بعيدًا عن الافتراضات المسبقة.. هل صندوق النقد الدولي نعمة أم نقمة على الشعوب؟

في الإثنين ٢١ - أغسطس - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

لطالما استأثر النّقاش حول الخيارات الاقتصادية لحكومة ما على اهتمام الشعوب نخبًا وعوامَّ، بالنّظر لانعكاسه المُباشر على واقع الحياة المعاش. وإذا ما راجعنا دفاتر يوميات الدّول العربية التي حرّرت الثّورات الجدل فيها، وصالحت الشعوب مع الشأن العام ودفعتهم للخوض فيه بعد طول سكون، نجد أن الرؤى الاقتصادية كانت في قلب الحراك السياسي والاجتماعي مُباشرة خلف نقاشات الهويّة.

وإذا ما تحدّثنا عن الخيارات الاقتصادية، وخاصّة في دولنا العربية، فإننا سنجد أنفسنا مُباشرة أمام موضوع التعامل مع صندوق النّقد الدّولي، وهو موضوع كتبت حوله آلاف الورقات والدّراسات، تراوحت في مضمونها بين المُهلّل الذي لا يرى فيه إلا سبيلًا نحو الفرج، وبين من يعتبره إحدى مُؤامرات «الغرب الإمبريالي» التي لا يُمكن إلا أن تزيد الغريق غرقًا. سواء في تونس أو مصر أو المغرب أو غيرها من الدّول؛ الجدل هو ذاته والحجج هي نفسها مع مراعاة فوارق اللهجات.

نُحاول في هذا التقرير أن نبحث بهدوء في آثار هذه المُؤسّسة العالمية التي تلجأ إليها الدّول التي تُعاني من أزمات سيولة وأزمات اقتصادية هيكلية، وأن نحاول الإجابة على السؤال التالي: هل صندوق النقد الدولي هو الحل أم المُشكلة؟

تعريف صندوق النقد وآليات اشتغاله

تعود نشأة صندوق النقد الدولي إلى يوليو (تموز) 1944 عندما تم التوقيع على الفكرة من قبل 29 دولة في بلدة بريتون وودز بولاية نيوهامبشير الأمريكية، قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية بأشهر، بهدف علاج أزمة انهيار اقتصاديات الدول في مختلف أنحاء العالم، وتحت ضغط حاجة الدول إلى الخروج من أزماتها الاقتصادية، وخلق مناخ اقتصادي عالمي مستقر.

ومع حلول سنة 1945، ابتدأ العمل بهذا الصندوق الذي تم تعريفه على أنه وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة، أنشئ للعمل على تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي، ومقره العاصمة الأمريكية واشنطن، ويديره أعضاؤه الذين يشملون جميع بلدان العالم تقريبًا بعددهم البالغ 188 بلدًا.

ويهدف الصندوق إلى تشجيع التعاون الدولي في الميدان النقدي بواسطة هيئة دائمة تعد وتهيئ سبل التشاور فيما يتعلق بالمشكلات النقدية الدولية، والعمل على التوسع والنمو المتوازن في التجارة الدولية ومن ثم الإسهام في تحقيق مستويات مرتفعة من العمالة والدخل الحقيقي وفي تنمية الموارد الإنتاجية لجميع البلدان الأعضاء، بالإضافة إلى العمل على تحقيق الاستقرار في أسعار الصرف، وتجنب التخفيض التنافسي لقيم العملات وإجراء تصحيح منظم لاختلالات موازين المدفوعات.

ويعمل الصندوق أيضًا على المساعدة على إقامة نظام مدفوعات متعدد الأطراف فيما يتعلق بالمعاملات الجارية بين الدول الأعضاء وإلغاء القيود المفروضة على عمليات الصرف التي تعرقل نمو التجارة الدولية.

مدخل المقر المركزي لصندوق النقد بواشنطن.

ولتحقيق هذه الأهداف يقوم الصندوق بمراقبة التطورات والسياسات الاقتصادية والمالية في البلدان الأعضاء وتقديم المشورة بشأن تلك السياسات. كما يقوم بإقراض البلدان الأعضاء التي تمر بمشكلات في موازين مدفوعاتها سواء لإمدادها بالتمويل المؤقت أو لدعم سياسات الإصلاح الرامية إلى حل مشكلاتها الأساسية والهيكلية، بالإضافة لتقديم المساعدة الفنية والتدريب في مجال خبرة الصندوق إلى حكومات البلدان الأعضاء.

ويقوم صندوق النقد الدولي بإدارة الأزمات عبر برامج تعتمد على مؤشرات لمحاولة التنبؤ بالمخاطر المحتملة، وفرض سياسات على الدّول الأعضاء لتصحيح الاختلالات والمساعدة في علاجها.

ومن أبرز هذه البرامج نذكر برنامج التثبيت الاقتصادي والذي يقوم على ثلاثة محاور أساسية. يركّز المحور الأوّل على تخفيف العجز في ميزان المدفوعات من خلال تخفيض قيمة العملة وإلغاء الرقابة على الصرف الأجنبي أو تقليصها إلى أدنى مستوى ممكن وتحرير عملية الاستيراد من القيود المفروضة عليها وتحسين شروط الاقتراض الخارجي.

أما المحور الثاني فيهدف لمكافحة التضخم من خلال رفع سعر الفائدة الدائنة والمدينة وزيادة الضرائب وتقليل الإنفاق العام لتخفيض العجز الحاصل في الموازنة العامة. ويتعلّق المحور الثالث بتشجيع الاستثمار الخاص المحلي والأجنبي من خلال منح مزايا ضريبية لرأس المال الأجنبي وضمان عدم تأميم أو مصادرة الاستثمار الأجنبي وحرية تحويل الأرباح إلى الخارج وتقليص نمو القطاع العام وتشجيع آليات الخصخصة.

وفيما يتعلّق بطريقة وآلية الإقراض؛ يوفر صندوق النقد الدولي موارده بطلب من البلدان الأعضاء ويتم ذلك في العادة بمقتضى اتفاق إقراض قد ينص، حسب أداة الإقراض المستخدمة، على سياسات وتدابير اقتصادية محددة يوافق البلد المعني على تنفيذها لحل مشكلة ميزان المدفوعات.

ويتولى البلد العضو بالتشاور مع الصندوق تحديدَ برنامج السياسة الاقتصادية الذي يرتكز عليه الاتفاق، ثم يُعرض في معظم الحالات على المجلس التنفيذي ضمن خطاب نوايا، كما تُوضَّح تفاصيله باستفاضة في مذكرة التفاهم الملحقة.

وبعد موافقة المجلس التنفيذي على الاتفاق، تُصرَف موارد الصندوق المطلوبة وتكون مقسمة في العادة على أقساط مرحلية تتوافق مع التقدم في خطوات تنفيذ البرنامج. غير أن بعض الاتفاقات تتيح للبلدان التي تحقق أداءً بالغ القوة الاستفادة من موارد الصندوق مقدمًا مرة واحدة، ومن ثم لا تخضع لتفاهمات صريحة بشأن السياسات.

ولجأت الدول من مختلف أنحاء دول العالم لصندوق النقد الدولي بهدف إنقاذ اقتصادياتها، وتنوّعت نتائج هذا اللجوء بين تجارب ناجحة وأخرى فاشلة.

التجارب الناجحة للصندوق.. أسباب النجاح

1- التجربة التركية

شهدت تركيا عام 2002 أزمة اقتصادية حادة سبقتها أوضاع مالية سيئة على مدار عدة سنوات كانت أهم مظاهرها انخفاض معدل النمو وزيادة معدلات التضخم وارتفاع عجز الموازنة، بالإضافة إلى تراجع أداء القطاعات الاقتصادية وتراجع الاستثمارات وانخفاض الاحتياطي الأجنبي وارتفاع معدلات البطالة.

لجأت الحكومة التركية في ذلك الوقت إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي الذي فرض عليها شروطًا قاسية تضمنت إجراء إصلاحات اقتصادية عديدة كان أهمها تشجيع ودعم أنشطة الأعمال وتحريرها من القيود القانونية وخلق مناخ استثماري أكثر جذبًا وإسراع عملية خصخصة القطاع العام، بالإضافة إلى تخفيض سعر صرف الليرة والتخلي عن نظام سعر الصرف المرن وإجبار الحكومة على تطبيق نظام سعر صرف مرتبط بالدولار.

وقادت الحكومة التركية مفاوضات ماراثونية أدت إلى تقليل شروط الصندوق وقدّمت بالمقابل برنامج إصلاح اقتصادي متكامل يتماشى مع ظروف تركيا وطبيعتها. وقد حققت تركيا نجاحًا كبيرًا بسداد ديونها لصندوق النقد الدولي، سنة 2013، لتكون بذلك من بين 11 دولة في العالم تمكنت من خلاص ديونها للصندوق في الوقت المحدد، منذ عام 2000، لتكون المحصّلة اقتصادًا صاعدًا ونجاحًا في تنفيذ استراتيجية الإصلاح التي تم ضبطها.

كريستين لاغارد ورجب طيب أردوغان خلال مؤتمر للاستثمار بتركيا 2012.

بالرجوع إلى أسباب نجاح تجربة تركيا مع صندوق النقد، وصلت حكومة العدالة والتنمية إلى الحكم، في بيئة داخلية تعاني أزمة اقتصادية حادة؛ نتيجة التزام رئيس الحكومة الأسبق بولنت أجاويد بالقرض الذي قدمه صندوق النقد الدولي لها سنة 2001، مطالبًا إياها بإجراء إصلاحات اقتصادية وفق رؤيته ورعايته.

وكان من نتائجها اختلال الأوضاع المالية للبنوك الخاصة والعامة وارتفاع معدلات العجز، وحجم المديونية الخارجية، وانخفاض احتياطي الدولة من العُملات الأجنبية، بالإضافة إلى عدم استطاعة القطاعات الاقتصادية في الدولة تحمل هذه المتغيرات وهو ما نجم عنه تردي الأوضاع، كإغلاق مئات الآلاف من الشركات التجارية، وتقلص حجم الاستثمار إلى أقل من النصف.

وبلغت البطالة مستويات قياسية، مع تزايد أعداد العاطلين عن العمل، بفعل إغلاق الشركات والمصانع، بحسب دراسة للتجربة الاقتصادية التركية أعدّها الباحث الأردني معمر فيصل خولي. وأمام هذه الأزمة؛ قدّم العدالة والتنمية رؤية نقدية عميقة ودقيقة أساسها الأرقام والحقائق الاقتصادية قبل الانتخابات، وكوّن تصورًا واضحًا لأسباب الأزمة ومظاهرها وسبل الخروج منها، وحدّد رؤيته بشكل واضح، وقدّمها للشعب، مقدمًا الوعود بتجاوز تلك الأزمة والخروج من الحالة السيئة.

وبحسب المصدر ذاته؛ وجد الحزب في الفساد السياسي سببًا مباشرًا للأزمة الاقتصادية التي تعانيها الدولة، مؤكدًا انتهاج طريق الانفتاح الاقتصادي والخصخصة والتقارب مع أوروبا استراتيجية للخروج من الأزمة.

ولتجاوز الأزمة غيرت الحكومة جملة من الافتراضات والمبادئ الأساسية، التي اعتمد عليها صندوق النقد الدولي في وصفته لعلاج الاقتصاد التركي، ومنها ترك العمل بنظام الصرف الثابت والانتقال للأخذ بنظام الصرف المرن، والاعتماد على استثمارات القطاع الخاص الذي اهتمت به الحكومة وعملت على حل الكثير من مشكلاته.

وقامت الحكومة بزيادة التقشف وخفض النفقات، وجذب رؤوس الأموال الخارجية بشكل مباشر، بالإضافة إلى تأمين الطاقة وضمانها بأسعار اقتصادية على المستوى البعيد، وإصلاح التعليم المهني وحل مشكلة نقص اليد العاملة المُؤهّلة، وتحسين بيئة العمل، وإصلاح الجهاز الإداري للدولة وضمان الشفافية والمراقبة والمحاسبة. كما تم التحقيق مع المسؤولين المتورطين في قضايا الفساد، خاصة الذين شغلوا مناصب رفيعة المستوى في الدولة شملت القائمة مثلًا رؤساء وزراء سابقين مثل تانسو تشيللر ومسعود يلماظ.

2- التجربة الماليزية

تُعدّ التجربة الماليزية في التنمية من بين أهم تجارب الإقلاع الاقتصادي في العالم، إذ تحولت خلال فترة قصيرة من بلد يعتمد على تصدير المواد الأولية إلى واحدة من أكبر الدول المصدرة للسلع والتقنية الصناعية في منطقة جنوب شرقي آسيا.

يقول مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا الأسبق، إن تجربة النهضة في ماليزيا كانت صعبة نظرًا لتعدد الأعراق داخل المجتمع الماليزي، ورغم وجود العديد من الديانات المختلفة بها إلا أن الجميع شارك في التنمية وسياستها وابتعدوا عن الخلافات السياسية.

وأوضح خلال مؤتمر عقده أثناء زيارته إلى مصر، سنة 2013، أن ماليزيا خصصت الأراضي الزراعية للباحثين عن عمل لاستيعاب العمالة المتكدسة وهو ما ساعد في تحقيق دخل عن طريقها، ولكنه لم يكن كافيًا لاستيعاب اليد العاملة، ما دفعهم للبحث عن حلول أخرى من بينها التوجه بقوة نحو تصنيع الشرائح الإلكترونية لما يتميز به هذا المجال من قدرة تشغيلية عالية، عبر إعطاء إعفاءات كاملة من الضرائب لهذه الصناعات.

كما أكد أن ماليزيا قدمت إعفاءات ضريبية تصل حتى عشر سنوات، وتم تزويد المناطق المختلفة بالبنية التحتية، والسماح بالاقتراض للمستثمرين الأجانب من البنوك المحلية.

وأشار قائد النهضة الماليزية إلى أن العامل الرئيس في نجاح التجربة التي قادها هو الاهتمام بجودة التعليم، لافتًا إلى أن ماليزيا عقب انتهاء الاحتلال لم يكن بها سوى جامعة واحدة ولكنها أصرت على إيفاد بعثات للتعلم في الخارج، مشيرًا إلى أن ماليزيا الآن بها الكثير من الجامعات الخاصة والحكومية.

وحذر مهاتير محمد من خطورة اتباع شروط ونصائح صندوق النقد الدولي. وأوضح مهاتير أنهم كان لديهم تجربة مع صندوق النقد الدولي في بداية نهضتهم إلا أن الصندوق أعطى لهم نصائح مضللة، وهم تفادوها عقب معرفتهم بذلك، وهو ما دفعهم للتعامل مع مشاكل البلاد ذاتيًا دون الرجوع لنصائح صندوق النقد الدولي، مشيرًا  إلى أن الصندوق كان يضغط على ماليزيا وهو الأمر الذي تم رفضه وفق تعبيره.

تجارب فاشلة للصندوق وأسباب الفشل

1- التجربة اليونانية

بعد انضمامها لمنطقة اليورو، تحسّن تعاطي مُؤسّسات التمويل الدّولية مع اليونان التي كان يُنظر إليها على كونها دولة هشّة. وبدأت هذه المُؤسّسات، ومنها صندوق النقد، في منحها قروضًا بهدف مساعدتها على الخروج من أزمتها الاقتصادية الخانقة، ورغم القروض المُيسّرة ذات مُعدّلات الفائدة المنخفضة التي تحصّلت عليها أثينا، استمرّ ارتفاع حجم الدين الخارجي وهو ما برز في أزمة 2009.

ولمواجهة هذه الأزمة، تدخل صندوق النقد الدولي ومؤسّسات أخرى مثل اللجنة الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، وتم إقراض اليونان مبلغًا إجماليًا قيمته 110 مليارات يورو لإنقاذها من الإفلاس شرط اتخاذ مجموعة من الإجراءات التقشفية تتلخص في تحقيق فائض الإيرادات عن النفقات مخصوم منها الفوائد المستحقة على الديون.

إلا أن اليونان فشلت في سداد ديونها التي بلغت نسبتها من الناتج الداخلي الخام عتبة الـ175% في سنة 2015، وشهدت ارتفاعًا لمعدلات البطالة تتجاوز 25% وهو ما سبّب حركات احتجاجية عنيفة قادتها الطبقة المتوسطة والفقيرة للتعبير عن رفض إجراءات الصندوق التي ضاعفت الصّعوبات المعيشية للشعب اليوناني.

صورة من اليونان خلال الاحتجاجات الرافضة إصلاحات صندوق النقد 2010.

وشيئًا فشيئًا تطوّرت الأزمة الاقتصادية لتتحوّل إلى مشكلة سياسية واجتماعية ولتُعلن تجربة صندوق النقد مع اليونان انتهاء نظرية التقشف سبيلًا لضمان سداد الديون، باعتراف المسؤولين في هذه المُؤسّسة التي أعلنت في يوليو (تموز) 2015 أن أثينا عجزت عن سداد دينها للصندوق ولم تتمكن من دفع مليار ونصف مليار يورو كانت مستحقة عليها في ذلك الوقت، لتصبح أول دولة متطورة تراكم مبالغ متأخرة ولم تعد قادرة على الاستفادة من الموارد المالية لهذه المؤسسة الدولية.

وبحسب أستاذ الاقتصاد في كلية ليندون جونسون للشؤون العامة بجامعة تكساس، جايمس غالبريت، فإن اليونان كانت ضحيّة تقديرات وسياسات خاطئة لصندوق النقد. ويقول غالبريت في مقال له نشر على موقع «بروجيكت سنديكيت» في يونيو (حزيران) 2015، إنّ «الصندوق توقّع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في اليونان بنحو 5% على مدى فترة 2010/ 2011، قبل أن يستقر سنة 2012 وينمو بعد ذلك. في حين أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي انخفض بنسبة 25% ولم يتعاف وهو ما عمّق من مشكل المديونية الذي ظل في ارتفاع».

ويعتبر الاقتصادي الأمريكي أن افتراض النقد الدولي بأنه سيكون للانكماش المالي الهائل تأثير مؤقت على الاقتصاد اليوناني كان افتراضًا خاطئًا تمامًا، وفق تعبيره، مُؤكّدًا أن ضبط الأوضاع المالية في مرحلة ما بعد العام 2010 أدى إلى كارثة اقتصادية.

ويشير غالبريت إلى أن إصرار صندوق النقد على فرض تنفيذ اليونان سياسات تقشف حادّة وصلت إلى حدود خفض معاشات التقاعد، أدت إلى نتائج عكسية، ويقول إنه لولا السنوات الخمس من التقشف الكارثي لأصبح حجم اقتصاد اليونان أعلى مما هو عليه الآن بـ33%، وفق تقديره.

2- تجربتا غانا وزامبيا

في سنة 2002، وبإيعاز من صندوق النقد الدولي؛ أزالت غانا التعريفة الجمركية على وارداتها الغذائية ليتسبب ذلك في إغراق أسواقها بالمنتجات الأوروبية التي أضرّت بالمزارعين المحليين باعتبار أن أسعار المنتوجات المورّدة كانت أقل من ثلث السعر المحلي. وبالمقابل؛ لم ينجح الصندوق في فرض تقليل الدعم للمنتجات الزراعية على الدّول الأوروبية التي تصدرها للعالم الخارجي بأسعار منخفضة، فكانت الكارثة حيث أريد الإصلاح والإنقاذ.

صورة تجمع وزير الاقتصاد والمالية الغاني ونظيره الإيفواري خلال ندوة صحفية نُظّمت على هامش لقاء الربيع الذي يُنظّمه صندوق النقد سنويًا.

وعلى نحوٍ مُشابه، وفي نفس الفترة؛ فرض الصندوق على زامبيا رفع التعريفة الجمركية على وارداتها من الملابس، الأمر الذي تسبب فى خسائر كبرى لأكثر من نحو 140 شركة محلية للملابس أدت إلى إفلاس أغلبها خاصّة أمام عدم قدرتها – الشركات – على تصدير إنتاجها إلى السوق الأوروبية أو الأمريكية، بسبب التعريفة الجمركية المرتفعة التي تفرضها هذه الدول على وارداتها من الدول النامية.

نعمة أم نقمة؟

يُظهر تباين النتائج التي حققتها مختلف الدّول التي لجأت إلى صندوق النقد الدولي أن إطلاق الأحكام بإطلاق حول هذا التوجّه الاقتصادي لا يُمكن أن يكون سليمًا ولا دقيقًا، وأن تناول التجارب حالة بحالة ووضعها في سياقها الدّاخلي وظروفها الخاصّة بها كفيل بأن يُنسب هذه الأحكام.

ومن بين أبرز الانتقادات التي تُوجّه لصندوق النقد الدّولي هي اعتماده على سياسات جامدة غير مرنة لا تراعي خصوصيات كل دولة على حدة، وهو الأمر الذي أدى إلى فشل هذه السياسات النّظرية التي تقفز على الواقع.

كما أنّ هذه السياسات لا تأخذ بالاعتبار الجوانب الاجتماعية وحالة الشعوب الاقتصادية قبل الانطلاق في تنفيذها وهو ما يخلق حالة من الصّد والرفض الشعبي الذي يُترجم إلى حركات احتجاجية تقوض الاستقرار السياسي والاجتماعي الضروريين لتنفيذ الإصلاحات الكبرى.

بالمُقابل؛ لا يمكن اعتبار قبول تمويل وشروط الصندوق سوى مُحدّد ضمن مُحدّدات أخرى كثيرة تُحدّد حالة النّجاح أو الفشل في عملية الإصلاح والإقلاع الاقتصاديين. وفي هذا السياق؛ يقول عمرو عادلي، الباحث بمركز كارنيغي للشرق الأوسط والمختصّ في الاقتصاد السياسي، والدراسات التنموية، وعلم الاجتماع الاقتصادي للشرق الأوسط:

«التنمية ليست محددة سلفًا بعوامل خارجة عن الإرادة، مثل شروط صندوق النقد أو الالتزام بمعايير منظمة التجارة العالمية، بقدر ما تتحرك التنمية، وكما تظهر تجربة البلدان التي نجحت في تحقيق قدر منها لقطاعات من مواطنيها في العقود الماضية، في مساحة واسعة تتفاعل فيها الإرادة مع محددات خارجة عنها من فرص وقيود، كما يتفاعل فيها «الوطني» مع «الدولي»، و«الحاضر» مع الموروث من الماضي».

وبالنّظر إلى التجارب الناجحة وقصصها مع صندوق النّقد، نجد نجاحها في مشاريع الإصلاح التي دشّنتها مرّت أساسًا عبر صياغة مشاريع استراتيجية انطلقت من خلالها في مُفاوضاتها مع صندوق النّقد الدولي الذي قبل – لجدّية هذه المشاريع – التنازل عن بعض الشروط الأوتوماتيكية التي يفرضها في كل مرّة. كما أن حسن إدارة هذا الإصلاح لا يقل أهمّية عن عمليّة التّخطيط، فعندما ترتبط الحوكمة السليمة المرفقة بمقاومة الفساد والإصلاح الإداري لا يُمكن أن تكون النتيجة إلا في مُستوى الآمال التي تنتظرها الشعوب.

اجمالي القراءات 1788