المنتحرون القادمون.. كيف تبدو الحياة في أعينهم؟

في الأربعاء ١٣ - سبتمبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

الذين نجوا من محاولات الانتحار قالوا إنهم لم يرغبوا في الموت قدر رغبتهم في التوقف عن العيش، وهي ازدواجية غريبة ولكنها سليمة». (الدكتور أليكس ليكرمان- معالج نفسي أمريكي).

لم يمر عيد الأضحى الماضي على مصر بروتينه المعتاد، فعدد حالات الانتحار الموثقة التي حدثت في أسبوع العيد وصلت إلى عشر حالات، وأحدث بعضها صدى مدويًا نتيجة نشر بعض الأشخاص المنتحرين رسائلهم الأخيرة أو أفكارهم الانتحارية عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

أشهرهم كان «شريف قمر» الطالب بالفرقة الثانية في كلية طب الأسنان بجامعة عين شمس، الذي عبر عما يدور في ذهنه من أفكار انتحارية في مقطع فيديو نشره على قناته في موقع «يوتيوب» يوم 20 يونيو (حزيران) 2017 وتضمن حوارًا دار بينه وبين أحد أصدقائه، وتحولت هذه الأفكار إلى فعل على أرض الواقع بإقدام «شريف» على الانتحار رابع أيام العيد الموافق الرابع من سبتمبر (أيلول) 2017 مستخدمًا السلاح الخاص بوالده، وذلك أثناء قضائه إجازة العيد بقرية المنشية الجديدة التابعة لمركز كفر صقر بمحافظة الشرقية.

في نفس اليوم على بعد حوالي 400 كيلو متر كان هناك شاب آخر يُدعى «حازم عبدالمنعم- 31 سنة»، يُخطط لوضع اللحظات الأخيرة لحياته في مدينة المنيا بصعيد مصر وذلك بإلقاء نفسه في نهر النيل، وتوصلت التحقيقات الأمنية إلى أن سبب الانتحار وجود خلافات عائلية على توزيع الميراث وهو ما أوضحه في منشور على حسابه في موقع «فيس بوك» قبل انتحاره.

أثار انتحار الشابين حالة من التفاعل في مواقع التواصل الاجتماعي حول حضور الأفكار الانتحارية في أذهان الكثير من الشباب مؤخرًا بشكل ملحوظ، وهذا ما دعانا لعمل هذا التقرير الذي يبحث وراء هذه الأفكار، محاولًا نقل ما يدور في الواقع من تفاصيل بالتحاور مع الأشخاص المقبلين على الانتحار.

الثورة والانتحار.. البحث عن الأمل المفقود

«أشعر أنني على مشارف الجنون أو الانتحار، فالأوضاع الحالية لا تُبشر بخير، لذلك أنا أفضل الموت عن البقاء في بلد لا تحترم الأفراد الذين يعيشون بها، أنا لم أختر ما أنا فيه الآن وكل ما أتمناه أن يغفر الله لي، ورسالة أخيرة لأصدقائي أقول لهم لقد انتهت الكوميديا».

بهذه الكلمات أعلن «حسين» (اسم مستعار- 26 سنة) عن رغبته في الانتحار نظرًا لحالته النفسية السيئة، والتي ارتبطت بشكل مباشر بالواقع الضبابي الناتج عن الاضطرابات والتحولات السياسية التي حدثت في مصر خلال السنوات الأخيرة.

شارك «حسين» العديد من الأشخاص الآخرين الذين تحدثوا إلى «ساسة بوست» شارحين علاقة الواقع السياسي بتردي حالتهم النفسية وتصف «سمر» (اسم مستعار- 30 سنة) ذلك قائلة: «80% في المائة من اكتئابي بسبب إني شايفة إنه مفيش فايدة في تحقيق أي نجاح في مصر، خصوصًا بعد ما كانت آمالي في السماء أيام ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، دلوقتي مقتنعة إن جيلي مش هيشوف أي تقدم أبدًا، وكأن حياتنا دي ملهاش أي قيمة».

هناك من عانوا من الاكتئاب منذ حدوث ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 ولكن ساءت حالتهم النفسية أكثر نتيجة التطورات التي لحقتها مثل «ولاء» (اسم مستعار- 28 سنة) التي تُفصل ذلك بقولها: «من وقت ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 وأنا عندي اكتئاب لكنه كان يأتي ويذهب حسب الأحداث العامة للبلد أو أحوالي الشخصية لكن غالبًا بسبب متغيرات الثورة؛ لأني أعطيتها كل وقتي ولم أكن أفكر في أي شيء آخر، أما الآن فأنا أعاني من الاكتئاب بشكل مستمر منذ سنة، وعقلي رافض لأشياء كثيرة مما تحدث اليوم، فمع كل خبر أقرؤه في الجرائد أقول لنفسي ليس هذا ما حلمنا بالوصول إليه، أو مات من أجل تحقيقه شهداء الثورة».

المشهد السياسي الحالي له جانب آخر يتمثل في تحليله من زاوية الطب النفسي، وهو ما يوضحه لـ«ساسة بوست» الدكتور «أحمد عبدالله» أستاذ الطب النفسي بجامعة الزقازيق الذي يرى أن هناك جانبًا متعلقًا بتزايد حالات الانتحار مؤخرًا يتعلق بالحاضر الذي يبدو للشباب ليس فيه أي مخرج ولا أمل، فالشباب يعني المستقبل وبما أن مصر تقل بها فرص الحصول على تعليم جيد أو وظيفة لائقة فالوضع أصبح غائمًا جدًا، وفرص الخروج من البلد ليست كبيرة، إلى جانب أن هناك أشخاصًا يريدون البقاء والاحتفاظ بحياتهم في مصر؛ لأسباب نفسية أو اجتماعية.

يؤكد «عبدالله» أن حالة اليأس الحالي لم تحدث بشكل متسلسل، إنما جاءت في إطار كونها شكلًا من أشكال الهزيمة، فهؤلاء الشباب المُحبطين اعتبروا ثورة 25 يناير (كانون الثاني) مشروعهم الخاص، وبعضهم انتسب لها في وقت مبكر على اعتبار أنها مشروع للخلاص سيجعل المستقبل له جدوى، ولكن ما حدث أن هذا المشروع انهزم بشكل أو بآخر ولم نخرج منه لمسار واضح أو لمشروع آخر واعد مثلًا، وهو ما انعكس سلبيًا على الحالة النفسية للشباب المصري.

حتى اللحظات الأخيرة للمنتحر.. لا أحد يبالي

«هناك استهتار بالغ بالأفكار الانتحارية التي تراودني، حتى أني أيقنت أنه إذا أقدمت على الانتحار ستُصب علي اللعنات خلال تلقي أهلي العزاء، ولن يتكبد أحدهم عناء التفكير ولو لدقيقة في الحزن علي». «سما» (اسم مستعار- 29 سنة)


يواجه الشخص المقبل على الانتحار صعوبة في تعامله مع المحيطين به، وتحديدًا في إقناعهم أن ما يفكر به أمر جدي في غاية الخطورة ويستحق الاهتمام، ووفقًا لـ«منى» (اسم مستعار- 24 سنة) فإن أهلها يتعاملون مع الأفكار الانتحارية التي تدور في ذهنها على أنها مجرد ضعف وأحيانًا يعتبرونها مزحة، ولا يستطيعون استيعاب أنها من الممكن أن يأتي عليها وقت تصبح فيه غير قادرة على التحمل وتتخذ بالفعل قراراها بالانتحار.

يفضل البعض تجنب مناقشة أفكارهم الانتحارية مع الآخرين، راغبين في الانتحار بصمت مثل «محمد» (اسم مستعار- 22 سنة)، الذي يرى أن مشاكله النفسية تتعقد يومًا بعد يوم حتى أصبح يبحث عن الانتحار دون أن يدرك من حوله ما يمر به، وبحسب وصفه فإنه لا يريد الانتحار بقدر ما يريد أن تنتهي حياته في أقرب وقت ممكن.

تبدأ مرحلة الخطورة بالنسبة للشخص المقبل على الانتحار وفقًا للدكتور «أحمد عبدالله» أستاذ الطب النفسي بجامعة الزقازيق عندما ينعزل الشخص ويبدأ في الاندماج مع الأفكار السلبية ويرى أن لا أحد يفهمه، وتزيد خطورة ذلك في وجود أسرة تجهل أسس الثقافة النفسية وتؤمن بأن الحياة لا بد أن تُعاش كما هي، بينما يراها الابن أنها إما أن تكون وفقًا لتطلعاته وطموحاته أو يغادرها منتحرًا.

من وجهة نظر أستاذ الطب النفسي فإن أولى خطوات حل الأزمة تتمثل في قبول الشخص الذي يفكر في الانتحار وإحساسه بالتضامن معه، وتجنب إصدار أي أحكام شخصية عليه، ومشاركة الخبرات والتجارب الإيجابية الواقعية معه، والابتعاد عن المواعظ والنصائح الجاهزة.

العلاج النفسي.. تجارب معقدة

يمر المريض النفسي الذي تدور في ذهنه أفكار انتحارية أثناء مراحل علاجه النفسي بفترات صعود وهبوط ربما تقربه بعضها للانتحار أكثر، ويتضح ذلك في تجربة «مها» (اسم مستعار- 25 سنة) التي تسردها لـ «ساسة بوست» قائلة: «لقد ذهبت للعديد من الأطباء والمعالجين النفسيين على مدى السنوات الماضية، ولكني لم أستمر مع أحدهم لفترة تزيد عن عام، فقد كنت أيأس من العلاج وأشعر بالضعف وعدم التحسن، والآن لا أستطيع العيش هكذا وأرغب بالذهاب إلى الطبيب النفسي؛ لأتعافى وأصبح شخصية سوية، ولكني لا أستطيع أن أطلب من أمي ذلك فإنها تخشي علي كثيرًا من الأدوية النفسية التي أوقفها بمفردي أثناء علاجي، ولأنني أشعر بالذنب الشديد لأنني أضغط عليها ماديًا ونفسيًا بسبب مرضي، فالعلاج النفسي في مصر مكلف جدًا، فالآلاف من الجنيهات قد أُنفقت على شخصية فاشلة مثلي ولم يحدث أي تحسن».


وتصرح «مها» برغبتها في الانتحار قائلة: «إنني أحاول الانتحار كثيرًا لكنني لا أستطيع إتمام المحاولة فإني أخشى الله وعذابه، وعندما أفيق لنفسي أفكر كثيرًا وأقول أيكون عذاب بالدنيا والآخرة هل أنتِ مجنونة؟! ولكني أيضًا عندما أفكر أن حياتي واستمرارها يجعلني أخطِئ كثيرًا لا أدري حينها ماذا أفعل، ولكني أريد النجاة من مرضي النفسي على أي حال».

يزداد الأمر صعوبة بالنسبة للمرضى الذين يعانون في صمت ولا يذهبون للطبيب النفسي، وتحكي «سهى» (اسم مستعار- 35 سنة) لـ«ساسة بوست» معاناتها قائلة: «أعتقد أنني مصابة بالاكتئاب إذ أني غير سعيدة على الإطلاق حتى وأنا أضحك أريد أن أبكي، أشعر بأن داخلي بركانًا من الحزن وقلة الحيلة وأتمنى الموت طوال الوقت، ولكني لا أجرؤ على فعل أي شيء سوى الاستمرار كأن شيئًا لم يحدث، ولم أسع في أي وقت للعلاج النفسي وربما تكون هذه المرة الأولى والأخيرة التي أقول فيها أن عندي مشكلة نفسية، وما أردته فقط أن أشاهد الكلمات تتراص أمامي وتتحدث عني، فأنا لا أتحدث عني أبدًا لا لعائلتي ولا لأصدقائي ولا لأولادي، أنا فقط أجعل الحياة تفعل بي ما تشاء عسى أن يُستجاب دعائي يومًا ما، ويتوفاني الله وتكون تلك راحتي الأبدية من كل هذا القبح والغباء والحزن والغضب بداخلي».

هل هناك نقطة رجوع مُمكنة؟

توجهنا إلى الأشخاص المقبلين على الانتحار، وسألناهم عما يمكن حدوثه حتى يتراجعوا عما يدور في ذهنهم فأجابت «يمنى» (اسم مستعار- 24 سنة) بقولها: «شعوري أني شخص مهم بالنسبة لمن حولي، وأنهم يستطيعون فهم حقيقية معاناتي والوقوف بجانبي عندما أحتاج إليهم، وعدم شعوري بالوحدة القاتلة وأن هناك من يهمه أمري».

بينما ينتظر «سعد» (اسم مستعار- 28 سنة) ذلك الإنسان الذي سيغير حياته بوجوده بجانبه، وتمنى ألا ينتهي به المطاف كشخص منتحر، وأن تصبح تلك السنوات البائسة التي قضاها مجرد ذكرى سيئة.

لكن بعضًا ممن يرغبون في الانتحار يرون أنه لا مفر منه، إذا يقول «سالم» (اسم مستعار- 22 سنة): «مقتنع إن كل شيء محصل بعضه، معنديش اتجاه للصح والغلط علشان مش عارف إحنا موجودين ليه؟ والانتحار بالنسبالي نتيجة حتمية».

يرى الدكتور «أحمد عبدالله» أستاذ الطب النفسي بجامعة الزقازيق أن الكثير من المنتحرين يكون الانتحار بالنسبة لهم القرار الذي ينقله من ميت روحيًا إلى ميت جسديًا، مشيرًا إلى أن المصريين بما فيهم الأجيال الصغيرة التي تعد الأكثر انتحارًا في هذه الفترة تربوا على أن التفاؤل يأتي من الخارج وأنهم يحتاجون دائمًا لمساعدة خارجية تدفعهم للتفاؤل والحياة، وينظرون للتغيير دائمًا في صورته الكبيرة كتغيير السلطة السياسية وما إلى ذلك ولكن هذا لا يحدث، وبما أن التغيير عبارة عن رقعة كبيرة مقسمة إلى أجزاء صغيرة سيكون من الأجدى التركيز على هذه الأجزاء والمشاركة فيها، فهذا سيساهم في دفع الاكتئاب بشكل ملموس؛ لأن النفس تتجدد عندما تعمل شيئًا مختلفًا، مثل البحث عن الهوايات التي تخفف من المشاعر السلبية، أو المشاركة في ورش العلاج بالسيكودراما.

اجمالي القراءات 1695