الاستثمار في الحرب والدمار.. هل تصبح ليبيا سوريا جديدة لجيش بوتين السري؟

في السبت ١٦ - نوفمبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

بعد عامين من الخلاف الذي اشتعل بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس وزرائه آنذاك ديمتري ميدفيديف بشأن امتناع روسيا عن التصويت بالفيتو على قرار الأمم المتحدة الذي مهّد الطريق لسقوط العقيد معمر القذافي في ليبيا، ظهر فيلم وثائقي غامض –لكن عالي الجودة- على شبكة الإنترنت في روسيا.

فيلم وثائقي غامض

أبرز الراوي المجهول ميدفيديف بوصفه قائداً ضعيفاً تنازل عن مصالح روسيا لأمريكا المخادعة ذات الوجهين. وتضمن الفيلم مقابلة مع يفغيني بريماكوف رئيس الوزراء الروسي وذراع جهاز الاستخبارات السوفييتية (KGB) السابق في الشرق الأوسط.

كما عرض مقابلات مع عمال في مصنعٍ للأسلحة يقع خارج موسكو. قال أحدهم: «بصرف النظر عن الخسائر المادية، هناك خسارة معنوية أيضاً. عندما تشعر أن كل شيء عملت من أجله على مدار سنوات عديدة، لم يعد هناك حاجة إليه».

يقول ديفيد هيرست، رئيس تحرير موقع Middle East Eye البريطاني، إذا احتاج المرء يوماً إلى مثالٍ جليّ على الصدام بين الليبرالية ذات النزعة الغربية والقومية المعادية للغرب، في روسيا، فإن مشاهدة هذا الفيديو تعد أمراً واجباً في هذا السياق. إذ شيئاً فشيئاً، يتبين لك دون أن تشعر أن الراوي لم يحكم على ميدفيديف بالغباء فحسب، بل اتهمه بأنه خائن أيضاً.

يقال الشيء نفسه عن اثنين من الرموز الغربية في روسيا، يلتسين وغورباتشوف. إذ يسود اعتقاد عن كليهما في روسيا بأنهما تنازلا عن مصالح البلاد الاستراتيجية سعياً وراء تحقيق انفراج في العلاقات مع الغرب. يقول الراوي: «لم يكتف ميدفيديف بجعل روسيا داعمة لصوت المجتمع الدولي [الغربي] فحسب، بل حاول تقديم خدمة أكثر قيمة، ليتضح بعد ذلك أنها خيانة».

بدا الفيديو بمثابة إعلان وفاة لمسيرة ميدفيديف بوصفه رجل دولة، على الساحة العالمية.

عودة روسيا إلى منطقة الشرق الأوسط

يقول هيرست، إذا كان هناك أي حقيقة في الاستعارة المجازية القائلة إن روسيا كان يحكمها رجلان بالترادف كعربةٍ بمقودين، فقد تبادلا دور رئيس الوزراء والرئيس بإرادتِهما، وشكك كثيرون في ذلك، فإن هذه الحقيقة هي أن ميدفيديف قد سقط حقاً وبات خارج عربةِ الحكم تلك الآن.

كان ميتة القذافي المذلّة درساً مهماً لبوتين. لم يحزن الرئيس الذي حول روسيا من حكم الأقلية إلى الرئاسية على خسارة حليفه كثيراً، بقدرِ ما حزن على خسارة مليارات الروبل التي كانت تحققها المبيعات العسكرية إلى ليبيا.

كانت ليبيا في عام 2011، وليس غزو العراق في عام 2003، هي التي أعادت ميلاد فكرة أن الجنود الروس يجب أن يعودوا إلى الميدان في الشرق الأوسط بعد عقود من الغياب. لكن روسيا الحاضرة في الشرق الأوسط اليوم كيان مختلف عن الاتحاد السوفييتي، الذي كان ينفق المال دون تفكير كثير في العوائد التجارية من ورائه. بعكس بوتين الذي يطمح إلى صافي الأرباح. 

أتاح رفضُ أوباما التدخلَ في الحرب الأهلية السورية الفرصةَ المثالية لبوتين، لكي يظهر لمنافسه في البيت الأبيض أن أمريكا فقدت احتكارها استخدام القوة على الساحة العالمية. ومن ثم لا ينبغي أن نتفاجأ بأن القوات الروسية عاودت الظهور في ليبيا، في الساحة ذاتها التي شهدت هزيمتها وحليفها السابق في عام 2011.

المرتزقة الروس

بحسب هيرست، كما كان الحال في أوكرانيا وسوريا، فإن المرتزقة الروس هم قوات يمكن لروسيا أن تنكر علاقتها بهم، ويمكن أن يفقدوا حياتهم إجمالياً بغير عاقبة كبيرة أو بدون عواقب، لأنهم ليسوا هناك رسمياً.

كانت متحدثة باسم وزارة الدفاع الروسية قالت إن روسيا ليس لديها الكثير مما يمكنها فعله من الناحية القانونية «لمنع مواطنين روس لا ينتمون إلى جهات رسمية من العمل حراساً شخصيين في الخارج».

الواقع أنه، كما يعلم الجميع في روسيا وخارجها، فإن القوات الروسية العاملة في ليبيا هي قوات خاصة في كل شيء ما عدا الاسم.

الجنرال خليفة حفتر يصافح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف خلال اجتماع في موسكو ، روسيا في 14 أغسطس ، 2017 (رويترز)
 
الجنرال خليفة حفتر يصافح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف خلال اجتماع في موسكو ، روسيا في 14 أغسطس ، 2017 (رويترز)

تنتمي تلك القوات إلى «مجموعة فاغنر» (Wagner Group) [ميليشيا روسية شبه عسكرية، يصفها البعض بأنها وكالة تعاقد عسكرية خاصة]، التي يرأسها يفغيني بريغوجين، وهو بائع سابق للنقانق في مدينة لينينغراد مسقط رأس بوتين، ويُعرف باسم «طبّاخ بوتين»، ويدير عقود الكرملين المدّرة للأرباح في الخارج.

كان موقع إلكتروني يديره أحد أفراد الأوليغاركية الحاكمة السابقين، رجل الأعمال الروسي المنفي ميخائيل خودوركوفسكي، هو من كشف في شهر يونيو/حزيران الماضي، عن وجود مجموعة فاغنر، ليس فقط في ليبيا، ولكن أيضاً في أجزاء أخرى من إفريقيا. تضمنت التسريبات وثائق ورسائل إلكترونية تشاركتها المجموعة التي يقودها بريغوجين خططاً لعودةِ انتشار قوات روسية على الخريطة في 13 دولة إفريقية، شملت دولاً من جنوب إفريقيا وزيمبابوي وحتى ليبيا.

يُعتقد أن عدة مئات من الجنود الروس يقاتلون لصالح اللواء السابق في الجيش الليبي خليفة حفتر.

تأجيج الحرب

في أكتوبر/تشرين الأول، قُتل ما يصل إلى 35 منهم في غارة جوية على أطراف طرابلس. بعد شهر من ذلك، اتهم فتحي باشآغا، وزير الداخلية في حكومة (الوفاق) في طرابلس، مجموعة فاغنر بالسعي لإعادة إشعال الحرب الأهلية التي كانت قد توقفت في ليبيا. وقال باشآغا لموقع Bloomberg: «لقد تدخل الروس لصبّ الوقود على النار، وزيادة تعقيد الأزمة بدلاً من إيجاد حل».

«الدليل على ذلك هو نشر قوات مجموعة فاغنر في ليبيا. كانوا قد أرسلوها من روسيا إلى سوريا من قبل، ثم إلى وسط إفريقيا، وأينما تحل قوات فاغنر يحل معها الدمار والخراب».

أوردت صحيفة The New York Times الأمريكية تقارير عن وجود قناصةٍ روس على خطوط الجبهة الأمامية خراج طرابلس، يستخدمون طلقات رصاص لا تخرج أبداً من الجسم، وتقتل على الفور.

يُنذر ظهور القناصة الروس خارج طرابلس بمزيد من سفك الدماء. وفي النهاية يمكن القول إن بوتين يفعل فقط في ليبيا ما سمحت دول أخرى لنفسها بفعله.

تحويل ليبيا إلى ساحة عسكرية للتدخلات الدولية

إذا كانت ليبيا أصبحت ساحة عسكرية دولية لقواتٍ خاصة فرنسية وإماراتية ومصرية ومقاتلات تدعم حفتر من جهة، وطائرات بدون طيار وعربات مدرعة تركية تدعم حكومة الوفاق في طرابلس وميليشيا مصراتة في الجهة الأخرى، فما المانع أن يكون الروس هناك كذلك؟

ومع ذلك، فإن هذه القائمة ليست شاملة. فقد خلص تقرير حديث للأمم المتحدة إلى أن السودان والأردن أيضاً يزودان حفتر بدعم عسكري على نحو غير قانوني.

كان تقرير نشره موقع Middle East Eye سابقاً قد أشار، وجاء تقرير لجنة من خبراء الأمم المتحدة ليؤكد أن نحو 1000 جندي ينتمون إلى قوات الدعم السريع السودانية التي يقودها حميدتي، نائب رئيس مجلس السيادة الحاكم في السودان، كانوا متمركزين في قاعدة الجفرة في ليبيا، وهي قاعدة جوية تسيطر عليها قوات «الجيش الوطني الليبي» بقيادة حفتر، والتي قصفتها طائرات تركية مؤخراً.

دعّم الأردن قوات حفتر بتدريبات ومعدات عسكرية. وقال التقرير إن «الأردن وتركيا والإمارات زودت أكثر من مرة وأحياناً بشكل صريح، أطراف الصراع بالأسلحة والمعدات، دون حتى تكلف عناء إخفاء المصدر».

إعادة ارتكاب الأخطاء الاستعمارية ذاتها

إذا اعتبرنا سوريا نموذجاً لطريقة العمل الروسية، فإن هناك سبباً للقلق العميق بشأن ما يحدث وما قد يحدث في ليبيا. كان الرئيس السوري بشار الأسد، قبل أن ينقذه القصف الجوي الروسي، يخسر أمام قوات المعارضة وكان من الممكن أن تسقط دمشق في أيديهم بسهولة.

لم يكن الثقل العسكري المشترك لإيران وحزب الله كافياً لمساعدة الجيش السوري على وقف التقدم في مناطق سورية مختلفة لمجموعة متنوعة من قوات المعارضة السورية التي كانت تقاتل إلى جانبها مجموعات مرتبطة بتنظيم القاعدة.

لكن القوة الجوية الروسية رجحت كفةً في الحرب الأهلية السورية. والآن، حفتر عالق خارج طرابلس، غير قادر على الاستيلاء عليها. فهل ستقلب روسيا ميزان القوة العسكرية في ليبيا كما فعلت في سوريا؟

هل ستقلب روسيا ميزان القوة العسكرية في ليبيا لصالح حفتر، كما فعلت مع الأسد في سوريا؟
 
هل ستقلب روسيا ميزان القوة العسكرية في ليبيا لصالح حفتر، كما فعلت مع الأسد في سوريا؟

تركيا وروسيا في مواجهة بليبيا؟

إذا كان مرتزقة مجموعة فاغنر مجرد قوات الطليعة في التزام عسكري روسي بدعم حفتر، فإن الذي حدث في سوريا يمكن أن يتكرر بذاته في ليبيا، لمصلحة قائد عسكري منح نفسه رتبة مشير ولديه قائمة طويلة من الاتهامات بارتكاب جرائم حرب في حاجة للرد عليها، علاوةً على أنه من الواضح أنه غير مدعومٍ على الأقل من نصف الشعب الليبي.

ومن الجدير بالذكر أن ليبيا ستضع القوات الروسية والتركية في مواجهة بعضها بعضاً مباشرة، وهو ما يمكن أن يهدد علاقة موسكو الاستراتيجية بأنقرة، والتي يجد الروس أنها مفيدة في كبح نفوذ أمريكا في المنطقة.

وفي الختام، يجب أن نستحضر قبل أي شيء، أن الوجود العسكري في ليبيا ليس استثماراً للوصول إلى سلام أو تسوية. إنه استثمار في الحرب والدمار. إذ إن السعي لمواجهة مساعي الهيمنة المدعومة غربياً وتدخلاتها في الشرق الأوسط شيء يختلف تماماً عن أن تعود أنت نفسك لارتكاب أخطاء الاستعمار ذاتها التي كنت تنكرها.

اجمالي القراءات 1135