أنقرة تهرب من الفشل في الشرق الأوسط إلى تفخيخ البحر الأحمر بالأزمات

في الخميس ١١ - يناير - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

أنقرة تهرب من الفشل في الشرق الأوسط إلى تفخيخ البحر الأحمر بالأزمات

  • أخذت الضغوط التركية على مصر منحنى ساخنا منذ أن وطأت أقدام الرئيس رجب طيب أردوغان السودان، ولم تعد تنحصر التهديدات في مجملها في دعم الجماعات الإرهابية والدفاع عن تنظيم الإخوان المسلمين، وامتدت لتمثل تهديدا مركبا لمصر، من خلال السعي لامتلاك وجود اقتصادي وعسكري في أفريقيا.

هدوء حذر

القاهرة - تكشف الكثير من المؤشرات أن المنطقة المحيطة بالبحر الأحمر تتجه لتكون مركز الصراعات الاستراتيجية القادمة بعد أن أنهكت منطقة الشرق الأوسط وبعد أن كشفت الأطراف التي تسببت في الفوضى والصراعات التي تعيش على وقعها اليوم أوراقها ولم يعد لها مكان فيها، وبالتالي غيرت بوصلتها بحثا عن مناطق تمدد أخرى.

يستمد الخبراء الذين يؤيدون هذا الطرح المثال على ذلك من حالة الاحتقان التي سادت تلك المنطقة الاستراتيجية منذ الزيارة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى السودان، وما خلفته من تصعيد بين الخرطوم والقاهرة ودخول إريتريا على الخط، ضمن توجه لا يبدو أنه سيهدأ قريبا.

استشرف باتريك فيراس، مدير مرصد منطقة القرن الأفريقي، هذه الأزمة حين قال إن “مرحلة ما بعد الربيع العربي قد تسهم بشكل غير مسبوق في تسليح منطقة القرن الأفريقي وفي محيط البحر الأحمر، بل وستزيد من خطورة تغيير توازن القوى القائم في هذه المنطقة التي تعاني من وطأة الصراعات”.

وتحمل الخطوات التركية، خصوصا بعد الحديث عن مشروع جزيرة سواكن السودانية، تعقيدات جديدة لهذه المنطقة التي تتزاحم فيها المصالح باعتبارها طريق الملاحة القديم، الذي ربط القارات الثلاث الكبرى ببعضها البعض عبر الآلاف من السنين، والذي وصل ما بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهي الشريان الرابط بين البحر المتوسط والقرن الأفريقي وخليج عدن.

وهذه الأهمية الاستراتيجية هي التي دفعت مصر والإمارات ودول عربية، ومنها السودان، إلى الاصطفاف خلف السعودية عندما أعلنت عن تكوين تحالف عربي لمواجهة الحوثيين في اليمن، ومن ورائهم إيران، التي كانت تسعى بكل الطرق إلى الوصول إلى باب المندب، على البحر الأحمر.

مرحلة ما بعد الربيع العربي تسهم بشكل غير مسبوق في تسليح منطقة القرن الأفريقي وستزيد من خطورة تغيير توازن القوى القائم في المنطقة التي تعاني من وطأة الصراعات

تمتلك تركيا أيضا قاعدة تدريب عسكرية في الصومال، وتناقش إقامة قاعدة أخرى في جيبوتي، وهي أهم دول القرن الأفريقي التي فتحت الباب لدول كبرى وصديقة لتأسيس قواعد عسكرية، مثل فرنسا والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والصين واليابان، ثم جاءت الصفقة الأكبر مع جزيرة سواكن السودانية.

ويؤكد أيمن السيد عبدالوهاب، الخبير بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، أن التواجد التركي في أفريقيا يرتبط بالمشروع التوسعي الذي يتبناه أردوغان، ويتعلق بأولوية مد نفوذه السياسي والاقتصادي داخل المنطقة العربية والقارة الأفريقية.

وأضاف في تصريحات لـ”العرب” أن منطقة حوض النيل والقرن الأفريقي من أكثر المناطق التي تشهد تنافسا بين القوى الإقليمية المختلفة من أجل التواجد وبسط النفوذ والاستفادة من العوائد الاقتصادية الضخمة التي تمثلها، وتعد تركيا إحدى هذه القوى.

لكنه شدد على أن الأمر يرتبط بمدى استعداد وقبول أطراف أفريقية كبيرة بهذا التمدد، وإذا كان ما تحقق من خلال السودان والصومال وجيبوتي، يبدو جيدا لأنقرة، غير أن بعض القوى لديها ممانعات للتمدد التركي، وفي مقدمتها مصر، وهي تملك نفوذا تاريخيا وعريقا بحاجة فقط إلى المزيد من التفعيل.

تبلغ مساحة سطح البحر الأحمر حوالي 438 ألف كيلومتر مربع. ويمتد على طول ما يزيد عن ألفي كيلومتر وعرض ثلاثمئة كيلومتر. ومثّل هذا البحر الضيق متنفساً اقتصادياً وحضارياً للعرب خاصة

يعد الاتفاق الذي وقعه أردوغان مع نظيره السوداني عمر حسن البشير بشأن إدارة جزيرة سواكن، أحد أبرز هذه التهديدات التركية في البحر الأحمر، ففي شقه العلني يحمل معاني اقتصادية بذريعة إعادة إعمار المنطقة وتحويلها إلى موقع سياحي هام.

سواكن: موقع استراتيجي

 

لكن أيضا يحمل شقا خفيا يرتبط بطبيعة التواجد العسكري التركي في منطقة قريبة من حدود مصر، ما تتيحه البنود السرية للاتفاقيات التي وقعها أردوغان والبشير، بما يسمح لتركيا بالتمركز هناك في فترة زمنية غير محددة، ويفتح الباب أمام عدم استبعاد أن تتحول الجزيرة إلى قاعدة جديدة للجيش التركي، تضاف إلى أخرى موجودة في مقديشو.

قال السفير التركي لدى الخرطوم عرفان نذير أوغلو إن بلاده تريد إحياء جزيرة سواكن كما كانت في التاريخ، والهدف إنهاء ترميم الجزيرة في أقرب وقت وتحويلها إلى مركز سياحي، وأن بلاده ستقوم بالإعمار وفقا لمعالمها التاريخية.

وأفاض في تصريحات صحافية مؤخرا أكد فيها أن بلاده أجرت مباحثات مع عدد من الشركات السياحية وعرضت عليها طرقا بديلة لنقل الحجاج الأتراك عبر السودان، وأن المواطنين سيأتون من إسطنبول إلى الخرطوم، ثم يتوجهون إلى سواكن، وبعدها ينتقلون إلى السعودية عبر البحر الحمر لأداء الفرائض الدينية.

التصريحات التي أدلى بها السفير التركي اعتبرها خبراء سياحة في مصر إحدى وسائل الضغط الجديدة، لأنها تستخدم الاقتصاد كأحد محاور التأثير على القاهرة، بعيدا عن الطرق التقليدية، في إشارة إلى توظيف تقارب الظروف المناخية والتاريخية والأثرية والسياحية بين مصر والسودان.

يضاف إلى ذلك، أن دخول تركيا كحليف في الاستثمار السياحي بالسودان يمثل خطرا على عودة السياحة الروسية لمصر إلى سابق عهدها من الانتعاش، لأن أنقرة تتحكم في النصيب الأكبر من شركات السياحة العاملة في روسيا والتي تذهب إلى تركيا.

وهو ما كشفته تصريحات السفير التركي في الخرطوم، خاصة عندما ألمح إلى وجود مشاورات مع عدد من الشركات السياحية حول التوجه إلى جزيرة سواكن باعتبارها مدخلا للسياحة السودانية.

وانتبهت الحكومة المصرية إلى هذا الاتجاه، وردت عليه من خلال وزارة السياحة والتي ألغت مشاركة الجناح المصري في المعرض السياحي “الإيمت” والذي كان من المتوقع إقامته في إسطنبول من 25 وحتى 28 يناير الجاري.

دخول تركيا كحليف في الاستثمار السياحي بالسودان يمثل خطرا على عودة السياحة الروسية لمصر لأن أنقرة تتحكم في النصيب الأكبر من شركات السياحة العاملة في روسيا

 

حسابات معقدة

 

تعد سواكن الميناء الثاني للسودان بعد بورسودان، وتبعد عن مثلث حلايب وشلاتين المتنازع عليه بين مصر والسودان مسافة 350 كم، ما اعتبره أمنيون إشارة على احتمال أن تتمركز تركيا عسكريا في منطقة قريبة من مصر.

ويلفت خبراء اقتصاد إلى أن الاستثمارات التركية في السودان التي ترتبط بقطاع الزراعة تحديدا، قد تؤثر سلبا على حجم الاستثمارات المصرية في السودان والتي تقدر، بحسب تصريحات لوزير الاستثمار السوداني في العام 2016، بنحو 2.3 مليار دولار، بعدد مشروعات يصل إلى 273 مشروعا، أغلبها ترتبط بالزارعة واستصلاح الأراضي.

وقال محمد مصلح عضو بمجلس الأعمال المصري التركي (مجمد العمل به) لـ”العرب” إن الخبرة التركية في مجال الاستثمار بالدول النامية تمنحها التفوق داخل السودان، من حيث حجم الاستثمارات والاستفادة من موارده الاقتصادية، ما يمثل تهديدا على الاستثمارات المصرية التي تعاني أصلا من مشكلات مرتبطة بقلة الخبرة والجودة.

وتخشى بعض الدوائر الاقتصادية في مصر من تحول السودان إلى قاعدة للمزيد من الاستثمارات التركية في الكثير من دول قارة أفريقيا، ما يضاعف من حركة التجارة عبر رأس الرجاء الصالح، ويؤثر سلبا على مرور السفن عبر قناة السويس.

وبحسب خبراء في مجال الطاقة فإن محاولة مد النفوذ التركي إلى أفريقيا، والبحر الأحمر بشكل خاص، ترجع إلى الأهمية القصوى للمنطقة بالنسبة لأنقرة التي تسعى إلى مد نفوذ مقابل لنفوذ مصري سعودي قوي في تلك المناطق بعضه معلن والآخر غير معلن.

وتتبنى تركيا مقاربة مختلفة لما تذهب إليه مصر في ما يتعلق بترسيم الحدود البحرية، وتدير القاهرة تحالفا شبه عسكري واقتصادي مع اليونان وقبرص، وتقوم على تقويته من خلال تدشين مناورات عسكرية دورية بالقرب من الحدود المصرية لحماية اكتشافاتها من الغاز الطبيعي في شرق المتوسط.

حضور تركي بارز في منطقة البحر الأحمر

 

كما أن جزءا كبيرا من الغضب التركي تجاه مصر يرتبط بأن القاهرة تسعى لتكون أكبر مشروع لنقل عبور الغاز الطبيعي من ساحل الشرق المتوسط إلى أوروبا، وهو ما حققه مشروع الأنابيب المصري الذي تم تدشينه قبل عامين. وترى تركيا أن هذا المشروع يؤثر عليها باعتبارها كانت الناقل الرئيسي للغاز المستخرج من تلك المنطقة.

 

جدوى عسكرية

 

الواضح أن تركيا استغلت الظروف الاقتصادية والسياسية الضاغطة على السودان للاستفادة من تطوير العلاقات معه. وحملت تحركات أردوغان في السودان وتشاد وتونس، وهي البلدان التي شملتها جولته الأفريقية الأخيرة، دلالات تصعيدية.

وترسم خطوات أردوغان من خلال تلك البلدان، معالم خارطة توسع المشروع الإخواني الجديدة من البحر الأحمر والسودان وتشاد إلى ليبيا. وذهب البعض من الخبراء في مجال الحركات الإسلامية إلى التأكيد على أن تركيا تقدم دعما لوجستيا للتنظيمات الإرهابية الموجودة في تلك المنطقة بغرض القيام بأكثر من دور، من ذلك إرباك الداخل المصري بعمليات إرهابية تنفذها بعض الخلايا تأتي على رأسها حركة “حسم” الإرهابية، التي اعترف عدد من أعضائها ممن ألقي عليهم القبض مؤخرا، بأنهم تدربوا في السودان تحت إشراف جهاز الاستخبارات التركي.

وتسعى أنقرة إلى حشد هذه التنظيمات وتجييشها لتنطلق من السودان باتجاه الأراضي الليبية، أو من خلال تشاد التي حرص أردوغان على زيارتها لامتلاكها حدودا مشتركة مع ليبيا، تجعلها المدخل الجنوبي الصحراوي الرئيسي إليها، بعيدا عن أعين السفن والطائرات التي تراقب الشواطئ الليبية ونجحت في تحجيم وصول الأسلحة والإرهابيين من سوريا والعراق إلى ليبيا.

وأوضح محمد عبدالقادر خليل رئيس تحرير مجلة شؤون تركية أن خارطة التحركات التركية الأخيرة تكشف عن رغبة أردوغان في تقييد الأدوار الرئيسية التي تلعبها مصر مع شركائها العرب، على رأسهم السعودية والإمارات، لدعم استقرار المنطقة الحيوية بالنسبة إليها.

وأضاف لـ”العرب” أن تصاعد دور مصر على المسرح الإقليمي يعد خصما لدور تركيا القائم على شراكة رئيسية مع إحدى الدول الداعمة للجماعات الإرهابية في أكثر من بلد عربي، وهي قطر، بالتالي فهي تحاول إضعاف جهود السعودية ومصر بملفات مختلفة.

وأشار خليل إلى أن تركيا تحاول شل التحركات المصرية في ليبيا من خلال دعمها التنظيمات الإرهابية هناك، ولا تفوت فرصة لتوتير العلاقات بين مصر وحماس حتى تلجأ إلى مغازلة الحركة لشدها بعيدا عن القاهرة، وهو ما تكرر مع السودان، إذ لعبت دورا كبيرا في توتير علاقاته مع مصر من خلال توفير دعم مالي سخي لنظام حكم عمر البشير.

يبدو التواجد التركي في القارة الأفريقية غير بعيد عن التحالف المصري اليوناني القبرصي في شرق البحر المتوسط، أي على بعد أميال قليلة من أنقرة، ومن ثم فهي تريد نقل المعركة إلى الحدود البحرية المصرية من خلال تواجدها في سواكن والبحر الأحمر عموما. كما أنها تستهدف الحد من الدور المصري الإماراتي السعودي المتصاعد اقتصاديا وعسكريا داخل القارة الأفريقية، في خضم بناء التحالفات التي ترعاها أنقرة مع كل من الخرطوم والدوحة. 

اجمالي القراءات 1489