغدادى المعروف بابن الصيقل الجزرى المتوفى سنه 701هـ . يمكن اعتبارها نموذجا رائدا للحد العظيم الذى وصل إليه التعقيد والغلو والتكلف فى النصوص الأدبية العربية عند الذات العربية فى حالة من حالات نكوص الذات تحت قوى الغزو والاحتلال وفى مرحلة حاسمة من تاريخ العالم الاسلامى والعربى ،شهد فيها العالم سقوط حاضرة الخلافة  على يد المغول ، ليؤكد بالنص أن الوطن باق بقيمته العليا وكيانه المقاوم رغم وطأة إجرام الغزو والاحتلال .

وفى الوقت الذى تفوق فيه ابن الصيقل الجزرى على أساتذته ومن سبقوه أمثال الهمذانى والحريرى فى التعقيد حتى وصف الدكتور عباس مصطفى الصالحى محقق هذه المقامات والذى بذل جهدا أسطوريا فى تحقيقها "أنها تصل الى حد اللغز المعمى والرمز الغامض".

    والمداخلة إذن تبدأ من الفترة التاريخية التى عاشها ابن الصيقل الجزرى صاحب المقامات ،فعلى الرغم من عدم معرفة التاريخ الذى ولد فيه إلا أنه قد تأكدت سنة وفاته عام 701هـ  وبالإضافة إلى معرفة تاريخ انتهائه من كتابة المقامات فى عام 672هـ  وسمعها منه علماء بغداد فى رواق المستنصرية سنه 676هـ وكان حينئذ شيخا للأدب فيها ولأنه لا يصل إلى هذه المكانة آنذاك كإمام عالم ومفتى إلا من تعدى الأربعين أو جاوز الخمسين . فلا شك اذن أنه قد عاش فى عز شبابه ووعيه فترة سقوط بغداد سنة 656هـ وعاش تحت نير الاحتلال المغولى لها ....

     شاهد إذن ابن الصيقل الجزرى المجزرة البشرية التى راح ضحيتها من القتلى الآلاف حتى وجدهم هولاكو عندما أمر بعدهم " ألف ألف  وثمانمائة ألف وكسر " ويكون ابن الصيقل واحد ممن اختبئوا فى بئر أو قناة أو تحت جثث القتلى وشاهد وسمع عن قرب مصرع الآلاف من زملائه الشعراء والعلماء وشاهد منهم المشردين والهالعين والهاربين من البطش إلى العطش فى الصحراء حيث الموت والجوع أو داست أقدامه الدماء التى تجرى من الميازيب فى الأزقة أو يكون شاهد بنفس ما تردد عن إقامة المغول من كتب بغداد الفريدة بأعدادها الهائلة جسرا من الطين والماء عوضا عن الآجر.

    أو لعله يكون ممن التجأوا الى دار الوزير العلقمى وأخذ منه الأمان وقد يكون ممن رفع الراية البيضاء مسلما بغداد ومدارسها للمغول وذلك حرصا على الوجود والاستمرار فى الحياة ومما قد يرجح هذا الاستنتاج الأخير أنه قد أهدى مقاماته الى عطا ملك بن محمد علاء الدين الجوينى أحد صنائع المغول وحاكم العراق بعد الخائن الوزير العلقمى وكما يقول رشيد الدين الهمذانى أحد كبار المؤرخين لهذه الفترة عن ابن عطا أنه أحد كبار الأمراء والعلماء الذين كانوا فى القلب مع هولاكو الدامى جنبا الى جنب عند دخوله بغداد وقتله الخليفة العباسى خنقا أو رفسا ومئات الآلاف المؤلفة من النفوس المسلمة .

    وعطا ملك الجوينى التحق بخدمة المغول منذ الصغر وولى حاكما على العراق فى عهد هولاكو وابنه آبا قاخان ، وتوفى سنه 681هـ بعد انتهاء ابن الصيقل من كتابة المقامات بتسع سنوات والمعروف تاريخيا أن آل الجوينى وأولهم عطا ملك وأخوه شمس الدين وأبناؤهما كانوا من أهل الفضل والأدب وأرباب جود وكرم وكانت مجالسهم محط رجال الأدباء والكتاب ومناط آمالهم.

وقد يكون الذى مهد للعلاقة بين الجوينى وابن الصيقل هو الوزير مؤيد الدين بن العلقمى الخائن والذى تولى بغداد بعد أن سلمها للمغول ، وأن  حب آل الجوينى معهم للعلم والدين دفعهم إلى التكفير عن ذنبهم بإعادة بناء مدارس بغداد فكانت مدرسة المستنصرية وشيخها ابن الصيقل أولى بالرعاية حتى صارت هذه المدرسة مرجعا للعلماء مدة قرنين من الزمان.

    المؤكد اذن أن ابن الصيقل الجزرى فى ظل حماية عملاء المغول قد نجا برأسه من موت محقق وظل فى حمايتهم ، فى وقت خيل للمسلمين فيه أن العالم على وشك الانحلال وأن الساعة آتية من قريب ، وصاروا يؤولون كل ظاهرة على أنها تعبير عن سخط الله واتخذوها أدلة على ما سيحدث فى العالم من انقلاب سئ لخلوه من خليفة ، وذلك كما أورد لنا السيوطى فى تاريخ الخلفاء.

    وبين هذا وذاك فان حياة ابن الصيقل الجزرى تكون شاهدا على الكثير من الرعب والفزع والدماء والخيانة والغدر والايمان والكفر والجهل والعلم ووقعت بين حدثين عظيمين أثرا على القوى السياسية وحركة العالم آنذاك فى فترة وجيزة تجعل من أى فرد كابن الصيقل العالم يعيشها وقد تخلخل فكرة بين الهاوية وبين الصعود والتطلع الى النجاة والمقاومة ، فقد سقطت الخلافة المقدسة بعد 500 عام على يد المغول ، ثم سرعان ما هزم المغول فى عين جالوت هزيمة ساحقة وبعد أن ساد الاعتقاد عنهم بأنهم قوم لا ينهزمون . وفى هذه الفترة التى اختلط الحابل بالنابل فيها كما يقولون ، ولا يمكن الحكم بإسلامية أو عدم إسلامية المتعاملين مع المغول فان كثيرا من العلماء دخلوا تحت إمرة هولاكو وكانت رسائله تحمل من النصوص الاسلامية ما يؤكد ان الاكتاف المسلمة التى حملت هولاكو على الدخول الى بغداد كانت مقتنعة به ، هذابالإضافة إلى دخول كثير من المغول أنفسهم فى الإسلام ، وسيطرة العناصر العربية على مقاليد الحكم والسلطة والاقتصاد فى العوالم الإسلامية الكبرى ، وانتشار العناصر الرافضية والمذاهب الشعوبية المختلفة بين المسلمين ... والغاية أن كل هذا يجعل من الصعب الحكم على ابن الصيقل بالعمالة للمغول على أن هذة الظروف فى جوهرها تلقى بأغلال التأزم على عالم فذ مثله كما تلقى بظلال كثيفة حول النص الزينى (المقامات). ومما يزيد الأمر تعقيدا حول حياة ابن الصيقل آنذاك هو انعكاس العداء المستحكم بين حكام المماليك وبين المغول بسبب هزيمتهم المنكرة فى عين جالوت حيث ملأ الرعب بغداد وبطش المغول " بكل من حامت  حوله الشكوك فى الاتصال بالمماليك وهو أشد الجرائم السياسية فى نظرهم ، وقد اتخذ بعضهم من هذا الشعور وسيلة للإيقاع بكثير من رعايا المغول المسلمين " ومن الامثلة المعروفة فى هذا الصدد نكبة الجوينية خاصة بعد انتصار بيبرس وضرباته المؤثرة على المغول وقيامه بعملية إنزال جريئة عبر نهر الفرات حيث هزم الجيش المغولية وطارد فلولهم فى الأراضى العراقية حوالى سنة 672هـ وهى سنة انتهاء المقامات حيث ظهر الأمل فى القضاء على المغول على الأقل كطموح خفى يسرى فى بغداد ، لهذا كان سبب نكبة آل الجوينى بعد اتهامهم بالاتصال بالملك الظاهر بيبرس والاتفاق معه على تسليم العراق له ، ويرى المؤرخون أن الملك الظاهر بيبرس قد جذب بعد هذه الحوادث كبار رجال الدولة المغولية وأمن بذلك حدود دولته على النحو الذى كان فيه بيبرس نفسه على وشك مهاجمة بغداد ذاتها لولا خوفه كما تردد من عودة الخليفة إليها وبالتالى تقل أهمية دولته الفتية.

    حركة الواقع آنذاك تتلخص فى تعرض المسلمين لهزيمة منكرة قضت على الخلافة العباسية ثم تعرض المغول أنفسهم لهزيمة ساحقة فى عين جالوت ثم هزائم متوالية وانسحاقهم فى مناطق كثيرة وهذين الحدثين والعداء المستحكم بين الطرفين خلقا الخوف الشديد والحذر والترقب من الهجوم المتبادل فيقول : كتبغانيون قائد المغول فى عين جالوت وصهر هولاكو ، قبيل مصرعه على يد قطز: " إنى إن هلكت على يدك ، فإنى أعلم أن الله لا أنت هو الذى أراد قتلى . فلا تنخدع بهذا النصر المؤقت ، لأنه لا يكاد يصل إلى هولاكو خبر موتى ،حتى يغلى غضبه كالبحر المضطرب فتطأ ارجل الخيول المغولية أرض البلاد ابتداء من أذربيجان إلى أبواب مصر ، ورد بيبرس على أباقاخان حين أرسل له رسالة قائلا فيها "أنت لو صعدت السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلصت منا " ،- رد بيبرس للرسول المغولى  ــ : " اعلم أننى وراءه بالمطالبة ولا أزال أنتزع يده من جميع البلاد حتى استحوذ عليها ، من بلاد الخليفة وسائر أقطار الأرض".

وهذا التهديد المتبادل جعل أرض الواقع التى تدور عليها المقامات وتدور عليها رحى حركة التاريخ والواقع أشبه بالحصون العسكرية فقد تحولت القرى والمدن إلى ثكنات عسكرية ينتشر فيها الجند والمماليك وتتركز الثقافة فى مدينتين القاهرة وبغداد وينتشر الجوع والفقر والجهل والعصابات والحرافيش والحشاشين وجماعات المتصوفة وتنمو اللغة الفارسية ولغات الأجانب والمماليك الوافدين وتكثر تحالفات المغول والصليبين والمسلمين فيقتل المسلم أخاه وكذلك يفعل الصليبى والمغولى فى حركة من التوافيق والتباديل قد لا يكون لها مثيل فى حركة التاريخ سوى ما نراه يحدث اليوم !!

    والجدير والمهم هنا أن دولة إيلخانت فارس على عهد هولاكو قد استطاعت فصل شرق دجله عن غربه وحاصرت الثقافة العربية وقوضتها وكان لزاما على ابن الصيقل الجزرى فى هذه الأجواء التى شهدت انفكاك الإمبراطوريات الإسلامية العظمى ( انهيار الخلافة العباسية والأندلسية ) - وهو الأديب البارع ، اللغوى ، والفقيه والمفتى ،المتفنن فى علوم كثيرة وأحد أعمدة المدرسة المستنصرية والشافعى أن يحافظ على تراثه ويتحدى عثرته وعثرة جماعته ودينه ولغته المقدسة فكانت المقامات الزينية دفاعا عن شرف الإسلام. ويقع النص الزينى الذى نشرته دار المسيرة فى طبعتها الأولى عام 1980 في 50 مقامة بطلها أبو النصر المصري وراويها القاسم بن جريال الدمشقى.

    الحركة الجغرافية للبطل والراوى تعكس مناطق الصراع الدائرة بين القوتين الأعظم آنذاك المغول والمماليك وتعكس ديناميتها حركة التوتر الشديدة التى تسود موضعها ،بين الإقبال والإدبار والفر والكر ... هذه المنطقة الجغرافية التى يجرى فيها البطل والراوى تطل على مشارف قزوين وبلاد الروم واليمن وجنوب السودان وبلاد النوبة وبلاد المغرب العربى وتتوغل فى البلاد الفارسية والكردية والمصرية فتشمل الأسكندرية التى زارها بيبرس 4مرات والقاهرة التى حكم فيها وبغداد والبصرة وخرسان وفارس وطوس ونيسابور وديار بكر وهى مسرح لعديد من العمليات الحربية والكوفة وشيراز وحمص وحماة وحلب التى كان يعيش فيها الملك الظاهر قبل عودته الى القاهرة واللاذقية والموصل التى كان ملكها يراقب له تحركات المغول والرها والأهواز والمدينة ومكة التى حج إليها بيبرس وأرمينية وأرزنكان وماردين والشهررزور التى تزوج منها بيبرس وميافرقين وهذه فتحها بيبرس وقيل أنه أخذ خطة بناء مسجدها لبناء مسجده ، وسرج وعمان والبحرين والحجاز وغيرها من أعمال هذه المناطق والديار .. وقد شهدت هذه المناطق فى اغلبها معارك ومناورات ومناوشات ، وإفساد للطرق والوديان وخاصة المؤدية إلى الشام لمنع المغول من زحفهم لأنهم كان يسلكون الطرق التى تقتات منها الخيول الأعشاب . وكانت الغلبة فى هذه المعارك لبيبرس حتى أنه تزوج أبنه بركة خان ملك ملوك القفجاق وأول من اعتنق الإسلام من أولاد جنكيز خان ، وبها تقع البلاد التى جاء منها الظاهر بيبرس .  وهذا الانتصار فى هذه الحركة الجغرافية يفسر لنا لماذا أضاف ابن الصيقل لقب المصرى إلى اسم نصر وهو أحد أسماء ابن الصيقل ذاته ليصير اسمه أبا نصر المصرى وليتضح لنا أن هناك مثلث للنصر كان دائماً هو مفتاح الحضارة والانتصار العربى والإسلامى ويتركز فى ابن الصيقل العراقى – العراق – والبطل أبى النصر المصرى – مصر – والراوى بن جريال الدمشقى ، دمشق !! فإذا ما انهار ، انهار هذا العالم من حوله !! وهذه من نبوءات النص الكامنة  فى أعماق بنيته الفكرية .

    وابن الصيقل الجزرى بهذا الاختيار يلقى بدلالة كبيرة حول الصراع والتأزم الذى يعيشه فى ظل الاحتلال المغولى والشك والريبة التى تملئ أجواء الواقع الاجتماعى ، وتوق ابن الصيقل إلى الانتصار على تأزم الذات ونكوصها فى ظل ظهور قائد مسلم يعيد للأمة مكانتها بعد انتكاسها وسقوط خلافتها المقدسة !!

    فى هذا الموضع الجغرافى أبو النصر المصرى دائم التنقل والترحال لا يهدأ او لا يكل مثله مثل الظاهر بيبرس الذى قال عنه الشاعر سيف الدولة المهمندار:

                                     يوماً بمصر ويوماً بالحجاز والشام

                                                                         يوماً ويوماً فى قرى حلب

من هذه الخصيصة المشتركة داخل الموضع الجغرافى بين بيبرس وأبى النصر المصرى يقيم ابن الصيقل الجزرى على لسان جريال الدمشقى علاقاته الدلالية ورموزه إقامة ذات فاعلية تكشف عن هذه التجربة الفريدة ، ويكون أبو النصر تردد دلالى بين طموح بيبرس فالظاهر بيبرس الذى تميز بالدهاء والخديعة والسياسة والمداراة والجرأة حتى قيل أنه حلف للملك المغيث بن عمر بن العادل بن الكامل صاحب حصن الكرك أربعين يميناً من جملتها الطلاق من أم الملك السعيد ويقال أنها استحلت بمملوك ، ولم ير ذلك الملوك بعدها ، حتى تمكن من الملك المغيث وقيل تاريخياً أنه أثناء المفاوضات مع ملك طرابلس الصليبى بوهمند السادس كان مندساً بين أعضاء الوفد الذى كان يمثل بلاده ومتنكرا فى زى خادم حتى تتاح له الفرصة لمعاينة حصون طرابلس والكشف عن مواضع القوى والضعف فيها تمهيداً لفتحها . هكذا كان أبو النصر المصرى فهو السيد القملس الذئب الداهية والسيد العملس الغملس وهو الخبيث الجرئ وهو ظاهر الكرامة وافر الصرامة تعرق لوطأته الأصلاد وتغرق لسطا سطوته الألواد وهو أبو النصر العقربان العملس الثعبان وهو العضب العبقرى وهو تارة أديب مفوه وتارة حاكم وتارة وزير وتارة هده الفقر والمرض وتارة أتعبه الشبع والذهب وتارة خطيب بيت المقدس وتارة طبيب بارع ولعل هذا التنوع الفريد فى شخصية أبى النصر المصرى لاشك يقابلها وطأة الحياة وجدلها الذى اشتد حول ابن الصيقل الجزرى والذى عبر عنه وعن نكوصه القهرى شعراً فى المقامات بحيث صارت شخصية أبى النصر تردد دلالى بين أزمة ابن الصيقل وشجاعة وجرأة بيبرس :

فتنبأ لزمر بات فى الذل رافلا

                              يجــــر رداء الهــم بيـن الزراقـــــم

وسحقاً لمن يهوى المقام ببلدة  

                                يرى الرزق فيها فى شدوق الأراقم

          .................................................

وتعساً لمن لاهت عليه مذلة

                                تعانقها العقبان فوق الغمائم

فلا خير فى ربع تظل نعاله

                                باقادر أهل  العى فوق العمائم

..............................................

ألا أن عيش الحر بين الأراقم

                               أحب وصالاً من وصال المصارم

وأهون من هون الهمام ووهنه

                               مصافحة الأعناق بيض الصوارم

وأصعب من كور الكروب وجورها

                               مجاورة تؤذى قـــــلوب الأكـــارم

وأفظع من ضرب النحور وأسرها

                               مجــــاورة تؤذى رجـال المكــارم

...............................................

    التأزم عند أبى النصر المصرى واضح ومفجع بين حب الحياة والنجاة والقتل والعيش تحت العسف والجور وبين الرغبة فى التحرر من الذل والهم والكرب والفسق والجهل والحرص الذى أذل أعناق الرجال ، أنه واقع بين حدين الذل والقتل أنه يتطلع إلى الأمل عله يأتى من بعيد !!

    الحركة الفكرية داخل النص تؤكد على التأزم بين المثال والواقع ، المثال فى النص يساوى العدالة والمفاخرة بالقوة العربية والشجاعة ونموذج فروسيتها والحكمة والاستشهاد وأن الشرف بالاكتساب لا بالانتساب ، فتنساب فى النص لمحات وإرشادات تمثل هذا المثال وبشخصيات تؤكدها أسماء بنت أبى بكر الصديق – عمر بن الخطاب والعدل العمرى – عبد الله بن الزبير – سليمان الفارسى – خالد بن الوليد – عمر بن معد يكرب – الإمام مالك – حسان بن ثابت – عنترة العبسى وملاعب الأسنة – عيسى المسيح – عثمان بن عفان – بلال بن رباح – الحسن بن على – قيس بن اللموح – موسى والخضر – حاتم الطائى وقس الفصاحة – وتماضر الخنساء – وهذه الشخصيات يتناولها ابن الجزرى فى النص من واقع الفكرة الإسلامية والرؤية الدينية المتفق عليها بما يشير إلى تطابق النص مع ما هو متفق عليه إسلامياً .

     رافد آخر تستمد منه الحركة الفكرية داخل النص المثال فى قوة وسلاسة وبراعة فائقة تتمثل فى الاستشهاد بالآيات القرآنية والنصوص الأدبية والفقهية فلا تشعرك بملل أو اضطراب وتدفعك على مواصلة القراءة وتربطك بالنص ارتباطاً وثيقاً لأنها أصبحت داخل نسيج النص وداخل النسيج الدلالى للقارئ وعلى سبيل المثال لا الحصر .. يقول " عليك بالتأسى ولو نابك وثم وإياك وسوء الظن إن بعض الظن إثم..... " الحجرات /12 " إن بعض الظن إثم " ويقول : " .... لكان قدراً جيداً ، وأجراً كبيراً ، وعيشاً وثيراً ، وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ، النساء /18 " فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً " .

    ورافد ثالث تستمد منه الحركة الفكرية داخل النص مثاليتها وهو الحركة الأثرية والتراثية داخل النص وما تلقيه من مدلولات عميقة تبين التأزم عندما يسيطر محتل غريب عنصر إجرامي  على مقادير ديار الإسلام ، وطموح الذات فى التخلص من عثرتها وواقعها المنهزم ، الحركة الأثرية تظهر فى : تربة خالد بن الوليد – طور الجبل – الصخرة الشريفة – أبواب دمشق – أبواب جامع دمشق – المروة والصفا – منى – كثبان الحسن والحسين – زاد المسافر أول فرس انتشر فى العرب من خيل سليمان – مغارة الدم – وهى من المواضع الشريفة فى دمشق . معالم الإسكندرية الإسلامية بالإضافة إلى البلاد التى فتحت أيام أبو بكر وعمر وعثمان وخالد أمثال دارين ومردين وميافارقين ونيسابور وطوس .

    ومن كتب التراث مقامات الحريرى وكتاب الحماسة لأبى تمام ، والواقية الكافية فى النحو لابن حجاب .  ثم يأتى التنوع العلمى والرياضى كاحد الروافد التى تغذى الحركة الفكرية داخل النص ابتداءاً من المسائل الفقهية المعقدة والصرفية والنحوية المبهمة إلى المسائل الرياضية والقضايا الطبية والفلكية والكيميائية لتشغل معاً كلاً واحداً داخل المساحة الشاسعة لحركة الإبداع والتى استطاع الكاتب فى براعة يحسد عليها أن يسيطر عليها سيطرة فائقة فلا تظهر فيها عوج ولا اضطراب ولا فراغ يقطعه ويهرئه وعلى سبيل المثال أيضاً لا الحصر ... نذكر هذه النصوص الذكية :

-   " .... أراك متشحاً بشعار الاستشعار وعلى صدر صدرك صدار الأصفرار وسيمياء الفضائل فائضة لديك ، وكيمياء المكارم متراكمة عليك " .

-   " .... ثم أنه وعز لهما من عباب عينيه بعدد عضل عينيه ، مشفوعة مع حدة ذلك الرجاء بعدد صور حروف الهجاء " ، وكما تقول الحاشية :  فإن عدد عضل العين 6 وحروف الهجاء 19 فيكون المجموع 25 فمراده دام ظله أنه أعطاه 25ديناراً .

-   " ..... وشب شباب مذلتى ، وغاض ماء منتى ، واستفاض قيظ  بهماء أنتى ، ويدرعى من الرقاع لديه عدد الخارج من قسم تسع وتسع عليه ، وما كلفته مذ عرفته درهماً ولا سألته بالرامتين سلجماً . وتقول الحاشية:  فإنه يكون عدد الرقاع = 9 ÷ 9/1 = 9 × 1/9 = 81 .

    ورافد رابع يستمد النص الزينى منه تأزمه وهو الأمثال الشعبية ومنها على سبيل المثال ( أخس من جاجة وأنصب من بحيس " و " أشأم من طويس " و" أسرق من ذبابة ، وأخدع من يربوع ، وأفرس من ملاعب الأسنة ، وتركتهم فى حيص بيص ، تسألنى بالرامتين سلجماً ، خير من تفاريق العصا ، لو ترك القط لنام ، عند جهينة الخبر اليقين ، فى الصيف ضيعت اللبن ، من أشبه أباه فما ظلم ، النقد عند الحافره ، المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ، المستشار مؤتمن ، والمستشير معان ، ومن عز بز ومن دخل ظفار حمر ، ومن وقى شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقى " .

    هذا الغنى الذى يملأ الخطاب الزينى يعبر عن توق الذات الأدبية إلى النموذج الذى يطمح الكاتب إلى عودة ريادته ، إنه يعبر عن أيديولوجيا الكاتب باعتبارها مجموعة ضخمة من الإشارات تشكل فيما بينها تصورات الكاتب التى تعلو الواقع المادى لتتماهى فيه وتشكل بدورها واقع النص ، هذا الذى يمتلئ بدوره بمستويات الغرابة والكثافة والتلاعب اللفظى بحيث يشبع الجمل والعبارات والفقرات بألوانه المختلفة ويستخدمها استخداماً يبرز منها أهمية عناصر التركيب داخل الجمل والعبارات والفقرات وبالتالى داخل النص وبدورها داخل الخطاب ، الذى يبدأ من المبدع / ابن الصيق الجزرى العراقى إلى داخل النص على لسان ابن جريال الدمشقى / الراوى ومع أبى النصر المصرى / البطل / الفاعل الذى يأخذ بزمام زمن الوقائع والأحداث فتنهض معه الرؤية ، وتنطبق بنية النص بأديولوجيا الخطاب ، الذى يقف وراءه الراوى يراقب ويحلل ويكتشف ويشارك ويصطدم مع البطل ثم يقدمها الكاتب توصيلاً للدلالات التى يريد هو إيصالها فى زمن السماع والقراءة المفتوح والممتد فيما بعد داخل المستقبل التاريخى إلى ما بعد ما تعيشه بغداد الآن ! ، وهذه العلاقة تأخذ الشكل التالى :

 

 

 

شكل رقم ( 1 )

 زمن قص المقامات محدد بفاعليات التاريخ آنذاك والتى تسيطر على الكاتب المبدع وتشكل زمن الكتابة – وتحمل معها أحداث ممتدة عبر سنوات قد تقصر أو تطول ، وأحداث ووقائع قد تأخذه برهة من الزمن اللامحدد ، أو بعض يوم لتقدم لنا البطل الفاعل الذى يحمل أيديولوجيا الكاتب داخل خطاب النص الزينى وتتفجر فيه بنى النص نحو المروى إليه فى زمن سماع المقامات وزمن القراءة غير المحدد والذى يتجه نحو مستقبل قادم ، ولتحتفظ إلينا برؤى مستمرة وممتده عبر تاريخ طويل نستكشف فيه توق الذات الأدبية إلى التحرر من واقع يسيطر عليه قوى أجنبية عنصرية إجرامية باغية ، هذا التوق المغلف باللغة المبدعة التى تفوق الواقع وتعلو عليه لتتماهى فيه ، حيث تتألف الدلالات من أصغر الوحدات البنيوية صوتية كانت أو نبرية أو نحوية تركيبية وسياقية لتشكل نظاماً منسجماً تتوحد فيه الدلالات والتصورات ولتفجر جمالها الفنى وتعبر عنه بديمومة التوالى فى شكل لا متناهى من المجموعات الصوتية المتألفة فى أتون من التراكيب التى تتوقد بالتراكم والتصاعد من أجل جعل حركة النص متواصلة ومتدفقة وحيث تتقرر فى هذه الديمومة المعانى ويتحقق التاريخ وتنتصر اللغة ، لتقدم خطاباً يستهدف نقد الواقع ورفضه والطموح إلى النموذج الأمثل للتحرر .

 

Text Box: البطل/
حامل القضية
والموضوع/
المصرى

Text Box: زمن / 
وقائع الأحداث

 

 

Text Box: اللغة

شكل ( 2 )

فاعلية الخطاب الزينى حيث تشير الدائرة إلى ديمومة العلاقة بين العناصر الأربعة بالإضافة إلى فعل القول داخل النص – كوسيلة – الذى يتفجر باللغة ليتحقق عند الكاتب كهدف ليتحرر فى زمن الوقائع الذى يشع بقوة ويؤثر بشدة على العناصر والهدف والوسيلة.

وهنا يمكن القول بدائرية المثلث – تجاوزاً – حيث ترمز الدائرة إلى صيررة وديمومة العلاقة المركبة من ناحية اللغة المستمدة من فعل القول ( فقالوا لى :  ، فقلت لهم : ، فقالوا : ، فقلت! ، قال : ، وقال لنا : " فقلنا له ! ، فقال ...  ، فأطرق لقولى ! ) .   

فى هذا الفعل تنفجر الجمل متتالية متوالدة مترابطة لا تنقطع تتجه إلى التصاعد فى اتجاه إحداث المفارقة والدهشة وهذه قصدية من قصديات النص تتراتب فيها هرمية البنود النحوية وتتراكم تصاعداً من مورفيماتيها إلى كلماتها وتركيب هذه الكلمات حتى تصل إلى حدود الجمل وأشباهها والعبارات ، والجملة هكذا كما قال رولان بارت نظام تمثل وحدة أصلية ، والعبارة بالتالى – سلسلة تتشكل من هذه الأنظمة المنسجمة ، وعليه يكون الخطاب كما وضح رولان بارت لا يتضمن شيئاً إلا ويوجد فى الجملة : " فالجملة كما يقول مارتينيه ، هى المقطع الأكثر صغراً ، وهى التى تمثل الخطاب تمثيلاً تاماً وكاملاً .

والعلاقات الممتدة عبر تاريخ طويل هى التى تشكل اللغة داخل الخطاب الزينى وبالتالى فإنها تصل بنا فى النص الزينى إلى نهوض الرؤية داخل المقامات وإنطاق بنيتها المتشكلة منها ، وهى بهذا الامتداد فى الواقع والتاريخ لا تفارق الثقافة والمجتمع وإنما تتشكل منهما وفيهما لتفارقهما إلى الأيديولوجيا والتصور الذى يستهدف المبدع إلى تحقيقه والانتصار له على علائق التردى فى الواقع وقوى القهر والظلم والبغى والعنصرية  ، وهكذا تكتمل الدائرة فى ديمومة مستمرة وممتدة .

المقامات الزينية ممتدة امتداداً تاريخياً فنياً يرجع إلى الأصول الأولى لفن المقامات عند ابن دريد فى أحاديثه وبديع الزمان الهمذانى والحريرى هى مثلهم تساهم فى تقديم الواقع الاجتماعى إلى الفن تقديماً معتمداً على فنون البلاغة لتصير بهذه الفنون وجوداً بلاغياً يطمح للانتصار على الواقع ، وتقديم تفرده فيه كمظهر من مظاهر التفوق فى المجتمع ، حيث تلقى المقامة قولاً أمام جمعاً من المثقفين والعلماء ومن الناس الذين يدعون المبدع ليقوم ويقول المقامة ولذا فهى ارتبطت بفن القول الذى يتمخض بدوره عن صياغة الحكاية ، فلا وجود للحكاية إلا فى القول ، ولا قول بدون سرد وبدون حكاية وفى المقامة تعتمد الحكاية على الوجود البلاغى كإيقاع جمالى وفنى داخل النص ، لذا قال الدكتور عبد الله الغذامى عن المقامة أنها نص أدبى يقوم على حكاية ويقوم على نظام ، فالحكاية معنى سردى ، والنظام إيقاع إنشائى . وبين السرد والإيقاع علاقات من الترابط الذى يشبه التواطؤ . فكأن النص يتواطأ ويتأمر من داخل هذه التركيبة ( السردية / الإيقاعية ) كى يوقع القارئ فى حبائله ويستحوذ عليه بواسطة السيطرة أو الاستدراج ، حيث تخضع أحاسيس القارئ لسلطة الإيقاع المتلاحق ، ولإغراء السرد الذى يكفل تنبه القارئ للنص ، كأنما الإيقاع يخدر والسرد يوقظ ، يكون المتلقى حينئذ لعبة بيد النص فيصحو القارئ ويغفو حسب توجيه النص وإرادته .

والنص الزينى يحاول الخروج من إسار التخدير ليجعل الوجود البلاغى وجوداً جدلياً يتصارع فيما بين وحداته ليدفئ النص ، الذى يتوالد من نصوصه نصوصاً تتحارب فيما بينها بسيف البلاغة ( حينما يتصارع الأفراد داخل النص حول قضاياهم بالبلاغة والتحايل البلاغى والتلاعب اللفظى ، كل ضد الآخر بكل ما أوتى من بلاغة ومن ضروب التصوير اللغوى التى لا حدود لنهايتها ) ، لذا فالشعر والنثر داخل النص الزينى يمتازان بالجدل والحركة والتفاعل والتصاعد ومحاولة التغلب على المهادنة والتردى والاستسلام للهزيمة ليعبرا عن انتصار اللغة التى تمثل الثقافة العليا فى المجتمع ، المراد الحفاظ عليها ، وفى مواجهة التردى وانكسار الروح والذات ونكوصها وتأزمها وفى انهزام الواقع وترديه وسقوطه فى براثن الاحتلال ، وفى التأزم الإنسانى الذى يعانى منه الفرد داخل المجتمع والذى قد يفتقد القدرة على المقاومة ويقبع خائفاً فى غياهب الذل والسجن والقهر وسطوة قوى الاحتلال :

          فإن كنــت ذا رأى فقوض مقهقــراً       تعش فى محــل رجـح غير هائم

         وإن كنت ذا عزم على الحث جازماً        فكن بينهم ما دمت عين المسالم

 

 

هذا هو التأزم الذى يحاول أن يتغلب عليه فينشد :

 

ساعد سليلك إن سقــط            بيـن الأسافـــل والسقـط

واحرس حماه ولا تكـن            ممــن يــذل إذا قنـــــط

واركــب ليـوم قتـــــاله            قبــــا تشــن إذا هبــــط

وكــن الربيــط فإنمـــــا           يحمى الحقيقـة من ربط

وابـــغ الكفــاح لنصـره           إن شـاط ظلمـاً بالشطـط

وذر الظلامة هل تـــرى                    نـال السلامـة من قسـط

ودع الطماح فما نـــرى           دع المطامــع من سقـط

ما حفظ مديـتـك حكمــة           تربى على در  السفـــط

لـولا التــكرم والنــــهى           حسد المفضل من غـبط

فالفــذ من وجتد العــلى           سلكــاً يسود فانخـــرط

اللغة فى النص تنساب منها الروح الشاعرة المتوقة إلى التحرر والمضطرة تحت ظروف القهر والإرهاب أن تتحول إلى سلوك لغوى لا سبيل لتفاديه لتحتجب خلف اللغة احتجاباً خلف وخشية فى أن يظل النص الزينى نصاً سجيناً للتكلف اللغوى فإن الروح الشاعرة الفذة تكشف عن إبداعها باستخدام المنبهات الإبداعية من الشعر والرجز ، الأكثر وضوحاً وجلالاً وجلاء وموعظة ليتفاعل مع القارئ والسامع ويبوح لهما بجوهر مكنونة ومراد قلبه وما ألت إليه حالته ونفسه ومجتمعه يقول فى المقامة السادسة عشر :

أما والذى أهدى الحجيج فأزعجت

                             إلى بيتــــه خوصــاً رسيـم رسيمهــا

لقد كنت قبل اليوم يسحب مطرفى        

                             على روض تنعيــــم النعيـم نعيمهـــا

وأرفل فى ثوب الـــــدلال ولم أزل       

                               أخا  دعة يسمــوا النسيــم نسيمهـا

 يطاوعنى صرف الليــــالى كأننى

                              بــذى حبــب حلــو الحميــم حميمـها

وتسعى إلى أرضى العفاة عواطلاً

                              فيرجـــــع بالعكـــم العكــيم عكيمهــا

وينتابنى العافــون والعــــام معتم

                             فيفــعــم عيشـــــاً للعديـــم عـديمهــا

ويعلو يراعى والقراع وعزمتى

                             أذا عل شرياً حنظلاً بالعظيم عظيمهـا

فلما نأى عنى الصلاح وصافحت

                             أنــــــامل حظـــى والأديـــــم أديمهــا

تأخر عنى الخير والخود والرخا

                             وواصـــــــل خيمى رخيمى وخيمهــا

وضاقت يمينى بعد يمنى وأننى

                             لفـــــى فكـر مـذ  فـر ريمى وريمهــا

فأف لدنيــــانا الذميمــة إنهــــا

                            تـــذل عظيمــــاً كـــى يلـــذ ذميمهــا

فبت عديمـاً واستفــاد عديمهـا

                         وظلـــــــــت سقيمـاً واستقـام سقيمهـــا

وفى المقامة الثانية يقول : فقلت له : انتصف من اعترف بما اقترف ، عفا الله ما سلف ، فأغمد لصفحى النصال ، وضارع القصال ، وقصد الانفصال ، ومال لجذم الصخب وصال ، وأنشد بعدما سكنت ألوية بطشه وعصائبه ، وبركت ركائب طيشه ونجائبه :

 

واحفظ وصية من أوصاك معترفاً

 

أن الزمان جزيلات عجائبه

لا تفرحن بما أوتيت من نعم

 

فربما عاد فى الموهوب واهبه

واصبر إذا نزلت كرهاً نوازله

 

إن الصبور عزيز عز جانبه

واركب من العفو طرفاً لا يعارضه

 

يوماً عثار فإن الحر راكبه

والبس ثياب الحجى والحلم مدرعاً

 

درعاً تجول على العليا مساحبه

وخذ من الورد ما يكفيك من ظما

 

وخل بعدك كى تصفو مشاربه

وارحل إذا كنت فى الأقوام مطرحاً

 

واترك حجاك بلا شوق يجاذبه

وعد نفسك من باب اللئيم فما

 

يدنو إليك بما ترضاه حاجبه

واخفض عدوك لا تنصب مصادره

 

لا انجز جازمه واعتل ناصبه

 

ويقول فى المقامة السادسة :

صروف الزمان تذل الفطن

 

وتعلى الجهول وتوهى اللسن

فما زال فى غيه رافلاً

 

كثير الخبال عظيم الأحن

فهذا الهبوط بذاك الصعود

 

وهذا القبيح بذاك الحسن

وهذا الملال بذاك الوصال

 

وهذا العناق بتلك العنن

 

الإيقاع داخل النص الزينى يرقى إلى مرتبة الشعر أحياناً حتى تكاد الجمل تشابه قصائد أصحاب السطر التفعيلى أو المنثور ولنقرأ هذه الأسطر بعد إعادة تشكيلها على نحو يماثل السطر الشعرى الحديث :

لتعلم أن نسيمك هدأ

بهذه الرياح العواصف

وتسليمك أذعن لقعقعة

هذى الرعود العواصف

...........................................

وأيقنا أنك كاسر هذى العلاة

وناسر سبسب هذه الفلاة

..........................................

ويقول:         

                   صفائح بصيرته مصقولة

                             ونصائح منصبه موصولة

                             وصعاد صباحته

                             مصفوفة

                             وأصفاد مصالحته

                             مرصوفة

                             خلصت خصائصه فواصت

                             وصلحت فصائله فاعتاصت

                             .....................................

                             أصارم لوصله النصيح

                             وأخاصم لصدعه الصحيح

                             وأصفى لصبوحه الفصيح

                             واصطفى لصلوحه الصرائح والصريح

فوصلته برصائف ،وواصلته بوصائف وخصصته بخصائص وأحصصته قلائص ، فمصع صولجى بصولجان صعلكته وقصع صناديد الصرم بصارم فصارمته......

    الإيقاع داخل النص اللغوى الزينى إيقاع ممتد يعبر عن الاستمرارية والتوالد والحياة والقوة والبراعة التى تنشدها الذات المبدعة وتطلع اليها بعد انهيار الحياة خارج النص والذى عبر عنه الاعتزار الأخير لابن الصيقل الذى قدمه أبو المعاطى محمد بن بلكو بن أبى طالب الأوى بعد انتهاء المقامات .... حين وصف ابن الصيقل : بأنه ناشر رمم البلاغة غب (بعد) دثورها ، ومنور بدور الفصاحة بعد انمحاق نورها ، وعامر رباع الأدب وقد عفت آثارها ، ورافع شعار العلم وقد كاد ينهدم منارها.

    الأداء الإيقاعى الممتد الذى ينشده أبن الصيقل هو أعادة العربية المحاصرة بالثقافة الأجنبية الغازية إلى عرشها .... الامتداد يكتسب خصوصيته من الامتداد الصوتى الذى يخلق به المبدع نهرا موسيقيا متدفقا يجعل من نسيج المقامة وحدة واحدة ويجعل من النص الزينى فى تنوعه الموسيقى أوركسترا سيمفونى متكامل يكتسب إبهارة من تكامل أدوات بن الصيقل حيث يحيط المعنى بالألفاظ المتنوعة والمتعددة والمرتبطة فى بنيتها وفى جذرها وتصريفها ارتباطا يثير الإعجاب بقوة وغرابة هذه المفردات وهذه الألفاظ فإذا هى قد ارتبطت ارتباطا وثيقا يشكله التشابه البنائى السديد للجملة حرفا وإعرابا وحركة وجذرا وصوتا بما يشكل ديمومة التوالى ويصير معه التعبير هو بمثابة الائتلاف المتناغم للعناصر المحسوسة الذى يخلق تعبيرا كليا للعمل ، ويشكل معه الصورة العليا للمعنى (4) والتى تتحقق فى المقاومة ضد الموت والمحو والانقهار،  والانتصار للذات ، .. يقول فى المقامة الخامسة والعشرين:

".... مبدع كل حى ، ومدمر كل لى ،بحى ، مدرك كل بعيد ، مهلك كل بعيد ، نقض كل ممر مغبر ، ونقض كل ممر فعبر ، وتلتل كل مصر فعتر ، وبلبل كل مغير فعثر ، وخسف قمر قدر من بدع ، وكسف شمس سعد من فى حكمه ندغ......................... فغرب لفجره فجر من فجر ، وعذب لفخره فخر من فخر ، ونضر وجه من دينه نضر ونصر جند من جند نصر ، وجد من نبذ عهد بعثته ، وصد من تعثر بعثير عثعثته....."

    التلاحق والتصاعد فى اتجاه جدل الحياة والوجود والصراع بين الأنا المبدع والحياة التى تحاصره وتنساب إلى بطلة وروايته وتجعل من التضاد والصراع الذى ينشأ من مواقف الحدث والتى تمتاز بالطرافة والنباهة كعادة المقامات والتى لم يشذ عنها ابن الصيقل الجزرى ، يخلق فى النص الزينى دراما الفعل القصصى حيث يصير صراع الأفراد أوالرجال  والنساء والجماعات نوعا من المجابهة والتحايل والمراوغة التى يسيطر عليها المبدع باللغة فيصير التضاد اللغوى والصراع الإنساني وقد انصهر فى أتون الامتداد الموسيقى الصوتى والمتكامل ، نوعا من الثبات المغامر الذى يحقق به الكاتب المبدع أهدافه ويتحدد فيه مصيره الأدبى والفكرى . وعلى سبيل المثال لا الحصر ... فى المقامة الثامنة والأربعون عندما يتصارع عجوز وزوجته أمام القاضى ويشكو كل منهما حالته : المرأة فى ضادية لغوية ، يستعرض فيها المبدع فنونه وسيطرته على اللغة : قالت المرأة :

ضوعف فيض القاضى ، المخضل الراضى الخضل التراضى الضابث المراضى ، المضابث المراضى الفائض الجرواض ، النابض الفياض ، الجاهض الضرغام ، النهاض الإضرام...

...............................................

فاضب الضير والضرير هضيم     هاضم الضيم والهضيم يضام

...............................................

وتأتى الى شكواها وتقول :"...... أحضرته لضفف خضعنى ، وقضف قضعنى وعرض غضبنى ومضض أغضبنى وضر غضضنى وضر قرضنى وضر خفضنى ، وأبض رضنى ، وبرض مضنى ........."

فيرد عليها الزوج بظائية " بعد أن آن وانتحب وهن وانتخب ، وقال : حفظك للظالع الظليم ، وأيقظك العظيم لتعظيم التعظيم ، وبهظ بمظاهرتك الظالم ودلظ بظبى مناظرتك المظالم وأظهر لظى تيقظك الواظب.

................................................

فانظر لحظل أظر بتمظيع ظعينة غليظة ، شاظفة وشيظة ، حظرت حظ حظها وتفظعت وفظعت فظاظة ظأبها ومظعت ، وتشظى لحظها الظلف والشظيف........."

...............................................

فادلظ الظلم والكظاظ فظهرى      ظاهر الظر عنظبى العظام "

وهذا التكثيف البلاغى الهندسى الصوت يلقى بظلاله الشديدة الكثافة على النص الزينى لكن بدون هذه الطبقة الصوتية ، فان طبقة وحدات المعنى تكف عن الوجود ...، فالمعانى مرتبطة ماهويا بأصوات الكلمات .........، وحيث تؤسس المعنى من خلال البنية الصوتية المحددة لها كما يرى انجادرن (5) إلا أن الرغبة فى التفوق كأحد الدلالات الظاهرة من النص الزينى والتى تعبر عن انتصار اللغه فى مواجهة الذات المتعبة بالاحتلال والقهر والعنصرية  بحيث تصير اللغة كإحدى تحديات العصر وأحد مظاهر التفوق الاجتماعى والإبداعى وكبديل عن النكوص الداخلى تجاه قهر المحتل وهذا بدوره لا يطمس أبدا الدلالات الكامنة والمستترة فى النص الزينى التى تزداد ضراوة وتركيزا بعد فك شفرات ألغاز النص حيث يتبقى الحدث والشخصية فى أجواء مولعة بذلك.

وتنطلق من هذا اللاتناهى الإيقاعى الدلالات التى تتحرك تحركا وحشيا لتجسد وتعبر عن الواقع الاجتماعى الممكن والذى يعيشه ابن الجزرى كمنفعل وفاعل يقول ابن الجزرى فى مقدمة مقاماته عن كتابته للمقامات الزينية "............ وأطلقت عنان الاجتهاد ،لا عنان الجياد ، واستمطرت عنان الرشاد ،لا عنان العهاد ، وانتجعت من لب محشو بسحوح المحن ، وقلب مقلو من قروح الإحن ، وهمم قصيرات من الهم ، وحكم بكيات من الغم ............ وضمنتها من الآيات المضكات ، والأخبار المسندات ، وعرائس المذكرات ، وغرائس المناظرات ، ومن العظات ما يسيل الدموع ، من الزاجرات ما يحيل الهجوع ومن المضحكات ما يضحك الموتور ومن الملهيات ما يهتك المستور فالله اسأل أن يبيح جلوتها لمغترف نابه ولا يتيح خلوتها لمغترف تائه ، يتناول يانع ثمارها ، ويحاول جحد بدائع استثمارها ، ويظنها موضونة بضروب الاضطراب ، ولم يشعر بأنها مشحونة بانصباب الصواب............"

  والفرق بين عنان الاجتهاد وعنان الجياد فرق كبير بين من ينظم إبداعه فى قوة وتخطيط وجهد وبين يطلق نفسه عنان الجموح والهياج ، والأولى هى ما يريده ابن الصيقل حتى تصير المقامات منتوجا له تكشف فى (رشاد) عن آلامه وهمومه وثقافته ومعارفه ومضحكاته ومبكياته وعليه تصير الدلالة لهذا المنتوج دلالة تتحرك على مستويات فاعلة تبدأ من الذات وتغوض فى أغوار الفاعلية والحراك الاجتماعيين آنذاك فتشرح قيمه وسلوكياته وثقافته وطرق تفكيره خلال تكنيك المقامة فى القص والحكى والسرد بين ابن جريال الدمشقى وأبى النصر المصرى وتفجرالدلالات الكامنة التى تكمن خلف الظاهر النصى وتشى بالمجتمع والانسان واللغة فبالإضافة إلى الروافد السابق ذكرها داخل الحركة الفكرية والجغرافية للنص فإن هناك حركة تتداخل تداخلا لا ينفصم عراه عن الحركات السابقة تشرح لنا كيف كان يعيش ابن الجزرى المجتمع والشعب وكيف كان يفكر وكيف كانت تنظر الطبقة المثقفة إليه . هذه الحركة هى الحركة الاجتماعية داخل النص الزينى .

    يكشف لنا النص الزينى عن هذه الحركة من خلال حركة الأبطال وشخوصها داخل هذا النص المتسع الرقعة جغرافيا كما رأينا ورغم هذا الاتساع فإنه تنحصر أغلب هذه الحركة فى الطبقة المتوسطة ثم يليها الطبقة الدنيا ولا نلمح أثرا للطبقة العليا ... وقد كان المجتمع الاسلامى العربى آنذاك تعتمل فيه هذه الطبقات الثلاثة: الأولى طبقة السلطة الحاكمة والمتشكلة من السلطان والخليفة والأمراء وأصحاب الثراء الطائل وهذه الطبقة تتمتع بكل شئ وفوق كل شئ لا يحد ترفها أو مجونها حدود ولا يحد قوتها وسلطتها الا أقرانها ، وفى الطبقة الثانية الوسطى وهى طبقة العلماء وكبار الجند وكبار التجار والزراع والصناع، أما الطبقة الدنيا فهم العامة المطحونين وصغار الفلاحين والعمال وطبقة الخدم والرقيق والجوارى  والواضح من النص ارتباط أبو معد بن نصر الدين صاحب المقامات ارتباطا شديدا وواضحا بالطبقة العليا والوسطى من القضاة والفقهاء والعلماء وأنه كان يشغل مكانة عالية بين الطبقتين الأولى والمتوسطة وكما تقول ديباجة المقامات:

 الشيخ الإمام العالم الكامل الأوحد العلامة مجد العلماء وتاج الخطباء وفجر البلغاء ، قدوة الأدباء حجة الأدب ، لسان العرب ذى الرياستين مفتى الفريقين شرف المعالى شمس الملة والدين أبي الندى معد بن الشيخ الإمام العالم الملك الوزير زين الدين أبى الفتح نصر الله بن رجب المعروف بابن الصيقل الجزرى " وقد سمع مقاماته كما يتضح من نص إجازات النسخ المحققة نسختى" ليننجراد وتيمور" أشهر علماء بغداد والعراق .

وهذا يلقى بدلالة واضحة وشديدة ضمن رؤية أحد المرتبطين بالطبقات العليا والمثقفة آنذاك للحياة الاجتماعية التى تعيشها البلاد والتى تحياها بصفة خاصة الطبقة الدنيا هذه الطبقة المناضلة والتى تعانى وتقف فى مواجهة الغزو والقهر وانهيار الطبقة العليا وسقوطها.

     الفعل فى النص الزينى فعلا اجتماعيا من الدرجة الاولى يصنف ويوصف الحياة يمتاز بالحراك الاجتماعى الذى يعنى انتقال الأفراد من مركز إلى مركز آخر أو من طبقة إلى أخرى وكما يمتاز بالحراك الأيكولوجى من انتقال الافراد بتغيير موقع إقامتهم والعلاقة بين الحراك الأيكولوجى والحراك الاجتماعى فى النص الزينى علاقة تمتاز بالفاعلية والديناميكية فأبو النصر المصرى فى مصر من الطبقة الحاكمه العليا وهو غيره فى مناطق أخرى . كما بينا ذلك ومسببات هذا الحراك بأنواعه المختلفة يشعلها عدم التوافق الاجتماعى لأبى النصر المصرى وعجزه عن مواجهته البيئة الاجتماعية التى يعيشها بين بلد وأخر والتنافس الشديد بينه وبين الآخرين بما يوضح القدرة الانسانية فى مواجهة أعباء الحياة . البيئة جغرافيا تكاد تتشابه إذ تمتلئ بالوديان والعيون والزروع وأشكال اللهو من خمر وغناء ونساء وغلمان وأندية أدبية وفندقة وفى هذه المناطق الشاسعة التى تحويها المقامات تلتقى أجناس شتى عربية وأفريقية وأسيوية وأوربية وجنود محاربون وتجار وبحارة وعامة . وتتمتع الطبقة المتوسطة والقريبة من الطبقة العليا باللهو والمجون وتعانى منهما وحياة هذه الطبقة تتلخص فى " مصاحبة الاصطفاء ومقاربة الوصفاء ومعاشرة الشعراء ومخامرة العشراء ومسامرة الرؤساء ومعاقرة الاحتساء"

    أما مجالس المجون فهى شغل شاغل هذه الطبقة ويقدم النص الزينى وصفا لأحوال هذه المجالس فيقول : وحين حللت بحوائه ورفعت بين العرب ألوية ثنائه أشار الى كل مشارف بإحضار شارف " دن معتقه بالخمر"  والى كل قريع ، بنحر نحر قريع ، وإلى الرعابيب" المرأة والحسناء الرطبة " بقضب الرعابيب ، وإلى الطهاة بالإنضاج ، وإلى السقاة بالإزعاج ، فلما قدمت القدور ، وبادرت إلى المعازف البدور وتقدمت الخمور ، وجعلت العبدان عندها تمور ، أمر بقدوم إخوانه إلى خوانه ، وحضور خزانه ، فظلنا بين شدو ونشيد ، وشاعر مشيد ، وداعر نجيب ، وذاعر مجيب ، تجانبنا جنائب المجانبات ، وتحاببنا ، حبائب المحاببات.

    ودينامية التحول هى أساس الفعل الاجتماعى فى المقامات كطبيعة هذه العصر الذى شهد تحولات وتغيرات سياسية واسعة آثرت الأسر الحاكمة والسلطة القائمة ، والطبقات المتوسطة المحيطة بها وبدلت فيما بينهم تبديلا ، والطبقة المتوسطة فى المقامات يضربها التحول والتغلب والتبدل وتعانى من صروف الزمن وانعدام الأمن وانتشار الفوضى وفقدان المعايير فمن الغنى الى الفقر ومن المقدرة إلى العجز ومن الشباب إلى الكهولة ومن الصداقة إلى الخيانة ومن الشرف والعفة إلى الفسق والمجون والفساد والخبث والتحول يقسم المقامات الى شطرين أساسيين من مظاهر الفسق والعشق والمجون واللهو والخداع ، والطهارة والشرف  والقسم الأول هو الذى يغلب على المقامات بينما يعترى المقامات الأخيرة القسم الثانى ويموت فى آخرها أبو النصر المصرى تائبا . ونلمح أبو النصر فى هذين القسمين وقد تحول وتبدلت شخصيته فهو فى القدس غيره فى القاهرة ، غيره فى دار السلام ، غيره فى الأراضى الحجازية أو الأراضى الرومانية فقد يلبس لباس الحكم والإمارة فى مصر ، والتصوف والتدين فى القدس والعربدة والفجر فى دار السلام .

   وتعانى الطبقات الفقيرة فى المقامات كما تعانى فى الحياة فهى هامشية لا حول ولا قوة لها تعانى من البرد والصقيع والحرمان والتشرد وسوء المقام والجدب والفقر ، ويقدم ابن الصيقل فى المقامة العاشرة صورة لذلك عندما تعرض أبو النصر للفاقة فيقول على  لسان ابن جريال الدمشقى : " فبينما أنا أقوم على قدم الإندمال ، وأحوم حول حواء الاحتمال ، ألفيت أبا نصر المصرى مشتملا بشمال الانحسار، مكتحلا بإثمد مرود مرارة الانكسار ، مرقعا بطاقة الاختلاق ، مترقعا ببراقع الاملاق ، متمعددا بظهارة الاخلاق ، مترددا بين الاقامة والانطلاق ،............. انطلق بى إلى وكر أضيق من خرت خياطة ، واقذر من ينابيع مخاطه ، كأنما أسسه الزاهد أوطان أوطان حيطانه الهداهد، ثم احضر بساطا كاد يتقلقل من القمل ، وسفرة يحملها الحولى من ولد النمل ، لا يعرف لخفتها طعم الأين مشحونة ببيضة وكمئن، ومع مرقة لا يعرق بحمام حميها ناب ولا يغرق بقعر مددها ناب " . وصورة أخرى يقدمها ابن جريال الدمشقى فى المقامة الثانية عشر " جعلت أتورد سلسل المساكن ، وأتردد فى ترجيح الساكن إلى أن ساقنى سنان القدر إلى فندق واكف القذر ، مملو من العير ، محشو من الحمير ، لا يسمع فيه سوى الشخير والنخير ، والاختصام على الحقير الوقير ، معروف بالمخانيث ، محفوف بإخوان أبليس الخبيث ، قد أحدقت به طفاوة الخبائث وعلقت به براثن الزمن العائث...".                                                                                                                                           

    لكن هذا الولع لا يتناهى وعلى حد قول العلامة الدكتور مصطفى ناصف : أن اللاتناهى مسألة توحى بها الأصوات (6)، وأن فكرة إحالة الكلمات إلى موسيقى ليست بالفكرة الهشة التى تتداول فى استخفاف (7) فأوربا التى تورد لنا الجاهز الادبى والنقدى لم تعرف الاتجاه الصوتى إلا مع الشعراء المستقبلين الروس فى محاولاتهم التى تعود إلى سنة 1910  وكذلك محاولات الدادائين سنة 1916 (8). ومسألة الصوت والايقاع الصوتى مسألة عرفها الأدب العربى منذ بداياته الأولى ، وقدمها لنا إبن الصيق الجزرى فى نوع من التكامل الفائق والمتميز الذى نلحظه فى مختلف المستويات التركيبية للنص حتى مستوى الخطاب أو معنى المعنى ، ابتداء من الحرف حتى المقامات بكونها معنا كليا وخطابا يتبنى فلسفة ويعبر عن حضارة ورؤية لأسلوبها فى نقل المعرفة الإنسانية .

    وارتفاع نشاط الوقائع الصوتية أو النظمية أو قل الأداء الايقاعى فى المقامات الزينية قد يكون مرده على حد تعبير العلامة الدكتور مصطفى ناصف إلى العكوف الصعب على الكلمات إيماء الى المجاهدة والمقاومة (9)  أو فى شد انتباه المتلقى (10) . وعناصر هذا الأداء قد تتشكل من النبر الذى تحدده تنوعات الارتفاع فى تلفظ الأصوات أثناء إلقاء  جملة ، ثم عنصر الوقفة الذى يمتلك دلالات تعينية وإيحائية وإبراز كل الوسائل اللغوية أيا كان نوعها ويشير إلى درجة التماسك الدلالى والتركيبى ، ثم الايقاع الذى يعنى الطريقة التى تتوزع بها بعض العناصر المترددة على طول المعطى اللغوى وخصوصا منها النبرات والوقفات فى المقام الأول ثم الوحدات الصوتية والتركيبات التركيبية والمعجمية التى يمكن لترددها أن يخلق شعور بوجود إيقاع (11) بالإضافة إلى إيقاع الشعر الذى تتضمنه المقامات ، وطبقا لإحصاء بروانليخ و.ح.ك . فادى عن العروض فى العصر الجاهلى وحتى القرن الثالث الهجرى (12) والتى انتهت إلى أن المجموعة العروضية الكبرى المسيطرة فى هذه العروض – وإلى حد بعيد تتكون من الطويل والوافر والكامل والبسيط ، ودخل الخفيف من القرن الثالث على حساب مرتبة الوافر ، فان البيان الإحصائى للعروض التى تتضمنها الأبيات الشعرية فى المقامات الزينية على النحو التالى :

 

البحر

عدد الابيات

%

شعراء يقترب منهم صاحب المقامات طبقا للإحصاء السابق ذكره*

الطويل

236

26و31

زهير – عمر بن ربيعة – حسان.

الكامل

156

26و20

طرفة  - عمر

الخفيف

111

70و14

 

البسيط

91

05و12

طفيل الأعشى – الحطيئة – الأخطل – ذو الرمة

المتقارب

55

30و7

أوس بن حجرـ حسان ثابت

الرجز

45

96و5

الأعشى

الوافر

40

30و5

طرفة – عمر – كثير

السريع

17

25و2

الاعشمى – الأخطل

التكامل

4

52و

 

المجموع

755

100%

 * الاقتراب فى نسبة البحور الى مجموعهم لديهم.

 

 

    هذا البيان الاحصائى يوضح أن ابن الصيقل الجزرى كان امتدادا تاريخيا وفنيا للبنية الأدبية السائرة ومؤمنا بقيمها الفنية الخالصة وتطوراتها التى حدثت من قبله وحتى وصلت إليه ، حيث تشكل المجموعة الرئيسية الكبرى للعروض وهى الطويل والكامل والخفيف والبسيط نسبة 67و78% فاذا أضفنا إليهم الكامل المخمس كامتداد للكامل ، وأضفنا الوافر كتطور لحق بنسب العروض كما بين الإحصاء فان النسبة تصل إلى 49و84%  لتزداد دلالة الامتداد قوة وسيطرة بما يتلائم والمعنى الكلى للخطاب من وصف الأحوال وعرض حضارة ذاك العصر والمعارف التى تحتويها وكيف يتصارع الإنسان فيها ويقف أمام العالم من حوله فنجد البحر الطويل 26و31% أو ما يستجيب لدواعى النفس وآلامها كالكامل 26و20% والخفيف 70و14% وجزالة الموسيقى كالبسيط 05و12% لكن ابن الصيقل الجزرى وهو المبدع عندما يقدم هذه البحور فانه يثور على اغراضها العامة ، فيتبع التجديد وإن كان قد ظهر حثيثا عند استخدامه الكامل المخمس (52و%) فى المقامة الرابعة والثلاثين .

                             يا مــن تجــرع بالكآبة أكؤوسا

                             سل الفؤاد  مع التباعد بالأسـى

                             يا من تحمل فى الصبابة أبؤسا

         ما بال قلبك فى الغواية غلسا       يا من تعلل بالوصال وأبلسا

أو الرجز المتدفق الفاعلية من نهر إبداع منشده ، والقافية التى تأخذ ثلاثة مقاطع وتنتهى بالرابع يتكرر فى بقية القصيدة ففى المقامة السابعة والعشرين ينشدنا:

دع الملام واحسم        واقطع آذاك واجزم      فليس يدمى من رمى

                                 بلومك المذمم

كــم لائم رفضــته        وجــــــازم خفضته       وصــــــــائم ركضتـه

                             إلى النوال المجسم

وكم جــزمت عفة        وكــم نصــت كفــة       وكـــم خفضــت خــة

                            خوف الخبيث المجرم

     وسيطرت البحور الطويلة والتامة ( الطويل والكامل بنسبة 52و51%) يؤكد على التحدى وعدم الاستسهال الذى يعترى ابن الصيقل الجزرى كما يبين اللجوء إلى التجديد على مقدرته الإبداعية الفذة وعلى تدفق نهر الإبداع كما وصف المنشد فى رجزه السابق هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى كانت أغراض الشعر ذات البحور الطويلة والتامة مع الإنسان ضد الاستجداء والمديح ومع المأساة والفجيعة ضد الهزل الذى أصاب الحياة والشعراء آنذاك ، كان ابن الصيقل يعبر عن رفضه للسائد المهترئ وخارجا عن نطاقه وضد التمسك بالعلاقة الميكانيكية بين بحور الشعر وأغراضها المتوارثة حيث كانت البحور الطويلة فى عصره قد اختزنها الشعراء للمديح ، وحتى بحر السريع (25و2%) حينما استخدمه كان استخداما مغايرا لكثرة استخدامه فى الغزل ، حيث عبر به عن الانزعاج النفسى والتأزم الداخلى والتردد الحياتى وما ينتاب الناس من صروف الزمان والدهر والردئ وحالة الانسان فى مواجهة العالم من حوله حينما ينكسر ويذل ومن السريع فى المقامة الثانية والعشرين :

أنشد والدمع يرحض أجفانه :

لا تلم المرء على شربه      رحيق صرف خافض شانه

فــــــأنفس الــذى زانـه      ملابــس الفخر وإن شانــه

ومن الطويل فى المقامة الرابعة والعشرين :

ألا قـــــــــائل الله الزمـــان لأنه            أخو جنف ما زال فى العهد ناكــثا

يعاند أهل الفضل ظلما ولم يـزل           كثيث النثــا ششــن الربائن حانثا

زمانــا به يمسى العليم مضيـعا            أثيث الغثـــا إرث الربائـث وارثــا

    ابن الصيقل الجزرى ينتصر على حالة الانكسار هذه بالبطولة اللغوية والمجاهدة والخروج عن الأغراض السائدة كبنية أدبية كامنة وتوصيف الحالة القائمة والتنامى داخل أحداثها بكسر السائد اللغوى وإيقاعاته المتداولة باللامتناهى اللغوى وأدائه الايقاعى اللامتناهى فى شعره ونثره، هكذا بقيت العراق بمبدعيها وراح الغزو وانتهى الاحتلال  وهكذا ستبقى العراق وسوريا ومصر والأمة العربية كلها رغم الطغاة ورغم الاحتلال والغزو  .

 

                                                                          أحمد عزت سليم

عضو اتحاد كتاب مصر وعضو آتيليه القاهرة

ahmadezatselim@hotmail.com

 

 

اجمالي القراءات 9653