أخبار النيل في عصر السلطان قايتباى

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ١٠ - أكتوبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى):دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

الباب الثاني : أخبار الشارع المصري في عصر السلطان قايتباى

الفصل الخامس   : أخبار النيل في عصر السلطان قايتباى

عيد وفاء النيل:

1 ــ تركزت حياة المصريين حول النيل في كل العصور، كان مصدر مآسيهم حين كان يزيد ويفيض طوفانا يغرق البلاد والعباد ، أو ينقص ويشحّ ، وفى الحالتين تتعطّل الزراعة ويحدث الغلاء أو المجاعة . أما حين يزيد بالمعدّل العادى فتتجمع حوله أعيادهم، حيث كان له في حياة المصريين عيد خاص هو عيد وفاء النيل. وفي عصر المماليك كان كسر النيل من الأعياد العامة التى يشترك فيها المصريين من جميع الطبقات والأديان، فينزل السلطان وجنوده في موكب زمن الفيضان ويكسر السد لتجرى المياه في الخليج والترع . وأحياناً ينيب عنه السلطان الأتابك قائد الجيش أو أميراً من مقدمي الألوف لفتح السد. أو بتعبيرهم ( كسر السّد ) أى فتح مجرى النيل ليدخل فى الترع . 

2 ــ في يوم الجمعة 16 محرم 873 (12 مسرى القبطي) يقول ابن الصيرفى : ( أوفي النيل) أى إرتفع منسوبه عند المقياس ( ستة عشر ذراعاً وزاد إصبعين من الذراع السابع عشر،) ووصل العلم بذلك للسلطان قايتباى ( فأمر السلطان الأمير قرقماي الجلب الأشرفي أن يتوجه لتخليق المقياس وفتح خليج السد على العادة في كل سنة ، فتوجه وفي خدمته عدة من الأمراء والأعوان ، وفعل ما أمره السلطان به، وخلع على والى القاهرة وعرفاء المراكب العاملين في المقياس والرؤساء ومن له عادة، وصعد الى السلطان فخلع عليه).

ولم تكتمل الفرحة بزيادة النيل إذ ما لبث أن تناقص وتصادف ذلك مع إفتتاح جسر جديد ،ففى يوم الخميس 20 صفر 873 ، تم فتح جسر بنى منجا ، ( والبحر يومئذ ثمانية عشر ذراعاً واثنا عشر إصبعاً، وهو نهاية زيادة النيل في هذه السنة،) يقول مؤرخنا:( وليته ثبت بل نقص نقصاً فاحشاَ ولا يزال ينقص إلى أن انكشف،) ويقول ابن الصيرفي: ( وحصل في زيادة النيل هذه غريبة ، وهى أنّ أرباب التقويم أجمعوا أن البحر يعلو إلى أن يصل إلى زيادة عن تسعة عشر ذراعاً.. وجاء الأمر بخلاف ما قالوا.). ومعناه أن تعلق حياة المصريين بزيادة النيل ونقصه جعلهم يبحثون عن الأمن النفسي بين المنجمين وأرباب التقويم والفلك، وقد كان ينجم عن نقصان النيل كوارث سنعرض لها فيما بعد.

3 ــ وذكر ابن الصيرفي بعض الطقوس التى كانت تحدث في موكب وفاء النيل فى يوم الخميس 19 صفر 875هـ ، يقول:( وأصبح يوم الخميس تاسع عشر، فركب الأشرف المقر العالى السيفي جانبك قلقسيز أمير سلاح ، وتوجه إلى مصر ( هى الآن ما يعرف بمصر القديمة من الفسطاط وما حولها ) حسب المرسوم الشريف ، فنزل الحرّاقة ( سفينة نهرية ) وصعد المقياس، وصلّى على القاعدة المعهودة ( صلاة الاستسقاء النيلية ـ أى دعاء بارتفاع منسوب النيل حتى يظهر ذلك فى المقياس ) ، ومُدّ له المدة الهائلة ( أى أعدوا له وليمة هائلة ) من الغنم المشوى والفواكه والحلوى . وصار الخلق في البحر حول موكبه ، وهم يدعون ويبتهلون لما عندهم من الفرح والسرور، وفتح فم البحر لما وصل إلى السد، وخلع على الوالى وعلى من له عادة من أمناء النيل وغيرهم . وركب للقلعة لحضرة السلطان ، فخلع عليه فوقانيا بطراز زركش ... وركب في خدمته عدة من الخاصكية ورؤوس النوبة وتوجه إلى داره في جحفل عظيم وهوتك ( موكب ) جسيم، وقصد السلطان بذلك جبر خاطره، فإنه قاسى أهوالاً شديدة في أسر شاه سوار.). كان الأمير قلقسيز أسيراً لدى شاه سوار وقد أعاده إلى قايتباى، وأراد السلطان الترويح عنه وجبر خاطره فأرسله أميراً على موكب وفاء النيل وكسر السد، ونزل الحراقة أى السفينة المعدة لذلك وركبها إلى المقياس وصعد عليه وصلى، وأقيمت له مآدبه من الخراف المشوية والفواكه والحلوي وازدحم الناس حوله في المراكب مبتهجين، وفتح فم البحر، وخلع على الوالى وأمناء النيل وعاد للسلطان فأنعم عليه، وذهب إلى داره في موكب هائل.

أخبار زيادة النيل ونقصانه:

1 ــ وكان مؤرخنا حريصاً على تسجيل زيادة النيل ونقصانه بين ثنايا تاريخه.ويقول في أخبار الجمعة 21 صفر 876 أن النيل توقف ثلاثة أيام ثم أصبح يزيد كل يوم إصبعاً وإصبعين ، ( وحصل الخير بمعونة الله تعالى، ورسم السلطان للأتابكي أزبك أن يتوجه إلى المقياس على العادة ويفتح فم الخليج فركب في ممالكيه وأعوانه وصحبته من الأمراء.) . وفي يوم الأحد 15 ربيع الأول 876  (إنقطع سد سنيت على البحر، وانتهت زيادة النيل يوم 17 ربيع الأول إلى إصبع من تسعة عشر ذراعاً، وفيه كسر سد الأمبوبة (إمبابه) كسره الوالى وأعوانه.). ويقول في أحداث ربيع الأول 875:( ولم يزد البحر شيئاً في سابع توت القبطي الموافق لسابع ربيع الأول، فإنهم كسروا سد الأمبوبة ( إمبابة ) ونقص منها، والأمر لله تعالى يتصرف في عبادة بما يريد.). ويقول في أحداث السبت 25 ربيع الأول 875 : ( نودى على البحر بزيادة إصبعين من النقص فصار البحر الآن في عشرين إصبعاً من سبعة عشر ذراعاً، واستمر يزيد بعد ذلك الإصبع والإصبعين في كل يوم.) أى كان المنادى يطوف فى مصر والقاهرة ينادى بزيادة النيل أو نقصه كأحد الأخبار الهامة. وفي أخبار الجمعة 4 ربيع ثان 876 يقول: ( ثبت البحر هذه السنة على عشرين إصبعاً من تسعة عشر ذراعاً . ولله الحمد والمنة والفضل والشكر الجزيل لا إله غيره.). وفى أخبار ليلة 27 ربيع الأول 877 يقول: ( نزلت النقطة ووزن الطين فجاء وزنه تسعة عشر قيراطاً تنقص يسيراً.). أى مقياس الماء من القاع عند الطين الى مستوى سطح الماء .

2 ــ كانت أخبار النيل من زيادته ونقص تشغل المصريين الذين تعلقت حياتهم بالفيضان وكان أمل المصريين أن يتحرروا من هذا الأرق والقلق، وتم إنشاء السد العالى وضاع الفيضان، وضاعت معه أشياء أخرى كثيرة.

أبو الرداد أمين النيل عدة قرون:

1 ـــ وكان أمين النيل في عصر قايتباى هو أبو الرداد، وقد أتى اسمه بين سطور الهصر.

وفي عيد الأضحى 873 يقول ابن الصيرفي: ( أخذ أمين النيل أبو الرداد قاع البحر فجاءت القاعدة، أعنى الماء القديم، وما أضيف إليه من زيادة في السنة، خمسة أذرع واثنين وعشرين إصبعاً.). ويوم الأحد 4 صفر 874 يقول صاحبنا ( أخبر أمين النيل ابن أبى الرداد بوفاء النيل ستة عشرة ذراعاً وبزيادة أربع أصابع من الذراع السابع عشر ، فأمر السلطان الأمير لاجين الظاهرى أحد مقدمي الألوف بتعدية النيل وتخليق المقياس وفتح فم الخليج الذى هو عند السد ، فبادر وفعل ما أمر به على العادة في كل سنة ، وخلع عليه ،وأُركب فرساً بسرج ذهب وكنبوش زركش على عادة من تقدمه.).وفي يوم الأربعاء 20 ذى الحجة 874:( أخبر أمين النيل أن أبى الرداد القياس بيشارة النيل وأن القاعدة ستة أذرع وعشرون أصبعاً، وكانت زائدة في هذه السنة عن الماضية ذراعاً واحد زاد من الغد الذى هو الخميس خمسة أصابع.).وفي أول المحرم الخميس 876 كان البشارة بزيادة النيل ، وأخبر أمين النيل أبى الرداد بأن القاعدة ستة أذرع وثمانية أصابع، فكانت ناقصة عن العام الماضى اثنى عشر إصبعاً.)

2 ـ وقد عمل (إبن أبى الردّاد) هذا قاضياً ضمن القضاة الشافعية وذلك بواسطة كبير الفقهاء الشافعية سراج الدين العبادى، وواضح أن عمله هو قياس النيل وقياس القاعدة الطميية وتسجيل الزيادة والنقص في كل عام، وإخبار السلطان بذلك ليبعث من يقوم بكسر النيل ويقام بذلك وفاء النيل.

3 ــ وقد لفت نظرى اسم أمين النيل في عصر قايتباى (ابن أبى الرداد) وتكرار هذا الاسم في التاريخ المصري في العصور الإسلامية المختلفة، وقد تبين أنها عائلة واحدة توارثت هذا العمل منذ أن عهد المتوكل العباسى إليهم بأمانة النيل، وعزل عنها النصاري، وقد تولى أولهم أبو الرداد عبد الله بن عبد السلام بن أبى الرداد المؤدب وكان رجلاً صالحاً فاستقر في بيته قياس النيل إلى عصر القلقشندي حسبما ذكر كتاب (صبح الأعشى). ويذكر المقريزى في تاريخ الفاطميين أن جوهر الصقلي الذى بنى القاهرة خلع على ابن أبى الرداد أمين النيل. وعلى ذلك فقد توارثت هذه العائلة القيام على قياس النيل من عهد المتوكل العباسى مروراً بالعصر الفاطمي ثم الأيوبي ثم المملوكي إلى عهد قايتباى، أى بثمانية قرون كاملة، أى كان عمرهم أكبر من عمر القاهرة.

الانحلال الخلقى عند زيادة النيل:

وعرضنا لما كان يحدث عند النيل من انحلال خلقى كان يزدهر في زيادة النيل. في يوم الأحد 11 صفر 875 ، يقول إبن الصيرفى أنّه زاد النيل فهرع الناس إلى الشواطئ ( وأظهروا المفاسد والقبائح والزنا واللواط والخمر فقدر الله أن نقص البحر إصبعاً في يوم الثلاثاء 16 صفر وأشاعوا أنه أوفي وأن الستر غلق وأن السلطان إما يباشر فتح فم الخليج بنفسه أو يأمر لأحد من أمرائه ، فأصبح البحر بلا وفاء بل نقص وأنه انقطع عليه فقطع الرمل بالجيزية ، وخرج الوزير لسده ، وصحبته جماعة من أعيان أخصاء الأمير الداودار الكبير.).

إنشاء سدود على النيل:

واهتم السلطان قايتباى بإنشاء بعض السدود على النيل.

في يوم الخميس 8 محرم، كتب ابن الصيرفي : ( ركب السلطان من القلعة وسار حتى وصل إلى خليج السد فوجده لم يحفر ، فاحتدّ السلطان وغضب ورسم لعظيم الدولة، الأمير يشبك من مهدى الدودار الكبير بأن يباشر ذلك بنفسه ، فتوجه في الحال وفي خدمته خلائق من الناس ، واهتم بأمره غاية الاهتمام ، بحيث أنه عمل فيه بنفسه وأمر جماعته بالعمل فيه.). كان السلطان مشغولاً بثورات الأعراب وبالاستعداد لمواجهة شاه سوار، ولكنه لم يفقد اهتمامه بحفر ذلك السد . وأثار ذلك تعجب مؤرخنا ابن الصيرفي، يقول : ( غير أن الناس تعجبوا من السلطان لاهتمامه بهذا الجسر هذا الاهتمام العظيم . ويكفيك من عظم الاهتمام بعمل هذا الجسر المذكور أنه اختار لهذا الجسر الأمير سودون القصروهى والأمير لاجين الظاهرى وكلاهما أمير مائة مقدم ألف وصحبتهما جمع كبير من المماليك وغيرهم.).

البناء والسكنى على النيل:

1 ــ وكان النيل ـــ ولا يزال يمثل ــــ جاذبية خاصة، يقترب منه الأعيان بالبناء، وكان فرعون موسى يقيم قصره على النيل، وجاءه النيل بموسى رضيعاً في صندوق. وكانت زوجته المؤمنة تدعو الله عزّ وجلّ أن ينجيها من فرعون وعمله وأن يجعل لها بيتا فى الجنة ، تأثرا منها بالرعب من فرعون ومن تنعمها بقصرها على النيل. والنيل هو الحاضر الغائب هنا ، ففرعون إغترّ به ونادى متسائلا : أليس له ملك مصر وأنهار النيل وترعه وبحوره تجرى من تحته ، أى إستبد واستكبر بسبب سيطرته على النيل شريان الحياة فى مصر . وقد سكن على هذا النهر ، وتآمر عليه النيل فجاء له بموسى .

والفراعنة وأعوانهم كانوا يهيمون عشقا بالنيل حتى لو كانوا من المماليك الوافدين لمصر . المماليك البحرية حملوا لقب البحرية لسكناهم فى معسكرات حول ( بحر النيل ) فى الجزيرة. ومع أن المماليك البرجية أقاموا فى طوابق ( أو طباق القلعة)  و ( أبراجها ) فلم يبتعدوا عن النيل . وسكن كبار أتباعهم حول النيل . وفي عصر قايتباى كان أعيان الدولة يتنافسون في البناء بالقرب من النيل. يقول مؤرخنا في ترجمة عبد الرحيم بن البارزى ت874 عميد بيت البارزى في أخر عهده : ( عمّر داراً هائلة على شاطئ النيل مجاورة لدار جده ولدار رئيس الدنيا ابن مزهر الأنصاري كاتب السر. وحصل بينه وبين رئيس الدنيا ما حصل من الغوغاء لما برز على داره، ومن محاسنه أن هذه الدار التى أنشأها عديمة النظير من البناء المتقن والرخام الهائل الملون والذهب واللازورد والأبواب المطعمة وغير ذلك، وعند انتهائها سألته في التفرج فيها أنا وعيالى ، فرسم لى بذلك. وأرسل إلى ما يحتاج إليه من الميرة من غنم وأوز ودجاج ونفقة.).

هنيئا لك ولعيالك يا ابن الصيرفى .الهوامش

  1. الهصر: 11، 15، 205، 260، 329، 334.
  2. الهصر: 221، 215، 337، 484.
  3. الهصر: 73، 127، 166، 316، 317، 376.
  4. المقريزي: اتعاظ الحففا 1/199 تحقيق  د.جمال الشيال.
  5. الهصر: 203.
  6. الهصر: 9، 10.
  7. الهصر: 171: 172.
اجمالي القراءات 11478