من أوباما إلى ترامب.. كيف رقصت الولايات المتحدة على دماء السوريين؟

في الإثنين ١٦ - أبريل - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

في السابع من شهر أبريل (نيسان) الحالي ألقت مروحيات تابعة للنظام السوري براميل حارقة على مدينة دوما في الغوطة الشرقية، لم يكن البرميل يحمل مادَّة حارقة فحسب، بل كان يحوي بداخله غاز السارين السام والمحرم دوليًا. أسفرت الحادثة عن مقتل العشرات اختناقًا بالغاز، ومعاناة ألف آخرين جرَّاء الهجوم، وفقًا للمركز الإعلامي للغوطة الشرقية.

أحدث الهجوم ضجة كبيرة أعقبتها تصريحات إدانة من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، بينما نفت روسيا والنظام السوري حدوث الهجوم ووصفوه بالمفبرك، وبين نفي من جهة وإدانة من جهة أخرى أعاد الهجوم للأذهان ما حدث قبل هذا اليوم بخمس سنوات وبنفس الغاز المستخدم، في غوطة دمشق.

غوطة دمشق.. جثث بلا دماء وخط أحمر دهسه النظام

الزمان: الثانية من صباح يوم 21 أغسطس (آب) 2013.

المكان: غوطة دمشق الشرقية، سوريا.

الحدث: مقتل ما لا يقل عن 1400 سوري غالبيتهم من النساء والأطفال نتيجة استنشاقهم للغازات السامة وغاز الأعصاب في واحدة من أكثر الهجمات دموية منذ بدء الأحداث في سوريا.

لم يكن يوم الأربعاء ذاك يومًا عادًيا في مسيرة الأحداث في سوريا، فقد شنّ النظام وبحسب تقارير استخباراتية غربية و«منظمة هيومن رايتس ووتش» والمعارضة السورية هجومًا كيميائيًا هو الأكثر دموية في الأحداث منذ اندلاعها وحتى الآن، انطلقت صواريخ أرض – أرض تدكُّ مدينة الغوطة الشرقية، وتحمل غاز الأعصاب وغازات كيميائية أخرى تنتشر في الجو عقب اصطدامها بالأرض.

سرعان ما استنشق أطفال الغوطة الغاز، لم يكن بمقدورهم كتمان أنفاسهم، ولم يعلموا حتى بقدومه إلى فتحات أنوفهم؛ إذ لا تُحدِث هذه الصواريخ صوتًا كما هو الحال في الصواريخ العادية، بمجرد أن يدخل الغاز إلى الجسد يبدأ في موجة من التشنجات العضلية تتسع معها حدقة العين ويصاحبها فقدان للوعي، ثم توقف التنفس الذي يُفضي إلى الموت، ومعه تخرج رغوةٌ من الفم. الناجون من الغاز لا يسلمون من أعراضه أيضًا، فمن حكة في الجلد، واحمرار في حدقة العين، إلى قيء أو إسهال يحدث لمن تعرض للغاز الذي لا لون له، ويصعب تمييزه عن الهواء العاديّ.

لقي 1400 سوري حتفهم في المجزرة بينهم أكثر من 400 طفل وامرأة، هزت جثثهم المتراصة بجوار بعضهم البعض، وبلا أية بقعة دم، ضمير العالم، عقب الحادث تذكر الجميع ما صرح به الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما مطلع شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 2012 من أن استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية خطٌ أحمر لن يُسمح له بتعديه، وإذا ما حدث سيقوم الرئيس الأمريكي بشن ضربات عسكرية ضد النظام السوري.

ترقب العالم رد فعل أمريكا في ذلك الوقت، بدا أن طبول الحرب تدق في تلك اللحظات، انتظر الجميع رد فعل رئيس أقوى دولة في العالم على خرق النظام لخطه الأحمر. تشاور أوباما مع أعضاء الكونجرس الأمريكي، طلب منهم تفويضًا بشن هجمات في سوريا، لكن روسيا حليف النظام الأبرز تدخلت من أجل إقناع الرئيس الأمريكي بتأجيل الضربة والموافقة على تعهد النظام بتسليم ترسانته من الأسلحة الكيميائية إلى منظمة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية ومقرها لاهاي.

تراجع أوباما هذه المرة وطلب من أعضاء الكونجرس تأجيل تصويتهم على القرار، في النهاية وافقت الولايات المتحدة على الاتفاق ولم يتدخل أوباما عسكريًا في سوريا، لكن روسيا التي أقنعته بذلك ستقوم بعد عامين من هذا الاتفاق بالتدخل عسكريًا وشن ضربات جوية على أهداف في سوريا بغرض قلب المعركة لصالح النظام ولصالحها، وهو ما حدث بالفعل.

بعد ذلك سيتضح أن النظام لم يُسلم أسلحته الكيميائية كافة في هذا الاتفاق، وسيقوم باستخدامه مرة أخرى في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2015، حيث اتهمت الأمم المتحدة النظام بإسقاط براميل متفجرة تحوي غاز الكلور على محافظة إدلب. لم يحرك أوباما ساكنًا هذه المرة، بالرغم من تجاوز الأسد لخطه الأحمر الشهير مجددًا، بدا أن الرئيس الأمريكي السابق قد اختار المضي قُدمًا في الحل السياسي، وبدا أيضًا أن الأسد «استمرأ» الخط الأحمر الأمريكي، فلم يعد لديه ما يخشاه، وخاصة مع انضمام روسيا بقواتها إليه على الأرض، ومن قبلها حزب الله وإيران.

تغيرت المعادلة على الأرض مع دخول روسيا وإيران وظهور «داعش» على الأراضي السورية عام 2013، وبعد ظهورها بأقل من عام سيشكل الرئيس الأمريكي تحالفًا عالميًا للقضاء على التنظيم، وسيقوم التحالف بشن ضربات جوية مركزة على تنظيم داعش فقط بعيدة كل البعد عن النظام أو حلفائه. ما طرح – في رأي المراقبين – سؤالًا في غاية الأهمية: هل حقًا كانت الولايات المتحدة حريصة على الدم السوري منذ البداية؟

واشنطن وسوريا.. المصلحة الأمريكية أولًا

لا يمكن النظر إلى موقف الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما تجاه الأزمة السورية، دون ذكر الأحداث التي مرت بها  منذ اندلاعها، فبُعيد بدء الأزمة في سوريا عام 2011 عندما كتب أطفال درعا عبارات تطالب بإسقاط النظام على جدران المدارس؛ فاعتُقلوا وعُذبوا؛ ومن ثمّ انطلقت شرارة الأحداث، سارعت أمريكا إلى إدانة الاستخدام المفرط في القوة من قِبل القوات السورية ضد المتظاهرين، ولكنها حرصت في البداية على إعلان أنها تحرص أن يكون الأسد جزءًا من الحل.

خرج الرئيس الأمريكي ليطالب الأسد بإجراء إصلاحات أو بالتنحي، لم تسحب أمريكا سفيرها من دمشق سوى بعد مخاطر أمنية تعرض لها، ورفضت بشكل قاطع أي تدخل عسكري أجنبي في سوريا؛ ما جعل الموقف الأمريكي مختلفًا عن قيامها آنذاك  بالتدخل المباشر في ليبيا، ويرجع سبب هذا التباين – في رأي المراقبين – إلى خوف أوباما وإدارته على مصالح حليفتها إسرائيل في سوريا ومن البديل الذي سيحكم مكان الأسد في حال إسقاطه.

اكتفت أمريكا بفرض عقوبات على الأسد وبمشاريع أخرى لفرض عقوبات عليه في مجلس الأمن كانت تعلم جيدًا أن روسيا والصين لن تمررهما، مر العام تلو الآخر والأسد لا يزال يمارس آلة القتل بلا توقف، استمر الموقف الأمريكي المندد بجرائم الأسد دون أي فعل عمليّ على أرض الواقع. إلى أن ظهرت داعش ومعها تحولت بوصلة أمريكا إلى حيث مصلحتها أولًا وقبل كل شيء.

مع ظهور داعش في سوريا عام 2013 استشعرت إدارة أوباما الخطر، لن يمر عام واحد حتى يقوم أوباما نفسه الذي رفض رفضًا باتًا أي تدخل عسكري ضد نظام الأسد بتشكيل تحالف عالميّ للقضاء على داعش في العراق وسوريا، وسيأمر أوباما قواته بشن هجمات مباشرة على داعش في الداخل السوري، بل سيقوم الجيش الأمريكي بتدريب مجموعات مقاتلة، ليس للوقوف ضد نظام الأسد، بل لهزيمة داعش.

لم يتحرك أوباما عسكريًا إذًا إلا بعد ظهور التنظيم، وبالرغم من أن النظام قبل ظهوره قتل آلاف السوريين، وعذب وشرد عشرات الآلاف مثلهم، إلا أنه – في رأي البعض – أن داعش تشكل خطرًا على مصالح أمريكا، ومن قبلها حليفتها إسرائيل في المنطقة؛ ومن ثم اختارت محاربتها بشتى الطرق، وبغض النظر عن الطرف الأكثر إراقة لدماء السوريين إذا صح القول، في حين اكتفى الموقف الأمريكي تجاه الأسد بالشجب تارة وبالمساعدات غير العسكرية تارة أخرى للمعارضة، وحاولت إدارة الرئيس الأمريكي جمع الطرفين، النظام والمعارضة على مائدة تفاوض واحدة في محاولة للتوصل إلى حل سلميّ تبين لاحقًا فشلها الذريع.

في تقرير مطول لمجلة «فورين بوليسي» الأمريكية تحت عنوان «سوريا ستلطخ إرث أوباما إلى الأبد» يتساءل الكاتب ديفيد جرينبيرغ عما دفع بالرئيس الأمريكي السابق باراك إوباما إلى الصمت عندما ارتكبت المجازر ضد الشعب السوري، بالرغم من أن التاريخ لم ينس أبدًا حُكام أمريكا الذين صمتوا قبل ذلك على المجازر التي وقعت ضد المدنيين في شتى بقاع العالم.

ويوضح الكاتب أن التاريخ إلى الآن يذكر الموقف المتخاذل لأمريكا أثناء مذابح البوسنة وسريبيرنتسا في التسعينات، وكذلك مذابح الإبادة الجماعية في رواندا وقتل المدنيين في دارفور. ويؤكد أن ما فعله أوباما في سوريا من صمت على جرائم الأسد سيكون له عواقب وخيمة عند تأريخ حقبته كرئيس للولايات المتحدة، ونوه بموقفه المتراجع حين وضع خطًا أحمرًا تجاوزه الأسد فلم يحرك أوباما ساكنًا.

سنوات الفرص الضائعة.. لماذا لم يفعل الأمريكيون أكثر من ذلك؟

لا يمكن تجريد هجوم الأسد الأول بالأسلحة الكيميائية على الغوطة من زمانه، فالهجوم حدث في عام 2013، بينما كانت رياح الربيع العربي لا تزال جارية في عدد من البلدان العربية، كذلك كان موقف دول الخليج بأسرها موحدًا بضرورة إخراج الأسد من السلطة، الذي وبدوره كان يخسر كل يوم مساحات على الأرض تذهب لصالح قوات المعارضة.

وبالرغم من أنه كانت هناك احتمالية لوقف نزيف الدم السوري من خلال الضغط على نظام الرئيس السوري بشار الأسد، إلا أن إدارة أوباما فضّلت توجيه البوصلة نحو داعش والدعوة إلى «مفاوضات سلام» مع نظام الأسد الذي اكتسب مزيدًا من الوقت، ولاحقًا الأرض، من خلال تدخل روسيا عسكريًا في الصراع الدائر في البلاد.

فضّل أوباما الانزواء في الخلف وترك الساحة للأسد وفلاديمير بوتين ليقوما بملئها بحسب وصف السيناتور الجمهوري جون ماكين. وهو الادعاء الذي رد عليه المتحدث الأسبق باسم البيت الأبيض جوش إرنيست في حديث لرويترز عام 2016 بأن أولوية أوباما القصوى تكمن في «حماية مصالح وأمن المواطن الأمريكي أولًا وقبل كل شيء».

مصلحة أمريكا إذًا ومواطنيها هي ما كان يهم أوباما بالدرجة الأولى وباعتراف المتحدث باسمه شخصيًا. موقف استمر حتى رحيل الرئيس الأمريكي عن السلطة ليأتي مكانه رجل لم يعاد الأسد في بادئ الأمر، ورحب بالتعاون مع روسيا، ثم سرعان ما حدث أمرٌ غير نظرته للأزمة السورية.

مجزرة خان شيخون.. هل حقًا غيرت مصير سوريا إلى الأبد؟

لقد أمرت اليوم بتنفيذ ضربة عسكرية على القاعدة الجوية التي انطلق منها الهجوم الكيميائي في سوريا. – الرئيس الأمريكي ترامب عقب المجزرة.

في الرابع من أبريل عام 2017 أي قبل نحو عام من الآن، وفي السادسة والنصف صباحًا بتوقيت دمشق خرج سرب من طائرات «سوخوي» روسية الصنع منطلقًا من مطار الشعيرات إلى مدينة خان شيخون بريف إدلب ليلقي وابلًا من الأسلحة الكيميائية على المدينة؛ ما أدى لمقتل 100 سوري بينهم 30 طفلًا وامرأة لقوا مصرعهم في الحال نتيجة استنشاق الغازات السامة، بينما لفظ الآخرون أنفاسهم الأخيرة في المستشفى التي لم تسلم أيضًا من القصف.

أدى الهجوم حينها إلى الكثير من الشجب والإدانة من قِبل الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الغربية ودول الخليج، بينما زعمت روسيا أن الهجوم استهدف مصنعًا للمواد الكيميائية المحظورة تابع للمعارضة. مثّلت خان شيخون نقطة التحول الكُبرى في موقف ترامب وإدارته التي كانت قد أعلنت سابقًا أن رحيل الأسد ليس أولوية لها، وإنما يهمها هزيمة داعش بالمقام الأول، إلا أنه عقب خان شيخون صرّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن الأسد قد تجاوز الخوط الحمراء كآفة، وبأنه أمر بتنفيذ ضربة جوية لمطار الشعيرات الذي انطلقت منه الهجمات.

لكن  الضربة الأمريكية لم تغير أي شيء على أرض الواقع، سوى تحقيق النظام للمزيد من الانتصارات العسكرية على الأرض،  وبدا أن ترامب المشغول بخلافاته الداخلية قد اكتفى بهذا الرد المحدود للتعبير عن رفضه استخدام السلاح الكيميائي.

وبالرغم من فرض ترامب نفسه على الواجهه باتخاذه لأول قرار أمريكي يستهدف نظام الأسد نفسه، لكنه لم يتبع ذلك القرار بأي استراتيجية محددة لحل الصراع القائم في سوريا، وبدا أنه تراجع قليلًا كما فعل سابقه ليحل مكانة الدور الروسي والإيراني في سوريا.

مر عام كامل منذ مجزرة خان شيخون ولم يبدُ في الأفق أي حل للأزمة السورية، إلى أن حدث القصف الكيميائي على الغوطة الشرقية في السابع من هذا الشهر وما نتج عنه من ضربة مشتركة لكل من أمريكا وبريطانيا وفرنسا على أهداف عسكرية تابعة للنظام داخل سوريا.

اقتلهم كما تشاء.. لكن ليس بالأسلحة الكيميائية!

«إن الضربة العسكرية على سوريا محدودة ولا تستهدف تغيير الحكومة السورية وإنما ردعها عن استخدام الأسلحة الكيميائية»

بهذه الكلمات خرجت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي إلى العالم بُعيد لحظات قليلة من إعلان أمريكا توجيه ضربة عسكرية لبعض المنشآت الحيوية التي يُعتقد أنها تُستخدم في تصنيع الأسلحة الكيميائية داخل سوريا. ظهر الرئيس السوري بشار الأسد عقب الضربة للإعلام وهو يعمل من مكتبه، وأدانت روسيا وإيران الضربة بشدة، بينما أعلن البنتاجون أنه لا مزيد من الضربات سيتم توجيهها إلى سوريا في الوقت الراهن، في خطوة بدت وكأن الضربة ذر للرماد في العيون ومحاولة لردع الأسد فقط عن استخدام الأسلحة الكيميائية.

تتلخص استراتيجية الولايات المتحدة وحلفائها إذًا في منع النظام من استخدام الأسلحة الكيميائية، بينما يبدو أن الأسلحة العادية والبراميل المتفجرة والقصف بالطائرات لا يشغل حيزًا كبيرًا من الاهتمام لدى الدول الغربية؛ ما يعني بقاء الأسد على رأس السلطة طالما يبتعد عن الأسلحة الكيميائية في القصف، بالرغم من استمرار آلة القتل التي أودت بحياة مئات الآلاف من السوريين، وهجّرت 12 مليون آخرين من منازلهم في الداخل والخارج، في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية التي يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

اجمالي القراءات 1122