تحليل موقف المقريزى من اضطهاد المصريين بعد الفتح العربى لمصر ( 5 )

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ١١ - سبتمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

أولا : أنا ..والمقريزى

1 ـ عايشت المقريزى كباحث ( يبحث ) ليس فقط فى كتابات المؤرخ بل أيضا يحلل شخصيته ومواقفه من أحداث عصره التى يسجلها . أعجبتنى عقلية المقريزى وجرأته فى نقد الظالمين وأحزننى تأييده للظلم الذى عانى منه الأقباط . وفى بداياتى البحثية فى بحث الدكتوراة عن ( أثر التصوف فى العصر المملوكى ) كنت أتعامل مع كل التراث الذى أنتجه العصر المملوكى،وليس مجرد المصادر التاريخية لأبحث أثر التصوف فيه. وعرفت نماذج مختلفة لعلماء أصحاب شهرة ذائعة لا يستحقونها ، وعلماء مجهولين نابغين وتفرّد المقريزى بينهم كمؤرخ وفقيه ومثقف لولا كراهيته للأقباط.وإحترت فى فهم هذا التناقض فيه ، كيف يتحرى إنسان العدل فى معظم مواقفه دفاعا عن الضحايا المسلمين ثم يؤيد ظلم الأقباط قبل وأثناء العصر المملوكى ؟ خصوصا وأن هناك فقهاء متزمتين متعصبين كانوا على خط واحد هو تأييد الظلم المملوكى مهما كان الضحايا مسلمين أم أقباطا .

2 ـ وأدى إضطهاد شيوخ الأزهر لى لأن أتّجه للقرآن الكريم محتكما اليه أصلح نفسى أولا به ، ثم أستشهد به فى كتاباتى وفى ندواتى .واكتشفت فى التسعينيات أننى كالمقريزى فى ظلمه للأقباط .صحيح أننى فى رسالة الدكتوراة (1977 : 1980) أبرزت التعصب ضد الأقباط وما تعرضوا له من مظالم واستهجنتها ، بل وكرّرت هذا فى أول كتاب منشور لى وهو:( السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة)عام 1982 ، وفى كتاب ( شخصية مصر بعد الفتح الاسلامى) الذى قررته على الطلبة فى جامعة الأزهر عام 1984 ، وصحيح أننى كتبت هذا بموضوعية وبتجرّد، فأثناء هذه السنوات لم أتعرف الى مصرى قبطى واحد،إذ كنت وسط المجتمع الأزهرى ومجتمعات السلفية السنية التى تعلن كراهيتها للأقباط. ولكن باستمرار البحث والمراجعة والاحتكام الى القرآن اكتشفت أننى برغم كل ما سبق فقد كنت كالمقريزى ظالما للأقباط وغيرهم ومتأثرا مثله بالثقافة السنية المناقضة للقرآن الكريم. السبب أننى كنت حتى أوائل التسعينيات منبهرا بالفتوحات(الاسلامية)، أنظر اليها كمؤرخ سياسى، ولا أحتكم فيها للاسلام الذى تحمل إسمه، والذى يرفضها. إحتكمت فى هذه الفتوحات للقرآن الكريم راجيا الهداية فاقتنعت بأنها هى أساس ردة الصحابة عن الاسلام ، وأساس كل البلاء الذى جاء بعدها من الفتنة الكبرى التى دفع ثمنها الصحابة والخلفاء الراشدون،والتى لا تزال أساس التفرق والتقاتل بين السنة والشيعة حتى الآن . وبالهدى القرآنى أعدت قراءة تاريخ الفتوحات لأكتشف المسكوت عنه،وهم الضحايا.

3 ـ وشعرت بالعار فقد إنبهرت بانتصار العرب المسلمين وسنابك خيولهم وهى تدمر الامبراطوية الفارسية وتلتهم معظم مستعمرات الامبراطورية البيزنطية، وتواصل الفتح حتى تصل الى تخوم الهند والصين شرقا وجنوب فرنسا غربا . بهذا الانبهار الطفولى لم أتسمع الى صرخات الشعوب التى داستها سنابك الخيل ، ولم أتنبه الى أنين ملايين الأطفال والنساء السبابا والضعاف وقت الفتوحات ، ولم ألتفت الى صرخاتهم بعد الفتوحات وهم تحت القهر والسلب والنهب والقتل . صحيح أن بعض صرخاتهم كانت تتبدّى بين سطور التاريخ ، بل وقد ذكرتها فى مؤلفاتى السابقة ، ولكن غفلت عن الاحتكام بشأنها الى القرآن الكريم ،لأننى كنت على ثقافة المقريزى مؤمنا بتلك الفتوحات ، وأنها نصر عظيم للاسلام ، وفى سبيلها تهون مصائر الضحايا مهما بلغ عددهم فى آسيا وأفريقيا وأوربا.

4 ـ الفارق بينى وبين المقريزى اننى تحررت من هذه الثقافة بينما ظل المقريزى مخلصا لها فى مؤلفاته . وكان حتما أن أعلن ما أومن به ، وأن أراجع الخطأ ، وهكذا أفعل دائما ، فما توارثته كأزهرى وسلفى سنى سابق كان فظيعا فى تناقضه مع القرآن الكريم ، ولا بد من إعلان ما أراه حقا وأعترف بخطأ ما كتبته من قبل متأثرا بتلك الرواسب .وهكذا فعلت مع موضوع الفتوحات التى كانت أساس كتاب ( العالم الاسلامى بين عصر الخلفاء الراشدين وعصر الخلفاء العباسيين)، وهو واحد من خمسة كتب قررتها على الطلبة فى جامعة الأزهر عام 1985،وفيه كانت الاشادة بالفتوحات وعظمة الفاتحين. قررت التكفير عن هذا الكتاب ببحث (المسكوت عنه من تاريخ عمر ) وبأبحاث أخرى منها، ما وجد طريقه للنشر هنا ومنها ما ينتظر . وعاقبت كتبى السابقة التى كتبتها متأثرا بالسنة والسلفية والعقلية الأزهرية فمنعت إعادة نشرها.

ثانيا : فتوحات المسلمين ردّة حقيقية عن الاسلام

نرجو أن نكتب بحثا متكاملا فى تجلية هذه الحقيقة . ولكن نلمح الى الحقائق التالية :

1 ـ إن هذه الفتوحات تتناقض مع العدل الذى هو سبب إرسال كل الرسالات السماوية (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ( 25 ) (الحديد ) وتتناقض مع أمر رب العزة بالعدل والاحسان ونهيه جلّ وعلا عن الفحشاء والمنكر والبغى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)( النحل ) كما تتناقض مع أوامره جل وعلا بالتزام العدل مع الخصم المعتدي  (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2). وينهى أن تكون العداوة والخصومة سببا فى تناسى العدل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)( المائدة )، وفى حالة رد الاعتداء فلا بد من مراعاة العدل ، أى ردّ الاعتداء بمثله بالعدل (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)( البقرة ).

2 ـ  أما ( الآخر )المخالف فى الدين ولكن لا يعتدى على المسلمين فهو ( مسلم ) لأنه ( مسالم ) أى مسلم ظاهريا بسلوكه وفى داخل الدولة الاسلامية له نفس الحقوق التى للمسلم المسالم بسلوكه وبعقيدته ، هذا لو كان فردا . أمّا لو كانت دولة تدين بغير الاسلام فلا بد من معاملتها بالبرّ طالما لم يعتدوا على المسلمين ولم يخرجوهم من ديارهم، أما إذا أخرجوا المسلمين من ديارهم فالنهى هو عن أن يتحالف معهم بعض المسلمين ضد جموع المسلمين الذين وقع عليهم الظلم.وفى هذا التشريع بالغ السمو يقول جل وعلا  : (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9) الممتحنة).

3 ـ التناقض الشديد فى الفتوحات مع تشريع الاسلام أنها فقط ليست إعتداءا ( علمانيا ) مثل إعتداءات الاستعمار الحديث وروما وفارس قديما ، ولكنه إعتداء يتمسح بإسم الله جل وعلا وشرعه ودينه فى وقت لم يكن قد مضى فيه على موت خاتم النبيين عامان.أى هو ظلم لرب الناس قبل أن يكون ظلما للناس .

ثالثا : ثقافة الفتوحات فى التعامل مع الآخر

1 ـ مغزى الفتوحات فى البداية أنه حق ( إلاهى ) للمسلمين فى غزو ( الآخر) المختلف فى الدين وأن يحتلّوا بلاده ، وأن يقتلوا رجاله وأن يسبوا ويغتصبوا نساءه وأن يسترقوا النساء والذرية وأن يسلبوا ثروة الوطن المحتل ، وأن يستنزفوا أموال المواطنين أصحاب البلاد الأصليين،وأن يقهروهم ويجعلوهم مواطنين من الدرجة السفلى فى بلادهم ،وأن الواجب على هذا (الآخر) أن يرضى بذلك ويخضع ويخنع ويركع ، فإن قاوم ودافع عن نفسه وعن وطنه وعرضه فهو كافر.

2 ـ هذا الظلم الهائل للناس ولرب الناس تم إستيعابه فى ضجيج التهليل للمنتصرين ، بل تأسّس ثم هذا الظلم تشريعا قام عليه دين السّنة بالذات، فبه أصبح ( عمر ) إلاها لا يجوز نقده عند المسلمين السنيين. وأصبح(الجهاد السّنى ) ذروة الأمر وسنامه ، وأن من مات ولم يغز ولم تحدثه نفسه بالغزو مات على الجاهلية . وبتشريع الجهاد السنى وممارسته حتى فى الحروب المحلية والأهلية بين السنة والشيعة خلال قرون طويلة تأصلت ثقافة الفتوحات أو ثقافة الجهاد ،واصبحت حاكمة فى نظرة المسلم التقليدى للآخر فى الدين ؛ يراه مستحقا للقتل والسلب والنهب والاسترقاق والسبى . هذا الآخر المختلف عنا فى الدين يجب علينا غزوه واحتلال بلاده لو استطعنا ، ولو إحتللنا بلاده أصبحت بلادنا ـ وأصبح فيها غريبا مقهورا تحت حكمنا . وهو عدوُّ لنا حتى لو أسلم ، فلو أسلم فاسلامه نفاق ومشكوك فيه وتحايل على الكيد لنا. وعلى هذا سارت عقلية التعصب لدى المسلمين ، وظهرت فى كتابات المقريزى عن المصريين .

رابعا : تأثر المقريزى بهذه الثقافة فى وصفه المصريين بالأقباط  

1 ـ المقريزى لم يقل أبدا إنهم مصريون بل أقباط ،أى هم ( الآخر) المختلف فى الدين. يقول عنهم:( إعلم أن أرض مصر لما دخلها المسلمون كانت بأجمعها مشحونة بالنصارىوهم على قسمين متباينين في أجناسهم وعقائدهم: أحدهما أهل الدولة وكلهم روم من جندصاحب القسطنطينية ملك الروم ورأيهم وديانتهم بأجمعهم ديانة الملكية وكانت عدّتهمتزيد على ثلاثمائة ألف روميّ‏.‏والقسم الآخر عامّة أهل مصر، ويقال لهم القبط ، وأنسابهم مختلطة لايكاد يتميز منهم القبطي من الحبشيّ من النوبيّ من الإسرائيليّ الأصل من غيره ، وكلهميعاقبة فمنهم كتاب المملكة ومنهم التجار والباعة ومنهم الأساقفة والقسوس ونحوهم،ومنهم أهل الفلاحة والزرع ومنهم أهل الخدمة والمهنة. وبينهم وبين الملكية أهل الدولةمن العداوة ما يمنع مناكحتهم ويوجب قتل بعضهم بعضًا . ويبلغ عددهم عشرات آلاف كثيرةجدًّا ، فإنهم في الحقيقة أهل أرض مصر أعلاها وأسفلها ). أى أن مصر عندما دخلها العرب فاتحين كان أهلها كلهم نصارى ، وينقسمون قسمين : أهل السلطة الحاكمة من الروم، وهم ينتمون الى المسيحية الملكية وعددهم حوالى 300 الفا، ثم الشعب المصرى،وهو يدين بالمسيحية اليعقوبية أوالقبطية أو على حدّ قول المقريزى ( يقال لهم الأقباط ).وهناك عداء هائل بين الروم والأقباط.والأقباط هم (أهل أرض مصر) فى الدلتا والصعيد.برغم هذا حافظ المقريزى على وصف المصريين بالأقباط ولم يقل أبدا (المصريون) .

2 ــ الغريب أن تراث العرب وصف المصريين فى هذا الوقت بالأقباط ، لم يقل المصريين أو أهل مصر، بينما وصف جند العرب من الأعراب المحتلين لمصر بأنهم (اهل مصر ) وذلك فى التأريخ للثورة على الخليفة عثمان وقتله ، وقد جاء أولئك الأعراب الثائرون على عثمان من مصر والكوفة والبصرة ، فقيل عن الأعراب القادمين من مصر الى المدينة ثائرين على الخليفة عثمان أنهم (أهل مصر). ونستشهد بفقرات مما نقله ابن الجوزى فى المنتظم عن الثورة على عثمان وقتله:(جعل أهل مصر يكتبون إلى الأمصار.)( فاجتمع المصريون والكوفيون بالمدينة فخطبهم عثمان.)( فأما أهل مصر فإنهم كانوا يشتهون عليَا وأما أهل البصرة فإنهمكانوا يشتهون طلحة وأما أهل الكوفة فإنهم كانوا يشتهون الزبير‏.‏) ( خرجوا حتى إذا كانوا من المدينة على ثلاث تقدم أناس من أهل البصرةفنزلوا ذا خُشُب وأناس من أهل الكوفة فنزلوا الأعوص وجاءهم أناس من أهل مصر، وتركواعامتهم بذي المرْوة‏.‏ومشى فيما بين أهل مصر وأهل البصرة زياد بن النضر وعبد الله ابنالأصم وقالا‏:‏ لا تعجلوا حتى ندخل المدينة ‏.‏).

فالأعراب الثائرون على عثمان والذين قتلوه وأتوا من مصر هم (المصريون) وهم (أهل مصر).أما أصحاب البلد الحقيقيون فليسوا أهل مصر، هم(الأقباطـ ) ، وطبقا لثقافة الفتوحات هم ممتلكات للفاتحين ،لأنهم (الآخر) المستحق للسلب والسبى والقتل والقهر.

3 ـ هى نفس ثقافة فرعون موسى. فالله جل وعلا يقول عنه:( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)( القصص 4). أى أن فرعون حين (علا ) فى مصر فقد (علا ) فى (الأرض) فمصر موصوفة هنا ب(الأرض)، ومن يسكن مصر هم (أهلها ) سواء من المصريين أو من الاسرائيليين ، ولكن فرعون موسى لم يعترف بالاسرائيليين فاستضعفهم واضطهدهم . الاسرائيليون كانوا وقتها أقلية ضئيلة جدا ووافدة ومختلفة عن بقية المصريين، وهذا يبرر لمفسد مستبد مثل فرعون موسى أن يضطهدهم وأن يجعلهم الآخر المختلف فى الدين والعنصر والثقافة . وهذا ظلم هائل استوجب أن يوصف فرعون بأنه كان من المفسدين. ولكن العرب الصحابة كانوا أكثر ظلما من فرعون، فقد فتحوا مصر بمعونة أهلها المصريين ، فتمكن جيشهم القليل جدا من هزيمة الروم ، وكافأ العرب ــ وهم أقلية ضئيلة جدا بالنسبة لعدد المصريين ــ كافأوا الأغلبية المصريين بالقهر والسلب والنهب ، واعتبروهم ( الآخر ) واعتبروا أنفسهم ( المصريين ) أو أصحاب مصر،أما المصريون الحقيقيون فهم الأقباط أى (الاخر) المختلف فى الدين .  وكتب المقريزى يؤيد هذا الظلم ويباركه.

خامسا : المقريزى لم يتعاطف مع الضحايا المصريين بل كان يتشفى فيهم .

1 ـ فى كارثة عام 682 بعد سلسلة من القتل والهدم والسلب والنهب ،هدّد السلطان الأشرف خليل النصارى العاملين بدولته بالاحراق إن لم يسلموا فأسلموا . يقول المقريزى معلّقا على إسلامهم :( فصار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزًا،يبدي من إذلال المسلمينوالتسلط عليهم بالظلم ما كان يمنعه نصرانيته من إظهاره. وما هو إلا كما كتب به بعضهمإلى الأمير بيدرا النائب‏:‏ أسلمَ الكافرونَ بالسيفِ قهرًا وإذا ما خلوا فهُممُجرمونا   سلِموا مِن رواحِ مال وروحٍ فهم سالِمون لا مُسلمونا .)

2 ـ وفى كارثة عام 700 والتى نشبت بتأثير الوزير المغربى، طورد الأقباط ولوحقوا بالقتل والاهانة من العوام،أو بتعبير المقريزى نفسه:( فتسلطت الغوغاء عليهم ، وتتبعوهم ، فمنرأوه بعْير الزيّ الذي رسم به ضربوه بالنعال وصفعوا عنقه حتى يكاد يهلك ، ومن مرّ بهموقد ركب ولا يثني رجله ألقوه عن دابته وأوجعوه ضربًا، فاختفي كثير منهم.) فاضطر بعضهم للدخول فى الاسلام ، يقول المقريزى:( وألجأتالضرورة عدة من أعيانهم إلى إظهار الإسلام أنفة من لبس الأزرق وركوب الحمير.) ويعلّق المقريزى: ( وقدأكثر شعراء العصر في ذكر تغيير زيّ أهل الذمّة ، فقال علاء الدين علي بن مظفرالوداعي‏:‏ لقد ألزمَ الكُفارُ شاشاتَ ذلة تزيدُهُم من لعنةِ اللَّهِ تشويشا فقلتُلهم ما ألبسوكُم عمائمًا    ولكنهم قد ألزموكُم براطيشا. وقال شمس الدين الطيبي‏:‏ تعجبوا للنصارى واليهودِ معًا والسامريينَلما عُمموا الخرقا   كأنما باتَ بالأصباغِ منسهلًا نسرُ السماء فأضحى فوقهم زَرَقا)

3 ـ وفى كارثة عام 755 ، التى لم يكن للأقباط واليهود فيها أى  ذنب وتعرضوا لاضطهاد أبشع من العوام فإضطر كثيرون للدخول فى الاسلام خوفا وطلبا للنجاة،يقول المقريزى:( فقدمت الأخباربكثرة دخول النصارى من أهل الصعيد والوجه البحريّ في الإسلام وتعلمهم القرآن،وإن أكثر كنائس الصعيد هُدمت وبُنيت مساجد ، وأنه أسلمبمدينة قليوب في يوم واحد أربعمائة وخمسون نصرانيًا وكذلك بعامة الأرياف ) إسلامهم لم يعجب المقريزى فعدّه:(مكرًا منهموخديعة حتى يُستخدموا في المباشرات وينكحوا المسلمات ، فتم لهم مرادهم ، واختلطت بذلكالأنساب حتى صار أكثر الناس من أولادهم . ولا يُخفي أمرهم على من نوّر الله قلبه ، فإنهيُظهر من آثارهم القبيحة إذا تمكنوا من الإسلام وأهل ما يَعرف به الفطن سوء أصلهموقديم معاداة أسلافهم للدين وحملته‏.‏).

أخيرا

1 ـ هناك نوعان من الظالمين : ظالم يقترف الظلم ، وآخر يصفّق للظالم ويهلّل له ويتشفّى فى المظلوم ، والمقريزى من هذا النوع الأخير . وهناك من ينافق المستبد الظالم ولا يأبه بضحاياه مهما كان إنتماءهم ، وهناك مؤرخ مثل المقريزى انتقد الظلم الواقع على المسلمين فقط بينما هلّل لظلم الأقباط . أى كان على ( ملّة ) عمر فى أن يقصر العدل على العرب المسلمين ويظلم غيرهم من ( الآخر ) ، هو ( عدل مخادع ) لأنه يخفى تحت بريقه ظلما لملايين الأبرياء ويحجب النظر عن معاناة ملايين المقهورين ..

2 ـ لا نكتب هذا لمجرد إعطاء معلومات تاريخية مجهولة أو مسكوت عنها. نكتبه خوفا على مصر فى حاضرها ومستقبلها ، خوفا من مغبة سيطرة ثقافة المقريزى على تيارات من المثقفين المصريين بنفس سريان ثقافة التعصب لدى عوام المصريين من مسلمين وأقباط. نكتب وعظا وتحذيرا.

هذا يحتاج تفصيلا .

اجمالي القراءات 22033