تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الثاني: ر.ب. سرجنت - 4
تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الثاني: ر.ب. سرجنت - 4

محمود علي مراد في الأربعاء ٢٦ - سبتمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الوثيقة " واو"

إعلان يثرب كحرم

الإطار التاريخي

سرجنت

·هذه الوثيقة غير واردة في إطارها التاريخي المناسب، والمصادر مختلفة فيما يتعلق بالتاريخ الذي تقرر فيه أن تكون المدينة حرماً. والسمهودي يضع هذا الحدث بعد عودة محمد من خيبر. وتاريخ هذا الحدث الأخير، هو أيضاً، موضع خلاف، فالبعض يحدده بالسنة السادسة والبعض الآخر يحدده بالسنة السابعة. وقد صدت يثرب مهاجميها في غزوة الخندق بما يشبه الأعجوبة بالصورة ذاتها التي صد الحرم المكي بها تهديد الأحباش وأفيالهم. ويلاحظ في هذا السياق أن سورة الأحزاب، في جزئها الذي يشير إلى المخاوف التي عبَّر عنها بعض أصحاب الرسول إذا تركوا بيوتهم دون حامٍ، معرضة للعدو، تتحدث عن "يثرب" بينما تتحدث في جزئها اللاحق عن "المدينة"، أي مدينة النبي. ومن العلامات الأخرى على زيادة نفوذ محمد أنه، للمرة الأولى في هذه الوثائق، يُسمى برسول الله. والمستفاد من المادة 3 (=46) هو أن تحريم يثرب جاء بعد معاهدة الحديبية إذ أنه يحظر إجارة النساء إلا بإذن أهلهن. على أن هذا الحظر يجب أن يوضع قبل نـزول الآية 10 من سورة الممتحنة التي تتحدث عن المؤمنات المهاجرات أي عن النساء المؤمنات اللاتي يبحثن عن الحماية في يثرب:

– … فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ …﴿10﴾[الممتحنة]

على أن الآية تفرض رد ما أنفقه الكفار على هؤلاء النسوة (من مهر وغيره). وجوف المدينة هو منطقة مسطحة من يثرب تقع بين الجبال ومساحات من اللاﭬـا؛ وتحمل هذه الحدود أسماء مختلفة في الحديث النبوي. وتشير الأحاديث إلى الأسماء الحقيقية لهذه الحدود الواردة في وثيقة التحريم. ولكن هذه الأسماء لم ترد فيها ولعل التحديد يعتبر إضافة لاحقة.

ملحوظاتنا

1- ليس صحيحاً أن محمداً صلى الله عليه وسلم سُمي برسول الله في هذه الصحيفة لأول مرة. فقد تحدثت أول مادة من الصحيفة عن محمد النبي مع إضافة الصيغة المعتادة أي عبارة "صلى الله عليه وسلم". كذلك فإن المادة 4 (=26) من الوثيقة "باء" والمادة 3 (=39) من الصحيفة "دال" تتحدثان عن محمد مع هذه الصيغة ذاتها.

2- المادة 3 (=46) التي تحظر إجارة المرأة دون إذن أهلها لا تضيف قاعدة جديدة. وكل ما فعلته - مثل أحكام الوثيقة "دال" المتعلقة بالعقل والفدية - هو أن عززت عرفاً سابقاً. والواقع أنه من الصعب أن نتصور أن المرأة قبل الإسلام كان يمكن أن تُجَارَ من شخص غريب دون موافقة أهلها. ومهما يكن من أمر، فإن الحالة العملية التي تنظمها هذه المادة حالةٌ افتراضية، إذ من هي المرأة التي تلجأ إلى حامٍ خارج قبيلتها؟ ومن هي القبيلة التي تقبل إجارة امرأة بغير إذن أهلها؟

3- ليست هناك أي علاقة بين هذه المادة وصلح الحديبية. ويقول المؤرخون أن الرسول صلى الله عليه وسلم اتفق مع قريش في الحديبية على أن أي شخص من قريش ينضم إليه دون موافقة وليه أي الشخص الذي يملك السلطة عليه، يعاد إلى قبيلته. ولا تخص هذه القاعدة النساء فقط بل هي تخص الرجال أيضاً وعلى الأخص.

4- كذلك ليست هناك أي صلة بين المادة 3 (=46) والآية (10) من سورة الممتحنة، إذ أن الإجارة تختلف عن الهجرة التي تتحدث عنها الآية المذكورة. والشيء الذي أوقع "سرجنت" في الخطأ هنا هو، في رأينا، أنه يعطي لفعل "هاجر" معنى "نشدان الحماية بالهجرة"، وهو معنى قريب من معنى الإجارة. لكننا أوضحنا أن نشدان الحماية والهجرة أمران مختلفان. ومن جهة أخرى فإن هذه الآية نـزلت في نساء متزوجات اعتنقن الإسلام وهاجرن إلى المدينة، ولكنها ذات تطبيق عام. وهي تنطبق كذلك على النساء المسلمات المتزوجات من كفار حتى إذا لم تهاجرن، وحتى إذا كنَّ في المدينة. وهي تنطبق أخيراً على الرجال الذين دخلوا في الإسلام والذين كانوا متزوجين من نساء كافرات رفضن الدخول في الإسلام: وكان الواجب على الزوجين في جميع هذه الحالات أن ينفصلا.  

المادة 1 (=44)

وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

ملحوظاتنا

1- "سرجنت" يقارن حرم المدينة الذي تقرر بمقتضى هذه المادة بالحرم المكي. ولكن هناك فارقاً شاسعاً بين الحرمين. ذلك أن الحرم المكي مذكور في القرآن الكريم، الذي يحكي أصله في الآيات التي سقناها في الفصل الثاني (الجزء الأول) من هذه الأطروحة تحت عنوان "المسلمون والحج" ([1]). وورد ذكره أيضاً في الآيات التالية:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ …﴿126﴾[البقرة]

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُّضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلعَالَمِينَ ﴿96﴾[آل عمران]

فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا…﴿97﴾[آل عمران]

وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُّجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا … ﴿57﴾[القصص]

أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ…﴿67﴾[العنكبوت]

والحاصل أنه ما من آية من آيات القرآن الكريم تتحدث عن حرم مدني.

2- والحرم المكي هو القبلة التي يتجه إليها المسلمون، حيثما وُجدوا، في صلاتهم خمس مرات في اليوم، وهو أمر غير وارد بالنسبة للحرم المدني.

3- الحج إلى بيت الله الحرام في مكة فرضٌ ديني، أما زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة فهي اختيارية.

4- إذا كانت مكة حرماً فذلك بسبب الكعبة والمسجد الحرام ومقام إبراهيم؛ أما مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة فلم يرد له ذكر في المادة 1؛ والشيء المذكور فيها هو جوف المدينة أي داخلها.

5- ما المقصود بعبارة "لأهل هذه الصحيفة"؟ إذا كان المقصود هم المسلمون واليهود ومشركو المدينة فما هو المعنى الذي يجب أن نفهم به أن المدينة حرمٌ لهم؟ وإذا كان معنى المادة هو أن كل سكان المدينة عليهم أن يمتنعوا عما هو حرام، أي عن الجرائم والأفعال الضارة أو غير الأخلاقية، فما الفرق في هذا بين المدينة وأي مدينة أخرى في العالم؟ ومن جهة أخرى، فنظراً إلى أن النواهي القرآنية - الربا، والميسر، والبغاء، وتعاطي الخمر، والفجور، وقتل الأطفال وبعض المحظورات الغذائية – لم تكن واحدة بالنسبة للجميع، فما هي قواعد السلوك التي كان يطبقها أهل المدينة؟ وهل كانت هذه القواعد واجبة التطبيق من الأجانب؟ 

المادة 2 (=45)

وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.

سرجنت

المعنى هو أن الغريب الزائر، أو ربما المقيم، كان آمناً في الحرم من كل عدوان وأنه كان عليه من جهته أن يراعي قواعد اللياقة في تصرفاته.

ملحوظاتنا

1- ليس في صياغة هذه المادة ما يشير إلى أن لها صلة بالحرم.

2- الجار هنا لا يعني بالضرورة الشخص المحمي. وقد يتعلق الأمر بالجار في المسكن أو في محل العمل.

3- وسواءٌ كان هذا أو ذاك فإن معنى المادة شديد الغموض.

المادة 3 (=46)

وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.

سرجنت

المقصود بأهلها أقاربها.

ملحوظاتنا([2])

المادة 4 (=47)

وإنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدثٍ أو اشتجارٍ يُخاف فساده، فإن مرده إلى الله عزَّ وجلَّ، وإلى محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

سرجنت

هذا لا يعني إلا المُوَقِّعين على الوثيقة.

ملحوظاتنا

1- هذه المادة ذات أهمية كبرى في هذه الوثيقة. إنها تحدد القانون الواجب تطبيقه والسلطة القضائية في حالة قيام نـزاع بين الأطراف المتعاقدة. والقانون الواجب التطبيق هو القرآن الكريم. وعلى الرغم من أن ذلك غير منصوص عليه صراحةً فإنه المستفاد من جملة "فإن مرده إلى الله عزَّ وجلَّ"، وجزء الجملة هذا ما كان يكون له معنى لو أن المادة حين أشارت إلى الله عزَّ وجلَّ لم تكن تعني القانون الإلهي المسجل في النص القرآني الذي أسند تطبيقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2- هذه المادة ليس فيها شيء جديد. إنها تكرار لما نجده في الآية:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ… ﴿59﴾[النساء]

3- هناك سؤال مركزي يثور بصدد هذه المادة هو ذلك المتعلق بتاريخها. و"سرجنت" لا يعيِّن هذا التاريخ ولكن، حيث أن المادة واردة في الوثيقة "فاء" التي يقول "سرجنت" إنها إعلان يثرب كحرم فالمفترض أنها ترجع إلى نفس الفترة، أي إلى السنة 6 أو 7 من الهجرة. على أن هذا لو صح لما كان هناك قانون مُطَـبَّق ولا سلطة قضائية للنـزاعات التي ثارت بين تاريخ إنشاء الاتحاد الكونفدرالي في السنة الأولى من الهجرة والتاريخ الذي أُعلنت فيه يثرب حرماً آمناً. وبغياب هذين العنصرين الأساسيين، فما قيمة الأحكام الأخرى للمعاهدات "ألف" و"باء" و"جيم" و"دال" و"هاء"؟

المادة 5 (=47)

وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه.

سرجنت

لعل كلمة "كفيل" هي الكلمة التي يقتضي فهمها هنا.

ملحوظتنا

معنى هذه المادة ليس هو المعنى الذي يعطيه لها "سرجنت" حين يترجم كلمة "أتقى" بـ "الأحرص على تفادي الإخلال بالاتفاق" «covenant breaking». وهي تعبِّر ببساطة عن أمل المتعاقدين في أن يحظى أتقى وأبر ما في الصحيفة برضاء الله عزَّ وجلَّ. وهي صيغة عامة ليس فيها شيء تعاقدي أو خاص. وهي تشبه صيغاً استخدمت في سياقين مختلفين تماماً: صيغة المادة 6 (=40) من الوثيقة "دال" التي تحدد، في نظر "سرجنت"، وضع القبائل اليهودية، وصيغة المادة "زاي" 8 (=51) التي تمثل، بالنسبة له، معاهدةً عُقدت بين عرب يثرب والقبائل اليهودية بغرض الدفاع عن يثرب في مواجهة قريش وحلفائها.

ملحوظات عامة

1- هذه الوثيقة، التي يقول "سرجنت" إنها إعلان ليثرب كحرم، لا تتحدث عن حرم في مادتها الأولى. ومن الغريب أن إعلاناً بمثل هذه الأهمية يصدر، أولاً عن آخر، في سبع كلمات.

2- أكثر شيء يلفت النظر في هذه الوثيقة، هو افتقارها إلى الوحدة، وتنوع الموضوعات التي تتناولها موادها، وهي موضوعات لا يربطها أي رباط بالتعريف الذي يعرِّف به "سرجنت" الوثيقة.

3- المادتان 2 و 3 اللتان تتحدثان عن الجوار بديهيتان؛ ومكانهما، على أي حال، هو في المادة 6 (=16) من الوثيقة "ألف".

الوثيقة " زاي"

معاهدة عُقدت قبل غزوة الخندق بين عرب يثرب ويهود بني قريظة

لحماية يثرب من قريش مكة وحلفائها

الإطار التاريخي

سرجنت

·الوثيقة "زاي" هي اتفاق عُقد في مواجهة التهديد الذي كان يمثله الجيش الذي أرسلته قريش من مكة والقبائل المتحالفة معها قبل حصار يثرب - أي غزوة الخندق - بين الطوائف المكوِّنة للاتحاد الكونفدرالي بما في ذلك بني قريظة، حلفاء / موالي الأوس. وقد كانوا في ذلك الوقت القبيلة اليهودية الوحيدة التي بقيت في يثرب، وكانوا حلفاء وموالي النقيب سعد بن معاذ. ويذكر الواقدي أن غزوة الخندق وقعت في شهر ذي القعدة من السنة الخامسة، ولكن مصادر أخرى تقول إنها حدثت في شهر شوال من السنة الرابعة أو السنة الخامسة. وهناك إشارة إلى هذا الاتفاق بوجه عام في الآيات 13 إلى 16 و 23 من سورة الأحزاب:

وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا﴿13﴾وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا ﴿14﴾وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا ﴿15﴾قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الموتِ أَوْ القَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا ﴿16﴾

مِنَ المؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مِنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرْ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ﴿23﴾

ويشير الواقدي، من جهة أخرى، إلى العهد المعقود مع اليهود بعبارة قريبة من الوثيقة "زاي": "ألا ينصروا عليه أحداً من عدوه وأن ينصروه ممن دهمه".

·صاحب العقد الذي كان يمثل بني قريظة كان كعب ابن أسد. ولم يكن بنو قريظة راضين عن وصول قريش مكة والقبائل التي كانت متحالفة معهم، فقد كانوا في سلام مع محمد وكانت علاقاتهم مع المسلمين علاقات طيبة، بل إن المسلمين استعاروا منهم المعدات اللازمة لحفر الخندق حمايةً للمدينة.ويبدو أن محمداً كانت تربطه علاقات مودة مع بني قريظة منذ أن أيّدهم ضد بني النضير الذين كانت علاقاته بهم سيئة. لقد كان مركز بني قريظة الاجتماعي أدنى من مركز بني النضير، وكانت الدية الواجبة عن قتل رجل من بني قريظة، بالتالي، نصف تلك المستحقة عن قتل رجل من بني النضير، ولكن محمداً رفع دية بني قريظة بحيث تتساوى مع دية بني النضير.

·عندما وصل حُيي بن أخطب من قبيلة بني النضير إلى المدينة في محاولة لإقناع كعب بنقض عهده، رفض السيد القرظي طلبه بشدة قائلاً إنه "قد عاهد محمداً وإنه لن ينقض ما بينه وبينه لأنه لم ير منه إلا وفاءً وصدقاً" ولكن كعباً انتهى بأن خضع لضغط ابن أخطب ونقض العقد الذي عقدته قريظة مع الرسول. وطلب حُيي الكتاب الذي كتبه رسول الله معهم ومزقه. ومن الواضح أن بني قريظة كانوا على علم بالعقاب الذي سينالهم بعد أن أخلّوا بعهدهم مع محمد، وهو في الواقع العقاب الذي نصت عليه المادة "جيم" /2أ : "وإن يهود بني … أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته."، وكررته صراحةً المادة 2/ح (=34): "إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته" وأشارت إليه المادة 7 من هذه الوثيقة. و"سرجنت" مقتنع بأن الوثيقة "زاي" هي الكتاب الذي مزقه حُيي، والذي أُعد، بطبيعة الحال، من عدة نسخ.

ملحوظاتنا

1- اللقاء الذي تم بين حُيي بن أخطب وكعب بن أسد سيد بني قريظة وارد لدى ابن إسحاق أيضاً، ولكن ابن إسحاق لا يقول في "محضر الاجتماع" الذي أعده عنه إن موضوعه كان اتفاقاً مكتوباً عُقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبني قريظة([3]). كذلك فهو لا يقول إن حُيي بن أخطب مزق هذا المكتوب.

2- في كتاب الواقدي ذاته جاء، في صيغة أولى، قوله: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم صالح قريظة والنضير ومَن بالمدينة من اليهود ألا يكونوا معه ولا عليه". ولم يرد في هذه الصيغة أن اتفاقاً عُقد كان موضوعاً لمكتوب.

3- تجاهل "سرجنت" رواية ابن إسحاق ورواية الواقدي الأولى. ولا تثريب عليه في هذا. ولكن، نظراً إلى أنه يقرر إن هذا الاتفاق هو الوثيقة "زاي"، فقد كان المنتظر منه أن يشرح الأسباب التي جعلته يفضل هذه الصيغة على الصيغة التي سبقتها وعلى صيغة ابن إسحاق.

4- والمسألة مهمة، إذ أن الأمر هنا يتعلق بشرح السبب الذي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يحاصر بني قريظة بل وينفذ في حقهم حكماً بأن يُقتل كل رجال هذه القبيلة. هذا السبب، طبقاً لصيغة الواقدي الثانية، التي يعتمدها "سرجنت"، هو أنهم لم يقدموا العون للمسلمين حين كانوا يواجهون قريشاً وحلفاءها. ولكننا إذا أخذنا بالصيغة الأولى للواقدي، فإن سبب الحرب يكون خرق اليهود للحياد الذي اتفقوا عليه مع الرسول صلى الله عليه وسلم وقيامهم بعمليات عدائية ضد المسلمين.

5- لا يقول الواقدي في سرده لغزوة الخندق إن العهد المكتوب موضوع حديثنا تم عقده، كما يدعي "سرجنت"، قبل حصار يثرب بقليل في غزوة الخندق. وكلمتا "حين قدِم" تظهران في الفترة التي قدَّم بها الواقدي حادثة قتل كعب بن الأشرف([4]).

6- الاختلاف بين هذه الوثيقة والوثائق "ألف" و"باء" و"جيم" و"دال" و"هاء" ليس كبيراً، في نظرنا، إلى درجة تقتضي وضعها في إطار وتاريخ مختلفين. والواقع أن كل ما تفعله الوثيقة هو أن تردد تقريباً ما نجده في الوثائق المذكورة، كما سنرى فيما بعد.

7- إذا كان "سرجنت"، حين يقول إن الآيات من (13) إلى (16) و (23) من سورة الأحزاب تشير إلى العهد بصفة عامة، يفكر في العهد المكوِّن للاتحاد الكونفدرالي، فإن تفسيره في غير محله. إن الآيات (13) إلى (16) إنما تتحدث عن المنافقين، والعهد الذي تتحدث عنه هو القسم الذي لابد أنهم أقسموه قبل المعركة بألا يولوا الأدبار. أما الآية (23) فهي تتحدث عن المسلمين المؤمنين الذين أنجزوا وعدهم بالقتال مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

8- نظرية الواقدي بشأن وثيقة حُررت بين محمد صلى الله عليه وسلم ويهود بني قريظة تعهد فيها هؤلاء بنصرته ضد عدو يدهمه نظرية غير مقبولة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن من السذاجة بحيث يتصور أن يهود بني قريظة سيخفون لنجدته، وهو الذي حارب وأجلى إخوانهم في الدين بني قينقاع وبني النضير، لو أنه هوجم. وبنو قريظة، من جانبهم، الذين كانوا يعلمون أن قريشاً هزمت محمداً صلى الله عليه وسلم قبلها بسنة وأن جيشاً يجمَع، إلى جانب جيشها، مقاتلين من قبيلة غطفان الكبرى، يتقدم نحو المدينة، كان من الحماقة أن ينضموا إلى الطرف الأضعف، الذي كانوا يعتبرونه، فضلاً عن ذلك، عدواً لهم.

9- مصلحة بني قريظة المؤكدة، وهم يرون جيشي قريش وغطفان يقتربان من المدينة، كانت تقضي إما بالوقوف على الحياد بصورة مطلقة أو بالانضمام، مع مشركي المدينة، إلى أعداء محمد صلى الله عليه وسلم. ولابد أنهم اختاروا هذا الأمر الأخير. ولعل هذا السبب، وليس كونهم قد أخلوا بالتزامهم موضوع الوثيقة "زاي"، هو الذي جعل المسلمين يهاجمونهم بعد فشل جيوش الأحزاب. هذا على أي حال هو ما يقوله القرآن الكريم في آية من سورة الأحزاب التي رجع إليها "سرجنت" ذاته، تقول:

وَأَنـزَلَ الَّذِينَ ظَاهِرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ …﴿26﴾[الأحزاب]

10- أما قرار محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعل بني قريظة يكنون له مشاعر طيبة والذي ألغى بمقتضاه التمييز الذي كان موجوداً بينهم وبين بني النضير بشأن الدية، فقد أعربنا عن رأينا بصدده في ملحوظاتنا بشأن الاقتباس القرآني رقم 45 عند ابن إسحاق؛ وفي رأينا أن هذه القصة غير جديرة بالتصديق.

المادة 1 (=48)

وإنه لا تجار قريش ولا مَن نصرها.

المادة 2 (=49)

وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.

سرجنت

يتحدث الواقدي عن يهودي من بني قريظة يتهم قبيلته، أو جزءاً منها، بنقض العهد الذي كان بينها وبين محمد: "إنكم قد حالفتم محمداً على ما حالفتموه عليه ألا تنصروا  عليه أحداً من عدوه وأن تنصروه ممن دهمه فنقضتم ذلك العهد الذي كان بينكم وبينه." ويلاحظ "سرجنت" مدى التقارب بين هذه الكلمات وبين نص هذه الوثيقة. وصيغة الجمع في الوثيقة تشمل في رأيه المهاجرين والأنصار، ولكنها قد تشمل أيضاً معارضي محمد مثل عبد الله بن أُبي إذا انضموا إليه في مواجهة خطر مشترك. ومن المحتمل أن اليهود لا يدخلون إلا في المادة 6. ولو كانت لدينا قائمة بالموقعين لألقت كثيراً من الضوء على الجانب السياسي من غزوة الخندق.

ملحوظاتنا

1- احتمال قيام حرب مشتركة تستوجب التعاون بين المسلمين واليهود، الذي تتحدث عنه هذه المادة وارد في المادة "جيم"/1 (=27) التي تنص على أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين. وقد نقلت هذا الحكم المادة 3ب (=41) من الوثيقة "هاء"؛ وتتحدث المادة "هاء"/4 عن النصر بين المسلمين واليهود على من "حارب أهل هذه الصحيفة". وأخيراً فإن الوثيقة "هاء" /3أ (=43) تكرر الحكم الخاص بالاشتراك في النفقات. والفرق الوحيد بين مجموع هذه الأحكام والمادة الحالية من الوثيقة "زاي" هو كلمات "على من دهم يثرب". ولكن هل هذا فرق حقيقي؟ تتوقف الإجابة عن هذا السؤال على معرفة من هو العدو الذي كان يقتضي أن يتعاون المسلمون واليهود ضده. والحاصل أن هذا العدو، طبقاً لما تقوله الصحيفة، هو قريش. وقد جرى تعيينهم، منذ البداية، في الوثيقة "باء" /1 (=23) التي هي، في ما يقوله "سرجنت"، الوثيقة التأسيسية للاتحاد الكونفدرالي. وما من عدو آخر للمسلمين أو لليهود ذُكر في الصحيفة.

2- من المهم أن نلاحظ أن الواقدي يتحدث عن عهد بين محمد صلى الله عليه وسلم واليهود لم يرد له ذكر في النص القرآني المتعلق بغزوة الأحزاب. وهو، على النقيض، لا يشرح ظروف العهد أو القسم الذي تعهد المسلمون بموجبه بالصمود والذي يقول القرآن الكريم أنهم خرقوه بالفرار من ميدان المعركة تحت عذرٍ أو آخر.

3- يقول "سرجنت" إنه من المحتمل أن الأمر تعلق باليهود، في إطار غزوة الخندق، في المادة 6 وحدها. ولكن شيئاً في صياغة هذه المادة لا يسمح بمقولة إن هناك علاقة ما بينها وبين الغزوة المذكورة. والإشارة فيها إنما هي لمجموعة من اليهود المنتمين إلى البطون الإسلامية المسماة في الوثيقة "جيم"، التي تختلف تماماً، كما سبق أن ذكرنا، عن أعضاء قبائل اليهود في المدينة. وليس هناك حديث عن معركة في هذه المادة السادسة.

4- المادة 2 ليس فيها أي إشارة إلى اليهود. إنها تقول فقط: "بينهم". فعمَّن تتحدث؟ ليس في الوثيقة رد على هذا السؤال. والواقع أن اليهود لم يرد لهم ذكر إلا في المادة 6 والأمر، كما ذكرنا للتو، لا يتعلق بقريظة ولكن بأعضاء الأوس من اليهود. ومن الجائز جداً أن تكون الإشارة هنا إلى مجموع "مَن وقعوا" على الصحيفة.

المادة 3 (=50)

وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه.

المادة 4 (=50)

وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك – فإنه لهم على المؤمنين.

سرجنت

هاتان المادتان تحظران على الأطراف الدخول في صلح يراعي فيه الطرف مصالحه الخاصة على حساب الآخرين. ويبدو أنه كانت هناك مفاوضات سرية مع الرسول للسماح لبني النضير (الذين سبق إجلاؤهم) بالعودة إلى المدينة في مقابل العدول عن الاستعدادات التي كانت تمهد للحرب. وهذا محتمل جداً، إذ أن مجموعة من يهود بني النضير هي التي اقترحت على قريش وغطفان تشكيل ائتلاف ضد النبي. ولم يحدث في غزوة الخندق إلا قتال قليل. ولم يُقتل في هذه الغزوة سوى ستة من أهل يثرب مقابل ثلاثة فقط من ائتلاف قريش وغطفان، ولكن كانت عملية التفاوض مستمرة على قدمٍ وساق.

ملحوظتنا

الخبر الذي يبدو أن "سرجنت" يقبله والذي مؤداه أنه كانت هناك مفاوضات مع محمد صلى الله عليه وسلم للسماح لبني النضير بالعودة مقابل التخلي عن استعدادات الحرب خبرٌ غريب؛ وهو يعني، بصورةٍ ما، أن حملة قريش وغطفان ضد المسلمين لم يكن الغرض منها سحق الإسلام، هذه الحركة الثورية التي كانت تقضُّ مضاجع الجميع والتي كانت تهدد مصالح مكة، بل كان هدفها هو عودة بني النضير إلى المدينة. ولكن، إن صح هذا فمن الذي كان يقبل العدول عن استعدادات الحرب؟ قريش وغطفان، بقضّهم وقضيضهم، أم اليهود؟ ومَن من اليهود؟ ولماذا، على الرغم من النوايا الطيبة التي تصوِّرها المادتان 3 و 4، لم يقبل المسلمون ولا اليهود تسوية بدلاً من التعرض لأخطار الحرب؟ لم يكن السبب التأكيد أن المسلمين كانوا واثقين من الفوز، فإن القرآن يصف مخاوفهم بهاتين الآيتين من سورة الأحزاب:

إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونُ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴿10﴾هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا ﴿11﴾

المادة 5 (=50)

ألا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.

سرجنت

من المستطاع شرح هذه المادة بفقرة عند الواقدي يقول فيها إن الرسول عهد بكل جانب من جوانب الخندق إلى قوم ليحفروه، وأن المهاجرين حفروا من جهة الراتچ حتى ذباب؛ أما الأنصار فحفروا من ذباب حتى جبل أبي عبيد، وأن باقي المدينة كان محاطاً بالمباني. ومن الواضح أن المادة 5 (=50)، بل والواقدي ذاته، كانوا يعتبرون أن يثرب كانت محمية من كل الجهات، فقد كان الخندق محمياً من رجال مسلحين. أما باقي المدينة فكانت فيه مجموعات من الآطام تتحكم في مدخل المنطقة. وقد ترتب على انخذال قريظة فتح ثغرة في خط الدفاع، إلا أن هذه الميزة التكتيكية لم تُستغل. وهذا النوع من أنواع الحماية، الذي يقوم على مجموعات من الآطام، معروف في جنوب غرب الجزيرة العربية.

ملحوظاتنا

1– هذا الشرح يبدو لنا غير مقنع. والأوامر المتعلقة بالمهام التي يراد أن يقوم بها الجنود عند الإعداد للمعركة في مجتمع أُمي تعطَى شفاهةً في العادة؛ وهي لا ترد، على أي حال، في وثيقة، خاصةً إذا كانت هذه الوثيقة معاهدة.

2- هذه المهام لا تمت بأي صلة لطبيعة المعركة، أي لكونها مترتبة على نـزاع ذي طبيعة دينية أو غير دينية.

3- ليس في عبارة الجملة الثانية من المادة أي كلمة يمكن أن تفيد معنى الحفر؛ ومن الممكن أن تؤوَّل هذه العبارة تأويلات عديدة.

المادة 6 (=51)

وإن يهود الأوس، مواليهم، وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.

ملحوظاتنا([5])

المادة 7 (=51)

وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه.

المادة 8 (=51)

وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.

ملحوظات عامة

لو نظرنا إلى الوثيقة من منظور "سرجنت"، أي خشية أن تقوم قريش وحلفاؤها بمداهمة يثرب، فيمكن القول:

1- إن مادتها الأولى تبدو مضحكة، لأن إجارة المهاجمين معناها تعريض قوم المجير ذاته للقتل والنهب.

2- إن مادتها 2 لغو لا داعي له، لأن الدفاع عن يثرب ضد عدو مغير هو أول واجبات الاتحاد الكونفدرالي؛ وهو واجب يقع عليه بصورة آلية منذ إنشائه، دون ما حاجة إلى نص رسمي.

3- إن أحكام المادتين 3 و 4 هي تحصيل حاصل، إذ أن أحداً لم يسمع عن مدينة محاصرة ترفض الهدنة.

4- إن المادة 5 تفتقر إلى الوضوح، هذا الوضوح الذي لا غنى عنه في معاهدة تحدد بالتفصيل التزامات الأطراف وقت الحرب.

5- إن المادة 6 لا تربطها أي صلة بسياق غزوة الخندق.

6- إن المادة 7، حتى إذا كانت ترجمة "سرجنت" صحيحة، هي والمادة 8، تتحدثان عن مبادئ من الأخلاقيات الدينية لا تضيف شيئاً قانونياً أو تعاقدياً إلى أحكام الوثيقة.

الوثيقة "حاء"

ملحق بإعلان يثرب كحرم

الإطار التاريخي

سرجنت

هذا الملحق يسن قواعد للحرم المدني تشبه قواعد الحرم المكي، وهي تشبه، على الأرجح، القواعد المعمول بها في أي حرم. وهي لا تختلف كثيراً عن القواعد المتبعة في حوطات حضرموت في وقتنا هذا. ويقول الواقدي إن الحرم المكي لا يحمي آثماً أو شخصاً ينكر ولاءً أو شخصاً أراق دماءً. أما ياقوت فيقول بتفصيل أكبر إن أي شخص يدخل الحرم المكي آمن، وإن من يرتكب عدواناً في بلد آخر ثم يلوذ بالحرم يكون بمنجى حين يدخل، ولكنه حين يتركه يوقّع عليه العقاب، ومن يقترف فيه حدثاً يعاقَب على ما أحدث.

ولما كان المفروض أن يتبع الملحق الوثيقة "واو" عن قرب، فمن الجائز أن تاريخه هو السنة السابعة. ومن المحتمل أنه سُنَّ بعد الوثيقة "واو" مباشرة في هذه المجموعة أو حتى أن يكون قد حُرر على ظهر الورقة التي تشتمل على هذه الوثيقة. ومن شبه المؤكد أن مَن نقله لم يضعه في مكانه الصحيح.

ملحوظتنا

الحرم المكي، كما قلنا من قبل، يستمد صفته كحرم من شيء واحد هو وجود الكعبة ومقام إبراهيم بداخله. لذلك، ونظراً إلى أن المادة 1 (=44) من الوثيقة "واو" والوثيقة "حاء" لا تشيران إلى مسجد الرسول، فلا يمكن مقارنة الحرم المدني بالحرم المكي. وهناك اعتبار آخر يحول دون هذه المقارنة، هو أن شعائر الحج عند المسلمين تدور جزئياً حول الحرم المكي وحده وأن زيارة مسجد المدينة ليست إلزامية فيها. وإذا كانت المدينة حرماً فليس ذلك قطعاً بمقتضى الوثيقتين "واو" و"حاء".

المادة 1 (=52)

وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم.

سرجنت

انظر عن الأحكام المماثلة وغير ذلك من أصداء الوثائق الثماني، الواقدي الجزء الثاني
ص ص 836 و 844.

ملحوظتان

1- القول بأن الصحيفة، أو الفئات التي ذُكرت فيها، لا تحول دون ظالم أو آثم وارد في الوثائق "ألف" و"جيم" و"دال" و"هاء". فالمادة الأولى من الوثيقة "حاء" لا تضيف شيئاً إلى ما سبق ذكره في الوثائق الأخرى في هذا الصدد.

2- وهذا التقرير لا داعي له، إذ أنه مفهوم في أي نص غرضه تنظيم مجتمع ٍما وفي أي اتفاقية تنظم العلاقات بين مختلف قطاعات السكان، وأي اتفاق بين طرفين أو أكثر بشأن المسائل التي تعنيهم؛ ولا يعرف الناس نصاً يمنح حصانة للظلمة أو للآثمين، إلا في حالات الحصانة الدبلوماسية.

المادة 2 (=52)

وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم.

سرجنت

هذه المادة قد تعني أن الشخص الذي يترك المدينة لا يجوز مهاجمته حتى يصل إلى مكان آمن.

ملحوظتنا

هذه المادة بدورها مادة لا داعي لها؛ ولم تكن هناك حاجة إلى تسجيلها في وثيقة. والواقع أنه ليس من الضروري أن تكون مدينة من المدن حرماً ليكون من الواجب تحقيق الأمن لمن يوجدون فيها أو لمن يتركونها إلى أن يغادروا حدودها، ولكي يعاقَب مَن يخلُّون بهذا الأمن. إن كفالة الأمن للمواطنين وعقاب المجرمين هي الواجب الأولي لكل حكومة.

المادة 3 (=52)

وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

سرجنت

الأرجح أن في هذه المادة قَسَم ختامي من النوع الذي يجده المرء في الآثار السابقة على الإسلام. ويؤيد هذا الاحتمال إلى درجةٍ ما حديث نبوي رواه أحمد بن حنبل يقول إن أبا بكر أقسم على النبي فقال له النبي لا تقسم. ويستدل من هذا على أن الناس كانوا يقسمون بالرسول في حياته ولكن ذلك حُظر عليهم في لحظة معينة. ويميل "سرجنت" إلى قبول هذا الحديث على أنه صحيح. وهو يشبه في نظره ما هو جارٍ في جنوب الجزيرة العربية حيث يقسم الناس على رأس السلطان أو على رأس رجل مهم أو على رأس وليٍ من أولياء الله.

ملحوظتنا

الأمر هنا ليس أمر قَسَم. إنها جملة ليس فيها شيء تعاقدي أو قانوني؛ ولا مكان لها في اتفاقية تعقد بين أطراف متعاقدة لا يعترف بعضها بالله عزَّ وجلَّ ولا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

تجميع وملحوظات نهائية

·في الفقرة الأولى من دراسته الأولى عن دستور المدينة، كتب "سرجنت" أن "لهذه الوثيقة، من وجهة النظر التاريخية، من الأهمية، فيما يتعلق بالفترات الأولى من التاريخ الإسلامي، ما للقرآن ذاته"، وقال إنها "صحيحة صحة لا تقبل الشك." وهو يضيف، في مكان آخر من دراسته، قوله: "لقد اضطررت، في محاولتي لاستخلاص المعنى الحقيقي للنص، للقيام بقراءات واسعة للتراث الأدبي القديم، وكان اقتناعي يتزايد باستمرار بأن الرسول لم تكن له صفات المجدِّد، وأنه كان يقبل الإطار الاجتماعي والقواعد الأخلاقية التي كانت سائدة في عصره، مع تعديلات طفيفة نسبياً، ولكنه كان بطبيعة الحال يصر على مراعاة هذه القواعد الأخلاقية مراعاةً دقيقة."

·وفي دراسته الثانية، التي واصل فيها خط أفكاره المذكور، قال "سرجنت"، كما رأينا، إن محمداً كان يتصرف وفقاً للنماذج السياسية التي كانت سائدة منذ زمن طويل، وأنه، بمعنى من المعاني، كان مجرد قاضٍ- حكم، كسلسلة أسلافه، وأنه لم يكن مسئولاً إلا عن تعديلات قليلة في القانون والمجتمع العربي.

·على أن قراءته للأدب العربي القديم لم تكن العامل الوحيد الذي قاد "سرجنت" إلى هذه النتيجة. فهو يذكر إنه أقام فترة طويلة في حضرموت وفي شمال اليمن ويقول إن إلمامه بأحوال هذين البلدين قد ساعده كثيراً على فهم خلفية الإسلام والنظم العربية القديمة. وقد انتهى من ذلك إلى أن الأحوال في شبه جزيرة العرب لم تتبدل كثيراً، وأن المجتمع واللغة لم يطرأ عليهما تغيير كبير، وأن الإسلام لم يعدِّل الثقافة التي كانت سائدة في الجاهلية، في مجالات عديدة، إلا قليلاً.

·وبهذه العُدة المزدوجة قاد تحليل الصحيفة "سرجنت" إلى محصلة مؤداها أنها لم تكن وثيقة واحدة بل كانت تتكون، في حقيقة الأمر، من ثماني وثائق. وهو يرى أن تحليل وتحديد هذه الوثائق يؤديان إلى نتائج منهجية وتاريخية هامة، إذا أُريدَ كتابة أي شيء يشبه تاريخ حياة محمد بصورة عصرية نهائية.

·وأخيراً يرى "سرجنت"، في الفقرة قبل الأخيرة من نصه الثاني، أن "الدستور" قد نوقش حتى الآن على ضوء تلك الوثيقة التاريخية الأخرى والكبرى أي القرآن، وأنه يقتضي، بعد أن حدد هو فحوى الوثائق الثماني بصورة شبه أكيدة، أن يحاول المرء معرفة أي ضوء تُلقيه هذه الوثائق على فهم القرآن ذاته وعلى تفسيره.

وفيما يلي رأينا بشأن تأكيدات "سرجنت":

1- "سرجنت" ينطلق في كل هذه الاعتبارات من يقين يؤمن به، هو أن الصحيفة وثيقة صحيحة لا يتطرق إليها الشك. لكننا أوردنا عديداً من الأسباب التي تشكك في صحتها. لذلك فإن من المآخذ التي يمكن أن تؤخذ على "سرجنت" كونه تساهل كثيراً في قبول صحة الصحيفة من الناحية التاريخية.

2- كل هم "سرجنت" كان، فيما يبدو، البحث في المصادر القديمة عن عناصر تؤكد يقينه، أي تسمح بحل المشكلات التي يطرحها النص، وسد ثغراته أو تبرير نظريته التي تجزِّئ الصحيفة إلى ثمانية أجزاء. وهنا أيضاً نراه يأخذ ما يجده في المصادر قضية مسلَّمة دون القيام بالحد الأدنى من تحقيق الظروف التي دُوِّنت فيها هذه المصادر، ومع التغافل عن كونها لم تخضع لنقد علمي متعمق. وقد فهم "أ. ل. دي پريمار" A. L. dePrémareالمشكلة التي تطرحها هذه المصادر وأبدى بشأنها الملحوظات التالية:

– الكتب التي تُشَكِّل، حتى اليوم، الأساس في كتابة سيرة محمد لم تُدَوَّن إلا في القرن التاسع الميلادي.

– مسألة موثوقية الكتابات التاريخية المتعلقة بفترة الإسلام الأولى تَعرِض للباحث في كل لحظة. لقد ظهرت نصوص جديدة في نصف القرن الأخير، وهي تزيد من صعوبة الاتفاق على صياغة أكيدة للوقائع؛ ودراستها تفضي أحياناً إلى مقابلة هذه أو تلك من المعلومات المعروفة، ولكنها تُظهر في كثير من الحالات ما بين المعلومات المتوافرة من تعارض.

– البعد الديني في سيرة محمد يقلل بشكل كبير درجة الثقة التي نستطيع أن نوليها لكثير من النصوص التي دُوِّنت في أزمان متأخرة.

– الأغلبية العظمى من الروايات ذات المنحى التاريخي لم تصلنا بصورة منظمة إلا في أعمال متأخرة ترجع، على الأقل، إلى قرنين من الزمان بعد سنة 632 (11ه)، تاريخ وفاة نبي الإسلام.

– كانت نتيجة البحث عن كتابات عربية تاريخية موثقة بصورة مستقلة ترجع إلى ما قبل القرن التاسع، حتى الآن، هزيلة للغاية. وأكثر ما نستطيع أن نقوله هو أن بعض الروايات المكتوبة الجزئية كانت موجودة، إلا أن من المتعذر تحديد فحواها بصورة يقينية.

– وباختصار، وبصورة عامة ومع استثناءات قليلة، فإن الروايات المتعلقة بالفترة الأولى من الإسلام ليست حقيقةً وثائق تاريخية عن هذه الفترة، وهي نابعة عن طريقة معينة في السرد والكتابة والنقل. وهي تعتمد إلى حد كبير على الخلفية التي وضعت خلالها بعد موت المؤسس، وعلى "غربلة" الرواة المتتالين، وعلى تعارض الأشخاص والاتجاهات، وأخيراً على السياق الفكري والنوايا الخاصة بالمؤلفين الذين نظَّموا، استناداً إلى ابن إسحاق، العناصر التي كانت في البداية مستقلة أحدها عن الآخر.

3- بعض المؤلفين الذين رجع إليهم "سرجنت" تفصلهم عن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو حتى ثمانية قرون، مثل الأصفهاني، المتوفى سنة 961م، والثعالبي، المتوفى سنة 1038م، والسهيلي، المتوفى سنة 1185م، وابن الأثير، المتوفى سنة 1234م، والسمهودي، المتوفى سنة 1506م. ولا يعني هذا أن كتاباتهم عديمة القيمة باعتبارها مصادر تاريخية. ولكن يعني ببساطة أن المعلومات التي تقدمها عن الفترة المذكورة يجب أن تُستخدم بقدر كبير من التمحيص.

4- "سرجنت"، في الوقت ذاته، لم يستعن بالقرآن الكريم إلا في أضيق الحدود، وذلك فقط بالقدر الذي يعتقد أن فيه عناصر تؤكد نظريته، أي إيماءات أو لغة تشبه بعض الجُمل الواردة في هذه الوثيقة أو تلك. والحاصل أن التشابه الذي يلاحظه "سرجنت" في مثل هذه الحالات يمكن تفسيره بأحد فرضين: أن تكون الصحيفة تقليداً للقرآن الكريم، أو أن يكون في القرآن تأكيد لما جاء في الصحيفة. و"سرجنت" يأخذ دائماً بالافتراض الثاني. أما الافتراض الأول فهو لا يخطر له أبداً على بال. أما نحن فقد ذهبنا في شروحنا إلى أن مثل هذا التشابه متى وجد فالافتراض الأول في شأنه هو الافتراض السليم.

5- "سرجنت"، حتى في المجالات التي يُعتبر القرآن فيها المصدر المرجّح في إيجاد تعريف لمفاهيم "كالأمة" أو "المؤمن" أو "المسلم" أو "الهجرة" أو "الخروج" أو "النفقة"، يفضل الرجوع إلى مصادر أخرى، وكانت النتيجة أنه كثيراً ما كان يخطئ في تفسيره لمعنى بعض مواد الصحيفة.

6- لم يرجع "سرجنت" إلى ابن إسحاق أو إلى مصدر آخر يمكن أن يقدم له معلومات عن السياق الذي أُدرجت فيه الصحيفة، وخاصةً ذلك المتعلق بالعلاقات بين المسلمين واليهود. وقد اكتفى بفقرتين أوردهما الواقدي، المتوفى سنة 823م، بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم بقرنين من الزمان، تقدّمان لحدث - هو قتل كعب بن الأشرف- يقول الواقدي إنه أدى إلى عقد اتفاق بين اليهود والرسول ويقول "سرجنت" إنه إحدى وثائق الصحيفة. ولم يتنبه "سرجنت" إلى أن الحدث المذكور كان تلفيقاً واضحاً.

7- لم يرجع "سرجنت" إلى القرآن الكريم، الكتاب الوحيد المعاصر للصحيفة، لمعرفة ما إذا كانت المعلومات التي يقدمها بشأن موقف اليهود حيال الإسلام، والتوصيات والأوامر التي وجهها إلى المسلمين بشأنهم، تتفق أو لا تتفق مع تلك التي يقدمها الواقدي، وتؤيد أو لا تؤيد فكرته في أن اليهود والمسلمين ضمتهم أمة واحدة.

8- اتسم التاريخ الإسلامي بين موت رسول الله صلى الله عليه وسلم والفترة التي كُتبت فيها سيرة ابن إسحاق المشتملة على الصحيفة بانقسامات شتى، وبنـزاعات وخصومات وحروب بين المسلمين وحروب مع غير المسلمين، وبكل ما حذر القرآن الكريم المسلمين من ارتكابه مما ارتكبه أهل الكتاب ضد دينهم. وعرفت القرون التالية الظواهر نفسها، على الرغم من أن أصواتاً كانت ترتفع دائماً لشجبها. وانقسمت أمة الإسلام على نفسها، وعاشت مجتمعات إسلامية كثيرة، ولا تزال تعيش، في حالةٍ الإسلام فيها حاضر وغائب في الوقت ذاته، وقد اختفت فيها الروح الجامعة التي لمت شمل المسلمين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والتي لم يُقيّض لها النجاح إلا بإضعاف القبيلة. وحلت محلها أمة استعادت فيها الروح المحلية وروح القبيلة والعنصر أو الدولة كل الأرض التي كانت فقدتها. ولأن "سرجنت" لم يأخذ تفرُّق الأمة هذا في الحسبان نراه يجد شبهاً بين الأعراف والنظم والكتابات التي وجدها في جنوب الجزيرة العربية في القرن العشرين الميلادي وتلك التي تصورها الصحيفة. وهذا التوازي وإن يكن موجوداً في بعض الحالات إلا أن الصحيفة ليست، في نظرنا، من عمل الرسول وأن العالم الذي تصفه لم يكن عالمه. إنها تصف العالم المنقسم الذي ظهر إلى الوجود بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم.

9- ملحوظاتنا بشأن الوثائق الثماني التي يقترحها "سرجنت" تنصب على كل منها بصفة خاصة. بقي أن نقول أن واحدةً من هذه الوثائق:

 أ ) لا تحمل تاريخاً؛

ب) لا تذكر أسماء الموقعين عليها ولا صفتهم التمثيلية، ولا تتحدث عن عملية التوقيع ذاتها؛

ج) لا تشير إلى وثائق الصحيفة الأخرى أو إلى وثيقة أولى؛

د) لا تحدد فترة سريانها ولا تتحدث عن إمكانية مد هذه الفترة أو إجراء تعديلات فيها أو الانسحاب من الوثيقة أو إنهائها. 

هذه عناصر أساسية في كل اتفاق أو معاهدة. والموقعون المفترَضون، من مسلمين ويهود، كانوا تجاراً معتادين على إدارة الأعمال؛ وليس من المتصوَّر أنهم كانوا يجهلون أن غياب هذه العناصر مانع من عقد أي معاهدة.

10- لم يحاول "سرجنت" معرفة مدى اتفاق كل ما تقوله الوثائق الثماني مع القرآن الكريم. ولو أنه بذل هذه المحاولة لاكتشف اختلافات بين النصين تستبعد تماماً أن يكون مؤلف الوثائق هو حامل أمانة القرآن.

11- نظرية "سرجنت" التي مؤداها أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان "يقبل مع تعديلات طفيفة قواعد الأخلاق والإطار الاجتماعي لزمنه" تثير الملحوظات التالية:

 أ ) مثل هذه النظرية يقتضي أن ترتكز على دراسة مقارنة للأوضاع التي كانت سائدة في جنوب شبه الجزيرة وفي البلد الذي ولد فيه محمد والذي باشر فيه رسالته أي الحجاز. و"سرجنت" لا يتحدث عن الحجاز بل يتحدث عن حضرموت وعن شمال اليمن. وكان عليه أن يثبت أن القواعد الأخلاقية والقانون الاجتماعي في الحجاز في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم كانا نفس القواعد ونفس القانون السائدين في حضرموت وفي شمال اليمن في عصرنا هذا.

ب) لو افترضنا أن الأمر كان كذلك، فإن الدراسة المقارنة المذكورة كان ينبغي أن تنصب على السمات الأساسية للقواعد الأخلاقية وللإطار الاجتماعي في حضرموت وفي شمال اليمن في القرن العشرين والسمات المقابلة في الإسلام الأول. والحاصل أن ما نجده من مقارنات في نصي "سرجنت" وفي الدراسات التي نشرها، لا يتعلق إلا بمسائل تفصيلية: معاهدات "الحوطة" في حضرموت، الفكاهة في سوق صنعاء باليمن في هذا القرن، ومعنى الحبل في لغة جنوب الجزيرة القديمة، وعادة وضع أسماء وأختام موقعي المعاهدات على رأس الورقة التي كُتبت فيها؛ ومعنى المؤمن في التعهد الذي تقدمه قبائل حضرموت لمنصب رئيس الحوطة؛ وما جرت به العادة من كون الشخص الذي يريد أن ينال نصيباً من كرم حامٍ ثري يصطحب معه نساء القبيلة؛ وعادة استخدام كلمة "مهاجر" عند القبائل الزيدية لوصف حالة الشخص الذي يسعى للحصول على جوار لدى أشخاص من غير أقاربه؛ عادة القبائل الزيدية في تخصيص مكان للهجرة؛ والتزام الشخص الذي يقيم عند قبيلة ليست قبيلته في محمية عدن القديمة بحماية هذه القبيلة إذا ما هاجمتها قبيلته هو؛ ومعنى كلمة "شرع" في جنوب شرق الجزيرة العربية؛ ومعنى كلمة "تقوى" في سلطنة الواحدي في جنوب الجزيرة العربية؛ وصيغة "أقر بما فيه" في الوثائق؛ ومعنى كلمة "عدل" كهدية تقدَّم في حضرموت من قبيلة القاتل إلى منصَب الحوطة لاسترضائه؛ ومعنى "خرج" لدى قبائل حضرموت؛ والشبه بين حرم الوثيقة والحرم الذي يُعطى في الحوطة في حضرموت حتى وقت قريب، الخ. ولكن "سرجنت" لا يخبرنا بما إذا كانت تعاليم محمد صلى الله عليه وسلم في المسائل الأساسية تستند إلى قواعد أخلاقية مشتركة وأوضاع اجتماعية كانت سائدة في عصره. مسائل مثل التوحيد، والاعتقاد في يوم الحساب بعد الموت، والجنة والنار؛ والولاء للدين أكثر من الولاء للقبيلة؛ وشعائر العبادات (كالصلاة والصوم)، والزكاة المقدمة للفقراء على اعتبار أنها فرض ديني؛ وتحريم الغش والربا في المعاملات التجارية؛ وتحريم قتل الأطفال عموماً ووأد البنات بوجه خاص؛ وتحريم البغاء؛ والقانون الجنائي والقانون التجاري وقانون الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والنفقة وحق المرأة والطفل والإرث والوصية، الخ)؛ وقواعد الحرب؛ وواجب الجهاد؛ الخ.

12- هناك علماء غير "سرجنت" يرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد بنى دينه لا على تراث اليمن وحضرموت وجنوب جزيرة العرب وإنما على تراث اليهودية أو المسيحية. وهناك كتابات كثيرة عقد فيها بعض المستشرقين توازياً بين بعض جوانب الدين الإسلامي وبعض الآيات القرآنية وبين جوانب أو كتابات مقابلة في اليهودية أو النصرانية ليثبتوا أن للإسلام أصولاً يهودية أو مسيحية. ويُذكَر بوجه خاص في هذا الصدد فصلٌ عنوانه "التأثير اليهودي على نمو الدين الإسلامي" في كتاب "محمد ويهود المدينة" لونسينك Wensinck، ودراسة لجولدزيهر Goldziherعنوانها "عناصر يهودية في كتابات المسلمين الدينية"، ومصنفٌ لجايجر أبراهام GeigerAbrahamعنوانه "ما أخذه محمد من اليهودية". وبالنسبة للمسيحية يمكن الإشارة إلى عملين: "أصل الإسلام في بيئته المسيحية" لريتشارد بل RichardBellوكتاب "أصول الإسلام المسيحية" لتور أندريه TorAndrae، ومصنفات أخرى يشير إليها هذان المؤلفان. ولابد أن الأستاذ "ر. ب. سرجنت" كان على علم بهذه الكتابات، لاسيما كتابات "بل"، الذي كان يعرفه شخصياً والذي أشار إليه في بحثيه. ولكن "سرجنت" لا يذكرها حين يتحدث عن العناصر التي أثرت في محمد صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء المستشرقون لا يعزون لقواعد الأخلاق وللإطار الاجتماعي في جنوب الجزيرة العربية الأهمية ذاتها التي يضفيها عليها "سرجنت" كعوامل أثرت على تكوين محمد صلى الله عليه وسلم.

13- لو أن محمداً صلى الله عليه وسلم قبل هذه القواعد وهذا الإطار ولو أنه، كما يقول "سرجنت"، كان يصر على أن تتّبع هذه القواعد بدقة، لمَا وجد أي صعوبة في جمع كل أهل مكة والجزيرة العربية حوله، ولاعتبره الجميع بطلاً منذ بداية دعوته. ولكننا نعلم أنه هو وأصحابه كانوا في نظر قومهم ثواراً وأنهم اضطُهدوا طوال الفترة المكية، وقد نُفي بعضهم واضطروا، كما اضطر الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى مغادرة بلدهم ومسقط رأسهم. وأرسلت مكة جيوشاً ضدهم ثلاث مرات خلال الفترة المدنية.

14- لو أن محمداً قبل قواعد عصره الاجتماعية والأخلاقية لَما تلقى السورة الآتية:

قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ ﴿1﴾لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿2﴾وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿3﴾وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ ﴿4﴾وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿5﴾لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِيْنِ ﴿6﴾[الكافرون]

وليست هناك عبارة أبلغ في وصف ما بين عقيدة محمد صلى الله عليه وسلم وبين قِيَم عصره من اختلاف من هذه الآيات.

المحصِّـلة

1- دراسة "سرجنت" للصحيفة تنصَبُّ على وثيقة نعتبرها غير صحيحة.

2- تحليل "سرجنت" لمواد هذه الوثيقة يعتمد على عناصر مشكوك فيها. وهو لا يضيف شيئاً يسمح باعتبارها صحيحة.

3- ليس من الواضح في أي شيء يمكن أن يكون لهذه الوثيقة، التي ليس لها أي صلة بالواقع التاريخي والتي تحتمل موادها كل هذا العدد من التأويلات من الأهمية مثل ما للقرآن الكريم فيما يتعلق بالإسلام الأول، وفقاً لما يقوله "سرجنت".

4- الوثائق الثماني التي تكوِّن الصحيفة في رأينا وثائق مزورة. ونتيجة لذلك فإن تحديدها لا يمكن أن يكون له أي نتائج منهجية أو تاريخية إذا أُريدَ - كما يقول "سرجنت" - كتابة أي شيء يشبه تاريخ حياة محمد بصورة عصرية نهائية.

5- حتى لو افترضنا أن الصحيفة وثيقة صحيحة، فإنها لا تشبه في شيء "تلك الوثيقة التاريخية الأخرى والكبرى"، أي القرآن الكريم. و"سرجنت" لم يدلل على نقاط الشبه بين النصين.

6- اليقين الذي عبَّر عنه "سرجنت" بشأن وثائق الصحيفة الثماني، وهو ينبني أساساً على أوجه شبه تقريبية وعلى افتراضات بغير أساس، بدلاً من أن يلقي ضوءاً جديداً على فهم القرآن وتفسيره ما كان ليوجد لو أن المؤلف فكر في دراسة هذه الوثائق على ضوء هذا الكتاب الكريم.

7- في تعليق له على عمل "سرجنت" في شأن الصحيفة، كتب "أ. ل. دي پريمار" A. L. de Prémareما يأتي: "هناك محاولة بُذلت لتجزئة النص إلى وثائق منفصلة من الناحيتين الأدبية والتاريخية مع محاولة إدراج كل منها في سياق تاريخي بُني انطلاقاً من كتابات المغازي وهي كتابات متأخرة زمنياً. وعلى الرغم مما في مثل هذا النهج من طرافة، وقد كان موفقاً في بعض نتائجه، فإن التجزئة التي من هذا النوع لا تزال واهية لأنها تستند بوجه عام إلى معطيات متأخرة مستمدة من كتابات المغازي وهي كتابات قيمتها التاريخية نسبية جداً في كثير من الحالات.

8- كبَّد البروفيسور "سرجنت" نفسه جهداً كبيراً - كما يقول - في وضع نظريته بشأن الصحيفة. وعلمه الغزير يتضح من كل سطر من بحثيه. وقد أنتج بفضل كثرة مراجعه ودقة تحليله عملاً يُعتبر نموذجياً في بابه. على أن عمله هذا، لسوء الحظ، أقرب إلى "النقد الأدبي"، وهو تعبير استخدمه أكثر من مرة، منه إلى النقد التاريخي. والحاصل أن نقد المصادر نقداً تاريخياً هو بالذات، أكثر من أي شيء آخر، ما يلزم لتوفير فهم أفضل لحياة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ولعمله وللقرآن الكريم.




(34) أنظر ص ص 58 وما بعدها أعلاه.

(35) انظر ص 267 أعلاه.

(36) "السيرة"، ج2، ص 220.

(37) المرجع ذاته، ص 398.

(38) انظر ص 346 أعلاه. 

اجمالي القراءات 12103