أحوال أهل الكتاب فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر قايتباى

آحمد صبحي منصور في الخميس ٢٧ - سبتمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى):دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

الباب الأول :طوائف المجتمع المصري في ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى

الفصل الثالث عشر  : أحوال أهل الكتاب فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر قايتباى

 كان السلطان المملوكى هو الذى يوافق على تعيين البطريرك، ففى أحداث يوم السبت 17 ربيع الأول 877 أن السلطان قايتباى "خلع على البطريرك النصارى الروم الملكيين على العادة عوض عن الذى هلك". ونلاحظ تعصب إبن الصيرفى ضد أهل الكتاب فى قوله عن البطريرك الراحل بقوله (عوض عن الذى هلك ). وتلك هى ثقافة العصر فى ثقافة الشريعة السّنية .

أهل الكتب في المناصب:

1 ـ وكان المجال مفتوحاً أمام أهل الكتاب من الأقباط واليهود في تولى المناصب خصوصا إذا أعلن الاسلام بلسانه . لذا كان منهم من كان يظهر إسلامه ليتقوى مركزه ، وقد يصل الى منصب القضاء ومع ذلك يظل سلوكه كما هو، وذلك ما نلحظه في سيرة القاضى علم الدين إبن الهصيم، يقول عنه مؤرخنا ابن الصيرفي "كان عرباً عن الإسلام كثير الميل إلى دين النصرانية مدمناً على السكر لا يكاد يوجد صاحياً لحظة، ولما تولى البباوى الوزر- أى الوزارة ـــ طلبه وضربه ثلاث علقات في مجلس واحد بسبب أنه لم يشهد صلاة الجمعة ). وقد مات يوم الأحد 7 ربيع الثانى 874 ودفن يوم 10 من نفس الشهر، وصلوا عليه بباب النصر، ويقول عنه ابن الصيرفي : ( ودفن بمقابر المسلمين ، والله أعلم بما هو عليه. !)،  وتولى بعده ابنه القاضى تاج الدين بن الهيصم بدفع الرشوة ليشترى المنصب ، : ( واستقر في استيفاء الخاص عوضاً عن والده في نظير ألف دينار، وكان يتولى مباشرة الوظيفة ولى الذلة النصراني الكاتب المشهور.).

2 ــ وواضح أن هناك عائلات نصرانية احتكرت بعض المناصب وادعى بعضها الإسلام لمجرد الحفاظ على الشكل المطلوب، وإن كان ذلك بالطبع لم يفت على منافسيهم الآخرين كما نلحظ من نبرة ابن الصيرفي في حديثه عن القاضى ابن الهيصم. وبنفس النبرة يقول مؤرخنا عن القاضى ابن سويد الذى جمع بين التجارة والعمل والقضاء، ( وكان معدوداً من فقهاء المالكية ولديه فضيلة وينعت بمال وافر، كان مع هذا المال الجزيل ساقط المروء، مبهدلاَ في الدول كل ذلك لشح كان فيه وبخل زائد وتقتير على عياله ونفسه مع اجتهاد كبير في تحصيل المال)، ونقل مؤرخنا عن المؤرخ أبى المحاسن المملوكى قوله في ابن سويد : ( وطباعه تشبه الأقباط ، حتى قيل لى أن جد أبيه سويد باشر دين النصرانية فعند ذلك تحققت ما تشككت فيه، وعلى كل حال فهو من لا يتأسف أحد على موته.).وابن الصيرفى هنا يستشهد بالمؤرخ أبى المحاسن دون أن ينتقده أو تعترض عليه.!!

التعصب ضد أهل الكتاب:

1 ــ وتتجلّى رائحة تعصب واضحة بين السطور حين يكون أحدهم من مباشرى الدولة الظلمة، وذك مثل ابن زوين كائف الغربية وكان أحد الظلمة في عصره، وذلك شيء عادى في حد ذاته لم يكن يستوجب الإنكار الكبير، ولكن لكونه يهودياً فقد كان له شأن آخر، إذ حدث يوم الاثنين 2 شعبان 876 أن اعترض الأمير تمر الحاجب على تعيين ابن زوين كاشفاً للغربية واتهمه بالظلم والفجور، وتشجع الأمير قانى بك الجمالى وبالغ في سب ابن زوين وقال: ( من يولى هذا اليهودي هذا الكلب على المسلمين.؟!). ولو كان ابن زوين مسلماً لما حدث كل هذا الاعتراض، فلم يكن ابن زوين المشهور وحده بالظلم، بل إن المعترضين عليه كانوا من بين الظلمة، وكأنهم يريدون أن يستأثروا وحدهم بظلم المسلمين.

2 ــ ويبدو أنه كان لليهود بعض مظاهر النفوذ التى نتجت عن تجمعهم، وساعدهم هذا على مواجهة حركات التعصب، وقد حدث أن أخبروا السلطان في أول ربيع الأول 886 أن شخصاً باع جارية حبشية ليهودي ، وأوهموا السلطان إن الجارية مسلمة ، وهذا لا يجوز ، فطلبه السلطان وطلب الشهود واجتمع البائع والمشترى والشهود والجارية أمام السلطان الذى قال للبائع: أنت بعت هذه الجارية لليهودي؟ قال البائع: نعم، وقال السلطان لليهودي: وأنت اشتريت؟ فقال: نعم وقال للشهود: وأنتم أشهم ثم عليهما؟ فقالوا: نعم لأنها أرت أنها يهودية، فقال السلطان للبائع: أنا أعرف أنك جلّاب، وأطلق السلطان سراح الجميع، وانتهى الأمرعلى ذلك، لولا أن حاول وكيل السلطان ابن الصابون أن يستفيد من الموضوع بأن يبتزّ اليهودى فاستدعى اليهودي الذى اشترى الجارية وأوهمه أن القضية لم تنته وأمره بدفع المال له وللسلطان وقال له :( إعمل مصلحة السلطان بألف دينار ولى مائتى دينار وإلا...). وبلغ اليهود ذلك فاتصلوا بأولى الأمر وفضحوا ابن الصابوني وأوصلوا القصة للسلطان الذى استدعى ابن الصابوني وحقق معه فأنكر ذلك وحلف ، وأطلق اليهودى في الحال.

3 ــ وكان التعصب أشد وأوضح في داخل بعض البيئات الشعبية التى أفسدها مناخ العصر. وقد تقترن حكايات التعصب تلك بالأساطير الكرامات والخوارق، فقد روي مؤرخنا في أحداث الأربعاء 22 شوال 876 أنه : ( وقعت حادثة شنيعة غريبة قليلة الوجود والوقوع حُكى ... ) وبعد هذا الاستهلال في وصف الحكاية بالشناعة والندرة يقول مؤرخنا : ( حُكى أن شخصاً من المغاربة كان مقيماً بمسجد يعبد الله ويصلى ويؤذن ويقرأ ، كل ذلك بالمناوات من الجيزية ، على ما تواتر به النقل ، وصار له سُمعة وأبّهة ، فصار أولاد النصاري يسمعون قراءته فيسلموا ، فعزّ ذلك على أهلهم فتحيلوا على المغربي المذكور وخنقوه حتى تدلى لسانه فقطعوه وشقوا بطنه ، وقالوا له أنك تفتن أولادنا ، وحملوه ليلقوه في جُبّ ، فصاروا كلما توجهوا به إلى جُبّ يجدونه مردوماً ، إلى أن سقط في أيديهم ، وقبض عليهم الكاشف وجهّزهم إلى القاهرة ، فتسلمهم الوالى وأحضرهم بين يدى الأمير جانبك بن ططخ الفقيه أمير آخور كبير، فلم يأمر بقتلهم آنذاك حتى يعرضهم على السلطان ،وأمر بسجنهم. وكان العوام لما بلغهم ذلك تجمّعوا وتحزّبوا ورجموهم تحت القلعة إلى أن ماتوا، وقيل أن عدة النصاري ستة نفر ، فأما أحدهم لما شاهد الهول العظيم رفع إصبعيه بالتشهد إشارة إلى أنه أسلم فكفوا عنه وسجنوه، وبلغ السلطان نصره الله ذلك فتغيظ وتكلم معه الأتراك في العوام يقتلون بأيديهم ويمسكون لجام المماليك السلطانية، ويحكمون لأنفسهم ،فازداد غضب السلطان ،ورسم للوالى أن ينادى بالمدينة حسب المرسوم الشريف أن أحداً لا يحكم لنفسه ولا يقبض لجام مملوك وأمثال ذلك.). ونلاحظ أن عنصر التزيد والأساطير واضح في الرواية السابقة في وصف حال المؤذن القتيل وكراماته بعد قتله بحيث أنهم لم يجدوا مكاناَ يدفنونه فيه بعد أن قتلوه. أى إنها أساطير تم خلقها وتم نشرها، وقد شاعت ووصلت للقاهرة وصدقها العوام فيها ، فأثارت حفيظتهم ولم ينتظروا حكم القضاء، وتولوا هم إصدار الحكم وتنفيذه ولو كان الأمر مقنعاً للأمير جانبك أمير آخور الكبير لما انتظر أن يعرضهم على السلطان، وهذا ما نأخذه من رواية مؤرخنا، وهو يقول عن الأمير جانبك "فلم يأمر بقتلهم آنذاك حتى يعرضه على السلطان وأمر بسجنهم".  واغتاظ السلطان وأعوانه من تصرف العوام، ليس لأنهم خرقوا ناموس العدالة الإسلامية ولكن لأنهم خرقوا ناموس السياسة المملوكية التى تجعل القتل والحكم واستعمال السلاح مقصوراً على المماليك دون الشعب فلا يصح للعوام" أن يقتلوا بأيديهم ويمسكوا لجام المماليك السلطانية" لذا نودي في المدينة أن أحداً لا يحكم بنفسه ولا يقبض لجام مملوك" وإلا فإذا كان للشعب حرية استعمال السلاح فلا حاجة إذن لوجود المماليك.. وتلك هى فلسفة الوجود المملوكي.

ولهذا السبب كانت الكراهية متبادلة بين المماليك والأعراب، وكلاهما كان يطمح في التحكم في المصريين ويعرف كيف يستخدم السلاح. وكم عاني أجدادنا المصريون من الفريقين المتنازعين معاً: المماليك والأعراب.

اجمالي القراءات 10066