من رواندا إلى كندا.. مقارنة بين أنظمة الرعاية الصحية في مصر والعالم

في الثلاثاء ١٣ - فبراير - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

داخل مستشفى التأمين الصحي المتهالك بشارع الطيران بمدينة نصر في شمال شرق العاصمة المصرية القاهرة، حيث رائحة المرض تعبق بالمكان، مرض ينخر في جسد الفقراء والمسنين لم يرحم ضعفهم أو وهنهم، يقابله إهمال مزرٍ في مقاومته. فبداية من سلالم المبنى العالية التي لا يقوى على صعودها إلا الأصحاء، إلى متاهات الأدوار والعيادات والزحام الشديد ثم الوقوف في طوابير لا تنتهي، وعند الوصول لمرحلة صرف الدواء فلا يجده المريض، وإذا كان محظوظًا فربما يجد البديل ذا التأثير الضعيف لعدم احتوائه على المادة الفعالة في الدواء الأساسي، وهو الذي اقتُطع جزء من راتبه بشكل شهري على مدار سنوات عمله من أجل تلك اللحظة، ليفاجأ بهذا المستوى من الخدمة.

في ديسمبر (كانون الأول) الماضي وافق البرلمان المصري على قانون التأمين الصحي الشامل ليقوم رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي بالموافقة عليه وينشر في الجريدة الرسمية في 15 يناير (كانون الثاني) من العام الحالي 2018، فهل يُصلح هذا القانون من تردي الوضع الصحي في مصر ومعالجة قصور التأمين الصحي القديم؟ نحاول أن نجيب عن ذلك وحري بنا في البدء أن نتعرض لبعض أنظمة التأمين الصحي في دول العالم المتقدم والنامي على السواء للوقوف على وضع التأمين الصحي في الدول الأخرى، حيث إن مقارنة نظم الرعاية الصحية في البلدان المختلفة تتيح لصانعي السياسات وعامة الجمهور تحديد مدى أداء نظام الرعاية الصحية في بلدهم بالنسبة إلى نظيره في الدول الأخرى.

اقرأ أيضًا: دروس من كوبا.. ما لا يحكى عادةً عن مشاكل التعليم الطبي في مصر

وتتخذ جل الدول المتقدمة نموذجًا للتأمين الصحي لا يخرج عن ثلاثة نماذج؛ الأول: نظام الدافع الوحيد Single-payer healthcare وفيه تقوم الحكومة بفرض ضرائب على مواطنيها لدفع تكاليف الرعاية الصحية. وتعد المملكة المتحدة مثالًا لنظام الدافع الوحيد. فالخدمات في هذا النظام تكون مملوكة للحكومة، ومقدمو الخدمة هم موظفون حكوميون. بينما تستخدم دول أخرى مجموعة من مقدمي الخدمات الحكومية والخاصة. الثاني: ولاية التأمين Health insurance mandate وهو نظام يطلب من الجميع شراء وثيقة تأمينية فصاحب العمل ملزم بشرائها لموظفيه والحكومة تقدم خصمًا ممولًا على أقساط التأمين لمن يشتري التأمين الصحي الخاص. وتعد ألمانيا المثال الأبرز في ذلك. الثالث: نظام من مستويين، فتفرض الحكومة ضرائب على مواطنيها لدفع تكاليف الخدمات الصحية الحكومية الأساسية، ويمكن للمواطنين أيضًا اختيار تأمين خاص تكميلي، وتعد فرنسا المثال الأبرز في هذا الشأن.

في بريطانيا.. خدمة طبية عالمية بالمجان

كغيرها من العيادات في المملكة المتحدة، يدخل المريض، أيًا كان عمره أو عرقه، إلى عيادة مجموعة هيثرينغتون التي تخدم أكثر من 8500 شخص في المناطق التي تحيط بمنطقة بريكستون الصاخبة، ليتلقى خدمة صحية بمواصفات عالمية ثم يخرج دون أن يدفع جنيهًا أو يتلقى فاتورة نظير تلك الرعاية، لأن تلك الخدمة الطبية العالمية ببساطة تعد مجانية منذ إنشاء هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية «National Health Service» في عام 1948، ويُمول التأمين الصحي في بريطانيا من خلال الضرائب واشتراكات التأمين الوطني الإلزامية التي تُخصم من الدخل، ووفقًا لأرقام البنك الدولي فقد أنفقت بريطانيا عام 2014 على الرعاية الصحية 9.1% من ناتجها المحلي الإجمالي.

 


ولما كانت المملكة المتحدة تقدم الرعاية الصحية العامة بأسعار معقولة وجودة فائقة، فلا يوجد سبب مُلح للمواطنين لشراء التأمين الصحي الخاص لأنفسهم ولأسرهم، لذا فهناك نحو 10% فقط من عدد السكان أي أقل من 4 ملايين شخص يختار التأمين الصحي الخاص.

 

وتعد هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية «NHS» أكبر مزود لخدمات التأمين الصحي في العالم، وضمن أكبر خمسة أرباب عمل في العالم مع كل من جيش التحرير الشعبي الصيني ووزارة الدفاع الأمريكية وعملاق البيع بالتجزئة وول مارت وماكدونالدز، حيث توظف أكثر من 1.5 مليون شخص.

كندا والبحث عن المثالية

على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي شمالًا، تنفق كندا على الرعاية الصحية المعروفة باسم «ميديكار» أكثر مما تنفقه غالبية بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ذات الدخل المرتفع مع نظام رعاية صحية شامل، وتحتل النسبة المئوية للسكان فوق عمر 65 فقط المرتبة الثالثة في الإنفاق على الرعاية الصحية باعتبارها نسبة من الناتج المحلي الإجمالي.

يتميز نظام الرعاية الصحية في كندا بالإجراءات الإدارية البسيطة التي يقوم بها المريض، إذ يكتفي بالذهاب إلى العيادة ليقوم الطبيب فيما بعد بعمل تسوية التأمين مع شركة التأمين في المقاطعة، ومن ثم فلا يدخل الشخص الذي يحصل على الرعاية الصحية في دائرة الفواتير واستعادتها، وتُمول التكاليف من خلال ضرائب الدخل، وتمثل النفقات الصحية الخاصة 30% من تمويل الرعاية الصحية.

بيد أن قانون الصحة الكندي لا يغطي العقاقير الطبية أو الرعاية المنزلية أو الرعاية طويلة الأجل أو النظارات الطبية والعناية بالأسنان، وهو ما يعني أن معظم الكنديين يدفعون هذه الخدمات أو يعتمدون على التأمين الخاص، ولكن تقوم بعض المقاطعات بتغطية جزئية لمثل تلك الخدمات للفئات الضعيفة من السكان مثل الأطفال والفقراء وكبار السن، ويُقدم تغطية طبية محدودة للرعاية الصحية النفسية أيضًا.

وتستخرج بطاقة صحية من وزارة الصحة الإقليمية لكل فرد يلتحق ببرنامج الرعاية الطبية ويحصل الجميع على نفس مستوى الرعاية، ولا تتأثر التغطية الصحية بفقدان الوظائف أو تغييرها، ولا يمكن قطع خدمة الرعاية الصحية بسبب الأقساط غير المدفوعة، وأنفقت كندا العام الماضي نحو 11.5% من الناتج المحلي الإجمالي على الرعاية الطبية أي ما يعادل 242 مليار دولار.

الجحيم الطبي الروسي

غربًا وعند عبور أمواج المحيط الهادئ العاتية نصطدم بنظام رعاية صحية مغاير عما سبق. تقابلنا أول مشاهد أنظمة الرعاية الطبية المعتادة في العالم النامي من مدينة بينزا الواقعة على بعد 400 ميل جنوب شرق العاصمة الروسية موسكو.

في ليلة متأخرة استيقظت هانا رون، 26 عامًا، بطلة الرقص الأيسلندية على ألم حاد في الصدر، ليتم استدعاء عربة الإسعاف، والتي ستتمنى عما قريب لو لم يفعلوا. تحملها العربة لتجد نفسها في جناح مستشفى ذات جدران متعفنة، ملقاة فوق ملايات قذرة منتشرة على الأسِرة، وممرضات يصرخن بعنف في المرضى، وفي ممرات المستشفى جلس المرضى على الأرضيات الأكثر قذارة، بينما شكلت دورات المياه لها صدمة تخطت ما رأته منذ دخولها المستشفى.

وصفت رون الموقف في تدوينة لها فيما بعد، قبل أن تقوم بحذف التدوينة بأنه كان «كابوسًا»، فأشارت إلى أن المرحاض كان مليئًا بالبول والبراز والحوض مليئًا بالدماء، لتخرج بسرعة من المستشفى قبل حتى أن تكمل الفحوصات الطبية.

تناولت وسائل الإعلام الروسية والأيسلندية القصة على نطاق واسع، حتى إن المدون الروسي المعروف إيليا فارلاموف، كان قد وصف قصتها بـ«امرأة أجنبية في الجحيم الروسي»، بينما لم يخرج رئيس المستشفى ديمتري زينوفيف عن نسق المسؤولين الحكوميين في دول العالم النامي، إذ أشار إلى أن التدوينة كانت محاولة متعمدة لتشويه سمعة المرافق الطبية الروسية. بيد أن الكثير من المواطنين الروس دعموا رون وأكدوا على حديثها وما يتلقاه المواطن الروسي من رعاية طبية داخل المستشفيات الحكومية في روسيا.

ويبدو أن صورة الزعيم الروسي القوي فلاديمير بوتين تتهاوى بسرعة حينما نضعها بجوار منظومة الرعاية الصحية الكئيبة في البلاد، فعلى الورق يحق للمواطنين الروس الحصول على رعاية صحية شاملة مجانًا، ولكن من الناحية العملية ينبغي عليهم الحصول على تأمين طبي خاص حتى يستطيعوا الحصول على رعاية صحية جيدة، كما أنه من الشائع أيضًا في مستشفيات الولايات أن يقوم المرضى بتقديم رشاوى للأطباء للحصول على العلاج المناسب.

أما إذا أردت الحصول على رعاية طبية حكومية مقبولة نوعًا ما في روسيا، فلا توجد سوى في مستشفيات أكبر مدينتين في روسيا؛ موسكو وسان بطرسبرج، بينما يختلف الوضع كليًا في المناطق التي تعاني من نقص في السيولة مثل مقاطعة بينزا التي لجأت لها هانا رون، وهناك نحو 17.5 ألف بلدة وقرية منتشرة في أنحاء روسيا ليس لديها بنية تحتية طبية على الإطلاق.

يقول عن ذلك العقيد المتقاعد من وكالة الأمن «كى جي بي» والسياسي المعارض غينادي غودكوف: «إن مستشفيات وعيادات الولايات الروسية في حالة مأسوية خاصة في المقاطعات. هناك معدات قديمة وغير موجودة في كثير من الأحيان، ويوجد نقص في الأدوية وأسرة المستشفيات، ونقص في الأطباء المتخصصين».

وفي استطلاع للرأي أجراه مركز ليفادا مقره في موسكو حول مدى رضى المواطنين الروس بالتأمين الصحي في روسيا وما يقدمه من رعاية صحية للمرضى، أشار 2% فقط بأنهم فخورين بنظام الرعاية الطبية في البلاد.

وفي تصنيف بلومبيرج لعام 2017 حول كفاءة الرعاية الصحية لـ55 دولة من بينهم روسيا جاءت روسيا في قاع التصنيف لتحتل المرتبة 55، ويبدو أن الأمور لن تتحسن قريبًا، فمؤخرًا أعلنت الحكومة الروسية عن تقليص ميزانية الرعاية الصحية بنسبة 33% العام المقبل، ليصل الإنفاق السنوي على الرعاية الصحية نحو 6.4 مليار دولار فقط، وهو مستوى للإنفاق يماثل ما تنفقه دول أمريكا اللاتينية أو آسيا الفقيرة.

رواندا تصنع المجد الطبي في القارة السمراء

بالذهاب إلى القارة الأفريقية وتحديدًا رواندا، نجد نظام رعاية صحية ربما يعد الأكثر تطورًا في القارة السمراء رغم محدودية الموارد المالية والإمكانيات القليلة التي تعاني منها بسبب حروبها الأهلية الطاحنة في الماضي، التي ولدت إبادة جماعية قتل فيها الآلاف. هذا التقدم دفع صحيفة نيويورك تايمز إلى ضرب المثل برواندا لتتعلم منها الولايات المتحدة الأمريكية.

ورغم الفارق المهول بين إمكانيات الاقتصادين الأمريكي والرواندي، الفارق الذي يتسنى لنا بسهولة ملاحظته بالنظر لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في كلا الدولتين والذي يصل بينهما إلى 81 ضعفًا تقريبًا، إلا أن أرض الألف تل في شرق أفريقيا استطاعت بناء نظام للرعاية الصحية شامل ومتطور بإمكانيات محدودة، فيغطي نظام الرعاية الصحية نحو 90% من السكان، ويُمول من الإيرادات الضريبية والمساعدات الخارجية والأقساط التطوعية من الدخل.

على مدار السنوات الماضية تحسنت الرعاية الصحية كثيرًا في رواندا، مع انخفاض العبء المالي عن كاهل الروانديين، ففي العام الواحد يرى المواطن الرواندي الطبيب مرتين في المتوسط، مقارنة بمرة واحدة كل أربع سنوات عام 1999، ورغم أن حياة الروانديين أقصر من الأمريكيين إلا أنها أصبحت أطول بـ18 عامًا مما كانت عليه في مطلع القرن، وضعف متوسط الزيادة عند أقرانها في دول جنوب الصحراء.

وجاء في دراسة أجريت عام 2014 برئاسة الدكتور بول فارمر من كلية الطب بجامعة هارفارد والدكتور أغنس بيناغواهو وزير الصحة في رواندا أن أكثر من 97% من الرضع الروانديين يُطعمون ضد الدفتيريا والسعال الديكي والتهاب الكبد (B) والمستدمية النزلية من النوع (B) وشلل الأطفال والحصبة والحصبة الألمانية والمكورات الرئوية والفيروس العجلي، كما تُطعم جميع الفتيات الروانديات تقريبًا ضد فيروس الورم الحليمي البشري الذي يسبب سرطان عنق الرحم، بينما يتم تطعيم أربع من كل 10 فتيات في الولايات المتحدة الأمريكية فقط.

تقول الصحيفة إن فكرة اعتبار إمكانية الحصول على الرعاية الصحية حقًا من حقوق الإنسان؛ قد استحوذت على خيال واضعي السياسات حتى في أفقر دول العالم، حتى أنها ألهمت العديد من الدول من غانا إلى تايلاند ومن المكسيك إلى الصين لتطوير نظم الرعاية الصحية الشاملة في نطاق إمكانياتها المالية.

قانون التأمين الصحي الشامل.. مصر على الطريق الذي سبقتها فيه كينيا!

يبدو أن تلك الفكرة لم تدخل إلى القطر المصري طوال العقود الماضية، فبالنظر إلى إحصاءات البنك الدولي حول مساهمة القطاعين العام والخاص في الإنفاق على الرعاية الصحية في مصر، نجد أن 72% تقريبًا من الإنفاق على الرعاية الصحية يأتي من القطاع الخاص، وتشير هذه الأرقام إلى أن الرعاية الصحية التي تقدمها الحكومة إما ضئيلة جدًا أو فشلت بشكل كبير في تأدية دورها، بخلاف دول نامية كثيرة تصل إلى 24 بلدًا ناميًا على رأسهم دول الجوار الأفريقي، غانا ونيجيريا ورواندا وكينيا، التي طبقت تغطية صحية شاملة لشعوبها، وهو ما دفع البنك الدولي لإصدار سلسلة من التحليلات التي تدرس قصص نجاحهم، فكونهم بلدانًا نامية تعاني من فقر شديد وأمية إلا أنهم وبرغم ذلك طبقوا أفكارًا إصلاحية حققوا من خلالها وصولًا أفضل للخدمات الصحية ساهمت أيضًا في نموهم الاقتصادي.

وبالعودة إلى قانون التأمين الصحي الشامل الذي نُشر في الجريدة الرسمية في مصر منتصف شهر يناير الماضي، فيجري تطبيقه على ست مراحل تبدأ الأولى بين عامي 2018 حتى 2022، في خمسة محافظات هي بورسعيد والسويس والإسماعيلية وشمال وجنوب سينا وتستكمل باقي المراحل تباعًا لتصل مدة تطبيق القانون 15 عامًا.

ومن المحتمل أن تصل تكلفة تطبيق القانون نحو 160 مليار جنيه، وتظل العبرة في نجاح القانون بتطبيقه ومحاولة سد الثغرات التي ستنجم عن التطبيق، لذا كان من الموفق التطبيق على مراحل.

اقرأ أيضًا: الإيكونوميست: الرعاية الصحية في مصر.. ملاءات متسخة وقطط ضالة

ولما كانت اللائحة التنفيذية للقانون لم تنشر بعد، فهناك الكثير من الغموض يحيط بآلية تطبيق القانون وكيفية معالجة المشكلات المتوقعة للقانون الجديد، ومن أبرز سلبياته المتوقعة زيادة الأعباء المالية على المواطنين، فالاشتراكات سوف ترتفع بشكل كبير عن الموجودة في القانون القديم، كما أن هناك أعباء مالية أخرى تسمى اشتراكات، وهي ضرورة دفع المريض 10% من رسوم التحاليل والأدوية عند تلقيه الخدمة الطبية، على الرغم من الأقساط الشهرية التي تُخصم من راتبه.

ولكن في مقابل ذلك فقد أدخل القانون الكثير من الأمراض المزمنة باهظة التكاليف تحت مظلته، ما يرفع العبء من على كاهل الأسر الفقيرة وغير القادرة على مجاراة مصاريف المرض، كما يغطي القانون الجديد جميع المواطنين بدلًا من 60% منهم كان القانون القديم يغطيهم. كما أنه من المفترض أن تتكفل الدولة بدفع اشتراكات غير القادرين والتي قد تصل نسبتهم إلى 30% من عدد السكان. 

اجمالي القراءات 1804