أزماتنا السياسية مصدرها رذائل أخلاقية!

د. شاكر النابلسي في الأحد ٢٦ - أغسطس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

طغى الحديث عن الأزمات السياسية في العالم العربي، في نهايات القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، على الحديث عن الأزمة الأخلاقية. متناسين أن الأزمة السياسية في الدرجة الأولى هي أزمة أخلاق ليس إلا. وأن الفساد، والرشوة، والمحسوبية، وسرقة المال العام، وهي التي تُشكِّل في نهاية الأمر الأزمة السياسية، وتطيح بأنظمة الحكم القائمة نتيجة لذلك. وربما ساهمت بعض أنظمة الحكم في العالم العربي، في إلهاء الرأي العام العربي عن الأزمة الأخلاقية الطاحنة، وما تمثله من فساد، وسرقات للمال العام، ومحسوبية . والتركيز على شرور الحرب الطائفية، والحرب الأهلية، وعودة الاستعمار، وخطر إسرائيل، وخطر بعض الأنظمة الإقليمية على مستقبل العالم العربي. وهو ما حصل وانجرَّ إليه الكثير من المثقفين العرب، متناسين أن أُسَّ الأزمة السياسية في العالم العربي، مصدره الأزمة الأخلاقية والأخلاق العربية الجديدة المتدنِّية. ونقول "الجديدة" هنا، لأن أخلاق العرب التقليدية، بما تمثله من كرم، وشهامة، وفروسية، وصدق، لا يزال كثير منها قائماً، ولكن ما طغى عليه، وشوَّهه هذه الأخلاق المتدنية، والسيئة الجديدة، المتمثلة- كما قلنا - في الفساد المالي، والرشوة، والسطو على المال العام، والمحسوبية، وخلاف ذلك من الأمراض الاجتماعية الجديدة، التي أخذت تنخر في الجسم العربي.

 

الأزمات السياسة والرذائل الأخلاقية

التفتَ الفلاسفة والمفكرون القدامى إلى الأزمة الأخلاقية في المجتمع، واعتبروها أُسّ الأزمة السياسية، والاجتماعية، والثقافية. وكان من أشهر هؤلاء أرسطو، في كتابه " الأخلاق". وقد فهمنا من خلال الشروحات الكثيرة لهذا الكتاب القديم في تاريخه، الجديد – في كل يوم في موضوعه – أن الحقيقة ليست خارج عالمنا، ولكن تحت أبصارنا في الكائنات، وفي الأشياء الأرضية.

ويقرر أرسطو – منذ آلاف السنين - أن المثال الأعلى للنظام، والقياس، والانسجام، لا يتحقق في فضائل الحياة العملية، إلا بتحقيق عناصر رئيسية ثلاثة: السماحة ، وهي المرحلة المتوسطة بين البخل والإسراف. والعدالة، وهي التي تقوم على الحفاظ على التوازن الاجتماعي. والثالثة هي الصداقة (الفداء)، وهي أن يهب المرء نفسه بشكل نزيه ومطلق ، ولكن أيضاً أن يكتسب خير ما لدى الطرف الآخر أخلاقياً .

ووضع أرسطو فوق هذه الفضائل الثلاث، فضيلته الكبرى في الأخلاق – كمفكر وحكيم - وهي ضرورة التفكير والتأمل، التي لا يمكن بلوغها إلا للحكيم وحده. وتقوم على الانصراف إلى الفكر المحصن، وإلى المعرفة النقية من كل شوائب الاعتبارات الأرضية (التعصب والتشدد العقدي في الدرجة الأولى، ثم التمسك بالحقيقة المطلقة، لا النسبية). وعلى المجتمع تنمية الفضيلة –السياسية والأخلاقية - لدى أعضائه. ولذلك فإن جميع الأنظمة التي تميل إلى "دعم العقل" بعيداً عن المصالح الشخصية، هي الصحيحة.

ومن المعروف - سياسياً – أن أرسطو كان يفضل النظام الديموقراطي المعتدل. حيث العدالة في توزيع الثروات، وهي النتيجة المنطقية للتأمل الأخلاقي، الذى يُشكل قاعدة أساسية.

 

القيم الأخلاقية بين الماضي والحاضر

هل تتغير القيم الأخلاقية كالسماحة، والصدق، والشهامة.. الخ . بتغير الزمان، والمكان؟

يقرر معظم المفكرين والفلاسفة الذين تناولوا موضوع الأخلاق وأزمتها في مختلف العصور والأمكنة على أن هذه القيم ثابتة. وقد أكد ثبوتها ، تأكيد الأديان السماوية لها، ودعوتها الى الالتزام بها. ومن هنا نرى، أن أخلاق أي شعب في أي عصر من العصور، لا تتميز، ولا تختلف عن أية قيم أخلاقية، جاءت بها الانسانية. ولكن يستدرك هؤلاء المفكرون، من أن اختلاف هذه القيم - فيما لو حصل – ناتج عن ظروف اقتصادية، وسياسية، وثقافية معينة. ولنضرب لذلك مثل مصر الآن بعد ثورة 25 يناير 2011. فانتشار الرشوة في العهود السابقة، وانتشار الفساد المالي، والاستيلاء على أراضي الدولة، وسرقة المال العام، كل هذا، كان نتيجة الضائقة المالية، التي تعاني منها مصر، إلى الحد الذي أصبحت معه هذه الرذائل فضائلاً لدى البعض. إلا أن الكشف عن هذه الرذائل، بعد ثورة 25 يناير، والنقد القاسي الذي وُجِّه الى مرتكبي هذه الرذائل، هو الذي كشف بوضوح عن وجود أزمة أخلاقية، كانت سبباً في الأزمة السياسية، وبقيام ثورة 25 يناير 2011.

 

فقهاء الأخلاق من المسلمين

كان أبو حامد الغزالي وابن سينا والفارابي ومسكويه وغيرهم، أشهر من تناولوا فقه الأخلاق من العلماء المسلمين. وكانوا مقابل أرسطو وأفلاطون وغيرهما عند اليونان.

ولكن يرى الباحث أحمد محمود صبحي، في كتابه "الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي" أنه رغم اعتبار فلسفة الأخلاق من قبل بعض فلاسفة الإسلام أحد فرعي العلم المدني في إحصائهم للعلوم، متبعين بذلك خطى أرسطو، إلا أنهم لم يضيفوا شيئاً على ما قاله أرسطو. ويقول صبحي، أن المؤرخين والدارسين كادوا يجمعون على أنه ليس في الفكر الإسلامي مذاهب أخلاقية، معللين ذلك، باستغناء المسلمين عن النظر في المسائل الأخلاقية بتعاليم القرآن الكريم والحديث الشريف. ويعتبر صبحي أن أحمد بن مسكويه (932- 1030م) الفيلسوف، والمؤرخ، والشاعر، يُعد أكبر باحث في الأخلاق عرفته الفلسفة العربية، ويرى أن إنتاجه الفلسفي خليط من آراء أفلاطون، وأرسطو، وجالينوس، والتعاليم الإسلامية.

أما ناجي التكريتي في كتابه "فلسفة الأخلاق عند مفكري الإسلام"، فيقرر – دون أدنى شك - أن العرب قبل الإسلام، كانوا يمجِّدون مكارم الأخلاق، ويفخرون بها بالشعر الذي يدعو إلى الفضائل والمكارم، وقد اتجه العرب بعد دخولهم الإسلام إلى القرآن الكريم، يدرسونه، ويفسرونه، ويتبعون تعاليمه. وكانت أحاديث الرسول عليه السلام، وأفعاله، وتقاريره، مشاعل أخلاقية يهتدي بها العرب بعد القرآن الكريم . وعلى مدى تاريخ الفكر العربي الإسلامي، وما نشأت فيه من مدارس علمية ودينية، فإن عمود الحكمة في هذه المدارس، هو التمسك بالفضائل، والسير في الطريق القويم. ويلاحظ الدارس والمتبصر في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية، أن الفلسفة الإسلامية كانت فلسفة أخلاقية، في جوهرها. وأن هدف الفلاسفة العرب كان أخلاقياً واضحاً، فيما كتبوه من رسائل، ومصنفات. ولكن، قلَّ أن نجد ربطاً علمياً، وتاريخياً مُحكماً بين فساد السياسة، في العصور العربية السابقة، وبين انهيار القيم الأخلاقية الجديدة، التي دخلت القاموس الأخلاقي العربي والإسلامي، نتيجة الفتوحات، واختلاط العرب بالآخرين.

 

 

اجمالي القراءات 8382