اعتزلوا العالم ليعيشوا ببساطة.. مجتمعات تعيش في هدوء بعدما هجرت صخب الحداثة

في السبت ١٨ - أغسطس - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

في عالم متسارع الإيقاع، ويبدو متصلًا ببعضه البعض بدرجة كبيرة، يزداد شعور الكثير من الناس بالعزلة خلف شاشات زجاجية لأجهزة تواصل إلكترونية يرون العالم من خلالها بمُرشحات ألوان مختلفة؛ قد لا تعكس الواقع بشكل كبير، العالم الذي صار مليئًا بأنماط الحياة الاجتماعية الاستهلاكية التكنولوجية التي لا تهدأ، والتي قد لا يدري الإنسان أنه حبيسها، تجذبه دون أن يشعر لمزيد من الانشغال، وتضعه لا شعوريًا داخل دائرة من الضغوط والاحتياجات التي تهدف إلى جعله جزء من منظومة مجتمع حديث.

ولكن ماذا لو قرر شخص أو مجموعة أشخاص السير في اتجاهات معاكسة لتلك الأنماط الحياتية، وقرروا أن يهجرو تلك المنظومة المجتمعية الحديثة، وأن يبدأوا حياة بسيطة، أولية متناغمة ومستقلة، تنتج وتصنع ما تحتاجه، ولا تجعلهم تروسًا في آلة ضخمة تضخ أنماطًا اجتماعية، استهلاكية مُقَولَبة. هذا ما سنسرد عنه بعض الأمثلة في السطور التالية.

لاسكيتي.. المجتمع الصغير المستقل «الأعلى تعليمًا»

تلك الجزيرة الصغيرة تتواجد في غرب كندا، لا تتعدى مساحتها 20 كيلومترًا مربعًا، وتبعد عدة أميال بحرية عن مدينة فانكوفر الكندية بالقرب من مقاطعة كولومبيا البريطانية التابعة لكندا، ويبلغ عدد سكانها نحو 400 شخص فقط، قرروا الانتقال للعيش عليها، وبدء مجتمعهم الخاص القائم بذاته، وآثروا العزلة والبعد عن الحداثة وحياة المدن، وقرروا البدء ببناء منازلهم من المواد المُعاد تدويرها.

تقرير مصور عن جزيرة لاسكيتي

أهل الجزيرة الصغيرة ينتجون طعامهم عن طريق زراعة المحاصيل، واستغلال الموارد الطبيعية على الجزيرة في أغراض البناء والتصنيع، وغير ذلك، أغلب مصادر الكهرباء على الجزيرة تُولّد من ألواح الطاقة الشمسية، ومولدات الرياح، وحتى مولدات الهايدروليك تُستخدم أحيانًا لاستخراج الوقود الحيوي بنسب صغيرة وبطريقة تقليدية، البعض من سكانها لا يستخدم الكهرباء نهائيًا في منزله، وحتى وسيلة الانتقال الوحيدة هي حافلة مدارس تُدار بالوقود الحيوي المستخرج من زيوت نباتية.

لم يهمل مجتمع لاسكيتي تعليم الصغار والكبار، لذلك يتواجد من بين سكان الجزيرة مجموعة من خبراء التعليم والدراسة، يؤهلون الصغار لنظم التعليم اللائقة، بينما تتباين مهن باقي السُكان بين الكُتاب الذين يبحثون عن العزلة والهدوء، وآخرين متخصصين في الطاقة البديلة، والتنمية الزراعية، وبحسب موقع جزيرة لاسكيتي الرسمي؛ فالجزيرة الآن هي المجتمع الأعلى تعليمًا في مقاطعة كولومبيا البريطانية بأكملها.

تجمعات «قوس قزح».. متاعب البحث عن السلام

ربما لكونها تجمعات في أمكان مفتوحة، عديدة ومختلفة؛ لا يُطلق عليها صفة المُجتمع، ولكن تاريخها الطويل جعل روادها يصفونها بالمجتمع، تجمعات «قوس قزح» أو Rainbow gathering هي مجموعات من الأشخاص تجتمع سنويًا في العديد من الدول أشهرها: الولايات المتحدة وكندا، وروسيا، وبعض دول أوروبا، بأعداد تصل إلى 20 ألف شخص أحيانًا، ويعود تاريخها إلى السبعينات؛ إذ بدأت كتجمعات مناهضة للحرب والعنف.

جماعات قوس قزح متأثرون بشكل كبير بثقافة وجذور سكان أمريكا الأصليين، وأسلوب حياتهم الأولي البسيط، وبحسب أحد المواقع الناطقة باسمهم، فهم يصفون أنفسهم بالقول: «نحن أكبر تجمّع تعاوني غير سياسي غير طائفي يجمع أفرادًا يفكرون بطريقة مماثلة على ظهر الكوكب».

وفي تجمعاتهم البرية في المناطق المفتوحة عادة ما يقيمون مخيمات أو معسكرات بسيطة الطابع، دون وجود أي إشراف، أو قيادة من بينهم، ويهدف في الأساس إلى نشر أفكار التناغم، والسلام والاحترام، ويبقون تجمعاتهم صديقة للبيئة بأقصى شكل ممكن.

ولكن مع عدم وجود أي هيكلة أو تنظيم، كان لابد من حدوث ما يعكر الصفو الممتد بين هذا التجمع البسيط؛ ففي عام 2014 وقعت جريمة قتل لشخصين أثناء تجمع قوس قزح في ولاية يوتاه الأمريكية؛ مما جعل السلطات تصطدم مع تلك الجماعات، وتحارب وجودهم كمصدر للخطر على السِلم العام، ولكن لا ينفك أفراد قوس قزح أن يصروا على أن تلك الأمور قد تحدث في كل المجتمعات، ولا تتعدى كونها «تفاحة فاسدة» في سلة كبيرة.

«فقاعة تينكر».. الفقاعة الإنجليزية المستقلة

على مساحة 40 فدانًا بقرب مقاطعة سومرست الريفية في إنجلترا يتواجد مجتمع «فقاعة تينكر (Tinker’s Bubble)» الأولي البعيد عن عوالم الحداثة وصخبها، المجتمع الصغير بدأ في منتصف التسعينات عندما قررت بعض الأسر والأفراد من عائلات محلية في مقاطعات الجوار أن تنعزل، وتبدأ مجتمعًا قائمًا بنفسه، يعتمد على الزراعة وتوليد الوقود الحيوي.

الأنشطة الاقتصادية الأساسية هناك هي مزارع التفاح، ومشتقاته، ومناحل العسل، ومزارع الدواجن، ويعتمد هذا المجتمع على مولدات تعمل بطاقة الرياح، وبعض ألواح الطاقة الشمسية، التي تساعدهم في تدوير في بضعة حواسيب، وبضعة مُشغلات للموسيقى، وتتكون أغلب المواد المستخدمة في بناء المنازل وتصنيع الحظائر وخلافه من مواد طبيعية متاحة في الطبيعة، مثل الأخشاب، دون اللجوء إلى أية أنظمة صناعية حديثة، أو ضارة للبيئة.

ويمتد المجتمع إلى أطراف المقاطعة الريفية، وبالقرب من أحد الشلالات العذبة التي اعتادت بعض قبائل الغجر قديمًا أن تعسكر عندها، واليوم لا يزال أفراد هذا المجتمع يتعاملون بالطرق نفسها التي بدأوا بها مجتمعهم البسيط المكتمل، حتى اليوم لا يزال السكان يتنقلون هم وبضائعهم بالعربات الخشبية والأحصنة.

الأصدقاء الذين صاروا مجتمعًا في جنوب أفريقيا

في عام 2000 قررت مجموعة مكونة من خمسة أصدقاء من جنسيات إنجليزية، وجنوب أفريقية أن يبدأوا سويًا مشروعَا بسيط، مُنتِج، وقائم بذاته؛ وسرعان ما وجدوا في أطراف جنوب أفريقيا إحدى الأراضي الخصيبة قرب الساحل الشرقي لها متاحة للبيع، تبلغ مساحتها 180 فدانّا، وكانت تلك ما يطمحون إليه، ومنها بدأت مجتمع «Khula Dhamma» الذي استمد اسمه من اللهجات واللغات الأفريقية المحلية بمعنى «الطريق إلى النمو».

بالقرب من إحدى قرى جنوب أفريقيا الصغيرة بدأ المجتمع دون سُكان آخرين غير هؤلاء الأصدقاء فقط، ولكنه كان يحظى بطقس معتدل، ورائع؛ مما سمح للأصدقاء بزراعة عدد من المحاصيل مرتين سنويًا بدلًا عن مرة واحدة، وبدأ العديد من الزوار في التوافد على المجتمع الأولي الهادئ الذي انتهج الزراعة، وبدأ البعض في إبداء رغبتهم في التفاعل، هنا جاءت فكرة إنشاء ورش العمل لتبادل الخبرات والأفكار والمشروعات، حول كيفية إبقاء هذا المجتمع مستقلًا هادئًا ومنتجًا.

الآن ربما لم ينمو عدد سكان هذا المجتمع بدرجة كبيرة، ولكن أتيحت الفرصة لجميع من يرغب في الزيارة وقضاء برنامج مؤقت في شكل منحة يسمح للزائر بممارسة الأنشطة البسيطة الهادئة والتفاعل مع المجتمع، والعودة إلى الحياة البعيدة عن الصخب والنمط الحديث للمدن المكتظة، وسحب العوادم التي تطفو فوقها.

قرية قوفشيج.. عندما تهجر العالم للعيش ببساطة

في عام 2001 منحت السلطات الروسية تلك القرية بمساحة 120 فدانًا إلى أحد رجال الأعمال، الذي منحها بدوره لبعض سكان المنطقة لمدة 49 عامًا بشكل مجاني، في مقابل إعمارها بنمط حياة هادئ بسيط، غير مؤذٍ للطبيعة، وهكذا بدأ ما يقرب من 40 أسرة من عائلات متقاربة في الانتقال إلى القرية الواقعة على بُعد 140 كيلومتر مربع جنوب شرق العاصمة موسكو، وفي خلال بضعة سنوات كانت القرية تنتهج نمط حياة بسيط، قائم بنفسه.

نمط حياة  قرية كوفخيج الروسية

اليوم صارت القرية منتجة للمحاصيل الزراعية المحلية بما يكفي احتياجاتها، وبيع فائض من الإنتاج، أما رجل الأعمال الذي كان مسئولًا عن المشروع فقد هجر حياة العاصمة النمطية المليئة بالأموال والشركات والتجارة، وبدأ تربية النحل لإنتاج العسل، والإشراف على تعليم جيل كامل من الأطفال الذين ولدوا في داخل المنظومة الجديدة، بخلاف انتقال برلماني روسي سابق ومُغنية أوبرا للحياة في المجتمع البسيط الصديق للبيئة.

اجمالي القراءات 1766